التقريب بين المذاهب أم بين المتمذهبين؟
التقريب بين المذاهب أم بين المتمذهبين؟
د. علي المؤمن
إنّ نتائج الأحداث والمخاضات السياسية والفكرية التاريخية التي لا تزال تحكم الواقع الإسلامي، يمكن تحويل مسارها باتجاه الاختلاف الإيجابي بين المسلمين، والذي من شأنه تعميق حالة الحوار العقيدي التكامل الفقهي والنمو الفكري، بالصورة التي تحصِّن الواقع الإسلامي أمام أي خلل داخلي أو غزو خارجي، لأنّ تلك النتائج ظلت إفرازاً لحالة غير موضوعية؛ وبالتالي يمكن التأثير في مضامينها وأشكالها.
وقد بقي الواقع الإسلامي بقي محكوماً بهذه النتائج، ويعيشها بكل تفاصيلها؛ فما برح المسلمون يعيشون التاريخ ويتفاعلون أحداثه وكأنهم جزء منهم. كما أن إثارة مشكلة الاختلاف المذهبي بين المسلمين خارج سياقها التاريخي والموضوع، بقي أيضاً محكوماً بالظروف، ولاسيما الظروف التي تخلقها الضغوطات الخارجية، حتى نجد أن وراء هذه الإثارة ـ غالباً ـ مؤامرة تستهدف الواقع الإسلامي في الصميم، وتهدف إلى تمزيقه وشرذمته. ولا شك أن الضغوطات الخارجية التي تتجسد في مختلف ألوان التآمر، تبقى عاجزة عن تحقيق أهدافها ولو بالحد الأدنى، دون وجود أرضية مساعدة داخل الواقع الإسلامي، يوفِّر للغزو الخارجي أسباب الحركة والنجاح. وهنا تكمن الخطورة الأساسية، لأن الخلل إذا كان من الواقع الإسلامي نفسه؛ فإنه يؤدي ــ لا محال ــ إلى نخر جسد الأمة من الداخل، وبالتالي تفتيتها وانهيارها.
ويمكن التقريب بين أتباع المذاهب وتوحيد توجهاتهم، في إطار اشتراك المصالح الدينية العليا، أو التعايش الوطني والإقليمي، أو أية مصالح مشتركة أخرى، وهي مهمة لا تقتصر على النخبة الفقهية والعلمية والفكرية وحسب، كما يعتقد بعض أصحاب فكرة التقريب بين المذاهب، وهي الفكرة التي أثبتت ضعف فاعليتها على طول التاريخ؛ بسبب اعتمادها موضوعة المذاهب، ممثلة بعلمائها، وإلغائها أهمية مجتمعات المذاهب، ممثلة بالمحاور الفاعلة الأُخر فيها؛ ظناً من أصحاب فكرة التقريب أن مجتمعات المذاهب تنقاد بأكملها الى علماء الدين وحسب، وأن علماء الدين السنة والشيعة إذا اتفقوا على شيء؛ فإن الأمة ستنقاد إلى توجيهاتهم غالباً.
والحال؛ أنّ هناك محاور فاعلة ومؤثرة في مجتمعات المذاهب، غير الفقهاء وعلماء الدين، كالمفكرين والمثقفين والكتّاب والإعلاميين والأكاديميين والأدباء والشعراء والخطباء والفنانين وشيوخ العشائر والوجهاء الاجتماعيين والطلبة والشباب والنساء، فضلاً عن المؤسسات التي تضم هؤلاء، وبينها منظمات المجتمع المدني، وكذلك الحكام والسياسيين والقيادات الحزبية والتنظيمية. هؤلاء كلهم فاعلون أساسيون في عملية التقريب بين المذاهب وأتباعها. ولا شك أن إغفال دورهم المصيري هو السبب في عدم فاعلية فكرة التقريب بين المذاهب، والإبقاء عليها في حدود المقولات النظرية والجهود العلمية، وعدم تحولها الى واقع ميداني قائم على أرض مجتمعات المذاهب (الطوائف).
وليس حديث العقلاء والحكماء عن التقريب والوحدة ـ كما ذكرنا ــ يهدف الى تحقيق وحدة إسلامية اندماجية أو إلغاء المذاهب العقدية والفقهية أو تصفير الخلافات بين المسلمين، لأنها أمور مستحيلة، لا يمكن تحقيقها ولا يعتقد عاقل بواقعيتها، لأن حقائق الميدان، على مستوى كل بلد إسلامي وعلى مستوى الواقع الإسلامي برمته، أثبتت أن هذا الحديث مجرد طموحات وتمنيات طوباوية، لأسباب معقدة كثيرة، إنّما الحديث يدور حول محور التعايش والتعاون بين أبناء البلد الواحد، وكذلك بين المسلمين جميعاً، وهو التعايش والتعاون الإيجابيين البنّاءين، في إطار دولة المواطنة والقانون والحقوق والحريات، ودولة التكافؤ في الفرص، والتساوي في الحقوق والواجبات، والتعاون من أجل بناء نظام اجتماعي سليم، ونظام سياسي عادل، ونظام اقتصادي فاعل. وبالتالي؛ يكون الهدف النهائي هو الشراكة الإنسانية في بناء الأوطان والبلدان والدول، أو لنسمها ما نشاء.
ولعل من المناسب هنا طرح مفهوم التکافؤ الطائفي في إطار الدولة الواحدة ومجمل المؤسسات الإسلامية الرسمية وغير الرسمية العابرة للحدود، ويكون ذلك على أساس النسب السكانية، وهو أساس مقبول وعادل عادة، ويؤول الى أن یکون الشیعي کالسني في الحضور الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي، دون تمییز طائفي أو عنصري، وصولاً الى العدالة في حفظ حقوق الأقليات الدينية غير المسلمة أيضاً. والمشكلة ــ غالباً في هذا المجال ــ يتحمل مسؤوليتها الطائفيون والمتطرفون الذين يرفضون التکافؤ الطائفي ويقامونه بشتى السبل، وخاصة في البلدان التي يكون فيها للسكان الشيعة حضور واضح، وهو رفض يشكل جزء من عقلهم التاريخي الظاهر أو عقلهم الباطن، وينفعلون جداً عند الحديث عن کون المواطن الشیعي کفء للمواطن السني في الحقوق والحريات كافة. كما يرفضون أي تغيير في معادلات الواقع التاريخي للدولة الطائفية.
والحال؛ أن التکافؤ الطائفي هو الحل الوحید الذي يسبق التعايش والشراكة، ويسبق الوحدة الوطنية والوحدة الإسلامية، بل هو مدخل موضوعي لها جميعاً، لأن الوحدة لا تُبنى على قاعدة وجود مواطن من الدرجة الأولى ومواطن من الدرجة الثانیة، أو حاکم مطلق ومحکوم مطلق، أو طائفة غالبة وطائفة مغلوبة، بل تكون الوحدة على أساس الشراكة بين المواطنين المتکافئین؛ فلا معنى للوحدة في ظل عدم التکافؤ، والتي يكون المطالب فيها هو الغالب، ويريد للمغلوب أن يندمج فيه ويتوّحد تحت عباءته؛ فالحاكم الغالب أو الحزب الغالب أو الطائفة الغالبة، تتحدث عن الوحدة، كلون من الدعاية والاستغفال والتخدير والمراوغة، لکي تنفِّس عن الطائفة المغلوبة أولاً، ثم تزيد من هيمنتها عليها ثانياً، وتسخرها لمآربها وأهدافها ثالثاً. ولعل المغلوب المقهور، المنهزم نفسياً، یتحدث هو الآخر عن الوحدة أحياناً، لکي يتماهي بحاكمه الغالب أو الطائفة الغالبة، ويسعى لإرضائهما، لمجرد أن يعيش ويأكل من فتات السلطة والثروة والجاه. وهذه الشراكة أو التعايش أو الوحدة باطلة جملة وتفصیلاً، لأنها ليست حقيقة، وسرعان ما تنهار، فضلاً عن أنها تتعارض مع تعاليم الإسلام، وآليات الديمقراطية أيضاً.
إن الوحدة والتقارب والتعاون بين المسلمين، هي مشاعر وممارسة وسلوك وتكافل وتعاون، وليس مجرد خطاب تحريضي، وإن كان هذا الخطاب مفيداً. والتعايش هو إحساس حقيقي بالشراكة في بناء حاضر الأوطان المسلمة ومستقبلها، والإحساس بالشراكة بين عموم المسلمين. وهذا الإحساس هو مولِّد للإحساس بضرورة التعارف والتقارب، وصولاً الى الإحساس الحقيقي بضرورة التعاون والتكامل. ويعني التعارف هنا؛ التعرف على معتقدات وأفكار الآخر المذهبي والعقدي والفكري منه نفسه، أي من مصادرة نفسها، وينتهي هذا التعارف بالبحث عن نقاط الاشتراك والعمل. وفي الوقت نفسه؛ فإنّ الإحساس بالشراكة هو نقيض الرغبة بإلغاء الآخر وإقصائه وتهميشه، فضلاً عن تكفيره، واعتراف بالآخر ومكوناته كما هو، سواء كان هذا الآخر من نفس المدرسة الفقهية والكلامية نفسها، أو من المذهب نفسه، بل حتى لو كان من دين آخر، لأن المسلم إما أخ للمسلم، أو نظير في الخلق لغير المسلم، وهو مضمون حديث الإمام علي: ((الناس صنفان: أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق))، والذي قاله حين وبّخ بعض المسلمين بسبب ظلمهم لأجير يهودي كان يعمل عندهم؛ فكيف إذا كان هذا الشخص مسلماً وأخاً في الإسلام؟!
وتبدأ الوحدة والتقارب والتعايش بالدوائر الأصغر وتنتهي بالدوائر الأكبر، أي أنها تبدأ بين أبناء المدرسة الفقهية والكلامية الواحدة، ثم بين أبناء المذهب الواحد، وبين أبناء الدين الواحد، وبين أتباع الأديان، انتهاء بالدائرة الإنسانية الكبيرة؛ فمن المهم الانفتاح فكرياً على أتباع جميع المذاهب والأديان الذين تجمعهم بالمسلمين روابط الوطن واللغة، ومشتركات الإيمان الفطري أو الفكر الإيماني، ولا يمكن تجاوزهم عبر الاكتفاء بأتباع الديانات التوحيدية المعروفة: الإسلامية والمسيحية واليهودية والصابئية والزرادشتية؛ فالبوذيون والطاويون والكونفوشيوسيون والهندوس والسيخ، هم نظراء للمسلمين في الخلق أو مواطنون يشاركون المسلمين مصير الجغرافيا الواحدة، ولا يقل عددهم عن مليارين ونصف المليار إنسان، ما يعني أن المسلمين بحاجة الى التعرف على ما يدين به هؤلاء من عقائد وأحكام وأخلاق وعادات، وهذا الانفتاح سيقربهم نفسياً الى المسلمين، وما يترتب على ذلك من منافع جمة للمسلمين.
وبالتالي؛ فإن من يريد التقريب والتعايش بين شتات أمة رسول الله؛ فعليه ألّا يكتفي بالعمل على المذاهب الإسلامية، في بعديها العقدي والفقهي، بل على أتباع المذاهب الإسلامية، ويقنعهم على أن يتعايشوا كما هم، ويَقبلوا ببعضهم كما هم؛ بعقائدهم، بفقههم، بقناعاتهم التاريخية، لأنهم يتقاسمون الجغرافيا والأوطان والثروات، وأن لا يسلطوا التكفيريين والطائفيين على رقابهم، بأية وسيلة، لأنهم أعداء السنة والشيعة معاً.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua