الحرب الاستعمارية العالمية الأولى
الحرب الاستعمارية العالمية الأولى
د. علي المؤمن
التمهيد للحرب
هناك ظاهرتان مهدتا للحرب الاستعمارية العالمي الأولى:
الأولى: موجة التحرر الشعبي؛ فقد شهدت الفترة التي سبقت الحرب الاستعمارية (العالمية) الأولى، موجة ملتهبة من النشاط التحرري للشعوب التواقة للانعتاق من سيطرة الغرباء وبقاياهم؛ فقد تحركت بعض شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بهذا الاتجاه، كما حصل في إيران عام 1906، حين أعلن الشعب الإيراني ثورة المشروطة بقيادة علماء الدين؛ للمطالبة بالنظام السياسي الدستوري. وكذلك ثورة الفلاحين في المكسيك عام 1910 بقيادة «زاباتا»، والتي استمرت حوالي سبع سنوات، بهدف القضاء على النظام الحاكم الموالي لأمريكا وبريطانيا، وظلت هذه الثورة أهم حدث في أمريكا اللاتينية سنين طويلة. وأعقبتها ثورة العمال في الصين عام 1911 بقيادة (صن يان صن)، الذي أعلن الجمهورية وانتخبه برلمان المقاطعات – المستقلة عن الحكم المركزي – رئيساً للجمهورية في العام التالي. كما شهدت بعض المستعمرات، كشبه القارة الهندية وأندونيسيا والفلبين تحركات مماثلة أيضاً. وكانت الشعوب غير التركية الخاضعة للسلطة العثمانية تعاني – هي الأخرى – من حالات معقدة من التمييز القومي والطائفي.
الثانية: تفاقم التناقضات بين القوى الكبرى؛ فالتنافس الشرس بين القوى العظمى على التوسع واحتلال المزيد من الأراضي وفتح أسواق التصريف وإذلال الشعوب المحرومة، والحروب الإقليمية المحدودة والأزمات المتراكمة، والحلول المبتورة التي كانت تطرح لحل الخلافات، أدّى إلى أنواع من التناقضات التي لا يمكن السيطرة عليها أو حلها. وكان كل شيء يسير باتجاه الكارثة، ولا سيما أن الصراع الاستعماري بين بريطانيا وألمانيا الذي يمثل الوجه الأبرز لتلك التناقضات، كان قد بلغ مرحلة اللاعودة. وكانت ألمانيا تمثل قيادة دول المحور التي تضم النمسا المتحدة مع المجر، وإيطاليا، وألمانيا نفسها، بينما كانت تقف بريطانيا في مقدمة دول التحالف التي تضم فرنسا وروسيا وبريطانيا نفسها. وكان هذان التحالفان التكتلين العسكريين الأعظم في العالم؛ وكان واضحاً أن كلاً منهما متأهب للانقضاض على منافسه، خلال ذلك كان سباق التسلح، الذي بلغ ذروته طيلة مرحلة السلم المسلح هو المظهر الأكثر تعبيراً عن اقتراب الحرب.
قيام الحرب
كان مسار الأحداث يشير إلى أن الحرب بين القوى العظمى ستقع لا محالة، وأن اندلاعها وشيكٌ، فسباق التوسع المحموم، ومحاولة بعض القوى الاستعمارية اللحاق بالدول الأكثر توسعاً من خلال التحرك بقوة انفجارية، وسباق التسلح، والحروب الإقليمية، والأزمات المتراكمة، ولا سيما ما كان يحدث في البلقان وقضية الألزاس واللورين اللتين سلختهما ألمانيا من الأراضي الفرنسية، وشعور بعض القوميات الأوربية بالغبن جراء فشلها في الحصول على حقوقها من القوميات الأقوى، كانت كلها حقائق تقرع طبول المنازلة النهائية، وتزيد من تخندق التحالفين الاستعماريين الرئيسيين في أوربا مقابل بعضهما…
وكما كان متوقعاً، فقد فجرت أزمة البلقان الموقف، ففي 28 حزيران/ يونيو 1914 قُتل «الأرشيدوق» ولي عهد النمسا في العاصمة البوسنية (سراييفو) على يد شاب بوسني متعاون مع الحكومة الصربية. وعلى إثره أعلنت النمسا الحرب على صربيا في 28 تموز، وفي المقابل عبأت روسيا جيوشها لمساندة صربيا. وبدخول ألمانيا الحرب في الأول من آب، أخذ النزاع شكله الأوربي الواسع، وغزت ألمانيا بلجيكا واللوكسمبورغ بهدف الزحف نحو فرنسا. وكان الألمان يخططون لمعاركهم بأسلوب الحرب الخاطفة، ويتسابقون مع الزمن في تحقيق أهدافهم العسكرية؛ لأنهم كانوا يخشون من ضعف آلتهم العسكرية بمرور الزمن. وهذا الأسلوب في القتال لم يستجد لديهم بعد اندلاع الحرب وإنما كان مخططاً له سلفاً من كبار القادة العسكريين الألمان – وفي مقدمتهم الجنرال «الفرد فون شليا فن» – وذلك قبل أكثر من ثمان سنوات، وكان ينص على السرعة في تنفيذ الأعمال العسكرية، وإنهاء الحرب لصالح القوات الألمانية، قبل أن تستنزف بمرور الزمن وإطالة أمد الحرب. إلاّ أن الإخفاق الذريع الذي تعرض له الهجوم الألماني على فرنسا في أوائل أيلول / سبتمبر 1914، أحبط خطة الحرب الخاطفة هذه، فخلال معركة «المارن» بين الجيشين الألماني والفرنسي، اضطر الألمان لسحب بعض فيالقهم من المعركة لمواجهة التحرك الروسي الذي كان يستهدف بروسيا (ألمانيا) من حدودها الشمالية. ورغم هزيمة الروس أمام الألمان، إلاّ أن ضعف الجبهة الألمانية في «المارن» أدّى إلى تراجع الألمان عن خطتهم في احتلال باريس. وبذلك تحولت الحرب بالتدريج إلى حرب استنزاف.
ومن أجل كبح جماح الألمان الذين باتت تحركاتهم العسكرية لا تستهدف فرنسا وحسب، بل تهدد أوربا برمتها، دخلت بريطانيا الحرب لصالح حليفتيها فرنسا وروسيا. ثم أعلنت إيطاليا – بعد سنة تقريباً على اندلاع الحرب – انسحابها من التحالف، ووقفت إلى جانب الحلفاء. وهكذا استمرت قوى الكتلتين الواحدة تلو الأخرى في دخول الحرب وتقوية جبهة حلفائها، فبعد بريطانيا وإيطاليا، أعلنت اليابان الحرب إلى جانب ألمانيا، وكانت خشية الصين من سطوة اليابانيين مدعاة لهم للتخندق ضد ألمانيا، بينما وقفت الدولة العثمانية، وبلغاريا (ابتداءً من عام 1916) إلى جانب دول المحور بقيادة ألمانيا، في حين وقفت رومانيا إلى جانب الحلفاء.
ورغم أن الحرب شملت كثيراً من بقاع العالم، إلاّ أنها لم تكن حرباً عالمية بالمعنى الجغرافي والموضوعي؛ إذ بقي كثير من بلدان العالم بمعزل عنها، كأمريكا الوسطى والجنوبية وإفريقيا وأقيانوسيا، وكثير من بلدان آسيا والبلدان الاسكندنافية، فقد تركزت الحرب في أوربا، ثم امتدت إلى جزء من شمال إفريقيا والشرق الأوسط وشرق آسيا. ولولا دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب في السنة الأخيرة، بسبب تعرض الغواصات الألمانية لسفنها التجارية والسعي للحصول على قروضها من بريطانيا وفرنسا، لما وصلت الحرب إلى الأمريكتين. كما أن اقتصار الحرب على حوالي 20% (36 دولة فقط) من بلدان العالم وبالتحديد القوى الاستعمارية العظمى، وكذلك الأهداف والدوافع الاستعمارية والتوسعية للحرب، ذلك كله جعلها حرباً استعمارية صرفة، وليست حرباً عالمية؛ فمصطلح الحرب العالمية (أو الكونية!) فيه الكثير من المبالغة واللاموضوعية؛ لأنه يوحي بأنها حرب عالمية بالفعل وليست صراعاً مسلحاً بين المستكبرين لاقتسام الغنائم المتمثلة بالبلدان المستضعفة، وهي أكثرية بلدان العالم. والحقيقة، إن أدبيات الغرب عندما تطلق مصطلح العالمية أو الكونية على هذه الحرب، رغم اقتصارها على عدد محدود من الدول الأوربية الاستعمارية وحليفاتها، فإنها تنسجم مع العقل الذي أفرزها أي نظرتها للأنا والآخر؛ باعتبار أن العالم هو أوربا وهي العالم، أما باقي الدول – عدا أمريكا واليابان – فهي أطراف وهوامش لا أهمية لها ولا وزن؛ ومن هنا كانت حربها حرباً للعالم كله أو نيابة عن العالم.
الشعوب الفقيرة: محرقة الحرب
حاولت القوى المتحاربة استخدام شعوب العالم المستعمرة وثرواتها، وقوداً لمحرقتها، فمثلاً شكّل سكان شبه القارة الهندية نسبة كبيرة من جيوش الإمبراطورية البريطانية، كما كانت هناك فرق فرنسية قوامها جنود ينتمون إلى بلدان الهند الصينية والمغرب والسنغال والجزائر، وغيرها. وتسببت هذه الأعمال العدوانية في يقظة كثير من الشعوب المستعمرة، ففي شبة القارة الهندية تصاعدت التحركات الجماهيرية والمسلحة المضادة للاستعمار البريطاني، وكانت مطالبة المؤتمر الوطني الهندي عام 1916 بمنح الهند حكما ذاتياً أحد أهم المطالب التي رفعها الشعب الهندي. كما تحركت الجماهير الأندونيسية بقيادة حزب «ساريكات إسلام» في عام 1917 مطالبة بطرد الاستعمار الهولندي. وتحولت الاحتجاجات الشعبية على حملات التجنيد الإجباري التي كان يشنها المحتلون الفرنسيون ضد أبناء بلدان الهند الصينية، إلى أعمال عنف مسلح منظمة، وفي السياق نفسه أعلن الشعب الأيرلندي في عام 1916 رفضه للاستعمار البريطاني ومطالبته بالاستقلال، وكادت معارك الاستقلال تتحول إلى حرب حقيقية في أيرلندا. أما في الفلبين فقد أذعن الأمريكان لبعض مطالب الشعب الفلبيني ووعدوه بالاستقلال.
وشهدت الحرب أنواعاً معقدة من العمليات المخابراتية والمؤامرات السياسية والحرب النفسية، كان أبرزها على الإطلاق ما تعرضت له الإمبراطوريتان الروسية والعثمانية. فالمؤامرة الألمانية ضد روسيا، والتي تمثلت بإنفاذ بعض الزعماء الشيوعيين وفي مقدمتهم «لينين» إلى داخل روسيا لإعلان الثورة ضد الحكم القيصري. أدت إلى انهيار الإمبراطورية وقيام سلطة الحزب الشيوعي، ورغم أن هذه العملية أفادت الجيش الألماني كثيراً، وخفضت ضغط الجبهة الشرقية عليه، ولكنها في النتيجة انقلبت لغير صالح ألمانيا – كما سيأتي -. كذلك أدت المؤامرة البريطانية على الدولة العثمانية إلى انهيار الخلافة فيها. ففي عام 1916 قدمت بريطانيا وعوداً إلى أمير الحجاز الشريف حسين بن علي بإنشاء دولة عربية كبرى مستقلة عن الدولة العثمانية التركية، تنطلق من الحجاز، ويكون هو الملك فيها وينحصر الحكم بأسرته، فيما لو شن حرباً انفصالية على العثمانيين؛ وعلى إثرها أعلن الشريف حسين الثورة على الدولة العثمانية بدعم سخي من البريطانيين، وانظم له العديد من الفصائل والشخصيات القومية في البلدان العربية، ونجح في تحقيق أهداف البريطانيين في الكثير من المعارك مع العثمانيين.
لكن الأمر اختلف كلياً في العراق، فقد سارت حركة التحرر الشعبية فيه باتجاه معاكس لحركة التحرر العربية في سعيها للتخلص من الهيمنة العثمانية، إذ وقف الشعب العراقي بقيادة علماء الدين، وفي مقدمهم كبار المجتهدين في النجف الأشرف، ضد الاحتلال الإنجليزي الذي بدأ في عام 1914، وتحالفوا ميدانياً مع الأتراك، رغم معاناتهم من الاضطهاد الطائفي للحكم العثماني. ورغم أن الأتراك تركوا العراقيين وحدهم في ساحة المعارك مع الإنجليز، إلاّ أن مقاومة المجاهدين العراقيين استمرت حتى بدايات عام 1918 (ثورة النجف) ولم يشتركوا في حرب الشريف حسين ضد العثمانيين. وحصل الشيء نفسه في إيران، حيث وقف المجاهدون الإيرانيون بقيادة علماء الدين ضد الاحتلال الإنجليزي القادم من الجنوب، كما قاوموا الاحتلال الروسي في الشمال.
تغيير ميزان القوة
بعد سنوات على اندلاع الحرب، بات الرهان البريطاني على استنزاف الألمانيين الذين يعانون من ضعف اقتصادي ومعنوي بسبب طول أمد الحرب، على وشك التحقيق، رغم الانتصارات المؤقتة التي كانت ألمانيا تنجزها. وفي المقابل عانى الحلفاء من ثلاث مشاكل رئيسة: الأولى تتمثل في ضمان الألمان للجبهة الشرقية بعد انسحاب روسيا من الحرب وعقدها صفقة سلام مع ألمانيا، في أعقاب قيام الحكم الشيوعي في روسيا، والمشكلة الثانية تمثلت في شحة العتاد، والثالثة في الحصار التجاري الذي ضربته الغواصات الألمانية على المياه المحيطة بأوروبا. ومن أجل معالجة المشكلة الأولى، اتجه الحلفاء إلى الولايات المتحدة الأمريكية لشراء السلاح والعتاد بأسعار باهضة، وكانت أمريكا تضيف نسبة عالية من الفوائد على ديون الحلفاء التي تراكمت بسبب طلبهم المزيد من العتاد. وقد تفردت أمريكا في لعب دور مصنع وتاجر السلاح، واستغلت الحلفاء أسوأ استغلال. أما مشكلة الغواصات الألمانية، فبقدر ما كانت مؤذية للحلفاء، فإنها تسببت في انفراج في قضية الحرب برمتها، فحتى بدايات عام 1917، كانت الغواصات الألمانية قد أغرقت ملايين الأطنان من السفن التجارية البريطانية والفرنسية، ولكنها ارتكبت خطأ قاتلاً في نيسان / أبريل 1917 حين تعرضت لسفينة «لوسي تانيا» التي كانت تحمل (1400) راكبا بينهم (128) أمريكياً، فأغرقتها وقتلت جميع ركابها. وأعطت بذلك ذريعة للحكومة الأمريكية كانت بحاجة إليها لدخول الحرب. ورغم أن الأمريكان لم يشاركوا في المعارك بشكل جاد، إلا أن إعلانهم الحرب ضد ألمانيا كان كافياً لرفع معنويات الحلفاء، وإضعاف المحور الألماني، وهكذا بدأ الضعف يدب في صفوف القوات الألمانية بالتدريج، حتى أصيبت في أواسط عام 1918 بنكسات متوالية على الجبهة الغربية شكلت البداية الحقيقية لاندحارها.
وكان الرئيس الأمريكي نيلسون قد أعلن في مطلع عام 1918 برنامج سلام من (14) نقطة، من شأنه إنهاء الحرب وتحقيق السلام في أوربا، إلا أن الألمان لم يستجيبوا للإعلان الأمريكي، وقرورا حسم الحرب في ساحة المعركة، إلا أن سلسلة الهزائم التي تعرضوا لها وانهيار الأسطول الألماني، وتوقيع بلغاريا والدولة العثمانية والنمسا على الهدنة، اضطرتهم في تشرين الأول / اكتوبر 1918 إلى قبول برنامج السلام وعقد هدنة بين الأطراف المتحاربة، إلا أن الحلفاء رفضوا التنازل الألماني، بعد أن أصبح واضحاً أنهم على أبواب النصر النهائي.
وجاءت الأحداث في داخل ألمانيا لتحسم الأوضاع، حيث بدأت في نهاية تشرين الأول / اكتوبر 1918 حركة تمرد واسعة قادها اليساريون الألمان، انتهت إلى انتفاضة شعبية نجحت في القضاء على الحكم الأمبراطوريي وإعلان الجمهورية في 9 تشرين الثاني، وعلى إثرها فرَّ القيصر الألماني إلى هولندا، ثم تم التوصل إلى اتفاقية هدنة بين الطرفين في 11 تشرين الثاني، توقفت على إثرها جميع العمليات العسكرية، ومثلت وثيقة استسلام ألمانيا وتضمنت اتفاقية الهدنة «جلاء ألمانيا عن جميع الأراضي التي احتلتها، وعدم إتلاف الطرق ووسائل المواصلات، وإعادة أسرى الحرب إلى الحلفاء دون مقابل، وتسليم السلاح البحري من غواصات وبوارج وناسفات، وتسليم عدد من قطارات وعربات السكك الحديدية، وتسليم كميات من المواد الحربية، والتسليم بتعويض الأضرار التي لحقت بدول الحلفاء، والالتزام بعدم التصرف أثناء الهدنة بالأوراق المالية، وإخلاء بعض الموانىء، وتسليم جميع السفن الروسية التي استولت عليها ألمانيا، والاعتراف بحق احتلال ضفة الراين اليسرى».
نتائج الحرب
لقد شهدت الحرب الاستعمارية الأولى استخدام أسلحة جديدة، ولأول مرة في التاريخ، كالدبابات والمصفحات التي ابتكرها البريطانيون، وكانت مؤثرة في معارك آب / أغسطس 1918 التي استخدم فيها البريطانيون (400) دبابة أفزعت الجنود الألمان وتسببت في هزيمتهم في المعركة، وسمي هذ ا اليوم بـ (اليوم الأسود للجيش الألماني) وفي المقابل استخدام الألمان الطائرات العملاقة التي كانت تقصف المدن البريطانية بعنف، فكانت المرة الأولى التي يتعرض فيها الناس البعيدون عن جبهات الحرب مئات الكيلومترات لآثار الحرب بصورة مباشرة. كما استخدم الألمان للمرة الأولى غاز (الكلورين) السام في نيسان / ابريل 1915 كسلاح ضد العدو.
وحين وضعت الحرب أوزارها، أخذت النتائج القاسية تظهر شيئاً فشيئاً، فمن مجموع (65) مليون جندي اشتركوا في الحرب قتل عشرة ملايين جندي وجرح عشرون مليون آخرون. وتسببت الحرب في أزمات اقتصادية واجتماعية حادة، بعد أن أنفقت الدول المتحاربة ما يقرب من (281) مليار دولار من اقتصادها على الماكنة الحربية، وخصصت حوالي ثلث ميزانيتها على النفقات العسكرية والسلاح، وهو سباق على أدوات الموت لم يشهد التاريخ له مثيلاً…
والحقيقة أن جميع الأطراف المتحاربة خرجت منهارة من الحرب، رغم الخسارة الألمانية المضاعفة. وكانت أمريكا الرابح الوحيد، وإن أفادت اليابان من الحرب أيضاً. فقد تحولت أمريكا إلى أكبر القوى العظمى المنافسة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، نتيجة عدم اشتراكها الحقيقي في المعارك، ومحافظتها على اقتصادها، واتجارها الرابح بالسلاح، ومبادراتها السياسية الحاسمة، وتحولت إلى أكبر دولة دائنة في العالم، وكانت مستحقاتها وفوائد ديونها على دول أوربا المتحاربة مدعاة لفرض نوع من الهيمنة السياسية عليها. أما اليابان فقد تعززت مواقعها السياسية والاقتصادية في آسيا، وأصبحت تمتلك مواطىء قدم صلبة في الصين وبلدان الهند الصينية وعموم شرق آسيا.
ويمكن حصر أهم التحولات الناتجة عن الحرب على مستوى الجغرافية والخارطة السياسية الدولية بما يلي:
- انهيار أربع أمبراطوريات كبرى: الألمانية، النمساوية – المجرية، الروسية، العثمانية، بعد مئات السنين من الحكم الوراثي المطلق وضم أراضي الغير بالقوة، وقيام أنظمة حكم جمهورية في الأجزاء الأصلية التي بقيت من هذه الإمبراطوريات.
- تعزيز السيطرة الأمريكية على أمريكا اللاتينية.
- احتلال بريطانيا لبلدان جديدة في آسيا وإفريقيا، وتعزيز احتلالها للبلدان التي سبق احتلالها.
- احتلال فرنسا لبدان جديدة في إفريقيا وإحكام قبضتها على الدول التي احتلتها من قبل.
- ظهور دول جديدة لم تكن موجودة من قبل، كفلندا (في شمال أوربا) وأستونيا ولاتفيا وستيوانيا (في شرق أوربا) وبولندا (في وسط أوربا بعد استعادتها لمناطق سبق أن اقتطعتها منها بروسيا والنمسا وروسيا) ويوغسلافيا (التي تألفت من صربيا والجبل الأسود وكرواتيا والبوسنة والهرسك)، وتشيكوسلوفاكيا (من مقاطعات بوهيميا ومورافيا وشمال الكربات) – والمجر (بعد انفصالها عن النمسا)، ورومانيا (التي التحقت بها مقاطعتها ترسنلفانيا وبيسارابيا).
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua