الحوزة العلمية في قم بين الانكماش والصعود

Last Updated: 2024/04/03By

الحوزة العلمية في قم بين الانكماش والصعود

د. علي المؤمن

تعود جذور الحوزة العلمية القمية في إيران إلى زمن هجرة قبيلة الأشعريين الكوفية العراقية إلى قم في أواخر القرن الأول الهجري (القرن السابع الميلادي)، والذين أسسوا مدينة قم الحالية وحوزتها العلمية. وبذلك تُعدّ قم، إلى جانب الكوفة وبغداد، أحد أقدم ثلاث حوزات علمية شيعية في التاريخ. إلّا أنّ مرحلة تألق الحوزة العلمية في قم كان خلال القرن الرابع الهجري (القرن التاسع الميلادي) في عهد مرجعية زعيم الشيعة في وقته الشيخ محمد بن علي بن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق.

وقد ضعفت حوزة قم بالتدريج، بفعل عوامل ضاغطة خلال القرون اللاحقة؛ حتى انتقل إليها المرجع الديني الشيخ عبد الكريم الحائري في العام 1919، والذي سبق أن تخرج في حوزة النجف الأشرف؛ ليعيد إلى قم مجدها العلمي الديني التبليغي. ثم أصبحت مركزاً للزعامة الشيعية لمرتين خلال القرن الميلادي العشـرين، الأُولى في عصر مرجعية السيد حسين الطباطبائي البروجردي في خمسينات القرن الميلادي الماضي، بعد وفاة مرجع النجف السيد أبو الحسن الموسوي الإصفهاني، والثانية في عصر مرجعية السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني بعد العام 1982، إثر وفاة السيد الخوئي.

وتحوّلت الحوزة العلمية في قم بالتدريج إلى مؤسسة علمية منظمة كبرى، بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران في العام 1979، وحملة الاجتثاث البعثي للحوزة النجفية؛ ما أعطى دفعاً قوياً للحوزة القمّية، وأُرسيت فيها نهضة نوعية وكمية شاملة، وباتت تضم مئات الجامعات والمدارس الدينية ومراكز البحوث والتبليغ والإعلام والمكتبات العامة وقاعات المؤتمرات والمؤسسات الخدمية، وباتت قريبة من الهيكليات والأنساق الأكاديمية، مع احتفاظها بنكهة الدرس المسجدي التقليدي. وهي في مضمونها تشبه أُطروحة السيد محمد باقر الصدر في «المرجعية الرشيدة».

ومن أبرز السياقات الجديدة التي تم فرضها هي الامتحانات الدورية والسنوية العامة للطلبة، وعدد سنوات كل مرحلة من مراحل الدراسة، وشهادات التخرج، والاختصاصات الفرعية، والدروس التكميلية، كاللغات الأجنبية والعلوم الاجتماعية والكمبيوتر. وقد تبلور هذا التحول التنظيمي الكبير في حوزة قم بعد العام 1994، عبر خارطة طريق نفّذتها جماعة مدرسي الحوزة العلمية وغيرها، بتوجيه مباشر من السيد علي الخامنئي؛ حتى أضحت قم أكبر مؤسسة علمية دينية منتجة في العالم، ليس على مستوى العالم الإسلامي وحسب؛ بل على مستوى الأديان كافة.

وبلغ عدد منتسبي الحوزة العلمية في قم في العام 2020 حوالي (140) ألف طالب و(10) آلاف أُستاذ تقريباً. كما بلغ عدد المجتهدين فيها وحدها حوالي (250) مجتهداً أو ممن يرى في نفسه ملكة الاجتهاد، بينهم ما يقرب من (100) مجتهد يدرِّسون البحث الخارج (الدراسات العليا)؛ أي أنّ هناك (100) صف للبحث الخارج تقريباً في قم وحدها. ومن بين الأجانب الــ (350) ألف الذين يسكنون في قم، هناك (50) ألف شخص ينتسبون إلى الحوزة العلمية.

وقد حققت الحوزة العلمية في قم هذه الطفرة النوعية والكمية الفارقة بعد العام 1979؛ أي بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية؛ إذ دعم النظام السياسي الجديد مرجعيتها ونظامها الحوزوي في قم دعماً غير محدود، فضلاً عن أنّ الأجواء الدينية العامة كانت تدفع باتجاه الزحف الكبير نحو الدراسة في الحوزة العلمية. وقد ساعد على ذلك هجرة مئات الطلبة والأساتذة من الحوزة العلمية النجفية إلى قم، وكذلك انتساب آلاف الطلبة الجدد من العراق وأفغانستان، فضلاً عن المنتسبين الوافدين من لبنان والبلدان الخليجية والهند وباكستان وغيرها. فبعد أن كان عدد طلبة حوزة قم في العام 1978 حوالي (20) ألف، وفي باقي مدن إيران (20) ألفاً آخرين تقريباً، فإنّه قفز خلال عشر سنوات فقط إلى أكثر من عشرين ضعفاً. وهذا لا يعني أنّ نمو حوزة قم بهذه الكيفية وراءه دوافع سياسية؛ بل إنّ الظرف السياسي كان مساعداً بشكل تلقائي، كما حصل في النجف بعد سقوط نظام البعث في العام 2003 وانتهاء الحصار والقمع السياسي للحوزة.

وفضلاً عن المؤسسات الحوزوية الخاصة في قم؛ فإنّ هناك أربع إدارات رأسية مركزية، تدير جميع مدارس الحوزة القمّية وجامعاتها ومؤسساتها وفروعها في داخل إيران وخارجها، هي:

1ـ مجلس إدارة الحوزة العلمية في قم.

2ـ جامعة المصطفى العالمية، وهي خاصة بالدارسين غير الإيرانيين.

3ـ مركز مديرية الحوزة العلمية النسائية، وهي خاصة بالنساء.

4ـ مجلس إدارة الحوزات العلمية في إيران، ويشرف على الحوزات العلمية المتوسطة والصغيرة في أنحاء إيران كافة.

وعمل هذه الإدارات الأربعة تنظيمي فقط؛ لأنّ الطلبة والأساتذة الإيرانيين وغير الإيرانيين يدرسون ويقدمون محاضراتهم في مؤسسات وصفوف مشتركة، ولا سيما طلبة وأساتذة البحث الخارج، باستثناء صفوف النساء المنفصلة.

وإضافة إلى الحوزة العلمية في قم؛ هناك ثلاث حوزات علمية كبيرة في مشهد وإصفهان وطهران، يصل عدد منتسبيها إلى (90) ألف طالب وأُستاذ. وكذلك توجد (650) حوزة متوسطة وصغيرة، تضم (2000) مدرسة دينية في (650) مدينة إيرانية، يبلغ عدد منتسبيها (60) ألف شخص. وهناك حوالي (30) صفاً للبحث الخارج في حوزات مشهد وطهران وإصفهان والأهواز وشيراز وتبريز. وبذلك يصل العدد الإجمالي لمنتسبي الحوزات العلمية الإيرانية، بما فيها حوزة قم، ما يقرب من (300) ألف طالب وأُستاذ. ويعتقد الإيرانيون أنّ هذا العدد قليل ولا يتناسب مع حاجة (70) مليون شيعي في إيران وحدها، وعشرات ملايين الشيعة في العالم، فضلاً عن حاجة الدولة المتزايدة إلى الدراسات الفقهية لقضاياها المتشعبة.

ومن مجموع منتسبي الحوزات العلمية الإيرانية؛ يوجد ما يقرب من (80) ألف منتسب غير إيراني ينتمون إلى حوالي (136) جنسية، غالبيتهم من العراق وأفغانستان وباكستان والهند ولبنان والبحرين والسعودية وآذربيجان، وبينهم (60) ألف طالب يدرسون في «جامعة ‌المصطفی العالمية» الدينية، و(20) ألف طالب في المدارس والجامعات الحوزوية الأُخر. كما أنّ لجامعة المصطفى ما يقرب من (50) ألف طالب يدرسون في فروع الجامعة المنتشرة في (70) دولة من دول العالم.

وما يميز الحوزات العلمية في إيران عن غيرها من الحوزات العلمية الشيعية الأُخر، أنّها تضم أعداداً كبيرة من الطلبة السنّة الإيرانيين وغير الإيرانيين، يصل عددهم إلى ما يقرب من (10) آلاف طالب سنّي، بينهم ثمانية آلاف طالب في حوزة قم وجامعة المصطفى العالمية، وحوالي (2000) طالب سنّي في الحوزة العلمية في مشهد. والميزة الأُخرى للحوزات العلمية في إيران هو معادلة المراحل الدراسية الحوزوية فيها من وزارة التعليم العالي الإيرانية، وذلك لأغراض العمل والتعيين الوظيفي وإكمال الدراسة في الجامعات الأكاديمية في الفروع الإنسانية؛ إذ تعادل نهاية مرحلة السطوح شهادة البكالوريوس، وتعادل أربع سنوات من البحث الخارج شهادة الماجستير، وتعادل عشر سنوات من البحث الخارج شهادة الدكتوراه، على أن يقدم الطالب في المراحل الثلاث رسالة تخرج علمية أكاديمية تتناسب وكل مرحلة.

وهناك ما يقرب من (150) ألف طالب في داخل إيران ودول العالم المختلفة، يدرسون عبر النوافذ الإلكترونية، بينهم (45) ألف امرأة. وتتمركز أغلب الحوزات والجامعات الدينية الناشطة في العالم الافتراضي في مدينة قم وتتبع حوزة قم، وجامعة المصطفی. ولذلك، تحظى دراساتها بالاعتراف؛ لأنّها تخضع للمناهج والضوابط المعمول بها في الحوزة نفسها.

كما أنّ هناك أكثر من (50) ألف منتسبة من النساء في الحوزات العلمية الإيرانية، بينهنّ مجتهدات وعالمات دين وأُستاذات وباحثات وخطيبات معروفات، ويصل عدد الأُستاذات النساء إلى (1500) أُستاذة تقريباً، يمارسن دراساتهن ونشاطاتهن الدينية في إطار (500) مدرسة وجامعة خاصة بالنساء، بينما يصل عدد الطالبات غير الإيرانيات إلى حوالي خمسة آلاف طالبة، إضافة إلى (250) أُستاذة غير إيرانية.

والى جانب المدارس التقليدية، هناك (23) جامعة حوزوية أكاديمية تعطي شهادات أكاديمية في العلوم الإسلامية، بدءاً بالبكالوريوس وانتهاءً بالدكتوراه، وتحتوي على (37) اختصاصاً دقيقاً في القرآن والحديث واللغة العربية والفقه والأُصول والكلام والفلسفة والقانون والتاريخ وغيرها. وأغلبها يتمركز في مدينة قم. وتضم أيضاً أكثر من (150) مركز تبليغ وبحوث ودراسات وتحقيق ونشر وطباعة، وحوالي (50) مجلة علمية تخصصية باللغتين الفارسية والعربية، وعشرات المكتبات العامة، وأكثر من (250) مركزاً علمياً وبحثياً وتحقيقياً.

ويبلغ عدد المجتهدين الأحياء في حوزة قم ممن نشروا رسالة تقليد عملية، وطرحوا مرجعياتهم بصورة فعلية، ما يقرب من (40) مجتهداً، أغلبهم من الإيرانيين، إضافة إلى عدد من العراقيين والأفغانستانيين والباكستانيين. ولكن مراجع التقليد الذين سبق لجماعة المدرسين في قم وغيرها من الحوزات والمؤسسات العلمية أن طرحت أسماءهم على دفعات، هم تسعة مراجع، ومن لا يزال منهم على قيد الحياة ستة فقط، أربعة منهم في قم: الشيخ حسين الوحيد الخراساني، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيد موسى الشبيري الزنجاني، والشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني ، وواحد في طهران: السيد علي الحسيني الخامنئي، وواحد في النجف الأشرف: السيد علي الحسيني السيستاني. ولعل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي هو المرجع القمي الأكثر تقليداً ونفوذاً دينياً في إيران من بين مراجع قم الآخرين، بعد السيد علي الخامنئي، وقد تم ترشحيهم بعد وفاة المراجع الأربعة الكبار: الإمام الخميني في العام 1989 والإمام الخوئي في العام 1992 والسيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني في العام 1993 والشيخ محمد علي الأراكي في العام 1994.

ويُعدّ مكتبا السيد علي الخامنئي والسيد علي السيستاني أهم مكتبين من بين مکاتب باقي المراجع في قم. ويعمل المكتب المرجعي للسيد الخامنئي بشكل مستقل إدارياً ومالياً ووظيفياً عن مكتبه الحكومي الرسمي في طهران؛ إذ إنّ مكتب قم هو مكتب مرجعي حوزوي، ويمارس شأناً دينياً علمياً محضاً، ويشرف على عمل المدارس والجامعات والمؤسسات العلمية الدينية التابعة له، وشؤون الوكلاء والمعتمدين المرجعيين داخل إيران وخارجها، في الوقت الذي لا يزال السيد الخامنئي يقدم دروسه في البحث الخارج في حسينية الإمام الخميني في طهران، ويحضرها ما يقرب من (700) عالم دين.

أمّا مكتب السيد علي السيستاني في قم؛ فلعله أنشط مكتب مرجعي في العالم وأكثرها تنظيماً وتقديماً للرعاية العلمية والتبليغية والخيرية، ويشـرف على المؤسسات والمكاتب الفرعية لمرجعية السيد السيستاني داخل إيران وكثير من دول العالم.

وعلى صعيد سياقات اختيار مراجع التقليد، فإنّ سياقات حوزة قم لا تختلف عن سياقات حوزة النجف؛ لكنها تحاول منذ ثلاثة عقود تقريباً مأسسة هذه السياقات، وتقنين عمل جماعات أهل الخبرة وجماعات الضغط، أي تحويلها إلى جماعات علنية تمارس دورها بشفافية. وباتت هذه الجماعات تنتظم في مؤسسات علمية دينية تضم عدداً كبيراَ من المجتهدين، وتأخذ على عاتقها ترشيح المراجع الجدد الذين تراهم يتمتعون بشروط مرجعية التقليد بعد وفاة المرجع الأعلى. ولا ترشح هذه المؤسسات عادة مرجعاً معيناً واحداً؛ بل أكثر من مرجع، ولعلهم في مستوی واحد أو متقاربين علمياً، وتترك الخيار للناس (المكلفين) لاختيار من يرونه مناسباً بالتشاور مع علماء دين آخرين.

وأهم ثلاث مؤسسات وجماعات حوزوية قمّية تتدخل في ترشيح مراجع التقليد: جماعة مدرسي الحوزة العلمية، ومجلس شورى الحوزة العلمية، ومجلس شورى الحوزات العلمية في إيران. وتنبع أهمية هذه المؤسسات من كونها منظمة تنظيماً مؤسَّسياً إدارياً، وتستقطب أغلبية أساتذة الحوزات العلمية وأئمة الجمعة والجماعات في البلاد، وعلماء الدين والمبلغين في المناطق، إضافة إلى علاقاتها الواسعة والقوية مع علماء الدين الشيعة في خارج إيران.

وعلاقة الحوزة العلمية في قم بالدولة الإيرانية بعد تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية هي علاقة تخادم ودعم متبادل وحماية مشتركة، وليست علاقة تبعية؛ إذ ظلت الحوزة محافظة على استقلاليتها عن الدولة، بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية؛ بالرغم من نفوذ الحوزة القوي في مفاصل الدولة. وحتى قبل تأسيس الجمهورية الإسلامية؛ فإنّ العلاقة بين الدولة والحوزة كانت علاقة تفاهم غالباً؛ لأنّ الحوزة كانت تنظر إلى الدولة الإيرانية كونها دولة شيعية وتحمي المذهب؛ بل كان لفقهاء الشيعة في النجف وقم وطهران دور مهم في إقرار حكم المشروطة (الملكية الدستورية) بعد العام 1906، لكن حالة التفاهم هذه، لم تكن تمنع علماء الدين في إيران من توجيه النقد الشديد إلى الدولة، ولكن لم يفكر أيّاً من المراجع يوماً بإسقاطها. ولم يكسر هذه القاعدة سوى الإمام الخميني، الذي أعلن عن عدم شرعية النظام الملكي الوراثي، وفساد الحكومات الشاهنشاهية، ثم أسقطها وأقام نظام الجمهورية الإسلامية القائم على مبدأ «ولاية الفقيه العامة».

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment