الجانب العلمي في مشروع وحدة المسلمين

Last Updated: 2024/04/03By

الجانب العلمي في مشروع وحدة المسلمين
د. علي المؤمن
يحظى الجانب العلمي بأهمية خاصة؛ إذ وكان ولا يزال محور عناية كثير من نخب الأمة الدينية والفكرية والثقافية، ومؤسساتها العلمية، وهو – دون شك – يقع في دائرة اختصاصهم. ويبدأ الجانب العلمي مهمته ودوره بحسن الظن وتبادل الاحترام بين نخب المذاهب والتيارات الإسلامية، والإحساس بالحاجة الحقيقية للتقارب. ولعل أبرز الخطوات التي تتخللها عملية التفاعل المنتج بين هذه النخب، والتي تمثل ضمانة نجاحها ورصانتها، هي:
1- التعارف:
يتلخص هدف التعارف في وعي حدود معينة من حقائق الأطراف الأخرى، إن لم نقل جميعها، ويتمثل في دراسة المذاهب والفرق والمشارب بعناية وعمق وتجرد، من مصادرها نفسها، وعدم استقائها من كتابات الآخرين وتحليلاتهم، سواء كانوا مستشرقين أو مسلمين لا يكتبون بموضوعية، وخاصة الكتابات التاريخية المتخمة بالخطاب الطائفي ودعوات الإقصاء والعزل والتكفير والترهيب، ليكون ذلك الوعي حجة على كل طرف. وإحدى آليات التعارف هنا، تقديم كل طرف الى الأطراف الأخرى، مجموعة من المؤلفات العلمية الرصينة التي تعبِّر عن حقيقة عقائد مذهبه واتجاهاته الفقهية. وفي السياق نفسه، ينبغي إخراج مؤلفات منهجية تعالج الموضوعات الخلافية، على المستويات كافة. وهناك نماذج معروفة من الكتب، خاصة في المجال الفقهي، تمثل خطوات علمية واعية في طريق التعارف، ولعل من أبرزها كتاب «الخلاف» للشيخ الطوسي، الذي ألفه قبل نحو ألف عام، إضافة إلى الموسوعات والمؤلفات المعاصرة، ك«الفقه على المذاهب الأربعة» للشيخ عبد الرحمن أبو زهرة، و«الفقه على المذاهب الخمسة» للشيخ محمد جواد مغنية، و«الأحاديث المشتركة» للشيخ محمد علي التسخيري، وكثير من إصدارت المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
2- الحوار:
ويقصد به الحوار العلمي الرصين الهادئ، بين النخب العلمية والفكرية والأكاديمية والثقافية الواعية، والتي تمتلك مشاعر حسن الظن والاحترام، والموضوعية والاعتدال وعدم التعصب في التفكير، والمعروفة في تجنّبها المواقف المبيّتة والأحكام الجاهزة، والتي تفسد كل شيء. وحين يحاور رسول الله (ص) أهل الكتاب بقوله: «قل يا أهلَ الكتابِ تَعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم»، أي الاتفاق على حد معين من مباني الحوار الموضوعي؛ فمن الأولى بالمسلمين أن يجري حوارهم وفق هذه القاعدة القرآنية. كما أن الرسول (ص) في قوله لنصارى نجران: «وإنا أو إيّاكم لعلى هُدىً أو في ضلال مُبين»؛ فإنه يريد بذلك، التجرد والاستعداد للوصول إلى الحقيقة مهما كانت، برغم أنه على يقين كامل بصحة معتقداته.
وتدخل القواعد العلمية المتعارفة، في صلب الحوار أيضاً، كتقيد كل طرف بمصادره، سواء بالحقائق التي يعتقدها الطرف الآخر، أو الحقائق الموجودة في تلك المصادر وينتفع منها الطرف المقابل، أو اعتبار بعض الحقائق المشتركة مقدمات للوصول إلى حقائق كلية مختلف فيها، وكذلك عدم فرض أي طرف الآراء الشاذة والمنفردة لدى بعض علماء المذهب على الطرف الآخر، لأنها تخالف الإجماع وليست حجة.
3- المراجعة الذاتية:
وتعني استعداد كل فريق لمراجعة مبانيه العلمية ومواقفه العقدية والفقهية والتاريخية، بالتجرد والموضوعية والقواعد نفسها المذكورة في مبدأ الحوار. والهدف من ذلك؛ التعرف على إمكانية إعادة النظر في بعض القناعات الموروثة التي ساهمت كثيراً في الفرقة والصراعات بين المسلمين. ولعل مقدمة ذلك؛ وضع كل الأشياء التي تعدها المذاهب جزءاً من مطلقاتها ومقدساتها، عدا القرآن وصحيح السنة، على طاولة المراجعة والنقاش، والقبول باحتمالات وجود أخطاء أو شطط، ولو بشكل نسبي، في هذه المطلقات والمقدسات، وكذلك القبول باحتمالات أن بعض أفكار الطرف المقابلة، هي صحيحة، ولو نسبياً. ومن خلال ذلك؛ يمكن تحقيق نتيجة أساس؛ فإما تترسخ القناعات، وذلك مثمر للحوار والتقارب، لأن كل طرف سيتعبّأ بالمزيد من الحجج والأدلة العلمية القاطعة التي قد تقنع الطرف الآخر، وإما أن يفقد كل طرف الثقة ببعض أفكاره وآرائه ومواقفه، وهو ما سيقود الى مزيد من المراجعة والتقارب.
4- التقارب:
ويعني الاتفاق على نقاط مشتركة بين مختلف الأطراف، وهي النتيجة الواقعية لدور الجانب العلمي، أو إنها الشكل العلمي لعملية الوحدة؛ فقد تعارف علماء الدين الإسلامي، منذ أربعينات القرن الماضي، على تسمية الجانب العلمي لمشروع وحدة الأّمة بالتقريب بين المذاهب الإسلامية. وتستند عملية التقريب الى الوسائل والآليات التالية:
أ‌- انفتاح النخب العلمية ـ الدينية والفكرية والأكاديمية والثقافية للمذاهب الإسلامية على بعضها، والتحاور فيما بينها على أسس منهجية، وفي أجواء رصينة وهادئة، وتفهّم الآراء والمواقف الكلامية والفقهية والتاريخية للفرق والمذاهب من مصادرها نفسها، وليس من مصادر الآخرين، ولاسيما خصومها، بهدف حصول الوعي المعرفي بالآخر، وإزالة بعض أنواع اللبس المعقد.
ب‌- إيجاد مساحات مشتركة للقاء العقدي والفقهي والتفسيري والروائي بين المذاهب الإسلامية، وهي كبيرة وأساسية، وتتصاغر أمامها مساحات الافتراق، ولا سيما في الجانب الفقهي، حيث تصل مساحات الاشتراك بين السنة والشيعة إلى حوالي 70 بالمائة من مجموع المسائل الفقهية، بل أن المشتركات الفقهية أحياناً بين بعض المذاهب الإسلامية مع مذهب آل البيت، هي أكثر من مشتركات هذا المذهب مع مذهب سني آخر.
ت‌- احترام مساحات الاختلاف، بكل مجالاته، العقدية والفقهية والثقافية والسياسية، والإقرار بأنها أمر طبيعي، وينبغي تدجينها والحيلولة دون تحولها الى فتن وصراعات سياسية وإعلامية ومجتمعية، وخاصة مع وجود الواقع الرخو والساخن الذي يعيشه المسلمون.
ث‌- تجاوز الخطاب الطائفي ولغة التشكيك والعداء والتنافر، وهي لغة يلعب العامل النفسي التاريخي الدور الأساس في الإبقاء عليها، واستبدالها بلغة التعاطف والتواد والتراحم، ونقلها الى الجمهور أيضاً، لأنّ أغلب الجمهور المتدين سيتأثر بلغة علماء الدين شكلاً ومضموناً.
ج‌- التفكير في واقع الأمة الإسلامية ومصيرها ومستقبلها، والتحديات العقدية والثقافية والسياسية والاقتصادية المشتركة التي تواجهها، بهدف تفعيل آليات التكامل والتكافل والتعاون التي يدعو إليها الإسلام.
والتقريب العلمي الذي يعمل علماء الإسلام الى تحقيقه، لا يعني تذويب المذاهب الإسلامية وابتداع مذهب جديد واحد يقوم على أنقاضها، ولا يعني تغليب مذهب على آخر، ولا محاولة التسلل إلى أحد المذاهب بهدف الإخلال في استقراره، كما أشرنا سابقاً في أكثر من موضع. إضافة الى أنّ التقريب بين المذاهب الإسلامية لا يعني إغلاق البحث الكلامي والعقائدي، الذي ينتج عنه الإقرار بصحة قسم من الأفكار، أو عدم صحته، ولا يعني أيضاً إغلاق البحث التاريخي والعبور على التاريخ الإسلامي وأحداثه وسياقاته وعبره. وليس من أهداف التقريب أيضاً، التشكيك بأحقية أي مذهب إسلامي أو إقامة الدعاوى ضده بهدف إخراجه عن الملة والدين.
ويلجأ أغلب التكفيريين الى اختزال أمة الإسلام بمذهبه ومدرسته العقدية؛ فيعدٌّ مدرسةَ السنة ــ مثلاً ـ هم الأُمة حصراً، وأن من يختلف مع السنة من أتباع المذاهب الأُخرى هو ملحق بالأُمة أو خارجها، وهو يحمل صفة الإسلام إسمياً لا أكثر. وهناك فريق من الشيعة يتبنى الموقف نفسه؛ فيعد مدرسة آل البيت هي أمة الإسلام حصراً، بينما هناك من الفريقين من يرى أنّ الشيعة أمة والسنة أمة، ولكل منهما خصائصهما العقدية والفقهية وكينوناتهما التاريخية والاجتماعية، التي تمنعهما من اللقاء أو التفاعل أو الاندماج الإنساني الديني. والحال؛ أن أيّاً من أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية، لا يمكنه، عقدياً وفقهياً، إثبات مقولة حصر مفهوم الأمة أو تعددية الأمة؛ فهي مقولات تعبِّر عن ألوان مقيتة من التطرف والتعصب والانفعال، والانسياق وراء مدارس التكفير، لأن المذاهب الإسلامية، في بعديها العقدي والفقهي، هي نتاج عملية الاجتهاد، وعن فهم علماء المسلمين للثوابت والأصول المقدسة ومقاصد الإسلام ونظامه التشريعي.
والملفت للنظر أن أمثال هؤلاء لا يدركون بأنّ دعوةُ الإسلام أصحابَ الاختصاص الى التفقه والاجتهاد؛ تقود تلقائياً الى التعددية العقدية والمذهبية، وهي التي آلت الى نشوء علوم القرآن والكلام والفقه وأصوله والدراية والرجال، وبالتالي؛ فإن وجود المذاهب العقدية والفقهية في داخل الإطار الأُمة الواحدة، أمر بديهي تماماً. مع الأخذ بالاعتبار الاختلاف بين المدرستين السنية والشيعية في تحديد الأصول المقدسة وعناوينها؛ فمؤسسي الفرق والمذاهب الإسلامية السنية، كأنس وواصل والأشعري ومالك وأبي حنيفة والظاهري والثوري والشافعي وابن حنبل؛ هم علماء مجتهدون، أسسوا آراءهم الفقهية والعقدية وفق فهمهم للقرآن والموروث الروائي النبوي والصحابي أو وفق الرأي والاستحسان والقياس، ولذلك؛ يمكن لأي فقيه سني أو عالم سني أن يأخذ بآرائهم أو يكون له رأيه الفقهي والعقدي الخاص به. أما عند الشيعة؛ فإن أئمة آل البيت ليسوا علماء مجتهدين، إنّما هم امتداد لسنة النبي وجزء منها، وأقوالهم هي نص مقدس وليس اجتهاداً، ولا يمكن لأي فقيه شيعي أن يجتهد في مقابل أقوالهم العقدية والفقهية.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment