الثيوقراطية واختلافها عن النظام الإسلامي

Last Updated: 2024/04/03By

الثيوقراطية واختلافها عن النظام الإسلامي

د. علي المؤمن

يتجاوز مفهوم الثيوقراطية ما عرف بـ«الحكم الديني»، ليتسع لكل نظام حكم يستند إلى قاعدة الحق الإلهي. فهي نظرية في السلطة، أساسها إرجاع الحق في ممارسة السلطة، أياً كانت أشكالها ومضامينها، إلى كونه حقاً إلهياً، مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالإرادة الإلهية. وقد سيطرت هذه النظرية على أوروبا في عصورها الوسطى، وأعطت الكنيسة الدعم الشرعي لأشكال الحكم المرتبطة بها، بناءً على تأييد زعماء المسيحية الأوائل كالقديس بولس (ت 67 م) والقديس بطرس (ت 67 م) وفلاسفتها، وبلورت «فكرة الخضوع والاستسلام (للسلاطين النابغين) الذين فرضتهم الإرادة الإلهية على الناس!». ومن هنا كان الحكم الثيوقراطي حكماً مطلقاً لا يحده حد.

وتدور الفكرة المحورية للثيوقراطية حول موضع السيادة ومصدرها، فتضع للسيادة مصدراً واحداً فقط هو الله تعالى، ولكنها تقدّم فهماً خاصاً لهذا المصدر وطبيعة تفويضه السيادة للملك أو الحاكم، تكون نتائجه التباين النظري والعملي مع حقائق الدين وروحه، من خلال منح الحاكم نفسه سلطات مطلقة في التنظير والتشريع والتنفيذ والقضاء، دون أي حدود أو ضوابط قانونية، ودون الحاجة للرجوع إلى شريعة الله، الذي يزعم الحاكم الانتساب إليه. وتجمع هذه النظرية في إطارها ثلاث نظريات أو ثلاثة نظم فرعية:

1 – الطبيعة الإلهية للحكام:

وهي أولى النظريات الثيوقراطية، وسبقت ظهور المسيحية، إذ تعود إلى الحضارات والمدنيات القديمة، في اليونان وروما وإيران ومصر والصين واليابان. وتتلخص النظرية في تقديس الحاكم (إمبراطوراً كان أو ملكاً أو أميراً) باعتباره الإله نفسه أو مظهر الإله أو ابن الإله أو ربيب الإله وأنه صاحب سيادة وسلطة مطلقتين. وتفرض هذه النظرية على الرعايا طاعة عمياء للحاكم وخضوعاً كاملاً له، عن رضا وقبول، باعتبار أن ذلك تعبير عن تقديس الرعايا للحاكم – الإله أو الذي يجسد الإله. وقد ظلت هذه النظرية حاكمة في اليابان حتى عام 1947 م.

2 – الحق الإلهي المباشر:

وظهرت هذه النظرية في أوروبا بعد انتشار المسيحية، وأصبح الحاكم – وفقاً لهذه النظرية – بلا طبيعة إلهية؛ بل إنه إنسان اختاره الله واصطفاه، ومنحه السيادة والسلطة المطلقة على البشر، على اعتبار أن الإرادة الإلهية هي مصدر كل سلطة على الأرض. وبذلك فالحاكم هو صاحب سلطة مطلقة، لأنه يحكم بتفويض إلهي وبمقتضى الحق الإلهي، ويستمد سلطته من الله مباشرة، وقد اعتنقت الكنيسة هذه النظرية، ومن خلالها استطاعت بسط نفوذها وسلطتها على أوروبا، وإن كان الإمبراطور أو الملك أو الأمير هو الحاكم المدني وقد بدأ ذلك في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين في أواسط القرن الثالث الميلادي.

نشأت هذه النظرية على تعاليم القديس بولس الذي جعل الإيمان أو الاعتقاد شأناً فردياً روحياً خاصاً والحكم والتشريع شأناً وضعياً أرضياً، فأصبحت العقيدة الدينية هي مجرد علاقة روحية خاصة بين الإنسان وربه، وأصبح الحكم والتشريع من اختصاص الملك فقط، ولا شيء يربط بين الدين أو العقيدة الدينية وبين الحكم والتشريع، فالدين من الله وللَّه والحكم من الله وللملك. وجاء جملة من الفلاسفة المسيحيين، مثل القديس تورتوليانوس (ت 222 م) والقديس سانت اوغستين (ت 430 م)، لينظرا لهذه المفاهيم، وفقاً لمعادلة ثيوقراطية، تحولت إلى قانون، مازال سائداً حتى الآن: «ما للَّه للَّه وما لقيصر لقيصر»، ولا علاقة بين الاثنين، سوى أن القيصر ينسب حكمه للَّه، ليسوّغ ممارساته وتشريعاته، باعتبارها تمثل إرادة الله.

وبهذا الشأن يقول القديس «بوسيه» (1627 – 1704) المعاصر لملك فرنسا لويس الرابع عشر (1638 – 1715): «إن الله هو الذي يعيّن الملك ويضعه على العرش»، أو كما قال بعض ملوك أوروبا: «إننا لم نتلق التاج إلا من الله، ولنا وحدنا سلطة القوانين ولا نخضع في عملنا لأحد». ويترتب على ذلك خضوع الرعايا خضوعاً مطلقاً للحاكم؛ لأن معصية الحاكم معصية للَّه، فضلاً عن انتفاء المسؤولية عن أي تصرف يصدر عن الحاكم، فهو مسؤول أمام الله فقط وازدهرت هذه النظرية في أوروبا خلال عصورها المظلمة.

3 – الحق الإلهي غير المباشر:

ظهرت هذه النظرية في أوروبا في أعقاب بدء الصراع على السلطة والنفوذ بين الكنيسة والملوك خلال القرن الثالث عشر الميلادي، الأمر الذي دفع بعض المفكرين السياسيين، ومن أبرزهم الفيلسوف الإيطالي «توما الأكويني» (1222 – 1274)، إلى القول بأن الله تعالى يختار الحاكم بواسطة الشعب، أي إن الإرادة الإلهية تتدخل لتختار الإمبراطور أو الملك، ولكن ليس بشكل مباشر؛ بل من خلال اختيار الشعب له بتوجيه إلهي. وهذه النظرية تتمسك بالفكرة العامة للثيوقراطية، ولكنها تحاول أن تضفي على نفسها مسوحاً ديمقراطية، دون أن تنسب نفسها إلى الديمقراطية أو أي مذهب سياسي أرضي آخر. وتكاد تفصل هذه النظرية – على خلاف النظريتين السابقتين – بين السلطة والحاكم، فالسلطة في ذاتها من عند الله، ولكن الله يوجه الناس لاختيار الحاكم الذي يمارس هذه السلطة.

والنتيجة التي تترتب على هذه النظريات تتلخص في أن الحاكم الثيوقراطي هو حاكم مطلق، ولا فصل بين شخصيتيه الحقيقية والحقوقية، وأنه فوق الشريعة والقانون، وأنه غير مسؤول أمام أي سلطة أو شعب، ولا تسمح له طبيعة سلطته ومصدرها بقبول النقد أو النصح، لأنه ذو طبيعة إلهية أو مفوض من قبل الله تفويضاً مباشراً أو غير مباشر.

وقد يكون من الصعب تحديد محاور التعارض واللقاء بين الثيوقراطية والنظام الإسلامي على نحو الدقة، بسبب عدم الوضوح في الأسس النظرية والقواعد الفكرية للنظام الثيوقراطي؛ لأنه لا يستند أساساً إلى نظرية؛ بل هو حكم مطلق، يحكم فيه الملك أو البابا دون الاستناد إلى شريعة أو قانون أو ركائز فكرية ونظرية واضحة. فضلاً عن أن هذا النظام ليس نظاماً دينياً؛ بل هو نظام أرضي وضعي، ينسب نفسه إلى الله وإرادته؛ بهدف تسويغ ما كان يقوم به الملوك والأباطرة الأوروبيون في عصور أوروبا المظلمة من ممارسات، لا تمت بأي صلة للدين. والحقيقة أن الأنظمة الثيوقراطية التي حكمت أوروبا في هذه المرحلة تمثل نتاجاً للعقلية الأوروبية المنتمية إلى المسيحية، في إطار تحالف المصالح والمصير بين السلطة الأرضية المطلقة المتمثلة بالملك أو الإمبراطور، وبين السلطة الدينية المطلقة المتمثلة بالكنيسة ورجال الدين، وهدفه تقاسم مساحات السلطة والقدرة والنفوذ، وبسط الحكم المطلق للملك، وتسويغ سيطرته على أراض وثروات جديدة وإضافة رعايا جدد له؛ لأنه بات يستند إلى تشريع ديني وكذلك بسط الحكم الديني المطلق للكنيسة، ونشر تعاليمها في بقاع جديدة وإضافة أتباع جدد لها؛ لأنها باتت تستند إلى قوة الدولة القاهرة. وخلال ذلك كانت الأنظمة الثيوقراطية تعبث بشريعة الله، لتجد لها منفذاً إلى السماء، تستر به مبادئها وممارساتها.

إن كل القواعد السالفة لم يعرفها النظام الإسلامي المستند إلى نظرية فقهية؛ لأنه بطبيعته حكم ديني يهدف إلى تطبيق الشريعة الدينية (الإلهية)، وليس تسويغ وضع سياسي معين أو ممارسة سلطوية. ولكن قد يكون هناك تطابق – إلى حد ما – بين الأنظمة الثيوقراطية (الأوروبية) والأنظمة السلطانية المسلمة، ابتداءً بالأنظمة الأموية والعباسية وانتهاءً بالصفوية والعثمانية، وهو ما لا يدخل في إطار بحثنا؛ لأن ما يعني البحث هو النظام السياسي الإسلامي الحديث المتمثل بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو نظام ديني يختلف في أسسه العقائدية وقواعده الفقهية وغاياته وأهدافه وهيكله الإداري عن الأنظمة الثيوقراطية. ونحاول هنا تلخيص نقاط الاختلاف والتعارض بين النظامين في المحاور التالية:

1 – الأسس النظرية:

تقف موضوعات التصور الكوني والغايات والأهداف والحاكمية والسيادة في مقدمة الموضوعات النظرية التي تفصل بين الثيوقراطية والنظام الإسلامي. فلقد ذُكر آنفاً أن النظام الثيوقراطي هو نظام وضعي وليس نظاماً دينياً، ويهدف إلى تحقيق غايات سلطوية أرضية، على العكس من النظام الإسلامي. فضلاً عن أن الثيوقراطية لا تستند إلى نظام سياسي مسيحي، على اعتبار أن المسيحية التي صاغها فكر رجال الدين المسيحي تفتقد التشريع أو الأحكام والتعاليم التي تؤهلها لصياغة نظام سياسي، فالمسيحية – كما يقول الإمام الخميني – «ليس فيها شيء سوى بضع نصائح أخلاقية، وهي تخلو من الأمور التي تختص بتدبير النظام والسياسة الحديثة والمدنية وقضايا البلاد وإدارتها، فلا يظنن أحد أن الإسلام يفتقد هو الآخر البرامج الخاصة بهذه الأمور. وهذه هي المسيحية بصورتها الأخرى التي رسمها رجال الدين، ابتداءً من القديس بولس، حين جعلوها مقتصرة على الجانب العبادي والإيمان الفردي فقط. ومن هنا كان موضوع انتساب الحاكم الثيوقراطي إلى الإرادة الإلهية لا يعدو كونه حاجة زمنية، وهي نظرية لا أصل لها في الديانة المسيحية. وعلى مستوى الممارسات اليومية التي تعد إفرازاً للأسس النظرية الثيوقراطية، فإن ما ارتكبته الأنظمة الثيوقراطية من ممارسات تمس حرية الناس وإرادتهم وأموالهم وكرامتهم وأعراضهم، هي بعيدة كل البعد عن تعاليم السيد المسيح.

وأخذت هذه الأمور منحى آخر بعد دخول أوروبا ما عرف بعصر النهضة، إذ لم يكتف رجال الدين والمفكرون السياسيون بعلمنة الدولة وأجهزتها؛ بل عمدوا إلى علمنة الدين وسلب قدسيته، وأنزلوه من السماء إلى الأرض، بعد أن فصّلوه بالكامل على مقاس تاريخهم وجغرافيتهم وبيئتهم الاجتماعية ونظمها السياسية والاقتصادية الجديدة.

ويعد موضوع السيادة والحاكمية الأساس الذي تقف عليه الثيوقراطية باعتبارها تستمد سيادتها وحاكميتها من السيادة الإلهية. وهنا تبرز شبهة اللقاء بين الثيوقراطية والنظام السياسي الإسلامي، على اعتبار أن السيادة والحاكمية في الكون – من المنظور الإسلامي – هي للَّه تعالى، لا شريك معه فيها، وكل حاكم على الأرض يجب أن يستمد سيادته أو شرعية حاكميته من الحاكمية الإلهية المطلقة. ولكن سنقف على حقيقة التعارض في المنظورين من خلال عرض المنظور الإسلامي على كل نظرية من النظريات الثيوقراطية. فالنظرية الأولى التي تقول: إن للحكام طبيعة إلهية، مرفوضة إسلامياً بالكامل؛ لأن الإسلام جاء لنشر التوحيد الخالص والقضاء على الشرك وعبودية غير الله تعالى. أما النظرية الثانية التي تقول بالحق الإلهي المباشر، فإن إعطاءها الحق للحاكم باعتلاء العرش باعتبار أن الله هو الذي نصّبه مباشرة، يتعارض وقاعدة تنصيب رئيس النظام الإسلامي بالشريعة والقانون. وهو الأمر نفسه بالنسبة إلى نظرية الحق الإلهي غير المباشر التي تقول بأن تنصيب الحاكم يمثل إرادة الله، ولو تمثيلاً غير مباشر، فإنها وإن كانت تلتقي في النتائج مع طبيعة السيادة في النظام الإسلامي الحديث، على اعتبار أن المصدر النهائي لشرعية الحاكم الإسلامي هو حاكمية الله تعالى، فإن نقاط التعارض بينهما تتمثل بما يلي:

1 – إن الحكم في النظام الإسلامي ليس ملكياً ووراثياً، وفي الأنظمة الثيوقراطية ملكي وراثي. أي إن الحاكم (الفقيه) في النظام الإسلامي هو إمام وقائد ورئيس، ومنصبه ديني وزمني، بينما الحاكم الثيوقراطي هو إمبراطور أو ملك.

2 – الحاكم (الفقيه) في النظام الإسلامي (وفقاً لمدرسة أهل البيت(ع)) يستمد شرعيته من كونه نائباً للإمام المعصوم وخليفة لرسول الله(ص) – أولاً – وممثلاً للشريعة الإسلامية – ثانياً – ومن قبول الأمة له رئيساً عليها – ثالثاً، أي إن اكتساب الشرعية متسلسل موضوعياً، ويمثل امتدادات أفقية وعمودية مترابطة، تدعمها النصوص والأحكام الشرعية. أما الحاكم الثيوقراطي فهو ينتسب إلى الله مباشرة، دون الاستناد إلى أي حقائق شرعية وقانونية، ودون وجود لأي قنوات أو امتدادات – مقبولة دينياً – تمنحه شرعية الانتساب إلى الله.

3 – هناك شروط يجب أن تتوافر في الحاكم الإسلامي، أهمها: العلم بالشريعة، العدالة والكفاءة، أي إنه يجب أن يكون عالماً، عادلاً، مدبراً. وإذا سقط عنده أي شرط من هذه الشروط فإنه سيسقط ويعزل. في حين أن شروط الحاكم الثيوقراطي هي انتسابه إلى العرش بالوراثة.

4 – الحاكم في النظام الإسلامي ليس ذاتاً مقدسة، ولا يمارس حكماً مطلقاً استبدادياً، وهو ليس فوق الشريعة والقانون؛ بل يسري عليه القانون كأي فرد من أفراد المجتمع الإسلامي، كما أنه يخضع لرقابة الأمة وممثليها، ويخضع لأحكام الشريعة والقانون، بما في ذلك أحكام الشورى، وبإمكان ممثلي الأمة (الخبراء) عزله إذا مارس عملاً يخالف العلم والعدالة والتدبير، وبالتالي فإنه يحكم بالشريعة والقانون. بينما الحاكم الثيوقراطي يمارس حكماً مطلقاً استبدادياً ولا يخضع لأي قانون أو شريعة أو رقابة، ولا يمكن عزله بأي شكل من الأشكال، وهو يحكم بأمره فقط.

5 – إن السيادة في النظام الإسلامي هي للشريعة الإسلامية، وإن سيادة الحاكم هي سيادة مكتسبة من الشريعة. أما الحاكم في النظام الثيوقراطي فهو السيد المطلق.

2 – آليات ممارسة السلطة:

إن آليات ممارسة السلطة في الأنظمة الثيوقراطية، بما في ذلك أجهزة الدولة، تتلخص في شخص الحاكم فقط، باعتباره صاحب السلطة المطلق والحاكم بأمره، فلا وجود لسلطات متعددة وأجهزة تخطيط وتشريع وتنفيذ وقضاء ورقابة، ولا أي نوع من الشورى، ولا دستور وقوانين أو مؤسسات دستورية، أو حريات عامة وسياسية، أو رأي آخر، إذ إن الحاكم الثيوقراطي يجمع كل السلطات بيده، ويصرّف الأمور وفقاً لرغباته وأهوائه وإرادته، لا يحده قانون ولا يراقبه أحد ولا تردعه شريعة. في حين أن النظام السياسي الإسلامي الحديث يتمتع بكل مواصفات النظام الديني الحديث، الذي يعتمد ركائز عقائدية وفقهية، تمثل ثوابته وأسسه، وقد استمد منها آليات حديثة ومتطورة في التطبيق وفي ممارسة السلطة، تتمثل بوجود ثلاث سلطات منفصل بعضها عن بعض، هي سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء، وتشرف عليها السلطة العليا، وهي سلطة الفقيه التي تمثل الولاية على الحكم، بمعنى رئاسة الحكم والإشراف عليه ومراقبته وبمعنى إمامة الأمة أيضاً. وإلى جانب هذه السلطات الأربع هناك أجهزة أو سلطات فرعية، تمثل رقابة الشريعة والقانون على الحكم، ورقابة الأمة على الحاكم، والشورى للحاكم في رسم السياسات العامة للدولة.

فمبدأ ولاية الفقيه، يؤكد أن السلطة في النظام السياسي الإسلامي الحديث (في عصر الغيبة) هي سلطة بشرية تستند إلى أحكام دينية، وسلطة نسبية تستمد شرعيتها من الحاكمية المطلقة، وهي سلطة مقيدة بقوانين الشريعة، وهي غير مقدسة في ممارساتها إلا في حدود التزامها بالشريعة الإسلامية، وهذا الالتزام الذي توجهه الفقاهة والعدالة، هو مصدر إلزام الأمة بأوامر الحاكم (الفقيه) ونواهيه، وهذا المصدر هو الجانب المقدس في شخصية الحاكم؛ لأنه ليس معصوماً أساساً، ولذلك اشترط الفقه الإسلامي الفقاهة والعدالة والكفاءة في الحاكم، وقررا عزله إذا فقد أحد هذه الشروط. وشخص بهذه المواصفات، أعطته الشريعة حق مراقبة المسؤولين والإشراف على حسن أدائهم ومنعهم من ممارسة أي سلوك استبدادي أو أي تصرف من شأنه حرف مسار النظام عن الشريعة والدستور والقوانين؛ الأمر الذي يشكل آلية شرعية وقانونية تعمل للحيلولة دون استبداد أو انحراف أي سلطة من السلطات أو مسؤول من المسؤولين، وبالتالي المحافظة على استقامة حركة النظام. وهذا الإشراف وتلك الرقابة لا يعطيان «الولي الفقيه» الحق في ممارسة الحكم المطلق؛ بل هما ضمانة لعدم ممارسة الحكم المطلق، فضلاً عن وجود الكوابح الشرعية والدستورية الكثيرة التي تحول دون ذلك.

وهناك نقطة تعارض جوهرية بين النظامين الإسلامي والثيوقراطي، تتمثل بوجود عدد كبير من مجالس الشورى التي تمسك بحركة النظام الإسلامي وسلطاته، وهي مجالس ومؤسسات تنتخبها الأمة وتمارس من خلالها دورها الحقيقي في الاستخلاف وفي دفع عجلة النظام باتجاه أهدافه وغاياته، وهو حق لم يمنحه إياها النظام؛ بل إنها تمتلكه أساساً. وكل الأمور هذه، لم تعرفها الأنظمة الثيوقراطية، كما لم تعرفها الأنظمة السلطانية التي ظلت تحكم المسلمين بعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة بالأسس والأساليب نفسها التي حكمت بها الأنظمة الثيوقراطية أوروبا.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment