التخندق الطائفي العربي ضد عراق ما بعد 2003

Last Updated: 2024/04/02By

التخندق الطائفي العربي ضد عراق ما بعد 2003

د. علي المؤمن

لقد أطاح سقوط نظام البعث العراقي في العام 2003 بتاريخ طويل من التمييز الطائفي والإقصاء المذهبي والقتل والاعتقال على الهوية، وهو التغيير التاريخي المفصلي الذي عبرنا عنه بـ “صدمة التاريخ”. والحقيقة أن أي تغيير في العراق، يلامس سطح المشكلة، ويعبر على بنية النظام الطائفي القومي للدولة العراقية، يبقى تغييراً مبتوراً ومشوهاً، ويعجز عن حل مشكلة الاستقرار في العراق في مرحلة ما بعد حزب البعث، وهو ما حصل بعد العام 2003؛ فقد تغير حكم البعث ودخل الشيعة والكرد مشاركون في الحكم الى جانب السنة؛ إلّا أن البنية الطائفية للدولة وأدبياتها بقيت قائمة.

وهناك شواهد تاريخية تؤكد احتفاظ الدولة العراقية بعقيدتها الطائفية رغم التغيير في رأس السلطة التنفيذية، فمثلاً لم تتغير سياسات الدولة الطائفية حين أصبح السيد محمد الصدر وصالح جبر وفاضل الجمالي رؤساء للوزراء خلال العهد الملكي، ولم تتغير المناهج ولم يمنح أهل الوسط والجنوب حقوقهم في التعليم بالتساوي مع أشقائهم السنة عندما أصبح وزير المعارف شيعياً، وكذا عندما كان رئيس مجلس الأمة شيعياً، بل سيبقى النظام طائفياً سنياً حتى لو جاء رئيس جمهورية شيعياً، لأن البينة الطائفية القومية مترسّخة بقوة ومقننة في السياسة والجغرافية والاقتصاد والثقافة ووسائل الإعلام والمناهج الدراسية وقوانين الأحوال المدنية، وفي كل زاوية من زوايا المجتمع السياسي الرسمي. كما أن هذه الايديولوجيا كانت مترسِّخة في العقل السياسي العراقي قبل العام 2003، فإذا أصبح رئيس وزراء العراق شيعياً؛ فإنه سيفكر بعقل طائفي سني.

ولذلك؛ فرغم التغيير السياسي الكبير الحاصل؛ إلّا أنّ العقيدة الطائفية ظلت متأصلة في أغلب العقول والسلوكيات، بل وظهرت بشكل فاقع لدى كثير من الشخصيات السنية المشاركة في الحكم، وكأنه يعيش مفاهيم التاريخ الطائفي وخطابه وسلوكياته، ويطبقها عملياً ويجاهر بها في خطابه، وهو يضمر رفض مشاركة الشيعة في قرار الدولة وفي الحكم وفي المؤسسة الدينية الرسمية، لأن الطائفي يعد العراق ملكه الحصري وبوابته الشرقية، وأن الشيعة نزلاء مرفوضون، وهذه القضية أخطر من كونها مجرد مشاعر طائفية أو رغبة عاطفية ولاشعورية في إقصاء الشيعي. ولذلك؛ فإن المشكلة بعد انهيار نظام صدام في العام 2003، لم تعد مع عنوان البعث وفكره وحضور عناصره في الدولة، أو في القاعدة وداعش والجماعات التكفيرية، بل أن المشكلة هي في العقيدة الطائفية المستحكمة في عقول وسلوك تلك الشخصيات، وأغلبها علمانية وغير سلفية وغير بعثية.

وظهرت في العراق أنواع من التحالفات الطائفية الغريبة بعد العام 2003، والتي تضم بقايا نظام البعث، ورموز اجتماعية ودينية، ومسؤولين في الدولة الجديدة، والجماعات التكفيرية، أي أنها خليط قومي علماني، وديني سلفي وحركي وتكفيري وتقليدي، واجتماعي عشائري، ويجمعها قاسم مشترك إيديولوجي، هو رفض الشيعة عقدياً وسياسياً، وهو المشترك ذاته الذي جمع هذه التحالفات بالحكومات والجماعات ووسائل الإعلام الطائفية الإقليمية، ولاسيما السعودية والتركية والقطرية والإماراتية، والمدعومة إسرائيلياً وأمريكياً، والتي أخذت تتحدث بصوت عال بعد العام 2005 عن ما أسمته الخطر الشيعي على عروبة العراق والمنطقة، كما بدأت بالعمل بقوة على مواجهة هذا (الخطر)، عبر وسائل المال والإعلام والمخابرات والسياسة والدبلوماسية والاقتصاد. وظلت أهداف هذه التحالفات المحلية ــ الإقليمية تتمحور حول إحداث فتنة طائفية شاملة واقتتال داخلي، ومحاولات لتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي، وإعادة الزمن الى الوراء؛ ليبقى الشيعي كما كان طيلة 1350 عاما من عمر السلطة العراقية الطائفية.

ولعل أوضح نموذج للخطاب الطائفي بعد التغيير في العراق، هو خطاب القيادي السني الأبرز عدنان الدليمي (رئيس ديوان الوقف السني الأسبق في العراق، ثم رئيس الكتلة السنية الأبرز في البرلمان العراقي حتى العام 2010)؛ إذ ظل معبراً عن خطاب أغلب النخبة الطائفية وناطقاً باسمها؛ فمثلاً؛ في كلمة له أمام مؤتمر نصرة أهل السنة في العراق، المنعقد في اسطنبول في العام 2006، أخذ عدنان الدليمي يستصرخ السنة العرب وغير العرب لنجدة العراق السني وكل بلاد المسلمين من الدخلاء الشيعة الصفويين، بقوله: ((نعم إننا طائفيون.. أنتم تدعون في هذا المؤتمر لنصرة العراق.. أي عراق هذا؟ عراق الشيعة؟.. سيتحول العراق الى شيعي، وسيمتد الأمر ليشمل البلدان المحيطة بالعراق… الى السعودية.. الى الكويت.. الى الأردن.. ناموا؛ إن الحريق سيمتد الى المنطقة، والله إنها خطة منذ أكثر من خمسين سنة لتشييع المنطقة، وإيجاد إمبراطورية فارسية تحت غطاء الشيعة، وتحت غطاء الإسلام، والإسلام بريء منهم))، ثم بدأ بالصراخ وهو يدعوا الى ضرب الشيعة واستذكار هوية بغداد، وكونها سنية: ((بغداد التي ستضيع.. بغداد أبي حنيفة.. بغداد المنصور.. بغداد هارون الرشيد.. بغداد أحمد ابن حنبل، وستصبح بغداد الصفويين.. بغداد البويهيين.. بغداد القرامطة الجدد)).

وفي مقابلة له مع إحدى المجلات الطائفية، قال عدنان الدليمي: ((الشيعة مصممون على التغلغل في جميع البلدان الإسلامية من إندونيسيا الى أعماق أفريقيا، يبذلون في ذلك أموالاً طائلة، وينشرون الكتب التي تسعى الى مذهبهم المنحرف، وينشرون الحسينيات في البلاد السنية، وينشرون مؤسسات ظاهرها خيرية وفي حقيقة أمرها مراكز للتشيع، والحكومات السنية غافلة عن ذلك ومتساهلة، ولا توجد مؤسسات فاعلة لردع هذا التوجه الذي سيقضي على الإسلام الصحيح المتمثل بالمذهب السني المستند على القرآن والسنة وآراء العلماء السنة، ولا ندري الى متى يبقى حكام المسلمين السنة غافلين عن هذا الخطر الذي دهم العراق السني، وإننا لنأسف أشد الأسف لتخلي الدول الإسلامية السنية عن مؤازرة إخواننا في العراق، وهو البوابة الشرقية التي كان من الممكن أن تقف في وجه هذه الهجمة الشيعية الشرسة… رسالتي إلى العالم الإسلامي؛ فلينتبه إلى الخطر الشيعي الذي يداهمه ويساندوا إخوانهم أبناء السنة في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي كل المناطق التي تتعرض إلى الخطر الشيعي، يساندوهم إعلاميا وماديا ومعنويا ويتصلوا بهم من اجل تقويتهم ومن اجل توحيد صفوفهم)).

هذا في الوقت الذي ظل فيه عدنان الدليمي يصول ويجول في بغداد وشمال العراق والمناطق السنية، بكل حرية، وهو يحرض العشائر السنية والجماعات السنية على القتال والصمود المسلح، ويستجلب المسلحين والسلاح من البلدان الخليجية وغيرها، ويتواصل مع قيادات داعش والقاعدة، ومع أجهزة مخابرات جوار العراق، وينسق مع الجماعات المسلحة في سوريا، لتوجيه ضربات مشتركة الى الحكومتين العراقية والسورية.

وكان الحدث الطائفي الأهم في العراق بعد العام 2003، كان ظهور دولة داعش في المناطق الغربية والشمالية السنية في العام 2013، والذي مهد له حدث طائفي مهم آخر هو اعتصامات جماهير الأحزاب والجماعات والعشائر السنية في صلاح الدين والأنبار والموصل وكركوك وديالى، بدءاً من العام 2012، والشعارات الطائفية التي اطلقتها، وتهديدها باحتلال بغداد، ومواجهتها القوات المسلحة العراقية، ومنعها من أداء دورها في ملاحقة تنظيم (داعش) الوهابي وغيره من الجماعات الإرهابية التكفيرية والبعثية المسلحة، التي ظلت تختفي وراء منصات الاعتصام وتتمدد في صحراء الأنبار والموصل وصلاح الدين، تحت عناوين ثوار العشائر وعناوين أخرى؛ الأمر الذي جعل تحركها باتجاه احتلال المناطق السنية سهلاً ومتاحاً، وصولاً الى تأسيس ما عرف بالدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، وعاصمتها مدينة الموصل في شمال العراق.

وكان الوضع الاجتماعي السياسي مهيأ لاحتضان (داعش) أو أية منظمة طائفية مسلحة، بسبب الواقع الطائفي والمعادي للحكومة المركزية في بغداد، والذي خلقته الجماعات القومية العروبية والإسلامية والتكفيرية ورجال الدين التقليديين ومشايخ الطرق الصوفية والأسر ذات الولاءات العثمانية. ورغم التباين الفكري والعقدي والسياسي لهذه الشخصيات والأسر والجماعات؛ إلّا أنها ظلت ترى خيار التمرد على حكومة بغداد هو خيارها الوحيد للتخلص من العراق التعددي ومما تسميه الحكم الشيعي في بغداد، وعودة واقعية الى الجذور. وكانت اجتماعات هذه الجماعات تعقد – غالباً – في إنطاكيا وأنقره واسطنبول. وكانت التحالفات في الموصل وغيرها من المدن السنية، تدخل في إطار حلفين أساسيين متنافسين: التركي ـــ القطري والإماراتي ـــ السعودي، وقد ظل الرهان السعودي على الشخصيات والجماعات ذات الميول الوهابية والسلفية، وعملت على دعمها بكل أشكال الدعم المالي والتسليحي، حتى سيطرت على كثير من مساجد الموصل وجمعياتها ومؤسساتها الدينية، بينما دخل المال القطري لتعزيز النفوذ التركي، الذي كان هو الأقوى.

أما البعثيون في المناطق السنية؛ فكانوا الأكثر حنكة وتجربة وتنظيماً، وظلوا بعد عام 2003 لا يعلنون عن وجودهم وحجمهم، بل يتسترون بعباءة الجماعات والتيارات السياسية العلمانية والإسلامية التي دخلت العملية السياسية، أو قوات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والمخابراتية، أو الطرق الصوفية، ولاسيما النقشبندية، ومعظمهم من جناح عزت الدوري.

هذا الواقع الذي تتجاذبه الولاءات الطائفية؛ كان مهيئاً نفسياً وميدانيا لاستقبال أي نور الدين زنكي جديد أو صلاح الدين أيوبي جديد أو أي جزار طائفي جديد، سواء اعتمر العمامة العثمانية أو (اليشماغ) الوهابي أو الزيتوني البعثي أو الهندام الأفغاني. وكان الأقرب الى الواقع هو خيار الهجوم المسلح من الخارج على الموصل، وتحديداً من صحراء الأنبار، قوامه الأساس تنظيم داعش الوهابي التكفيري، بالنظر لعدم إمكانية أي تيار محلي من السيطرة على الموصل، سواء عبر العمل المسلح أو الحراك الانقلابي المحلي أو العمل السياسي الرسمي. وسبق هجوم (داعش) بعدة أشهر، أي في نهايات العام 2013 وبدايات العام 2014؛ عقد سلسلة اجتماعات مخابراتية وسياسية سرية مكثفة في تركيا والسعودية وقطر والإمارات، لمناقشة أربعة أهداف متداخلة ترتبط بالوضع السوري – اللبناني – العراقي، وتنتهي الى ضرب محور الممانعة ضربة موجعة:

1- زعزعة الوضع في العراق بشكل جدي، من خلال ضرب العملية السياسية، وإثارة حرب أهلية طائفية سنية ـ شيعية، وتفكيك التحالف الوطني الشيعي، والحيلولة دون إعادة انتخاب نوري المالكي لرئاسة الوزراء، وصرف أنظار شيعة العراق عن الوضع السوري، وإجبار المقاتلين المتطوعين العراقيين التابعين لبعض الجماعات الشيعية العراقية؛ للعودة الى العراق؛ بعد أن أصبح وجودهم مؤثراً في تكبيد داعش والنصرة والجيش الحر خسائر موجعة.

2- كبح جماح قوات النظام السوري، التي حققت خلال الأشهر الستة انتصارات ميدانية كبيرة، وأنهت أي احتمال لسقوط نظام بشار الأسد، ومحاولة إحداث تهدئة تكتيكية في الحرب الدائرة، وصولا الى إيقاف إطلاق النار، لإعادة تنظيم صفوف الجماعات المسلحة.

3- عزل حزب الله اللبناني عن الوضع السوري، وعن تشكيلة الحكومة اللبنانية الجديدة، وتفرد الجماعات المعادية للمقاومة بمقدرات الدولة اللبنانية، بهدف نزع سلاح حزب الله، عبر كماشة فكها الأول: ضغوطات سعودية إسرائيلية أمريكية فرنسية، وفكها الثاني: ضغوطات الحكومة اللبنانية الجديدة والجماعات المعادية للمقاومة.

4- محاولة كسب ود إيران عبر الزيارات والزيارات المتبادلة والإغراءات ورسائل التطمين الإقليمية والعالمية، لإقناعها بتخفيف دعمها للحكومة العراقية، وإعادة النظر في موقفها من الوضع في لبنان وتخفيف غلواء حزب الله والسماح بتشكيل الحكومة اللبنانية، والمساعدة في إيقاف إطلاق النار في سوريا وإبقاء الوضع على ما هو عليه؛ لمنع قوات النظام السوري من الاستمرار في تقدمها السريع.

وعلى الرغم من اختلافهم على الملف المصري وملف جماعة الإخوان المسلمين؛ إلّا أن اجتماعات الأنظمة الإقليمية الطائفية، وبدعم أمريكي؛ أفضت الى نتائج مهمة خلال العامين 2012 و2013، كان أبرزها دفع تنظيم داعش للتحرك بقوة في المحافظات الغربية، بالتزامن مع تصاعد الخطاب الطائفي في منصات الاعتصام، وبذل كل الجهود للسيطرة على الموصل في أوائل العام 2014، تسبقها وتتزامن معها عمليات تكتيكية لدخول سامراء وبعقوبة وتكريت وبيجي وجولاء؛ لدفع الحكومة العراقية لسحب احتياطييها العسكري وقواتها من بغداد نحو المنطقة الغربية والموصل؛ ليكون تلويح داعش بضرب بغداد ودخولها واقعياً، و كذلك التهديد بتدمير مراقد الأئمة في سامراء والكاظمية وكربلاء والنجف. ولكن يبقى إن الموصل هي الهدف الإستراتيجي؛ للإبقاء عليها خارج سيطرة الحكومة المركزية، وتحولها الى خاصرة ضعيفة؛ تنطلق منها حرب الاستنزاف ضد الدولة وضد الشيعة؛ وصولاً الى تأسيس الدولة السنية في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وأجزاء من محافظات كركوك وديالى وبغداد (مناطق العرب السنة).

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment