التناقض في السلوكيات الاجتماعية التغريبية

Last Updated: 2024/04/02By

التناقض في السلوكيات الاجتماعية التغريبية

د. علي المؤمن

تكمن المشكلة الأساسية في خطاب التغريب والسلوكيات التي يفرزها، في أن المتغرب يفكر بأسلوب غربي في بيئة ليست غربية، ويتشبه بالغرب في واقع غير غربي، ويريد تطبيق النتاجات الفكرية والثقافية الغربية في مناخات لا علاقة لها بمناخات الغرب التي أنتجت تلك الأفكار والثقافات والسلوكيات عبر تراكم تاريخي طويل، مثّل صراعاً قاسياً بين الاستبداد الثيوقراطي المطلق الذي يمثله تحالف السلطات الثلاث: سلطة الكنيسة والسلطة الملكية المطلقة وسلطة أصحاب المال من جهة، والشعوب الأوروبية المستعبدة من جهة أخرى، وقد أدى حراك هذه الشعوب المتأثرة بالفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين التحرريين، الى ظهور عقائد جديدة متناقضة، مناهضة للمسيحية والدين عموماً، ومناهج التفكير السائدة، والأعراف والتقاليد السياسية والثقافية والاجتماعية، وقد تمثلت هذه العقائد في الإلحاد الماركسي والوجودي، والعلمانية والليبرالية والاشتراكية والرأسمالية. وربما كان من الطبيعي أن تفرز تلك المناخات الأوروبية وصراعاتها التراكمية هذه العقائد والمناهج الفكرية والسلوكيات الفردية والمجتمعية، ولكن من غير الطبيعي أن تستورد مجتمعات لها مناخاتها وواقعها التراكمي الديني والاجتماعي والثقافي المختلف كلياً، تستورد تلك الثقافات والأفكار والسلوكيات وتمارسها داخل بيئتها المتعارضة.

ومن جانب آخر؛ إن الإطار الذي يجمع في داخله مظاهر السلوك التغريبي في المجتمعات المسلمة، هو التناقض والتضاد المتزايدان والحادان أحياناً، في الظواهر والسلوكيات الاجتماعية القائمة؛ فالانزواء والرهبنة – مثلاً – يقابلهما الانفتاح المطلق على الثقافة الغربية والفساد الخلقي والعبثية. وفضلاً عن التناقض الاجتماعي، فهناك تناقض آخر يعيشه الفرد والمجتمع أيضاً، هو الازدواجية بين الفكر والمعتقد والادعاء، وبين التطبيق والممارسة والسلوك العملي.

وعلى مستوى الأخلاقيات الاقتصادية، هناك تمايز طبقي واضح يكمل التصّدع الاقتصادي، الناتج عن التضخم والغلاء المعيشي والتسوّل والبطالة والديون الحكومية. وحين تنعكس هذه المظاهر على العلاقات الاجتماعية فإنها تخلق تفاوتاً اجتماعياً طبقياً كبيراً في المجتمع الواحد، على مستوى الملكية الخاصة ورأس المال، وعلى نوعية التعامل المتقابل بين الطبقات، وستشح عندها مظاهر التكافل الاقتصادي والاجتماعي.

وتبرز من خلال ذلك أخلاقية اقتصادية فظة، تتمثّل في تحوّل العملية الاقتصادية في المجتمع إلى هدف بنفسها، أي أن الغاية من ممارسة المهن والحرف – على اختلافها – ستختصر في تحصيل المال وكنزه، على حساب الفضائل والعواطف، فيتعامل الطبيب – مثلاً – مع المريض كآلة فيها عطل، يجب أن يحصل على أكبر مبلغ من المال ليقوم بإصلاحها، بصرف النظر عن الأخلاق الطبية والعواطف الإنسانية. في حين أن قيمة العمل في الإسلام تقاس بغاياته المعنوية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن تحصيل المال وسيلة لإمرار المعاش. فالطبيب ليس لعمله قيمة إلا بمقدار تحقيقه للغاية في العمل، والمتمثّلة بتقديم الخدمة للمرضى بهدف شفائهم بإذن الله.

وبشكل عام؛ فإن أساس هذا السلوك التغريبي وأمثاله هو فقدان الفرد والمجتمع للجانب المعنوي والروحي في شخصيتهما. وهو الأمر الذي يحدث في التعامل مع التقنيات العلمية الحديثة أيضاً. فمن مظاهر السلوك التغريبي في هذا المجال هو قبول المجتمع لخيار التكنولوجيا على حساب الأخلاق – كما يصف بعضهم الظاهرة؛ حتى أصبح وجود وسائل التكنولوجيا الحديثة في عمليتي الإنتاج والاستهلاك أهم غايات الحياة، طبقاً للشعار الغربي القائل: «أنتجوا أكثر استهلكوا أكثر، واستهلكوا أكثر لتنتجوا أكثر»، بدل الغاية الأساسية المتمثّلة في رضا الله تعالى، من خلال التمسك بالأخلاق والعقيدة والشريعة. وفي الواقع، إن هذا التناقض – الموهوم غالباً – بين الأخلاق ومفهوم التكنولوجيا، هو من صادرات الغرب إلى المجتمعات الإسلامية أيضاً.

ونلاحظ ـــ على المستوى الأخلاقي العام ـــ تكريس ظاهرة غربة الأخلاق وتغرّبها، من خلال مجموعة من المظاهر القاتلة، أهمها: الانتشار الواسع لما يعرف بمجتمعات الشباب، والمراقص والحفلات الماجنة، وعلب الليل وأماكن الدعارة، وحانات الخمور، والشواطئ والمسابح المختلطة، والأزياء، والأسماء والمسميّات الشخصية والعامة الغربية، والعلاقات المفتوحة بين الرجل والمرأة، والاختلاط بين الجنسين في مختلف الأماكن والميادين، والسفور، ووسائل الإعلام الماجنة، ومراسم عرض الأزياء، وحفلات اختيار ملكات الجمال، والتي حوّلت – بمجموعها – المرأة إلى سلعة تباع أجزاء منها وتشترى، كما يحدث في الغرب تماماً. هذا فضلاً عن ظواهر أخرى تعادلها أو تزيد عليها في الخطورة، أهمها الشذوذ الجنسي، الذي بات موضوعاً مصيرياً لدى الدول الغربية؛ إذ لا تكتفي بشرعنته والدفاع عنه باستماتة في بلدانها، بل تعمل بكل الوسائل على الترويج له كحالة إنسانية طبيعية في المجتمعات المسلمة، إضافة الى ارتفاع نسب المدمنين على المخدرات، ونسب ارتكاب الجرائم الأخلاقية، التي تعدّها القوانين الوضعية أيضاً جرائم تستحق العقاب، في حين أن هذه القوانين تغضّ الطرف عن تلك الجرائم والممارسات اللاأخلاقية – التي سبق ذكرها – بل تقنّنها وتنظم حركتها.

كما ظهرت أنواع متخلّفة وأكثر إثارة للاشمئزاز من التيّارات الاجتماعية الغربية المتمرّدة والضائعة نفسها، كالهيبيز والبانكس والربيين. ونقول أكثر إثارة للاشمئزاز؛ لأن الهيبسم – مثلاً – ظهرت في الغرب كفلسفة شاذة تؤمن بالحرية المطلقة في السلوك الاجتماعي، وبالسلام المطلق، وترفض الحياة المادية، استناداً إلى مبدأ أصالة اللذّة والمتعة (في مقابل الرهبنة وقتل اللذّة بالمطلق) وصولاً إلى السعادة المنشودة في الحياة، وهي الغاية النهائية لديهم في الحياة. أما (الهيبيون) الذين ظهروا في المجتمعات المسلمة، فهم لا يفقهون من (الهيبيسم) شيئاً سوى المظاهر الخارجية البشعة، نتيجة التقليد الأعمى، والغربة عن النفس (Alienation)، والفراغ الفكري والثقافي. إضافة إلى العبثية واللا هدفية في السلوك والفكر والثقافة وفي العادات والتقاليد ((ما يأتيهم من ذكر ربهم محدّثٍ الاّ استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسرّوا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلاّ بشر مثلكم)).

هذه الغربة عن النفس والأصالة التي يعيشها الفرد والمجتمع هي غربة الإيمان أساساً، وتعد القاسم المشترك لمعظم السلوكيات التغريبية في مجتمعات المسلمين. ومن الإفرازات البارزة لهذه الحالة، تزايد الأمراض النفسية والعصبية، أو ما يعرف بأمراض العصر، التي نشأت في الغرب نتيجة لأنماطه المعيشية، ثم انتقلت إلى المجتمعات المسلمة بالتدريج. يقول مفكّر أمريكي: «إن العالم الغربي يزداد كل يوم قلقاً، وجذور القلق عميقة في داخل شخصية الإنسان الغربي. إن خلاص الغرب من الهلاك الحتمي لن يكون إلا بالعودة إلى جنّة الإيمان».

وقد بلغ شيوع السلوك التغريبي مرحلةً، كما أشرنا؛ أصبح فيها الشخص الذي لا يمارس نوعاً من أنواع السلوكيات التغريبية، كالسفور وحضور الحفلات المختلطة والعلاقات الجنسية المفتوحة – مثلاً – يعد متخلّفاً ورجعياً، في حين أن الجماعة – أو الفرد – التي تعترض وتنبه على الخطر وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أو تدعو الى الأخلاق الفاضلة، حتى لو كانت هذه الدعوة بعيدة عن الدوافع العقيدية؛ تتهم بالتحجر والتخلّف والسلفية والعداء للحرية الشخصية والاجتماعية والثقافية. أما من يتخذ أساليب فيها نوع من الردع خلال ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعتبر «مخرّباً» وربما «إرهابياً». وهذا النمط من التفكير هو ذروة السلوك التغريبي، بل وذروة الانحراف عن المبادئ والقيم الفطرية والعقلائية والعقيدية، ونتائجه المرعبة معروفة سلفاً كما يقول النبي محمد (ص): «لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت عنهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء».

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment