الثابت والمتغير في نظرية حزب الدعوة الإسلامية

Last Updated: 2024/04/03By

الثابت والمتغير في نظرية حزب الدعوة الإسلامية

د. علي المؤمن

مرّ حزب الدعوة الإسلامية بتحولات كثيرة ونوعية منذ تأسيسه؛ شأنه في ذلك شأن جميع الحركات التغييرية؛ السياسية الفكرية. وهو وإن عدّ من الجماعات الايديولوجية التي تعطي لثوابتها قدسية خاصة؛ إلا أنه لم يجمد على أدبياته التي طبعت مراحل التأسيس (1956 – 1959) والانطلاق (1960 – 1962) والتبلور الفكري (1963 – 1975)؛ باستثناء ثوابته التي بقيت كما هي نظرياً. أما التغيير والتجديد في الوسائل والأساليب والأدوات والميكانيزمات، بل وحتى المنهجيات؛ فهو سنة الله في خلقه، وهو ضرورة وحاجة دائمة، ونوع من الديالكتيك الذي تفرضه حتمية التطور بتأثير الزمان والمكان. فكانت أدوات الحزب ووسائله عرضة للتغيير المستمر تبعاً للظروف الزمانية والمكانية. وكان هذا التغيير والتبديل يتزايد كلما ازدادت حراجة هذه الظروف ودقتها وصعوبتها؛ ولاسيما مرحلة ما بعد العام 2003؛ حين دخل حزب الدعوة العملية السياسية وأصبح الحزب الأبرز فيها وفي الدولة العراقية الجديدة.

ومقاربة الثابت والمتغير في نظرية «الدعوة»؛ ربما هو الأسلوب البحثي الأهم والأدق في عملية تجديد نظرية «الدعوة»؛ فهو يستبطن حفراً معمقاً في نوع التحولات السياسية الكبرى التي أثّرت بقوة في حزب الدعوة، وجرّت منذ بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي وحتى الآن إلى تحولات فكرية مغايرة إلى حد ما لمسارات التأسيس وعقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ففي المرحلة الفكرية التغييرية السرية؛ وهي المرحلة الأولى من مراحل «الدعوة»؛ أنتج الحزب نظريته التي تمثل فلسفة وجوده، وتضمنت ثوابته الايديولوجية؛ كالتغييرية، والانقلابية، والعقدية، والعالمية، واللا مذهبية والمرحلية، وإيجاد الكتلة المؤمنة نواة مجتمع المتقين، وتأسيس الدولة الإسلامية الفكرية، وقيادة «الدعوة» للأمة ولعملية توسيع رقعة الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة. وهذه كلها لها علاقة بثوابت النظرية العامة للدعوة وايديولوجياها السياسية، والتي لا تزال محور التحولات في بنية حزب الدعوة الفكرية. ومن هنا فمقاربة الثابت والمتغير تعالج المحاور التالية:

1 – نظرية حزب الدعوة وماهيته الايديولوجية؛ ومبانيه الثابتة التي إذا انهارت وتغيرت تنهار نظرية «الدعوة» برمتها، وينتهي المسوغ الفكري لوجود حزب الدعوة وتتلاشى الغاية من استمراره. ولذلك تسعى «الدعوة» للمحافظة على هذه الثوابت وصونها وحمايتها؛ لأنها المرجعية الفكرية النهائية للدعوة؛ بصرف النظر عن الزمان والمكان. وفي مقدمة هذه الثوابت؛ رسالة حزب الدعوة وأهدافه وغاياته النهائية، المتمثلة في إعادة الإسلام إلى حياة المسلمين، وتغيير النظم الجاهلية المتحكمة في المجتمع الإسلامي في جميع مجالات الحياة، وإحلال النظم الإسلامية محلها؛ على وفق فهم حزب الدعوة للإسلام؛ باعتباره نظاماً شاملاً يستوعب كل مجالات الحياة المدنية والتشريعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكونه ديناً ودولة، وشريعة وشعائر وشعوراً، وكونه طريق الله إلى مرضاته، وسلوك الدنيا إلى الآخرة، وجهاد الحياة إلى الجنة. وهذا يوضح الماهية الدينية الدعوية للحزب، وكون الدعاة جماعة دعوية تمارس العمل السياسي باعتباره أحد وسائل الدعوة؛ وليس هدفاً بذاته. بل إن تأسيس الدولة الإسلامية هو أيضاً هدف مرحلي للدعوة (ميكانيزم) للوصول إلى الهدف النهائي المتمثل بتحكيم الشريعة الإسلامية في واقع المسلمين، ولا يعبر عن الفلسفة الوجودية لحزب الدعوة.

2 – ما يمكن تغييره وإلغاؤه وتجديده وتعديله وإعادة تأصيله وصياغته؛ من مباني وأفكار نظرية «الدعوة»، والبدائل الفكرية اللازمة. ولعل الفكر السياسي في نظرية «الدعوة» هو المحور الأكثر إشكالية؛ لأنه ينطوي على ثوابت ومتغيرات متشابكة؛ ولذلك يحتاج جهداً فكرياً كبيراً لتجديده. أما الفكر التربوي والفكر التنظيمي والفكر الإيماني وغيرها فهي – بالأساس – متغيرات وتقنيات وأدوات غالباً؛ يمكن تغييرها وفقاً لطبيعة النظرية السياسية ولطبيعة المرحلة. وهي لا تمثل إشكالية فكرية؛ على العكس من النظرية السياسية التي تمثل العمود الفقري لنظرية حزب الدعوة، وصلب عملية التجديد.

3 – آليات العمل وأدوات التحرك ووسائل الدعوة. وهي مساحة متغيرات يستطيع الحزب تطويعها وفقاً لتحولات الزمان والمكان. أي أنها أدوات محكومة برضا الشريعة الإسلامية وخاضعة لموازينها، سواء انتمت هذه الأدوات إلى السياسة أو إلى الإعلام أو العمل العسكري أو الاقتصاد؛ على اعتبار أن الوسيلة والأداة في العمل الإسلامي يجب أن تكون من جنس الغاية والهدف، ولا يمكن أن يكون الهدف – مهما بلغت نسبة سموّه – مسوغاً لاستخدام أداة غير شرعية لا تخضع لموازين الشريعة الإسلامية. وبالتالي؛ فإن الوسائل السياسية والتنظيمية والإعلامية والعسكرية وغيرها، هي أدوات متغيرة ومتنوعة ومتعددة، وليس لها شكل ثابت، ويمكن لحزب الدعوة تغييرها من زمن لآخر.

4 – المصادر والأسس والأدوات المنهجية المستخدمة في عملية تثبيت المبادئ والأفكار والتغيير والنسخ والتفسير. ويقصد بها مناهج ونتاجات العلوم الإسلامية والاجتماعية والسياسية والقانونية.

وهنا لابد أن نفرق في مجال الثوابت؛ بين الأحزاب الايديولوجية بمفهومها الفكري والعقدي، والأحزاب السياسية بمفهومها الليبرالي الغربي الحديث، فلا يجوز إخضاع الأحزاب الايديولوجية لمعادلات التطور والتحول والعصرنة والمرونة ذاتها التي تخضع لها الأحزاب السياسية؛ لوجود تعارض أساس في فلسفة وجود كلا النوعين من الأحزاب. فمثلاً: الحزب السياسي هدفه الوصول إلى السلطة كغاية نهائية. بينما الحزب الإسلامي باعتباره حزباً ايديولوجياً دينياً دعوياَ؛ ليس حزب سلطة أو حكم؛ بل إنه يريد الوصول إلى الحكم لتحقيق غاياته الدعوية. أي أن الحزب الإسلامي يخوض العمل السياسي والميداني كأداة للوصول إلى الحكم؛ ثم يستخدم الحكم كأداة ووسيلة لتحكيم الشريعة الإسلامية. وبالتالي؛ تكون السلطة أداة الحزب الإسلامي في تطبيق الشريعة في إطار غايات أخروية. بينما تعدّ السلطة هدفاً وغاية للحزب السياسي في إطار عملية صراع دنيوي صرف.

صحيح أن الهدف النهائي لتأسيس حزب الدعوة الإسلامية هو تحكيم الشريعة الإسلامية عبر تأسيس الدولة الإسلامية، وبسقوط هذا الثابت تتلاشى فلسفة وجوده؛ ولكن؛ وجود هذا الثابت؛ لا يعني الدوغمائية في عملية تطبيق الشريعة؛ بل إن من الضروري خضوع عملية التطبيق للمرونة التي تفرضها الظروف الموضوعية، والتدرج الذي يستطيع الواقع من خلاله استيعاب عملية التطبيق؛ لاسيما إذا كانت تجربة السلطة والحكم مستحدثة ومستجدة، وبحاجة إلى استحكام أكبر وتجذير أعمق؛ وإلّا فسيكون الفشل هو النتيجة الحتمية للتجربة؛ وهي في بدايتها؛ بعد قرون من التغييب القسري عن ممارسة عملية السلطة. أي أن أصل التزاحم (كأصل شرعي) بين سقوط التجربة برمتها – قبل استحكامها وثباتها – وبين ضغط تحقيق الأهداف؛ هو الذي يحدد خيارات العمل وأولويات التحرك؛ وهو ما يدخل في إطار «فقه الأولويات» و«فقه المصلحة». هذا فيما لو كان حزب الدعوة مبسوط اليد ويتفرد في الحكم. أما إذا كان فكر الحزب يمثل جزءاً من عقيدة الدولة، وكان حضوره في النظام السياسي يمثل جزءاً من السلطة والحكم، وقد أمسك بهذا الجزء في إطار عملية سياسية معقدة نتج عنها شراكة مع جماعات علمانية واتجاهات سياسية متنوعة ترفض أي حضور للشريعة الإسلامية في الحياة؛ كما هو الحال مع تجربة حزب الدعوة في العراق بعد العام 2003؛ فإن الحديث عن تطبيق الأهداف والتمسك بالثوابت سيكون بحاجة إلى عمق كبير بعيداً عن التدافع الإعلامي والمزايدات السياسية والتسطيح الفكري. وبالتالي فحزب الدعوة ليس هو الحزب الحاكم في النظام السياسي العراقي، ولا هو الحزب الذي تتبنى الدولة عقيدته. ولكن هذا لا يعني أن الحزب يتنازل عن المساحات التي يمكنه التحرك فيها لتحقيق أهدافه أو مقدمات أهدافه الإسلامية.

ولم تكن معظم التحولات داخل حزب الدعوة منذ العام 1971 فعلاً دعوتياً بقرار حزبي؛ بل هي انفعالات وانجرارات قسرية ضاغطة؛ أي أن الظروف المحيطة بـ«الدعوة» ظلت باستمرار هي المؤثر الأكبر في مسارات الحزب، وليس العكس. وظلت التحولات في نظرية «الدعوة» وأفكارها تطرأ على الحزب بطرق غير مسبوقة؛ ربما في أي حزب ايديولوجي كبير في العالم. كما ظلت بنية حزب الدعوة الفكرية والسياسية الداخلية ومخرجات خطابه؛ تتبع – غالباً – التغيير الخارجي الضاغط. فقد بدأت «الدعوة» حزباً قائداً للأمة، تغييرياً، انقلابياً، عقدياً، لا مذهبياً، عالمياً. وانتهت إلى تنظيم شيعي المذهب، عراقي الاهتمام والموطن، سياسي السلوك والنزعة، يتنافس على الحكم مع عشرات الجماعات السياسية في دولة هجينة فكرياً ولاهوية لها. ولفهم هذه التحولات بشكل دقيق؛ يمكن المقارنة بين أربعة شواهد نظرية: أسس حزب الدعوة للعام 1961، نظامه الداخلي للعام 1975، نظامه الداخلي للعام 1983، نظامه الداخلي للعام 2008.

المخرجات الفكرية للتحولات السياسية في مسيرة الدعوة

1 – نظّر حزب الدعوة الإسلامية لفكره السياسي على أساس مبدأ الشورى. وكان هذا مخرجه النظري الوحيد لتأسيس الحزب على قاعدة فقهية. وكان انسجامه في هذا المجال مع الأجواء الحركية الإسلامية السائدة في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي لا يتجاوز التأثر إلى التطابق في التأصيل الفكري والفقهي.

2 – نظّر حزب الدعوة لفكرة التغيير الانقلابي؛ تأثراً بالأجواء الحركية الإسلامية السائدة في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. وكان هذا مخرجه الثوري النظري للتغلب على النزعة المحافظة أو الإصلاحية المقيدة السائدة في الاجتماع الديني النجفي.

3 – نظّر حزب الدعوة لفكرة العالمية، وأصبحت له قيادة عامة وقيادات إقليمية؛ تأثراً بالأجواء الحركية الإسلامية والقومية السائدة في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي.

4 – أعلن حزب الدعوة إيمانه بمبدأ ولاية الفقيه؛ تأثراً بثورة الإمام الخميني. وقام بمبايعته قائداً للأمة. وبذلك ألغى نظرياً وعملياً مبدأ الشورى.

5 – انتقل إلى مرحلة الصراع السياسي والعسكري؛ انجراراً؛ بفعل تحرك السيد محمد باقر الصدر المتأثر بثورة الإمام الخميني.

6 – تم حل أقاليم حزب الدعوة في لبنان والكويت والبحرين وإيران وباكستان وأفغانستان، ومناطق الإمارات والشرقية بالسعودية وعمان وغيرها؛ بقرارات خارجية جبرية، وتحديداً من حكومات هذه البلدان.

7 – أعاد حزب الدعوة بناء هيكله عراقياً، وألغى القيادة العامة والمؤتمر العام والقيادات الإقليمية؛ بعد أن انهارت أقاليمه غير العراقية.

8 – بايع الإمام الخامنئي؛ مصداقاً لولاية الفقيه بعد وفاة الإمام الخميني؛ انسجاماً مع موجات البيعة العامة.

9 – تحول إلى حزب سياسي شيعي عراقي وطني، انسجاماً مع التغيير في خارطة المعارضة العراقية ثم سقوط النظام.

10 – أعلن التزامه بمرجعية النجف العليا؛ انسجاماً مع تحولات الاجتماع السياسي العراقي.

11 – وضع بعض أجنحته لنفسه رسمياً أسماء محلية؛ تمييزاً (تنظيم العراق وتنظيم الداخل).

وتظهر مجمل هذه التحولات أن الواقع أكبر كثيراً من تنظيرات حزب الدعوة لرسالته وغايته؛ إلى المستوى الذي أضعف هذا الواقع الموجع روح المبادرة في «الدعوة»، كما أضعف عقله المركزي فيها بعد العام 1979. وغالباً ما كان حزب الدعوة يقوم بعملية تنظيرٍ جزئية بعد حصول التغيير في الواقع المحيط به والمؤثر فيه، والذي يضطر إلى مسايرته وتكييف نفسه معه. وغالباً ما يكون هذا التكييف واقعياً وليس فكرياً وفقهياً؛ أي أنه لا يشبه انطلاق الفقيه من الواقع لتشخيص موضوع الحكم الشرعي، أو مدخلية الزمان والمكان في تغيير موضوع الحكم الشرعي، فيتبعه حكم شرعي جديد؛ بل هو مصداق لهجوم اللوابس على من لا يستشرفها.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment