الحوزة العلمية في النجف الأشرف من التأسس الى النهضة الجديدة

Last Updated: 2024/04/03By

الحوزة العلمية في النجف الأشرف من التأسيس الى النهضة الجديدة

د. علي المؤمن

الحوزة العلمية النجفية هي العاصمة العلمية الدينية التاريخية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، منذ (1000) عامٍ تقريباً؛ فقد أخذت موقعها هذا بعد العام 448 ه‍ )1038 م( على يد زعيم الشيعة في وقته الشيخ محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة، وبقيت تمارس دورها العلمي والفكري والديني والتبليغي والإعلامي والأدبي والاجتماعي والسياسي دون توقف حتى اللحظة الراهنة.

مركزية الحوزة النجفية في عهد الشيخ الطوسي   

كان اختيار الشيخ الطوسي للنجف، متزامناً مع احتلال السلاجقة الأتراك الطائفيين لبغداد، وإشعال الفتنة الطائفية فيها، والتي تسببت في إحراق بيت الشيخ الطوسي وتدمير الحوزة العلمية الشيعية فيها. وكان أمام الشيخ الطوسي عدد من الخيارات البديلة؛ لكنه اختار النجف الأشرف لبعدها النسبي عن بغداد، وكونها قصبة شيعية محضة، وتمتعها بحماية المحيط العشائري الشيعي، ووجود حوزة علمية صغيرة قائمة فيها، ووجود مرقد الإمام علي بن أبي طالب. ولذلك انتقل إليها مع مئات من تلامذته وأتباعه، وحوّلها إلى مركز دائم لزعامة النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

ورغم ثقل الطوسي المؤسس وزعامته العامة للشيعة، إلّا أن رحيله لم يؤد الى ضعف النجف، لأن ولده الملقب بالمفيد الثاني، والذي تصدى لزعامة الشيعة بعد وفاة أبيه؛ وجد مؤسسة قائمة راسخة البناء. وهكذا سار الحراك الاجتهادي الفقهي والبناء العقدي بعد الطوسي بشكل انسيابي، لأنّ حراك الاجتهاد الفقهي والعلوم الشرعية لا يتوقّف عند أحد، حتى لو كان بحجم المفيد أو الطوسي أو ابن إدريس أو كاشف الغطاء أو الأنصاري، والفتوى لا تتوقف عند أحد، لأنً الوقائع الجديدة والأحداث المستجدة مستمرة، وعملية الاستنباط مستمرة، ولا تقف عند زمن معين، ولا تقف عند فقيه معين؛ فكلما استجدّت الموضوعات وكلما ظهرت وقائع جديدة، كان لابد من إجابات عقدية وفقهية جديدة. وهذا الموضوع له علاقة بالزمان والمكان ومتطلباتهما وحاجاتهما التي تتزايد باطراد، كما أن له علاقة بإمساك الشريعة بالعصر والاستجابة لحاجات المجتمع والفرد.

وبرغم أنّ الحوزة العلمية النجفية هي الحوزة الشيعية الوحيدة التي لم تنقطع فيها الدراسة والإنتاج العلمي وتخريج الفقهاء والعلماء منذ تأسيسها وحتى الآن، ولم تشهد أيّ أُفول في أيّ مرحلة من مراحل تاريخها المتخم بالأحداث؛ إلّا أنّها مرت بفترات محدودة من فقدان مركزيتها؛ بسبب انتقال الزعامة الشيعية منها إلى مدن عراقية أُخر أو إيرانية أو لبنانية.

ولا تزال طريقة اختيار المرجع الأعلى في النجف الأشرف تقليدية ومتوارثة منذ مئات السنين، وتتمثل في الإجماع النسبي للوجوه الدينية والعلمية الأبرز في الحوزة على شخصية معينة بعد رحيل المرجع الأعلى السابق. ويسمون في العرف الحوزوي بـ «أهل الخبرة»، وهم أساتذة البحث الخارج وبعض أساتذة السطوح العالية. وهناك فاعلون في هذا المجال من (حواشي) مكتب المرجع الأعلى وبيوتات مراجع الصف الأول، يطلق عليهم المراقبون «جماعات الضغط» أو «جماعات المصالح»؛ لوجود أفراد بينهم ليسوا من أهل الخبرة. ولكن يبقى دور جماعات المصالح تكميلياً وترجيحياً وليس أساسياً.

وتلعب مجموعة من العوامل دوراً في خلق هذا الإجماع النسبي؛ إلّا أنّ العامل الأبرز الذي يؤكد عليه أهل الخبرة هو عامل الأعلمية الفقهية والأُصولية، إضافة إلى شرط العدالة، وهو تعبير عن اعتقاد تلك الجماعات بأنّ الشخصية المرشحة هو أعلم الفقهاء الشيعة الأحياء؛ بصـرف النظر عن الشـروط الشخصية ذات العلاقة بالكفاءة الإدارية والقيادية مثلاً، وهي الأساس في إدارة الشأن العام؛ لأنّهم لا يعتبرون الكفاءة محل ابتلاء في الواقع الشيعي عامة، والشيعي العراقي خاصة، ولا سيما في ظل الأنظمة السياسية العراقية القمعية السابقة التي لا تسمح للمرجع الديني بممارسة واجب التصدّي للشأن العام؛ برغم أنّ الكفاءة القيادية هي الأساس في إدارة الشأن العام.

وقد ظلت الحوزة العلمية النجفية ومرجعياتها، منذ عهود الاحتلال العثماني ثم الاحتلال الإنجليزي ثم النظام الملكي والجمهوري والبعثي، تعاني من الحرب الطائفية والعنصرية والعزلة والاضطهاد، تبعاً للسياسات الطائفية التي كانت تمارسها الحكومات العثمانية والعراقية ضد الأكثرية السكانية الشيعية. ثم تحولت هذه الحرب إلى عملية استئصال واجتثاث منظمة في زمن النظام البعثي؛ فكان مراجع النجف يساقون إلى المعتقلات وغرف الإعدام، أو يتعرضون إلى التهجير، فضلاً عن إغلاق مدارسهم ومنعهم من التدريس وصلاة الجماعة وطباعة كتبهم. أمّا المراجع الذين يتحاشون أي نوع من التدخل في الشأن السياسي والشأن العام؛ فإنّهم لم يسلموا من ضغوطات النظام وقمعه أيضاً؛ حتى وصل الوضع بعد اغتيال ثلاثة من مراجع النجف الكبار: الشيخ علي الغروي، والشيخ مرتضـى البروجردي والسيد محمد الصدر؛ أن ينعزل المراجع في بيوتهم، ولا يخرجون حتى لأداء صلاة الجماعة وإلقاء دروسهم وزيارة مرقد الإمام علي. واستمرت سياسة النظام البعثي في عزل الحوزة والمراجع حتى سقوطه في العام 2003.

الحوزة النجفية في ظل العراق الجديد

شهدت الحوزة العلمية في النجف الأشرف نهضة نوعية وكمية بعد سقوط النظام البعثي في العام 2003. ولعل ما وصلت إليه منذ ذلك التاريخ وحتى الآن يُعدّ إنجازاً كبيراً؛ إذ استعادت النجف الأشرف جزءاً أساسياً من عافيتها، بعد حرب شاملة استمرت (35) عاماً، شنّها ضدها نظام البعث، الذي اعتقل وقتل وشرّد واضطهد أغلب منتسبيها. فقد كان عدد منتسبي حوزة النجف يبلغ في العام 1967 حوالي (16) ألف طالب وأُستاذ، وانخفض هذا العدد إلى (500) فقط في العام 1991، أي أنّ نظام البعث قضى على أكثر من 90% من وجود الحوزة النجفية خلال (24) سنة. ولو كانت الأُمور تسير بشكل طبيعي ولم تتعرض النجف لحرب الاجتثاث؛ لارتفع عدد منتسبي حوزتها من (16) ألف في العام 1967 الى (50) ألف منتسب في العام 2020.

وقد بلغ عدد منتسبي الحوزة العلمية في النجف الأشرف في العام 2020، حوالي (15) ألف طالب وأُستاذ، يتوزعون على مراحل الدراسة الثلاث: المقدمات، والسطوح، والبحث الخارج، فضلاً عن وجود علماء ومراجع دين متفرغين للشأن العام أو البحث والتحقيق والتأليف والتبليغ. ويتواجد في النجف الأشرف حوالي (40) مجتهداً أو ممن يرى في نفسه ملكة الاجتهاد، ويقدم (20) منهم تقريباً دروس البحث الخارج. أما مراجع الدين الذين لديهم رسالة عملية للتقليد فيزيدون على عشـرة مراجع؛ إلّا أنّ العرف الحوزوي النجفي حصر المرجعيات الأساسية في أربعة مراجع فقط بعد العام 2003، وهم السيد علي الحسيني السيستاني (من أُصول إيرانية)، والسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم (عراقي)، والشيخ بشير حسين النجفي (من أُصول باكستانية)، والشيخ إسحاق الفياض (من أُصول أفغانستانية). ويتصدرهم السيد علي السيستاني بوصفه المرجع الأعلى. وتعود جذور هذا الحصـر إلى أواخر عقد التسعينات من القرن الماضي، وتحديداً بعد وفاة المراجع السيد أبو القاسم الخوئي في العام 1992 والسيد عبد الأعلى السبزواري في العام 1993 والسيد محمد الصدر في العام 1999، وتم تقريره عرفياً بعد العام 2003، أي أنّ اختيار هؤلاء الأربعة بات عرفاً حوزوياً وليس قراراً مؤسساتياً أو إجراء مبنياً على معايير إحصائية لعدد المقلدين.

وإضافة إلى منتسبي الحوزة العلمية المركزية في النجف؛ هناك ما يقرب من ثلاثة آلاف منتسب في الحوزات العلمية في كربلاء والكاظمية ومدن عراقية أُخر. كما توجد خمسة صفوف للبحث الخارج أيضاً في كربلاء والكاظمية.

وفي إطار النهوض الجديد للحوزة النجفية بعد سقوط النظام البعثي الطائفي في العام 2003 وتأسيس النظام السياسي الجديد الذي حقق للمكون الشيعي العراقي جزءاً مهماً من حقوقه المذهبية والسياسية، بوصفه يمثل الأكثرية السكانية، وبات مشاركاً أساسياً في قيادة الدولة؛ استعادت المرجعية العليا دورها وثقلها المعنويين في الشأن الاجتماعي والسياسي العام، وعادت جميع مدارس الحوزة ومؤسساتها ومكتباتها العامة إلى فاعليتها، وتمت إضافة مدارس ومؤسسات جديدة، فضلاً عن نشوء النهضة البحثية المتمثلة في المجلات العلمية ومراكز البحوث والتحقيق، كما تغيرت علاقة الحوزة العلمية والمرجعية الدينية النجفية بقضايا الشأن العام والدولة العراقية تغييراً جذرياً. فقد بدأت المرجعية العليا تمارس دورها الطبيعي في الرعاية الدينية الاجتماعية، وتشخيص المفاسد والمصالح العامة.

وأخذ السيد السيستاني الذي يعتقد بولاية الفقيه الخاصة، يمارس دوره الإرشادي والتوجيهي لحركة المجتمع والدولة من باب ولاية الفقيه على الأُمور الحسبية، وهو الدور الشرعي الذي يقضي بتوجيه حركة الدولة وإرشادها عندما يتطلب الأمر ذلك. وبذلك فإنّ الموقع الذي حظي به السيد السيستاني؛ لم يحظ به سابقاً أي مرجع في العراق، بمن فيهم الشيخ المفيد والسيد المرتضـى والشيخ الطوسي، الذين كانت لهم سطوتهم العامة وحضورهم شبه الرسمي في عهد الحكم البويهي الشيعي في بغداد.

وقد توافرت الفرصة في العراق للسيد السيستاني بعد العام 2003، ولم تتوافر لغيره، لأنّ المكوّن الشيعي الأكبر بات جزءاً من قرار الدولة والحكم، ولأنّ الأغلبية السكانية الشيعية بعد العام 2003 شاركت في الحكم، وأصبحت الشريك الأكبر، وأصبح الحاكم الأول شيعياً، أي رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة. وقد فتح هذا الأمر الأبواب أمام النجف وفتح أبواب النجف على مصراعيها، لتمارس دورها الطبيعي وتعبر عن نفسها لأول مرة في تاريخ الشيعة. بينما كانت أبواب المراجع والعلماء مغلقة قبل العام 2003؛ فقد كانوا محاصرين ومقيدين، ومن فتح أبوابه فقد أُعدم أو قتل في الشارع، وذلك في إطار وهكذا قتل المئات منهم، وهجّر الآلاف، واعتقل الآلاف. كانت هناك الهجمة الشرسة الشاملة المتواصلة للنظام البعثي على الحوزة العلمية وعلى علماء الدين خصوصاً، وعلى الشيعة والمذهب الشيعي بشكل عام.

ولكن بعد 2003، انقلبت الصورة تماماً، فأصبح الشيعة مشاركون في الحكم مشاركة قيادية، وأصبح مرجع الطائفة، أي السيد السيستاني، مبسوط اليد نسبياً فيما يتعلّق بالواقع العراقي، وأصبحت له كلمة ودالّة على تشكيل الحكومة واستقالتها، ودالة جوهرية على الأحزاب الشيعية الحاكمة، وعلى عموم الشيعة؛ فإيمان الشيعة بأن المرجع الديني هو نائب الإمام المعصوم، وله سلطة تتعلّق بأنواع الولايات التي يمتلكها، وخاصة ما يتعلق بموضوع التقليد وإدارة الأمور الحسبية؛ يجعل السياسي الشيعي وصاحب السلطة الشيعي يلتزم بتوجيه المرجع، سواء كان مقتنعاً أو مضطراً.

وقد حظي السيد السيستاني بموقع مختلف عن الموقع الذي كان يحظى به الشيخ مرتضى الأنصاري والسيد أبو الحسن الإصفهاني والسيد محسن الحكيم وغيرهم من مراجع الشيعة الكبار، رغم أن المنصب واحد من الناحية النظرية، والصلاحيات واحدة والولاية واحدة، وهنا أتكلم عن الجانب العملي وعن القدرة الموضوعية التي توافرت للسيد السيستاني لتطبيق صلاحيات الفقيه وولايته، وذلك لأن الظرف السياسي صار ملائماً. ويمكن أن نشبّه هذا الظرف بظروف بعض مراجع الدين الشيعة الذين عاشوا العهد البويهي ومرحلة الامتداد الصفوي لبغداد؛ فقد حصل فارق كبير في الوضع الشيعي في العراق وفي الحوزة وحراك مراجع الديني، بين العهد العباسي ثم الاحتلال العثماني من جهة، وبين الاحتلالين البويهي والصفوي من جهة أخرى؛ فأغلب علماء الدين الشيعة كانوا مضطهدين في البلاد العباسية والعثمانية، ومنها العراق، ولكن عندما جاء البويهيون والصفويون إلى العراق؛ أصبحت أبواب الحوزة والمرجعية مفتوحة على المجتمع والدولة، بكل حرية، ودون أي معوق، بل كانت الدولة تدعم الحوزة والمرجعية وعلماء الدين دعماً كبيراً؛ الأمر الذي كان يحقق للطرفين أهدافهما المتشابهة غالباً.

ما سبق يعني أن واقع السلطة والظرف السياسي الإيجابي الذي يكون فيه للسياسيين الشيعة حضوراً مركزياً في الدولة، وإن كان بعضهم أو أغلبهم سيئين، هو الذي يمنح المرجع الأعلى تمكيناً للعمل وفق صلاحياته وولاياته، وهو أمر كان يعيه بقوة فقهاء العصر الصفوي؛ فدعموا الدولة الصفوية، سواء كان دعماً بالحكم الأوّلي أو الحكم الثانوي، ثم حصدت الأجيال التالية هذا الدعم والجهود فيما بعد، وحتى اليوم، على شكل استقرار مجتمعي وحرية شاملة لعالم الدين بالعمل والتحرك، وهو ما افتقد اليه المجتمع الشيعي العراقي والحوزة العلمية والمرجعية الدينية في العراق، طيلة القرون التي عاشوا فيها تحت سلطة النظم الطائفية العنصرية، وخاتمتها نظام البعث.

وفضلاً عن تأثيرات سقوط النظام البعثي ومشاركة الأحزاب الإسلامية الشيعية في حكم العراق؛ فإنّ الفضل الحسـي الأهم في بقاء الحوزة النجفية ونهوضها وممارستها دورها الجديد، يعود إلى أداء استثنائي لثلاث مرجعيات دينية كبيرة، يمكن تلخيصه بما يلي:

1 ـ صبر السيد أبو القاسم الخوئي، حتى وفاته في العام 1992.

2 ـ حراك السيد محمد الصدر، حتى استشهاده في العام 1999.

3 ـ حكمة السيد علي السيستاني، وخاصة في أدائه بعد العام 2003.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment