التيّارات التوفيقية بين الأصالة والتغريب

Last Updated: 2024/04/03By

التيّارات الفكرية التوفيقية في مجتمعات المسلمين بين الأصالة والتغريب

د. علي المؤمن

على صعيد النظام الاجتماعي، ظهرت في مجتمعات المسلمين تيارات واسعة، تمثل السلوك التغريبي في جانبه العقائدي السياسي كالإلحاد والعلمانية، وهي عناوين لفكرة أساسية، تتمثّل في فصل الشريعة عن الحياة، وفصل العقيدة عن النظام السياسي، على اعتبار أن السياسة والاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا والفنون والآداب، هي نظم وعناصر مستقلّة عن العقيدة والأخلاق.

واستمراراً لهذه التيارات، ظهرت تيارات توفيقية أصبحت – هي الأخرى – تمثل ظواهر اجتماعية واسعة، وهي إن كانت تراعي جملة المبادئ والقيم الدينية، إلا أن خطورتها لا تقل عن خطورة التيّارات الأصلية؛ لأن تيّارات الإلحاد والعلمانية تتبنى مقاطعة الدين وعقائده بالكامل، في حين أن التيّارات التوفيقية ترفع بعض الشعارات الإسلامية، بل وتسند نظرياتها أحياناً إلى نصوص وتحليلات دينية، ومنها التيّارات التي تدعو إلى الدولة العلمانية، بحجة عدم وجود نص على قيام دولة تتبع ديناً بعينه. إضافة الى طرح بعض المغالطات الفكرية في مواجهة مبدأ الدولة الإسلامية أو دولة الأديان المتعايشة، والدعوة للنظام الليبرالي وتبني فلسفة الديمقراطية (مذهباً وآليات)، وعدم أدلجة السياسة والاقتصاد، ودعوى تقدّم الحقيقة على الشريعة، وطرح إشكالات من قبيل؛ أيهما يكشف عن الآخر: الحقيقة أم الشريعة، وأيهما في خدمة الآخر: الدين أم الإنسان؟، وهي مغالطات وشبهات يطرحها العمانيون والتوفيقيون في قبال النص القرآني: ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)).

هذه المناهج تفرض جملة في التساؤلات عن إمكانية الفصل بين الديمقراطية كمذهب والديمقراطية كآلية لممارسة السلطة، والليبرالية كمذهب والليبرالية كنظام سياسي، وقبول هذين المذهبين القسمة على نفسيهما، وكونهما مما يسمّى بالعام المشترك بين البشرية كافة. فإذا تمت الاستفادة من بعض أفكار وآليات الليبرالية الديمقراطية، دون كامل الليبرالية الديمقراطية كمذهب، فلماذا الإصرار على تسميته بالليبرالية الديمقراطية؟ ثم ما هو مثال الليبرالية الديمقراطية أو التجربة الليبرالية الديمقراطية التي يمكن الاستعانة بها؟ هل هي الطبعة الإنجليزية أو الأمريكية؟ أم ديمقراطية أنظمة البلدان المسلمة؟ ثم؛ هل انتهت الخيارات أمام المجتمعات المسلمة لتجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: أما القبول بفلسفة الليبرالية الديمقراطية ونظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعي وإما الوقوع في شرك الدكتاتورية؟ فلمَ تقرن الدكتاتورية دائماً بالليبرالية الديمقراطية، وتوضع الأخيرة حلاً وحيداً لمشكلة الدكتاتورية؟!. والحال؛ أن المجتمعات المسلمة لديها خياراتها التي تفرزها عقيدتها وشريعتها وفقهها السياسي الإسلامي، وليس كما يزعم الغرب بأن أمام المجتمعات المسلمة خياري الليبرالية الديمقراطية أو الدكتاتورية ولا خيار ثالث معهما. وفي هذا الخصوص يقول السيد محمد باقر الصدر: «إن الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء». والخطورة تكمن في أن الإنسان الغربي، حتى الذي آمن بالمسيحية؛ حرّف المسيحية من دين سماوي إلى حاجة أرضية. فالغرب استطاع «أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسده في كائن أرضي»، وهذا السلوك الغربي يمارسه كثير من المسلمين مع دينهم أيضاً.

ويكمن الفرق بين السلوك الغربي والسلوك التغريبي، في أصالة السلوك الغربي، بوصفه إفرازاً لمدنيته ومناهجه الفلسفية والفكرية والايديولوجية الحديثة، التي أخذت تبرز تدريجياً في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم لتتبلور خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهي المرحلة التي أعقبت العصور الأوروبية المظلمة. أما السلوكيات التغريبية التي تمارسها المجتمعات المسلمة، فهي سلوكيات دخيلة ناتجة عن هزيمة داخلية وتقليد أعمى ونفوذ خارجي، لأنها ليست نتاجاً لحضارة المسلمين وعقيدتهم وفكرهم، وإنما هي نتاج غريب عن كل ما له صلة بأصالتهم وحقائقهم.

وكواقع تاريخي يؤكد وعي الغرب، منذ أكثر من ثمانية قرون، بالفرق بين التفاعل والمثاقفة والاستفادة من نتاجات الآخر الحضارية والفكرية والثقافية والسلوكية، وبين التبعية الفكرية والسلوكية؛ فحين كانت حضارة المسلمين في فترة ازدهارها حضارة متألقة غالبة؛ حصل الاحتكاك بينها وبين المجتمعات الأوروبية التي كانت تعيش أبشع مظاهر الظلم والظلام والتخلف، وبات الأوروبيون يعيشون حالة شبيهة بالحالة التي تعيشها مجتمعات المسلمين الآن تجاه حضارة الغرب، لكن مع فارق كبير، وهو أن الحضارة الإسلامية ذات جذور دينية أخلاقية، بحيث عاد السلوك التأسلمي ـــ مقابل التغريبي إن صح التعبير ـــ على الأوروبيين بخير وفير؛ إذ استفادوا من نتاجات الحضارة الإسلامية، ومناهجها في البحث وقواعدها في التفكير، وفي كل ما لا يفسد عقائدهم وأيديولوجياتهم، ولم يتمسّكوا بظواهرها وشكلها الخارجي في صقل ثقافتهم وأنماطهم المعيشية، فلم يلبسوا العمائم وأزياء الشعوب المسلمة، ولم تلبس نساؤهم الحجاب أو الخمار، ولم يفصلوا في المحافل والمجالس بين الجنسين، ولم يمتنعوا عن شرب الخمر، ولم يدعوا إلى قيام نظام اجتماعي إسلامي، أو إلى اقتصاد إسلامي، أو علاقات مالية لا ربوية… إلخ، بل ظلوا متمسكين بعقائدهم وتقاليدهم وسلوكياتهم وثقافتهم المجتمعية والسياسية والدينية، بعد أن اخذوا من الحضارة الإسلامية ما ينفعهم وينسجم مع عقائدهم وثقافتهم، وضربوا بالباقي عرض الجدار. يقول المفكّر الإنجليزي «بريفولت»: «ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوروبي إلاّ ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤشرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة». في حين يستلهم بعض المسلمين – اليوم – من الغرب كل ما يسيء لعقيدتهم وثقافتهم ونمطهم في المعيشة.

ولا شك؛ إن انحدار قسم من المجتمعات المسلمة نحو المزيد من التبعية السلوكية الساذجة للغرب، وسط غزو ثقافي غربي متصاعد، وعجز أو تقصير من الجهات المسلمة المعنية بالمواجهة والردع والرد والتحصين، سواء الدولة أو المؤسسات الثقافية أو التعليمية أو الدينية أو الجماعات الإسلامية؛ يعني حثّ الخطى باتجاه الانهيار النهائي وحدوث الكارثة، وفقاً لكل الحسابات والمبادئ، الدينية والوضعية؛ فإذا وضعنا السنن الإلهية جانباً، ووقفنا على أفكار الفلاسفة والمؤرخين الغربيين في القرن العشرين، أمثال: “شبنغلر” و”اشفيتسر” و”توينبي” و”دوبو” حول سقوط الحضارات، أو – تحديداً – تفسّخ الحضارة الغربية، سنرى أن عدوى الكثير من الشواهد والمظاهر والأمراض، التي يستدلون بها على احتمالات انهيار الحضارة الغربية، لا زالت تنتقل إلى مجتمعات المسلمين انتقالاً سريعاً. وبما أن مجتمعات المسلمين لا تمتلك اليوم ما يمكن تسميته بالحضارة بالمعنى العلمي لها، كما هو عليه الغرب، بل تمتلك أنماطاً اجتماعية دينية ثقافية؛ فإن مخاطر الانحدار الثقافي والسلوكي التي تتعرض لها مجتمعات المسلمين، أكبر من أي وقت آخر، وتنطبق عليها محاذير السنن الإلهية والتاريخية.

وعليه؛ فإن بذل الجهود من قبل الجهات المعنية المذكورة لدراسة السلوك التغريبي كظاهرة اجتماعية متفشية ومتصاعدة في مجتمعات المسلمين، وكذا دراسة أنماطها وأساليبها ووسائلها ومظاهرها وطرق مواجهتها، دراسة واسعة ومعمّقة، تستوجب استحداث أقسام ودوائر خاصة بدراسات التربويات الوافدة، وعلم اجتماع الغزو الثقافي وعلم نفس الغزو الثقافي، في المؤسسات المختصة ومراكز الأبحاث والجامعات الإسلامية، فتلك الحقول تمثّل الموقع المناسب لدراسة السلوك التغريبي في مجتمعات المسلمين، انطلاقاً من فهم إسلامي واعٍ ومركّز وتخصصي. أما تجاوز حقائق السلوك التغريبي الاجتماعي، والمرور إلى جانبها دون استشعار أخطارها، ودون إخضاعها للبحث الموضوعي والحوار العلمي الجاد من خلال منهج إسلامي أصيل، فهو ما ينذر بوقوع الانهيار الثقافي التدريجي التام للمجتمع الإسلامي، وحدوث الكارثة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment