الحرب الاستعمارية العالمية الثانية
الحرب الاستعمارية العالمية الثانية
د. علي المؤمن
الطريق إلى الحرب
الأحداث التي وقعت عقيب الحرب الاستعمارية العالمية الأولى، وفي مقدمتها النتائج المباشرة للحرب، وما ترتب على شروط المعاهدات المفروضة على الدول المهزومة، والأزمة الاقتصادية العالمية، ووصول النازيين والفاشيين والشيوعيين إلى الحكم في ألمانيا وإيطاليا وروسيا، والممارسات الاستعمارية التوسعية لحكومات بريطانيا وفرنسا واليابان، وحمى سباق التسلح، كانت بمجموعها تجر العالم إلى حرب استعمارية جديدة.
أما الأحداث المباشرة التي عجلت في وقوع الكارثة فتمثلت في الخطوات التي كان «هتلر» يتدرج في الإقدام عليها، ابتداءً من إعادة تسليح ألمانيا، وبث الفكر العنصري بصيغ وآليات في غاية الحدة والتطرف (تفوّق العرق الجرماني، تنقية العرق الجرماني، إعادة الاعتبار لعظمة ألمانيا، تأمين المدى الحيوي – الاستراتيجي لألمانيا)، واستعادة الراين، وأخيراً ضم النمسا (موطنه الأصلي) إلى ألمانيا في آذار / مارس 1938، إثر استفتاء شكلي. بعدها أثار «هتلر» أزمة «السوديت» وهي منطقة تقطنها أقلية ألمانية، (ثلاثة ملايين نسمة)، ضمتها تشيكسلوفاكيا بعد تأسيسها عام 1918، إذ ظل هتلر يطالب بعودتها إلى ألمانيا منذ وصوله إلى السلطة، وأخذت المطالبة تأخذ طابع التهديد العسكري الجاد خلال عام 1938، فتدخلت بريطانيا وفرنسا لدى تشيكسلوفاكيا لتتنازل عن مناطق السوديت. ورغم موافقة حكومة براغ، إلا أن «هتلر» حدد الأول من تشرين الأول 1938 موعداً لاستعادة المنطقة، بحجة الاضطهاد الذي يتعرض له سكان السوديت الألمان. فعقد مؤتمر رباعي في ميونخ اشترك فيه «موسوليني» و«هتلر» و«تشامبرلين» (رئيس وزراء بريطانيا) و«دالاديه» (رئيس وزراء فرنسا)، بهدف الحيلولة دون قيام برلين بخطوة عسكرية. وأقر المؤتمر حق ألمانيا في استعادة «السوديت»، في إطار سياسة الاسترخاء التي مارستها بريطانيا وفرنسا تجاه ألمانيا. حينها دخل الجيش الألماني المنطقة، وانسحبت منها القوات التشيكسلوفاكية دون مقاومة. وفي أعقاب الضعف الذي أصاب حكومة براغ التي يسيطر عليها التشيك، أعلن زعيم السلوفاكيين في آذار/ مارس 1939 إقليم سلوفاكيا دولة مستقلة، ووضعها تحت حماية ألمانيا، وبعد أيام تحركت القوات النازية صوب ما تبقى من تشيكوسلوفاكيا (إقليمي بوهيميا ومورافيا) وأخضعتها لسيطرتها دون قتال، واستمرت في زحفها نحو ليتوانيا، حتى احتلت ميناء «ميمل»، الذي كان تابعاً لألمانيا قبل الحرب الاستعمارية العالمية الأولى.
واستمر هتلر في تطبيق شعار «تأمين المدى الحيوي – الاستراتيجي لألمانيا» و«استعادة كل المناطق الألمانية»؛ فوضع نصب عينيه هذه المرة الاستيلاء على ميناء «وانتزيغ» والممر المائي، وهما ضمن السيادة البولندية. في هذه الأثناء، اجتاحت القوات الإيطالية الفاشية ألبانيا وضمتها لإيطاليا في نيسان 1939، كمقدمة لاحتلال اليونان، وذلك بتشجيع من هتلر الذي تعهد لموسوليني بدعمه في إخضاع مناطق بحر الأدرياتيكي، وجعل البحر الأبيض المتوسط مناطق نفوذ إيطالية. ورداً على هذه الخطوة، عقدت بريطانيا تحالفاً عسكرياً مع اليونان وتركيا ورومانيا، ثم دخلته فرنسا التي تخلت حينها عن لواء الإسكندرونة (السوري) إلى تركيا، أرضاءً لها، في الوقت الذي عادت ألمانيا وإيطاليا لتقوية اتفاق محور روما – برلين، فعقدتا في آيار/مايو 1939 تحالفاً عسكرياً.
ومدت فرنسا يدها إلى الاتحاد السوفيتي، لضمه لحلف مشترك مضاد لألمانيا، في مقابل إخضاع دول البلطيق (استونيا، لتونيا، ليتوانيا) لدائرة نفوذه. وفي حين رفضت بلولنده مبدأ دخول قوات سوفيتية أراضيها، حتى من منطلق الدفاع عنها في مواجهة التهديد – الألماني، فإن ستالين وافق على عرض هتلر باقتسام بولنده. وهكذا دخل العدوان اللدودان في آب/اغسطس 1939 في اتفاقية عدم اعتداء مدتها عشر سنوات، تعهد الطرفان بموجبها بعدم الاشتراك في أي عمل أو حلف عسكري مضاد لأحدهما، مقابل تقسيم بولنده لدائرتي احتلال سوفيتي وألماني. وبذلك نجح «هتلر» في تأمين جانب «ستالين» في أي حرب متوقعة مع بريطانيا وفرنسا.
وكان لا بد للحرب من فتيل يشعلها، بعد أن أكملت القوى الاستعمارية الكبرى استعداداتها لدخولها على شكل أحلاف كبرى، ولم يكن الفتيل سوى الحادث الذي افتعله النازيون على الحدود البولندية – الألمانية، كذريعة لدخول قواتهم بولندا في الأول من أيلول/سبتمبر 1939، وهو تاريخ بدء الحرب الاستعمارية العالمية الثانية.
وبعد يومين أعلنت بريطانيا وفرنسا دعمهما لبولنده – التي خضعت معظم أراضيها للاجتياح الألماني في معركة سريعة وسهلة – وبذلك فإنهما أعلنتا الحرب على ألمانيا. ثم أعلنت دول الكومنولث – عدا إيرلندا – الحرب على ألمانيا أيضاً. وحيال ذلك قام «ستالين» بخطوة انتهازية منفصلة عن الطرفين المتحاربين، فاجتاحت قواته الجزء الآخر من بولنده، وفقاً للاتفاق السابق المبرم مع «هتلر». وأتبعها الاتحاد السوفيتي بالاستيلاء على استونيا وليتوانيا رسمياً عام 1940، ثم تنازلت برلين عن ليتوانيا لصالح موسكو. وهكذا كان موقف «ستالين» الحيادي وسرعته في الحصول على غنائم الحرب دون أن يشترك فيها، يصب في صالح هتلر ويشكل دعماً غير مباشر له؛ إذ أنه أمن الجبهة الشرقية للقوات الألمانية. ولم تكتف موسكو بما حصلت عليه، بل تمكنت من انتزاع امتيازات كبيرة في فلنده على أراضيها، اتجهت بعدها للاستيلاء على بيسارابيا التابعة لرومانيا.
إثر معارك صاعقة أخرى، احتلت القوات الألمانية الدنمارك والنروج، دون أن تنفع محاولات الحلفاء في ردعها. فكان الزحف الألماني يثير دهشة جنرالات الحلفاء بسرعته وقدرته على صنع المفاجئات وتقانة أدواته. ثم تواصل الزحف النازي، ليسيطر على اللوكسمبورغ وبلجيكا وهولندا، تمهيداً لاجتياح فرنسا، التي لم تكن تتوقع هذا الالتفاف الألماني، بل حسبت أن «خط ما جينو» المحصن سيحول دون تفكير النازيين باجتياح فرنسا. وخلال شهر واحد فقط من المعارك الضارية سقطت باريس بأيدي القوات الألمانية، وأصبحت الحكومة الفرنسية جزءاً من الإدارة الألمانية. في حين أعلن الجنرال «ديغول» عن قيام حكومة «فرنسا الحرة» من أراضي الجزائر المحتلة. وهذه المفارقة تفي وحدها لكشف تناقضات المستعمرين، وكيلهم بمكيالين، مكيال لأنفسهم، ومكيال للشعوب التي يستعمرونها؛ فديغول لم يجد حرجاً من جعل بلد تحتله جيوشه مقراً ينطلق منه لتحرير بلده، دون أن يضع في حساباته مصير البلد الذي يحتله هو!
وحتى قبل سقوط باريس، كانت إيطاليا قد بقيت طيلة الحرب على الحياد، ولكن الانتصارات الألمانية المتواصلة شجعتها لاقتسام الغنائم مع حليفتها، فأعلنت الحرب على الحلفاء في حزيران/يونيو 1940، وبدأت بالهجوم من ناحية جبال الألب، كما زحفت قواتها على اليونان، ولكنها فشلت بفعل المقاومة التي أبدتها القوات البريطانية، فسارع هتلر لإشعال جبهة البلقان، فنجح في اقتحام يوغسلافيا واليونان في 6 نيسان/ابريل 1941. وبذلك تكون المنطقة قد أخضعت بالكامل، بعد احتلاله المجر ورومانيا وبلغاريا في وقت سابق. ثم ما لبثت ألمانيا أن تنازلت عن اليونان لمصلحة إيطاليا.
وكان هتلر قد صمم على إخضاع إنجلترا؛ لأنها القلعة الأوربية الأخيرة للحلفاء، فبدأت قواته بالتمهيد لاجتياحها من خلال القصف الجوي المركز، ابتداءً من آب/ اغسطس 1940، وذلك في أعقاب رفض رئيس وزراء بريطانيا «ونستون تشرشل» عرض الصلح الذي قدمه «هتلر» لبريطانيا؛ بهدف إخضاع الأخيرة للأمر الواقع وإيقاف الحرب، والاحتفاظ بإنجازاته العسكرية، ليفرض عبرها شروطه على الحلفاء. فكانت المعركة بين الألمان والبريطانيين يدور معظمها في الجو، وأظهرت بمرور الزمن تفوقاً نسبياً لسلاح الجو البريطاني، فضلاً عن تفوق الأسطول البريطاني في البحر المتوسط.
وشعر الاتحاد السوفيتي بخطورة تحركات القوات النازية على الجبهة الشرقية، فأعلن الحرب على ألمانيا في حزيران/يونيو 1941، بعد أن أمر هتلر قواته بالتوغل في أراضي الاتحاد السوفيتي، فاجتاحها عبر أوكرانيا وروسيا البيضاء ولينينغراد. وصارت القوات الألمانية تقاتل بمفردها على عدة جبهات: الجبهة الشرقية ضد الاتحاد السوفيتي، وجبهة الأطلسي ضد الأسطول البريطاني، وجبهة البلقان وجبهة شمال إفريقيا ضد القوات البريطانية.
المقاومة الأوربية للتمدد الألماني
أفاق العالم في أواخر العام 1941 بعد مرحلة الغثيان التي مر بها جراء وطأة الحرب الشديدة؛ ليجد أن معظم أوربا قد خضعت لألمانيا؛ عدا بريطانيا – التي ظلت تقاوم لوحدها تقريباً – وسويسرا والسويد المحايدتين؛ فالنمسا ضُمت إلى ألمانيا، واحتلت الأخيرة تشيكسلوفاكيا وبولندا الشرقية وأوكرانيا والنروج وهولنده وبلجيكا ويوغسلافيا واليونان وفرنسا الشمالية والمجر ورومانيا وأجزاء من روسيا وروسيا البيضاء، أما بلغاريا والمجر وفلنده وإيطاليا فهي خاضعة أيضاً لحماية ألمانيا ومتحالفة معها في الحرب، وحكومات الدنمارك وإسبانيا والبرتغال موالية لألمانيا؛ وإن كانت الأخيرتان محايدتين رسمياً.
لقد جرت معظم فصول المقاومة خارج أوربا، فروسيا كانت تواجه ألمانيا في أقصى شرق أوربا، وفرنسا وبريطانيا في شمال إفريقيا، وبريطانيا في الأطلسي. وكانت الولايات المتحدة تمارس دعماً غير مباشر للأسطول البريطاني في مواجهة الأسطول الألماني في الأطلسي، فضلاً عن دعم قوات الحلفاء الأخرى من منطلق قانون «الإعارة والتأجير»، فيما كان حليفا ألمانيا (إيطاليا واليابان) يمارسان نشاطاتهما العسكرية بدعم ألماني مطلق وحينها تذوق المستعمرون أنفسهم طعم الاحتلال وذل الهيمنة الأجنبية، فالروس والفرنسيون وغيرهم من رواد الاستعمار ودعاة التفوق، باتوا يتعرضون لأبشع صنوف القمع والإذلال من قبل الاحتلال الألماني، ولا سيما ممارسات أجهزة المخابرات الألمانية «s.s» و«الجستابو» – هذه الممارسات التي لم تتوقف القوات الروسية والفرنسية والبريطانية عن القيام بها ضد الشعوب المحتلة في إفريقيا وآسيا.
وفي شرق آسيا، كانت اليابان في مواجهة حامية مع بريطانيا وهولندا، إذ تمكنت من انتزاع مجموعة محمياتها، ولا سيما في تايلند وشبه جزيرة الملايو وسنغافورة وأندونيسيا وغيرها. وتسببت تطورات جبهة شرق آسيا والصدامات اليابانية – الأمريكية، في إعلان الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على اليابان في نهاية عام 1941، ثم على ألمانيا وإيطاليا بعد أيام، وبذلك قامت جبهة واسعة ضد ألمانيا وحلفائها، قوامها أمريكا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا، أي جبهة شيوعية رأسمالية لا دخل للايديولوجيات فيها، ولم تكن تخطر في بال «ماركس» أو «إنجلز» أو «لينين». حينها دخلت الحرب منعطفاً جديداً يصب في مصلحة الحلفاء، فالاتحاد السوفيتي يتمتع بإمكانات بشرية هائلة، وأمريكا لديها طاقات عسكرية فريدة، ولا سيما أنها لم تتعرض للاستنزاف بعد، وبريطانيا تمتلك حركة واسعة في العالم من خلال مستعمراتها التي تغطي ثلث مساحة إفريقيا وآسيا، وأساطيلها المنتشرة في الأطلسي والمتوسط والهندي والهادىء. وتمكنت بريطانيا بعد احتلال إيران في حزيران/يونيو 1941 والإطاحة بشاهها رضا خان واستبداله بابنه؛ لرفض الأول دخول الحرب ضد ألمانيا، تمكنت من إيصال أنواع الدعم إلى الاتحاد السوفيتي، لأن إيران كانت منفذ الحلفاء الوحيد لإسناد روسيا، التي تمكنت خلال عام 1942 من إيقاف الزحف النازي. وفي كانون الثاني/يناير 1942 وقعت (26) دولة في واشنطن على اتفاق تحالف كبير مضاد لدول المحور، فكان التحالف الجديد منعطفاً آخر في تاريخ الحرب؛ لأنه وحد جهود دول الحلفاء وأضاف لها قوى جديدة، بينها الصين.
وشهد عام 1943 بدايات التقهقر في صفوف القوات الألمانية، بعد تراجعها على الجبهة الروسية، فضلاً عن تقدم الحلفاء نحو إيطاليا واعتقال موسوليني عام 1943، حتى اكتمال احتلالها في العام التالي. وتطبيقاً لاتفاقية طهران عام 1943، التي وقعها «روزفلت» و«تشرشل» و«ستالين»، فقد تم فتح جبهة جديدة في غرب أوربا ضد ألمانيا، انتهت معاركها باحتلال غرب فرنسا، حتى وصلت جيوش الحلفاء إلى باريس، بعد عملية الإنزال الشهيرة على شاطىء «النورماندي» في حزيران/يونيو 1944، تلاها تحرير كامل فرنسا وبلجيكا. كما تمكنت القوات الروسية في الفترة نفسها من انتزاع ما تبقى من أراضي دول البلطيق وبولنده وروسيا البيضاء وأوكرانيا من الاحتلال الألماني. وأمام زحف قوات الاتحاد السوفيتي أعلنت رومانيا وفلنده وبلغاريا استسلامها في آب/ اغسطس وأيلول/ سبتمبر1944 للحلفاء.
وبدا واضحاً أن القوات النازية تنهار بالتدريج، ولكن بصعوبة؛ فقد ظلت تقاوم، رغم قوة زحف الحلفاء وماكنتهم العسكرية المتجددة. وعلى إثر ذلك سقطت تشيكسلوفاكيا وبروسيا الشرقية في كانون الثاني/ يناير1945، ثم المجر بعد شهر تقريباً. وواصلت القوات البريطانية والفرنسية والأمريكية زحفها من الغرب باتجاه ألمانيا، حيث عبروا نهر «الراين» في آذار/مارس 1945، حتى التقت بالقوات السوفيتية في نيسان/ ابريل 1945 في منطقة «تورغاو».
وبعد أن أصبحت قوات الحلفاء على مشارف العاصمة الألمانية برلين، انتحر هتلر في 30 نيسان 1945، ودخل الحلفاء برلين بعد يومين، وفرضوا على من تبقى من جنرالات النازية التوقيع على وثيقة استسلام ألمانيا دون شرط في 7 آيار/مايو 1945، وهو التاريخ الرسمي لانتهاء الحرب على الجبهة الأوربية. فيما واصلت اليابان الحرب ضد الحلفاء في شرق آسيا وشمال الصين والمحيط الهادىء. واندفعت الولايات المتحدة الأمريكية لحسم الحرب بأداة بشعة، لا زالت ماثلة بفرادة في ذاكرة الإنسانية، بعيداً عن تعقيدات وجرائم الحرب الأخرى، ففي آب /اغسطس 1945 استخدمت واشنطن القنبلة الذرية ضد المدنيين في هيروشيما وناكازاكي، الأمر الذي اضطر امبراطور اليابان إلى طلب الهدنة وتزامن ذلك مع انتزاع الاتحاد السوفيتي منشوريا من سيطرة القوات اليابانية. وكانت موسكو قد أعلنت الحرب على اليابان، تطبيقاً لمقرارت مؤتمر الحلفاء في يالطا الذي بدأ أعماله في 11 شباط /فبراير 1945، ففي هذا المؤتمر الاستعماري تم تقسيم غنائم الحرب قبل نهايتها، فقد حصل ستالين على أراضٍ شاسعة في أوربا الشرقية وشمال شرق آسيا، فضلاً عن احتفاظ الاتحاد السوفيتي بمعظم دول أوربا الشرقية كمناطق نفوذ – كما اتفق الحلفاء على تقسيم ألمانيا إلى ثلاث مناطق احتلال أمريكية – بريطانية – سوفيتية، واقتطاع مساحة من المنطقتين البريطانية والأمريكية كحصة لفرنسا. وقد مهد هذا المؤتمر لقيام نظام ما بعد الحرب وهو نظام القطبين وأعقب هزيمة اليابان الإعلان عن استسلامها في 2 آيار/مايو 1945، وبه توقفت الحرب الاستعمارية العالمية الثانية على جميع الجبهات.
المهمة الأولى التي نفذها الحلفاء بعد توقف الحرب، تقسيم ألمانيا وعاصمتها برلين وفقاً لاتفاقيات «مؤتمر يالطا». المهمة الثانية تمثلت في تصفية النازية، ففيما كانت بريطانيا ترى ضرورة احترام ألمانيا والتعامل معها بصورة لا تعطيها مسوغاً لشن حرب جديدة، كما حصل في أعقاب الحرب الاستعمارية الأولى، فإن أمريكا وروسيا أصرا على تصفية ألمانيا وتدمير كل مكامن القوة فيها. والحقيقة أن بريطانيا كانت تخشى من المد الشيوعي، وترى أن الشيوعية سترث النازية في تهديد أوربا. وكان هدف تشرشل إبقاء حالة التوازن في أوربا وعدم إضعاف ألمانيا إلى الحد الذي يجعل المنطقة حديقة خلفية لستالين، بينما دعم روزفلت موقف ستالين بهدف إبقاء الاتحاد السوفيتي فزاعة في مواجهة أوربا، وبالتالي فتح أبواب أوربا أمام الولايات المتحدة، باعتبارها تؤمن الحماية لأوربا في مواجهة الخطر الشيوعي، وهو ما حصل بالفعل. فكانت أوربا هي الخاسر الأكبر في الحرب، رغم أن بريطانيا كانت تبدو أحد الرابحين الأساسيين. ولكن الحقيقة أن بريطانيا انتصرت في الحرب، ولكنها خسرت معظم مواقعها بالتدريج، نتيجة المخطط الأمريكي – الروسي الذي رسم شكل العالم لمرحلة ما بعد الحرب، والذي سمح لهما بالانفراد بالعالم كقطبين وحيدين.
وبدأت معالم مخطط ما بعد الحرب تظهر خلال «مؤتمر بوتسدام»، الذي بدأ أعماله في 17 تموز/يوليو 1945، واستمر أكثر من شهر، إذ خرج الاتحاد السوفيتي وبريطانيا من المؤتمر رابحين أساسيين. ويمكن إجمال نتائج الحرب ومعاهدات إعادة ترتيب الأوضاع والصلح بما يلي:
- تقسيم أوربا إلى منطقتي نفوذ أمريكي – روسي، فأروبا الشرقية بعد تأسيس الأنظمة الشيوعية فيها، باتت جزءاً من الكتلة التي تقودها موسكو إيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً، فيما أخذت أوربا الغربية تخضع لأمريكا بالتدريج كأمر واقع. ثم امتد نفوذ القطبين إلى مناطق أخرى في العالم، إلى المستوى الذي سمح لهما – في العقود التالية – بالتفرد بمصير العالم، وهي نتيجة لم تكن روسيا تحلم بها يوماً،بعد أن برزت كزعيمة للاستعمار الاشتراكي في العالم، فيما برزت أمريكا كزعيمة للاستعمار الرأسمالي.
- بروز الضعف في الدولتين الاستعمارتيين الأقوى في الغرب (بريطانيا وفرنسا)، وتحولهما إلى دولتين متكافئتين مع دول أوربا الأخرى، مع فارق كبير في القوة والنفوذ بينهما وبين أمريكا وروسيا.
- تصفية النازية في ألمانيا وبعض بلدان أوربا المتأثرة بها، وكذلك الفاشية في إيطاليا. وتقسيم ألمانيا إلى دولتين.
- ولادة منظمة عالمية جديدة بدل «عصبة الأمم»، هي «منظمة الأمم المتحدة».
وقد خلفت الحرب الاستعمارية الثانية أرقاماً مرعبة من الضحايا، حيث قدرت بسبعة أضعاف ضحايا الحرب الاستعمارية الأولى، أي ما يقرب من (55) مليون شخص، توزعوا على النحو التالي:
- الاتحاد السوفيتي، 25 مليون شخص، حوالي 10% من عدد السكان.
- بريطانيا (ومستعمراتها)، 14 مليون، حوالي 5% من عدد السكان (خسائر إنجلترا وحدها حوالي نصف مليون شخص).
- الصين، 8 ملايين شخص، حوالي 2.5% من مجموع عدد السكان.
- ألمانيا، 7ملايين شخص، حوالي 10% من عدد السكان.
- بولنده، 6 ملايين شخص، حوالي 2.5% من عدد السكان (يبلغ عدد المدنيين منهم أكثر من خمسة ملايين ونصف المليون، قتلهم الألمان والروس في مجازر جماعية).
- اليابان، 3 ملايين، 3% من عدد السكان.
- فرنسا (ومستعمراتها)، 2 مليون، 5% من عدد السكان (خسائر فرنسا وحدها أكثر من نصف مليون شخص).
- اليونان، نصف مليون شخص.
- يوغسلافيا، نصف مليون شخص.
- الولايات المتحدة ما يقرب من (300) ألف شخص.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua