التعايش الوطني والقبول بالواقع الجديد شيفرة حل أزمات العراق

Last Updated: 2024/04/02By

التعايش الوطني والقبول بالواقع الجديد:

 شيفرة حل أزمات العراق

د. علي المؤمن

لقد كان التعويل بعد العام 2003 على الزمن والمخططات العلمية لحل أزمات العراق المستعصية، وكان طرحنا حينها يتمحور حول خطة ستراتيحية استشرافية، أمدها المناسب خمسون عاماً، تتوزع على عشر خطط خمسية وخمس خطط عشرية، أي أنها تنتهي في العام 2053. ولكن منذ اللحظة الأولى؛ برزت الأزمات وأخذت تتراكم بشكل مرعب، بسبب انشغال الحكومة بنفض ركام الخراب الرهيب والأنقاض الموروثة الهائلة التي خلّفها النظام البعثي، والذي زاده الإرهاب من جهة، وتناحر أحزاب المكونات المشاركة في السلطة؛ أزمات ومشاكل.

وفي الجهود البحثية التي طرحناها بعد العام 2003؛ تم التأكيد على ضرورة الالتصاق بالواقع، والانطلاق منه في إيجاد المعالجات؛ وإن كان هذا الواقع خطيراً ومرعباً، والحديث فيه يثير الحساسيات والأوجاع؛ لأن هذا هو مقتضى معالجات الأمراض المستعصية. وبالتالي؛ كان ولايزال من أولويات الحل هو تجاوز الشعارات الفضفاضة والمقولات السطحية في النظر إلى مشاكل العراق وأزماته؛ فرغم مرور 20 عاماً على تغيير نظام الحكم في العراق؛ إلّا أن شعارات الوحدة الوطنية واللحمة الوطنية وعشق العراق وحب الوطن؛ لم تنفع حتى الآن، ولن تنفع، في معالجة مشاكل العراق وحل أزماته؛ رغم أهمية هذه الشعارات وضرورتها، وإخلاص أغلب المنادين بها، لأن كل فريق ينظر إلى العراق من زاويته، وكل مكون يريد وطناً مفصلاً على مقاسه، كما ذكرنا سابقاً.

قد يرى بعض المعنيين أن الدراسات الحفرية لا ضرورة لها؛ لأنها مخيفة، وتكشف عن عمق المشاكل والعقد والأزمات، وتُشنج الأوضاع وتثير الحساسيات، فضلاً عن أنها ــ كما يتصورون حرصاً أو جهلاً ــ لون من التنظير والترف الفكري. ومثل هؤلاء الناس يفضلون حقن الواقع العراقي بالمسكنات والمهدئات، وعدم معالجته علاجاً حقيقياً، وعدم الإفصاح عن حقائق الأمراض المزمنة الصعبة التي يعاني منها؛ أما بدافع الإبقاء على بنية الدولة العراقية كما كانت عليه قبل العام 2003، أو بدافع الحرص على الوضع النفسي للشعب كي لا تثار مخاوفه. وكلا الدافعين غير واقعيين، ولا يحلان مشكلة ولا يعالجان أي مرض بنيوي.

وأرى من المفيد في مقاربات الحل؛ اعتماد قاعدتين أساسيتين:

    القاعدة الأولى: قبول الجميع بالحقائق الثابتة التي كشف عنها سقوط السلطة التاريخية التقليدية العراقية في العام 2003، واستحقاقاتها وتبعاتها، لأن العبور عليها يعني الإصرار على إبقاء العراق مشتعلاً وسط نيران الأزمات، وهو مايجب أن يلتفت إليه الزعماء السياسيين والدينيين والاجتماعيين للمكونات الدينية والمذهبية والقومية في العراق، وأهم هذه الحقائق:

1- إن العودة إلى عراق ما قبل العام 2003، بأيديولوجيته وثقافته وسلوكياته الطائفية العنصرية بات مستحيلاً، وإن حزب البعث وأمثاله من الجماعات الشوفينية الطائفية، أصبح جزءاً من هذا الماضي المؤلم الذي لاعودة إليه إطلاقاً، وإن اجتثاث هذا الفكر العنصري الطائفي ورموزه هو العلاج الطبيعي الفاعل، حاله حال النازية والشوفينية والفاشية والفرانكوية.

2- إن العراق يتألف من ثلاثة مكونات رئيسة: الشيعة (65% من عدد سكان العراق)، السنة العرب (16% من عدد السكان) والسنة الكرد (15% من عدد السكان)، وهي النسب المحسوبة بأدوات علمية، وما يترشح عن عنها من استحقاقات طبيعية، يفرضها الواقع والقانون، على قاعدة العدالة، وليس قاعدة المساواة.

3- إن النخبة السنية العربية لم يعد باستطاعتها أبداً، احتكار السلطة وقرار الدولة، ولم يعد السنة العرب هو المكون المميز الأثير النبيل، وأبناؤه هم عراقيوا الدرجة الأولى من حاملي الجنسية العثمانية، وأن من حقهم حصراً أن يكونوا خلفاء وسلاطين وولاة وملوك ورؤساء جمهورية وقادة، كما لم يعد الشيعة هم المعارضة التقليدية للسلطة العراقية الطائفية منذ منتصف القرن الهجري الأول، ولم يعودوا عجماً وفرساً ومجوساً وهنوداً وغجراً وعملاء وجواسيس، كما كانت تصفهم أدبيات الدولة العراقية، منذ 1921 وحتى 2003، كما لم يعد الكرد متمردين وجيوب ومحطات للسخرية، كما كانت تصفهم الدولة العنصرية السابقة، ولم يعد الشيعة الفيليين والكرد والتركمان والشبك، مواطنين من الدرجة الثالثة، بل بات جميع أبناء الشعب العراقي مواطنون أصلاء، متساوون في الحقوق والواجبات، ولاوجود لمواطن درجة أولى أو ثانية أو ثالثة، وباتت مكونات الشعب العراقي، بأكملها، مشاركِة مشاركةً واقعية في إدارة الدولة والحكومة والسلطة؛ مع الأخذ بالاعتبار استحقاق كل مكون بصورة عادلة في قرار الدولة والحكومة، وفي حجم تشكيله لهوية العراق، وفق نسبته العددية.

4- إن عقيدة الجيش العراقي، لم تعد عقيدة طائفية عنصرية، هدفها حماية السلطة، وضرب مكونات الشعب العراقي، وتنفيذ رغبات السلطة في الاعتداء على دول الجوار، بل باتت عقيدة وطنية، وأن مهمة الجيش باتت حماية الوطن وحدوده، والدولة وسيادتها، وليست سيادة الدكتاتور وأسرته وحزبه.

5- إن المناهج التعليمية، ولاسيما مناهج التاريخ والجغرافيا والتربية الدينية والوطنية، لم تعد تكتب وفق البنية الطائفية العنصرية للسلطة العراقية السابقة، بل وفق آلية التوازن بين التنوعات المذهبية والقومية للسكان، وهو ما ينطبق أيضاً على وسائل إعلام الدولة والحكومة، وعلى المؤسسات الدينية والإفتائية والوقفية التابعة للدولة والحكومة.

    القاعدة الثانية: استبدال الشعارات والمفاهيم والسلوكيات التقليدية المتوارثة الفضفاضة، بالمفاهيم الواقعية التي تنسجم مع حقائق العراق، وفي مقدمتها تنوعه القومي والمذهبي والثقافي، وأول هذه الشعارات؛ شعار الوحدة الوطنية، وضرورة تقريبه من مفهوم التعايش المشترك، لأن شعار الوحدة الوطنية شعار ضبابي وعائم وملغوم، ويحمل تفسيرات متعارضة؛ فالنظام السابق كان يفسِّر الوحدة الوطنية بأنها الوحدة الجغرافية والسياسية القسرية القهرية للمواطنين العراقيين تحت هيمنة السلطة الأحادية الايديولوجيا الشديدة المركزية، وليس الوحدة النفسية والمجتمعية والسياسية في ظل الوطن، وهو شبيه بشعار وحدة الخلافة الذي قتلت الدولة العثمانية تحت لوائه ملايين البشر المنتمين إلى أعراق ومذاهب شتى، والخاضعين لسلطتها العنصرية الطائفية قسراً. وهو ما ظل يحصل في العراق دائماً، حيث قتلت دولة البعث أكثر من مليون ونصف المليون شيعي وكردي عراقي تحت شعار الوحدة الوطنية.

أما مفهوم التعايش الوطني؛ فهو شعار واقعي وينسجم مع حقائق العراق، حتى وإن ترشّح عنه التخفيف من مركزية الحكومة الاتحادية، وتشكيل أقاليم جديدة، أو انفصال إقليم كردستان، أو استحداث ضوابط إدارية في العلاقة بين المحافظات. والهدف من كل ذلك فسح المجال أمام أبناء الجغرافيا الواحدة أو الدين والمذهب والقومية الواحدة أن يقرروا مصيرهم في الوحدة من عدمها، وليس إجبارهم على العيش قهراً في ظل واقع سياسي وثقافي ونفسي لا يريدونه. وهذا هو سلوك الدول الديمقراطية التعددية؛ فهي دول تطبق مفهوم التعايش المشترك بين أبناء المذاهب والأديان والقوميات المتنافرة المتصارعة، والذين يعيشون حالة المواطنة الحقيقية في ظل دولة واحدة، لكنها تترك لهم حق تقرير المصير؛ فيما لو فشلت الدولة في جعلهم يتعايشون بسلام وانسجام.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment