التنظيم العالمي لحزب الدعوة الإسلامية من الشروق إلى الغروب
التنظيم العالمي لحزب الدعوة الإسلامية: من الشروق إلى الغروب
د. علي المؤمن
عندما بدأت تنظيمات «الدعوة» تنتشر في البلدان الأخرى في أواسط الستينات؛ دخل في الحزب أعضاء لم تكن تربطهم بالنجف أو العراق غير رابطة الولاء الديني للمرجعية النجفية. ولكن تحوّلَ ولاء هؤلاء الدعاة إلى النجف من ولاء ديني محظ إلى ولاء سياسي وفكري أيضاً؛ إذ أصبحت المرجعية الفكرية والدينية للسيد محمد باقر الصدر هي بوصلتهم، فضلا عن بوصلتهم التنظيمية والسياسية المتمثلة بقيادة حزب الدعوة الموزعة بين النجف وبغداد.
والحقيقة أن تنوع الانتماءات الاجتماعية الأصلية للدعاة لم يكن يؤثر في خلق اتجاهات وميول متباينة في إطار «الدعوة»؛ لأن البيئة النجفية التي أوجدت حزب الدعوة الإسلامية؛ هي بالأساس بيئة صاهرة للأعراق والانتماءات الاجتماعية؛ إذ ظلت البيئة النجفية طوال مئات السنين قادرة على صهر جميع الوافدين في بوتقتها؛ سواء كانوا من العراقيين الحضر من المدن الأخرى، أو العراقيين أبناء الريف، أو بدو نجد والأردن والشام، أو الإيرانيين الفرس والعرب والكرد والأذربيجانيين، أو أبناء شبه القارة الهندية، أو الهزارة والطاجيك في أفغانستان؛ فضلاً عن العرب من البلدان الأخرى، وفي مقدمهم اللبنانيون والخليجيون؛ فتراهم بعد فترة يتحولون إلى أبناء للبيئة النجفية بكل تفاصيلها. وهذه الخاصية التي تتميز بها النجف ربما تكون فريدة من نوعها على مستوى علم الاجتماع؛ وهي القدرة على صهر الآخرين. أي أن النجف هي بالأساس مدينة عالمية وليست عراقية محضة في بعدها الاجتماعي، فضلا عن الديني. وحين نتحدث عن النجف فلا نقصد بها المدينة والشوارع والأزقة والمباني؛ بل نقصد النجف الحاضرة العلمية الدينية والعاصمة المعنوية الشيعية، وهي مواصفات استثنائية ليست مصطنعة؛ بل تمثل تراكماً تاريخياً طبيعياً بدأ قبل حوالي ألف سنة، ولا تشبه أية مدينة في العالم. وهكذا حين نقول بأن حزب الدعوة بدأ نجفياً وبقي هكذا في مرحلة انطلاقه وانتشاره؛ فإننا نقصد طبع الحزب بطابع الحاضرة النجفية في اجتماعها الديني والسياسي والثقافي وفي أنساقها الانثروبولوجية؛ وهو طابع عقدي وعابر للحدود الجغرافية.
وقد ظهرت هذه الحقيقة في حزب الدعوة بشكل واضح؛ فلم تكن عالمية حزب الدعوة نتاجاً لنظرية مؤسسيه وحسب؛ بل انعكاساً لعالمية البيئة النجفية التي تأسس ونشأ فيه حزب الدعوة. ولو تأسس حزب الدعوة في مدينة عراقية أخرى لما تحققت هذه القاعدة النظرية والعملية في بنائه. وفضلاً عن هذه العوامل الموضوعية؛ فإن هناك ثلاثة عوامل ذاتية ترشحت عن عالمية البيئة النجفية؛ كان لها التأثير الأساس في نقل عالمية حزب الدعوة من النظرية القائمة على أساس عقدي، متمثلاً بعالمية الإسلام، إلى التطبيق الواقعي، وهي:
1 – وجود علماء الدين في صدر قائمة مؤسسي حزب الدعوة وقيادييها وكوادرها. والمعروف أن عالم الدين يكون البعد الإسلامي العالمي في شخصيته قوياً جداً، وينعكس على حركته بشكل طبيعي. فضلاً عن أن معظم هؤلاء العلماء الدعاة تنقّل بين بلدان متعددة، وكان وكيلاً للمرجعيات الدينية.
2 – صعود قياديين وكوادر غير عراقيين لقيادة حزب الدعوة ومفاصله التنظيمية الأساس، ولاسيما اللبنانيين وذوي الأصول الإيرانية؛ بل كان تأثير البيئات اللبنانية والإيرانية والكويتية يوازي – في بعض المراحل – تأثير البيئة العراقية في توجيه مسارات حزب الدعوة.
3 – التأثر بعالمية التنظيمين الإسلاميين السنيين الكبيرين: جماعة الإخوان وحزب التحرير، والتنظيمات الشيوعية العالمية والتنظيمات القومية العربية. وهو تأثر اجتماعي بديهي؛ لأن الإخوان والتحريريين والشيوعيين والقوميين كانوا يعيشون في بيئة واحدة مع المتدينين.
وبعد أن كان العراق تابعاً من الناحية السياسية طيلة قرون من عهود الاحتلال المتوالية؛ فإنه استحال محوراً عربياً وإسلامياً بفعل مؤسستين سياسيتين ايديولوجيتين عابرتين للحدود؛ هما:
1 – الجناح اليميني لحزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة السوري ميشيل عفلق؛ الذي حوّل العراق منذ العام 1968 إلى محور للحركة القومية اليمينية البعثية في جميع البلدان العربية.
2 – حزب الدعوة الإسلامية الذي حوّل العراق منذ أوائل ستينات القرن الماضي إلى محور للحركية الإسلامية الشيعية في كل البلدان التي يتواجد فيها الشيعة بسبب امتداداته التنظيمية والفكرية في هذه البلدان.
والمحورية العراقية التي خلقها حزب الدعوة وحزب البعث؛ تقابلها المحورية المصرية التي خلقتها جماعة الإخوان المسلمين والقيادة الناصرية، والمحورية السورية التي خلقها الجناح اليساري لحزب البعث. ولذا فقد أضاف حزب الدعوة للعراق إضافة نوعية في هذا المجال. ولو كانت «الدعوة» تعيش في بلد آخر غير عراق البعث، وزمان آخر غير زمن صدام حسين؛ لكافأتها الدولة على عطائها هذا؛ إلّا أن الدولة التي لا تحترم علماءها وعظماءها وتعدمهم، وفي مقدمهم المفكر الإنساني العالمي السيد محمد باقر الصدر؛ لا تتردد في تدمير عشرات التنظيمات الفكرية التأسيسية العابرة للحدود من أمثال حزب الدعوة؛ من أجل حماية نفسها من أي خطر محتمل مهما بلغت قيمته الإنسانية والفكرية.
وقد أثرت عوامل ذاتية وخارجية على فقدان حزب الدعوة بريقه العالمي، بدءاً من أوائل ثمانينات القرن الماضي، وذلك بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتفاعل الشيعة في كل العالم معها، وتمدد نفوذها الديني والثقافي والسياسي في جميع الأوساط الشيعية الإسلامية الحركية والمتدينة في العالم، ومن بينها تنظيمات حزب الدعوة في معظم البلدان. وقد تزامن ذلك مع التنحي التدريجي لمعظم الفقهاء وعلماء الدين الكبار عن قيادة حزب الدعوة؛ سواء بوفاتهم أو تصديهم للمرجعية الدينية أو تسنمهم مواقع قيادية في مؤسسات غير عراقية، أو اختلافهم مع توجهات حزب الدعوة السياسية والفكرية الجديدة، ومن أبرزهم: السيد مرتضى العسكري والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله والسيد كاظم الحائري والشيخ محمد علي التسخيري والشيخ محمد مهدي الآصفي. وكذلك خروج معظم القيادات غير العراقية من التنظيم؛ كالشهيد محمد هادي السبيتي والشيخ علي الكوراني. ثم بروز العامل الموضوعي المتمثل بانهيار تنظيمات حزب الدعوة في البلدان الأخرى؛ والتي فقد إثرها حزب الدعوة قيادات تاريخية بحرينية ولبنانية؛ كالشيخ صبحي الطفيلي والشيخ محمد يزبك والشيخ حسين الكوراني والشيخ نعيم قاسم والشيخ عيسى قاسم والسيد عبد الله الغريفي والشيخ عبد الأمير الجمري وغيرهم. في حين أن وجود القياديين والكوادر غير العراقيين، ولاسيما اللبنانيين وذوي الأصول الإيرانية؛ بالتنظر لتنوع خبراتهم الاجتماعية وكفاءاتهم الثقافية؛ كان سبباً أساسياً في سطوع حزب الدعوة وانتشاره وقوته.
ومن جانب آخر؛ ساهم البعد الذاتي المتمثل بانحسار الشخصيات العلمائية النجفية في القيادة والكادر المتقدم؛ دوراً مهماً في انحسار الهم العالمي لحزب الدعوة، وتحوله إلى حزب عراقي وطني، مع احتفاظه بقواعده العقدية النظرية الإسلامية الأخرى، ولاسيما بعد سقوط النظام السابق واستلام الحزب للمفاصل الأساس في الحكومة بعد العام 2003. وهنا تعامل حزب الدعوة تعاملاً واقعياً مع من تبقى من أعضائه وأنصاره من غير العراقيين؛ فقد ألغى ارتباطهم به؛ بهدف دفع الضرر عنهم في بلدانهم؛ كي لا يتهموا بالارتباط بحزب حاكم في دولة أجنبية، وكذلك الحيلولة دون ضرب الواقع العراقي الجديد؛ بحجة وجود أجنحة غير عراقية لحزب الدعوة، وكونه حزباً غير وطني.
جدير بالإشارة أن حزب الدعوة عاد مندكاً بالنجف بعد العام 1979 خلال تحرك السيد محمد باقر الصدر؛ بعد فترة برود بدأت عقيب وفاة الإمام السيد محسن الحكيم في العام 1970. ثم أبعدته الظروف الضاغطة عن النجف بعد إعدام الإمام السيد محمد باقر الصدر في العام، واستمر حتى العام 2003؛ حين عاد الحزب بهدوء وانسيابية إلى حاضنته النجفية. ولكن لا تزال هذه العلاقة غير مؤصلة فقهياً وفكرياً، كما لم يتمظهر هذا التأصيل سياسياً؛ وإن كانت وطيدة وتاريخية منذ عام 2005، حين تسلم ممثلو الحزب رئاسة الحكومة العراقية. ولاتزال هذه العلاقة محكمة وقوية، وإن تخللتها ملابسات خلال تشكيل الحكومة العراقية في العام 2014؛ على اثر إبلاغ المرجعية العليا النجفية قيادة حزب الدعوة باختيار رئيس وزراء جديد؛ الأمر الذي أدى إلى تنحي نوري المالكي عن استحقاقه الانتخابي لمصلحة محازبه حيدر العبادي.
وظل حزب الدعوة بعد العام 2003 يوازن سياسياً في علاقته بين المرجعية النجفية العليا وولاية الفقيه في إيران؛ وإن كانت توجهاته العامة نحو المرجعية العليا النجفية. وهذا التوازن يعود إلى وجود تيارات فكرية متعددة في حزب الدعوة بهذا الشأن؛ فهناك تيار يؤمن بولاية الفقيه ومصداقها الإمام الخامنئي، وهناك تيار يعود بالتقليد والتبعية إلى الإمام السيستاني، وهناك تيار لايزال يؤمن بالفكر السياسي للسيد محمد حسين فضل الله.
لقد بدأ تاريخ حزب الدعوة في فجر أحد أيام العام 1956، وانطلق في ضحى أحد أيام العام 1957، وأخذ يسجل أولى مراحله في ظهيرة العام 1958، وحمل اسم «الدعوة» في العام 1959. وكانت هذه السنوات الأربع تمثل مرحلة بزوغ «الدعوة» وشروقها. ومثّل عقدا الستينات والسبعينات من القرن الماضي مرحلة السطوع بالنسبة لحزب الدعوة. واستمرت مرحلة سطوع «الدعوة» في لبنان حتى العام 1982؛ وهو العام الذي غرب فيه حزب الدعوة اللبناني، وكذا حزب الدعوة الإيراني في العام نفسه؛ ثم حزب الدعوة الكويتي في العام 1983، وحزب الدعوة البحريني في العام 1984، وفي السعودية وعمان والإمارات في أواسط الثمانينات، وفي باكستان أواخر الثمانينات، وفي أفغانستان في العام 1988. ثم توالي انهيار باقي تنظيمات «الدعوة» في الأقاليم والمناطق؛ حتى تم إلغاء القيادات الإقليمية ولجان المناطق غير العراقية، ثم إلغاء القيادة العامة (قيادة التنظيم العالمي)، وإفراز قيادة عراقية فقط؛ عرفت بـ ((قيادة الحزب)). ولم يبق من تنظيمات حزب الدعوة سوى التنظيمات العراقية؛ التي تمكنت بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003؛ من إعادة بناء نفسها ولملمة خطوطها داخل العراق، بعد عودة قيادات الحزب وكوادره من المنافي، والظهور كأبرز الأحزاب الحاكمة.
لقد انحل التنظيم العالمي لحزب الدعوة وهو في أوج سطوعه وقوته، وبظاهرة لا مثيل لها في أحزاب العالم العابرة للحدود الجغرافية. ولكن اللافت أن انهيار التنظيم العالمي للحزب لم يؤثر تأثيراً مميتاً على جسد الحزب في بلده الأم؛ العراق؛ لأن الانهيار لم يكن ناتجاً عن صراعات فكرية وسياسية وقومية داخل «الدعوة»؛ وإنما ناتج عن الظروف السياسية التي أحاطت بتنظيمات الحزب داخل البلدان التي كانت تتواجد فيها؛ وأبرز مظهر لهذه الظروف هو العلاقة الإشكالية بأنظمة هذه البلدان.
وبشأن صعود وهبوط تنظيمات حزب الدعوة في البلدان الأخرى؛ لديّ مشروع كتاب أعمل عليه منذ فترة؛ عنوانه «الحركية الإسلامية الشيعية العالمية: إرث حزب الدعوة الإسلامية في لبنان والكويت والبحرين». وفيه تفاصيل عن انتشار تنظيمات حزب الدعوة في خارج العراق واستقطابها الكثيف والنوعي للنخب الشيعية، وأسرار الانهيار المفاجئ لهذه التنظيمات؛ وهي في ذروة قوتها.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua