التعايش بين المسلمين في بعديه السياسي والقومي

Last Updated: 2024/04/02By

التعايش بين المسلمين في بعديه السياسي والقومي

د. علي المؤمن

يحظى البعدان السياسي والقومي بأهمية خاصة في مشروع الوحدة الإسلامية، ولعله من أهم أبعادها، لأن الخلاف بين المسلمين منذ مئات السنين، كان في أغلبه مطبوعاً بطابع سياسي، أو يحمل خلفيات وجذور سياسية. وتسليط الضوء على هذا البعد كعامل من عوامل الخلاف التاريخي، ثم دراسته كإطار لاستمرار الخلاف، وأخيراً كمعوِّق لتحقيق التقارب والوحدة بين المسلمين؛ سيكون مقدمة لمحاولة وعي خطورته الكبرى والسعي المشترك لتفكيكه.

على المستوى التاريخي بشأن مسارات الخلاف بين المسلمين، وخاصة المسار السياسي؛ فإن الانشقاق الأول بين المسلمين حدث بعد وفاة رسول الله، وكان يدور حول موضوعة خلافة الرسول، من الناحيتين المفهومية والمصداقية، أي كان هناك خلاف حول مفهوم الخلافة ومصداقها. والخلافة تعني رئاسة الدولة وقيادة الأمة، أي محور الفقه السياسي؛ فكان شيعة الإمام علي يقولون بالنص الإلهي على الإمام في إطار مبدأ الإمامة، كما ورد عن رسول الله في كثير من الأحاديث الثابتة. وقال جماعة أخرى من المسلمين (السنة فيما بعد) بالتعيين البشري في إطار نظرية الخلافة. وكان هذا الخلاف بالنسبة للشيعة ذا بعد عقدي، لأنّ فيه مخالفة لنص رسول الله، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى، أي أنّ إصرارهم على خلافة الإمام علي لم تكن مجرد رغبة في تقديمه على باقي الصحابة، بل لأن توليته أمور المسلمين يحظى بنص تشريعي، وبالتالي؛ فالإمامة هي تشريع ديني وليس موقع سياسي. أما بالنسبة الى السنة؛ فهو خلاف سياسي، لأن تقديم الخلفاء الثلاث على الإمام علي كان فيه مصلحة سياسية للأمة. ثم كان هناك خلاف بين المدرستين الشيعية والسنية حول تفسير بعض الأحداث والممارسات، ولا سيما الدور السياسي للشيعة منذ عهد الإمام علي، ثم انحراف الخلافة عن مسار أئمة أهل البيت، وصولاً الى نظرة كلٍّ من الشيعة والسنة إلى الخلفاء والسلاطين الأمويين والعباسيين والأيوبيين والعثمانيين.

وإضافة إلى هذا النوع من الخلاف السياسي؛ فإنّ بعداً آخر للخلاف دخل في عهد الدولة الأموية، هو البعد القومي؛ إذ استعاد الأمويون من العصر الجاهلي، النزعة القومية العنصرية والتعصب القبلي والاحتكار العائلي للسلطة. وبرز هذا البعد بشكل آخر وأكثر تعقيداً في عهد الدولة العباسية، ثم في الدول القومية والقبلية والعائلية التي أعقبتها. وفي هذه العصور كان الصراع بين المسلمين في جانب منه صراعاً سياسياً وقومياً، وتكمله الخلافات والصراعات المذهبية.

وبعد بروز ظاهرة الدولة القومية أو الوطنية في أوروبا، ثم انتقال أفكارها إلى العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وما أعقبه من تقسيمات الجغرافية السياسية في أعقاب انهيار الدولة العثمانية؛ فقد توزع المسلمون على عشرات الدول التي تأسست على قاعدة الحكم القومي أو الوطني، وفي ظل الهيمنة الأوروبية، وخاصة البريطانية والفرنسية، وفي كل دولة مسلمة قام نظام سياسي مختلف. وقاد هذا الواقع الى تضارب في المصالح وصراعات سياسية وقومية مع الدول المسلمة المجاورة، وصراعات قومية ومذهبية وفكرية داخل البلد الواحد، هذه القوميات التي ظلت متصالحة غالباً في ظل تعاليم الإسلام، أو أنها يجب أن تكون كذلك، لولا النزعات القومية الإمبراطورية التي أسست لها الدولة الأُموية وسارت عليها أغلب الدول المسلمة. وظل الاستكبار العالمي يغذي هذه الصراعات ويؤججها ليضمن مصالحه، وأخذت الدوائر تضيق بالمسلمين، وتتحول إلى دوائر أصغر فأصغر.

ورغم أن الإسلام لا يرفض وجود القبيلة والقومية والوطنية، ولا يرفض خصوصياتها الجينالوجية واللغوية والاجتماعية، وكينونتها الإنثروبولوجية والتاريخية، ولا يعارض الميل العاطفي للمسلم نحو قومه وموطنه، وانتمائه لها، لكنه يرفض رفضاً باتاً تحوّل القومية والوطنية إلى عصبية وإلى دين ومذهب وايديولوجيا، تدعو للتميّز العرقي، وتفضَّل عرقية أو قومية مسلمة على أخرى، وتدعو الى الانفصال عن الرابطة الإسلامية، أو تحجيمها وتهميشها، بحجة أن الرابطة القومية هي الأساس وهي محور وحدة الجماعة البشرية، وتعد الرابطة الإسلامية ثانوية وغير ذات أهمية في تكوين الأُمة، لأن الأمة من وجهة نظر الفكر الشوفيني القومي تقوم على أساس وحدة العرق، وأنها أمة العرق والقومية.

في حين ينص الإسلام على أن الرابطة العقدية هي الأساس وهي محور وحدة الجماعة البشرية، وهي قاعدة تكوين الأمة؛ فالأُمة من منظار الإسلام هي أمة الدين أو أمة الإسلام، وليس أمة القومية أو الوطنية ((وإن هذه أمتكم أمة واحدة))؛ فالأمة هنا هي أمة الإسلام حصراً، ولا يوجد مفهوم آخر للأُمة غيرها، وأي مفهوم آخر يطرح في هذا المجال؛ فهو مفهوم وضعي باطل. ومن هذا المنظار؛ لا يفرِّق الإسلام بين مسلم ومسلم وآخر على أساس العرق والقومية واللون والموطن، إلّا بالتقوى والالتزام الديني؛ فالمعيار الوحيد في التفرقة بين مسلم وآخر هو معيار التمسك بالإسلام وتعاليمه ((وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم)). وبالتالي؛ لا يمكن أن يكون تعدد القوميات والأوطان والمذاهب الكلامية والفقهية والثقافات المجتمعية في إطار الإسلام؛ مدعاةً للفرقة والاختلاف والتناحر، بل قاعدة للتكامل والتعاضد والتعاون، على أساس البر والتقوى والعمل الصالح، كما هو خطاب القرآن ((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)).

وإذا كان وجود هذا الكم الكبير من الدول المسلمة الوطنية، والتعدد في أنظمتها السياسية، ووجود إلزامات القوانين الدستورية والمحلية والقانون الدولي؛ أمراً واقعاً، وهو كذلك بالفعل؛ فإن الواجب الإسلامي يدعو المسلمين الى تطويع هذا الأمر الواقع، ومعالجته معالجة واقعية أيضاً، مستعينين برابطة الإسلام وتعاليمه، كي لا يتحول إلى صراعات سياسية وقومية ونزاعات عسكرية وتنافس اقتصادي غير شريف، وهو ما ظل يحصل منذ أكثر من قرن من الزمان، أي منذ فرض الاحتلال الأوروبي على المسلمين، أسلوب الدولة المحلية ذات النزعة القومية والوطنية السلبية، المتعارضة مع القواعد الشرعية.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment