الحكم الملكي والتأسيس لدولة العرب السنة في العراق

Last Updated: 2024/04/03By

الحكم الملكي والتأسيس لدولة العرب السنة في العراق

د. علي المؤمن

حين وضعت الحرب العالمية الاستعمارية الأولى أوزارها في عام 1918، اتجه الإنجليز نحو إقامة نوع من الحكم الذاتي في العراق، فجاءت فتوى فقهاء الشيعة بأن تكون الحكومة مسلمة، فاستمر الصراع مع الاحتلال الإنجليزي، حتى بات الوضع مهدداً بالانفجار. وبالفعل انفجر العراق عام 1920 بثورة شعبية مسلحة بقيادة مرجع الشيعة الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي، تهدف إلى الاستقلال وطرد المحتلين وإقامة حكومة مسلمة. وانتهت الثورة باحتواء الإنجليز للموقف والالتفاف على مطالب الثوار بطريقة مضللة؛ فعملت على إقامة حكم محلي تحت عنوان «الدولة العراقية»، التي تكونت من ثلاث ولايات عثمانية: الموصل وبغداد والبصرة، وفق معاهدة “سايكس ــ بيكو” بين بريطانيا وفرنسا في عام 1916، ثم معاهدة “فرساي” في عام 1919 ومبادئ عصبة الأمم، والقاضية بمنح بريطانيا حق الانتداب على العراق.

وقامت الدولة العراقية الحديثة استجابة شكلية لمطالب المقاومة العراقية وثورة النجف وثورة العشرين، ولكن ـ فجأة ـ وجد الثوار أنفسهم خارج لعبة الدولة والسياسة والسلطة، ووجدوا شخصية سنية غير عراقية مستوردة من الحجاز ملكاً على العراق، وأن النظام السياسي للدولة هو نظام علماني طائفي عنصري، يقوده صنائع الأتراك والإنجليز من الضباط العلمانيين الطائفيين الذين سبق أن خدموا في الجيش التركي وحصلوا على رتبة «الباشوية» من السلطان العثماني، ويحتلون الدولة ويشغلون الأغلبية الساحقة من مناصبها. فقد تحول هؤلاء الضباط والسياسيين والمشايخ العثمانيين العراقيين والعرب والمستعربين، خلال الأعوام من 1915 الى 1921، من عملاء لتركيا العثمانية الاستعمارية، وموظفين لديها، الى عملاء لبريطانيا الاستعمارية، وموظفين لديها، لكنهم لم يتخلوا مطلقا عن نهجهم الطائفي الذي ربتهم عليه العثمانيون خلال مئات السنين، والتماهي بطائفية وظلم الدولة التركية العثمانية، بالرغم من رفعهم شعارات الديمقراطية الإنجليزية، كما ظلوا، حتى بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921؛ عثمانيين دما ولحما؛ إذ بقوا محتفظين بألقاب الباشوية والباكوية والأفندية العثمانية، كما بقيت أصولهم التركية والشركسية والألبانية والقوقازية والسلجوقية وغيرها، موضع تفاخرهم الأسر، طيلة العهد الملكي، بل فصلوا قانون الجنسية في العام 1924 على مقاساتهم؛ فقرروا وفقه أن يكون حامل الجنسية العثمانية هو العراقي الأصيل، وإن كان ينتمي الى أبعد نقطة من أراضي الدولة العثمانية، والذي يحمل الجنسية القاجارية (الإيرانية) هو غير عراقي، وإن كان عراقياً أصيلاً ويسكن أجداده العراق قرون طويلة، وكان المستهدف بذلك؛ المواطن الشيعي، لأن كثيراً منهم كانوا يفضلون الجنسية الإيرانية على العثمانية (يوم لم تكن هناك جنسية عراقية)، لأسباب مذهبية، وكذلك تهرباً من الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش العثماني.

وكان هؤلاء الضباط السنة العثمانيين المنضوون تحت راية ما سمي بالثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، والد الملك فيصل الأول؛ قد اصطفوا مع جيش الاحتلال البريطاني في مواجهة ثورة العشرين، بل كانت سلوكياتهم وتصريحاتهم أكثر عدوانية وشدة من البريطانيين أنفسهم، كما كانوا جزءاً من القوات البريطانية التي قمعت الحراكات الشعبية المناهضة للاحتلال قبل ثورة العشرين أيضاً، وكانوا يصفونها بالتمردات الشيعية. ثم أصبح هؤلاء بعد ثورة العشرين، وعند تأسيس الدولة العراقية؛ رؤساء وزراء العراق وقادة الدولة العراقية الطائفية وحاشية الملك فيصل، أمثال عبد الرحمن النقيب ونوري السعيد وياسين الهاشمي وجعفر العسكري وعبد المحسن السعدون. ولم يقتصر الأمر على الضباط والسياسيين العثمانيين العراقيين، بل كان المثقفون والشعراء الطائفيون أيضاً منخرطون في المشروع البريطاني ضد المقاومة الشيعية. مثلاً؛ بعد وصول المندوب السامي البريطاني “برسي كوكس” الى بغداد، في العام 1920، استقبله الطائفيون استقبالاً حافلاً، وألقى الشعراء والمثقفون كلمات هجاء وتنكيل وتحريض ضد الثوار والمقاومين، وكان بينهم الشاعر جميل صدقي الزهاوي وغيره.

وهذا ما كان يدفع البريطانيين الى تكريس فكرة الحكم السني في العراق، أي حكم الأقلية الطائفية القومية، وإقصاء الأكثرية السكانية الشيعية، وهنا تقول المستشارة الإنجليزية آنذاك: “بيل رتراود”: ((الشيعة، كما بيّنت في مناسبات عديدة من قبل، يكوّنون مشكلة من أعظم المشاكل))، ويعضد كلامها مسؤول بريطاني، قال بعد تسليم الحكم للسنة خلال وزارة عبد الرحمن النقيب 1920، ثم تنصيب الحجازي السني ملكا على العراق: ((على الأجيال اللاحقة من ساسة العراق السنة أن يقدِّروا الجميل الذي يدينون به للبريطانيين في إنقاذهم من النجف الشيعية)).

ولعل من السهل تفهم دوافع الإجراء البريطاني في تحويل قواعد النظام السياسي الطائفي إلى بنى وقوانين وهياكل إدارية؛ فليس منطقياً، وفق المنهج البراغماتي في التفكير والعمل، أن تبادر بريطانيا إلى تأسيس نظام سياسي في العراق يعتمد قواعد الديمقراطية والدولة الحديثة التي ستتبع تلقائياً الموقف الاجتماعي والسياسي والمذهبي للأكثرية السكانية الشيعية، وتكافئ ــ بذلك ـــ الشعب الذي حاربها بكل الوسائل طيلة سبع سنوات، وتقدّم له خدمة كبرى. ولذلك؛ كان من الطبيعي أن يعيد الإنجليز تأهيل الشخصيات التي كانت جزءاً من النظام الطائفي التركي، ويبادرون لمكافأتها، بعد أن تنكرت للأتراك، ووقفت إلى جانب الإنجليز.

وحينها حقق الاحتلال البريطاني عدة أهداف بحركة واحدة؛ فمن جهة حافظ على مضمون النظام السياسي الاجتماعي الموروث في العراق، وكافأ النخب العثمانية التي وقفت إلى جانبه، بعد أن استخدمها في إدارة السلطات المحلية وإدارة الجيش وإعادة تشكيل المجتمع السياسي الجديد ــ القديم، بذريعة أن عناصرها يمتلكون ممارسة وخبرة في الإدارة والعمل السياسي والعسكري، وعاقب الأكثرية الشيعية التي وقفت ضده، وحافظ على مصالحه في العراق بصورة دائمة، على اعتبار أنّ دولة الأقلية ستبقي بحاجة إلى الحماية والدعم التي يوفرها لها الاحتلال، كما تخلصت من أعباء حكم الأكثرية، الذي وجدت فيه بريطانيا عدواً شرساً لا يمتلك أدوات المصالحة والمرونة السياسية، ولا يمكن ائتمانه على مصالحها، ولاسيما أن الشيعة محكومون طوعاً بنظام اجتماعي ديني يكون فيه الولاء للنجف وللمرجعية الدينية، والتي وجدها الإنجليز لا تقيم وزناً للسياسة والسلطة والمال، ولقواعدها البراغماتية، وهو ما يجعل حكم الأكثرية الشيعية متعارضاً تعارضاً بنيوياً وتلقائياً مع استقرار المصالح البريطانية في العراق.

ولم تمر سنة على عمر الدولة الجديدة، حتى بادرت الدولة إلى محاربة التيار الإسلامي الشيعي، ومحاصرة قادته ونفوذه السياسي بالكامل، وحيّدت الأكثرية السكانية الشيعية. وكان من بين إجراءات التصفية؛ تسفير قادة المقاومة والثورة من المراجع والفقهاء والزعماء إلى خارج العراق، وتحديداً إلى الهند وإيران، وفي مقدمهم المرجع الأعلى للشيعة في العالم السيد أبي الحسن الموسوي الإصفهاني. وحينها أقرّت الأكثرية الشيعية بأنها تعرضت لأكبر عملية استغفال في تاريخها، وأنها الخاسر الأكبر بعد قيام الدولة العراقية، وأنها أضاعت سنين طويلة من النضال من أجل استقلال البلاد وحريتها وإقامة حكم العدل والمساواة الوطني الذي ينسجم مع الشريعة الإسلامية.

ولعل الملك فيصل الأول كان يحس بالحرج جراء هذا التمييز الطائفي الصارخ وغير المعقول، ليس من منطلق إيمانه بإنصاف الشيعة، بل لأنه كان بحاجة الى دعم العشائر الشيعية في الوسط والجنوب؛ فقد كتب في مذكرة خاصة في نهاية عام 1932، يصف فيها أوضاع العراق: ((العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة، بينهم أشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي عنها بدعوى إنها ليست من عنصرهم. وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة، إلّا إن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكِّنهم من الاشتراك في الحكم… إنّ الضرائب على الشيعي والموت على الشيعي والمناصب للسني، ما الذي هو للشيعي، حتى أيامه الدينية لا اعتبار لها)). وكان الملك في ذلك يرد على التيار العربي السني الحاكم. فعلى سبيل المثال كان (توفيق السويدي) وزير المعارف ّ آنذاك بكتب رسمية يرفض مبدأ توزيع مقاعد الطلبة في الكليات والمعاهد بحسب نسب السكان في الألوية، مشيًرا باستهزاء ((الى أن الملك يريد أن يأتي بشباب من الشيعة من المقاهي والحوانيت لإدخالهم في خدمة الدولة)).

ويمكن معرفة حجم طائفية النظام الملكي العراقي، وإقصائه للشيعة سياسياً وثقافياً وتعليماً وعسكرياً(9)، من خلال جانب واحد فقط، وهو جانب مناصب الدولة؛ فمن بين (59) وزارة تشكلت في العهد الملكي، كان هناك خمسة رؤساء وزراء شيعة فقط، أي ما نسبته 9 ‎بالمائة من مجموع عدد الوزارات، وهي النسبة نفسها تقريباً بالنسبة للوزراء والمدراء العامين، ولم هناك سفيراً شيعياً واحداً أو قائداً عسكرياً واحداً (حتى العام 1956)، وكانت نسبة الشيعة في الكلية العسكرية حوالي 10 بالمائة، ونسبة السنة الكرد 10 بالمائة ونسبة السنة العرب 80 بالمائة. إلّا أن المفارقة الأكثر غرابة، هو ترشيح نواب سنة عن مناطق شيعية مغلقة، وهم من مناطق أخرى بعيدة، وكان كثير منهم طائفياً ومناطقياً ولا يحب الجنوب وأهله أساساً، ثم يراد تمثيل هذه المناطق. وكان كثير من الوزراء والسياسيين السنة أميين أو خريجي ابتدائية (عدا الضباط)، ونموذجهم رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون الذي كان خريج المدرسة الابتدائية في إسطنبول، ولم يقرأ العربية، في حين كان هناك متعلمون ومثقفون وكتّاب شيعة يتم استبعادهم حتى عن أبسط الوظائف، حتى قال أحد السياسيين السنة، بأن نوري السعيد ((كان يريد أن يجعل من أبناء السنة خريجي جامعات وأبناء الشيعة عمالاً ناجحين)).

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment