التحديات المشتركة التي توجه البشرية في حاضرها ومستقبلها

Last Updated: 2024/04/02By

التحديات المشتركة التي توجه البشرية في حاضرها ومستقبلها

د. علي المؤمن

إنّ التحديات المشتركة التي ترسم واقع البشرية في حاضرها ومستقبلها، تستهدف جميع سكان هذا الكوكب، ولن تكون أية حضارة أو مجتمع إنساني بمنأى عنها، فتحدي الفقر ـ مثلاً ـ يستهدف الأغنياء أيضاً، وتحدي البطالة لا يتجاوز أصحاب الكارتلات، وتحدي الهوية يهدد صنّاع العولمة أنفسهم، وهكذا التحديات الأُخر؛ لأنّ البشر ـ كما ذكرنا ـ سيجدون أنفسهم يعيشون في بيت عالمي واحد. وخيار المستقبل هذا لن ينفع في حفظ توازنه وتعادله غير تكافؤ الفرص والتكافل الإنساني، وإلّا فإنّ أية محاولة لتوزيع سكان البيت الواحد بين مستكبرين ومستضعفين، أسياد وعبيد، أصحاب هوية وذوي هوية مسحوقة، مرضى وأصحّاء، فقراء وأثرياء، متقدمين ومتخلفين، سيعني الكارثة الشاملة، وسيجد المستكبرون والأصحّاء والأثرياء والمتقدمون أنفسهم في قلب التحديات والأزمات؛ لأنّ رأس المال المعولم والثقافة المعولمة والسياسة المعولمة وأسلحة التدمير الشامل المعولمة، ستؤدي بمرور الزمن وبتصاعد حدة معدلات العولمة، إلى انفجار الألغام التي زرعتها في طريق الآخرين؛ لتلحق أفدح الأضرار بصنّاع العولمة.

ومن منطلق القرابة الجغرافية وزوال الجدران في البيت العالمي الواحد، ستكشف أوراق الجميع، وحينها ستزداد ردود أفعال الفقراء والمستضعفين والباحثين عن الهوية والمسحوقين عقائدياً والمتخلفين تكنولوجياً، وسيكون بمتناول أيديهم القيام بأي ردود فعل ممكنة ضد صنّاع هذا الواقع، بدافع إحداث التوازن والتعادل، أو الحصول على الحق أو الانتقام، وخلال ذلك سيستخدمون أسلحة العولمة ذاتها.

والحقيقة أنّ قائمة التحديات المشتركة تطول، ولعلّها لا تستثني أي مجال من مجالات الحياة، ونركِّز هنا على الأهم منها:

1 ـ تحدي البحث عن الهوية، فإفرازات التقارب الجغرافي وضغوط العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية، وكل ألوان الغزو الثقافي والحضاري والسياسي والعسكري، التي تعدّ بمجملها تجليات ظاهرة الاستعمار ما بعد الحديث، وتهدف إلى ذوبان الآخر في الأنا، لن تتمكن من فرض فضاء ثقافي أو حضاري موحد على العالم، ولن تتمكن من محو هويات الحضارات والمجتمعات. صحيح أنّ قوانين الدورة التاريخية أو السنن الإلهية، فرضت على بعض المجتمعات البشرية أن تقبع في الصفوف الحضارية الخلفية، ولكن نظم الاستعمار ما بعد الحديث ستحفِّز الشعوب والأُمم للبحث عن هويتها الحضارية والدينية والثقافية المستقلة. وقد يكون من الطبيعي أن تؤدي ضغوط البحث عن الهوية إلى استحالة الاختلاف الثقافي والديني والتباين السياسي والاقتصادي، صراعاً إرهابياً تستخدم فيه كل أسلحة الدمار، ولا سيما إذا تصورنا أنّ سواتر الجميع وأظهرهم ستكون مكشوفة؛ لأنهم يعيشون في بيت واحد.

ويبدو أنّ الباحث الأمريكي “هانتيغتون” استند إلى بعض هذه الحقائق العالمية ـ من جملة ما استند إليه ـ ليخرج بنتيجة حتمية الصراع أو الصدام، ولا سيما من خلال تأكيده التمايزات التاريخية والثقافية والدينية بين الحضارات، إلى جانب تصاعد حدة الاحتكاكات بين الشعوب والوجودات الحضارية بعد أن تصاغر العالم، وكذلك التحول في النظم التقليدية للدولة ومجتمعها القومي.

ولعل من الصعب رفض هذه الحقائق أو العبور فوقها. ولكن الحتمية التي خرج بها هانتغتون ليست هي الخيار المستقبلي الوحيد للبشرية، بل هو الخيار الأمريكي لتحقيق مشروعها العالمي الذي أطلقت عليه «النظام العالمي الجديد» الذي سيتحكم بالوضع العالمي خلال المئة عام القادمة، في حين يمتلك العالم الذي يتحسس واقعية الشراكة خياراً آخر هو خيار الحوار والتفاهم لتجنّب ظاهرة صراع الهوية المدمِّر.

2 ـ التناقضات الإقليمية التي تفرزها اختلافات الجغرافية السياسية، ووجود الأقليات العرقية والدينية، وتباين أشكال الأنظمة السياسية، والألوان السياسية والفكرية المتصارعة التي تضيق بالواقع الواحد الذي تعيشه، إضافة إلى استمرار بعض ألوان الاستكبار الاستيطاني (الكيان الصهيوني نموذجاً)، وهي بمجملها ألغام متفجرة دائماً.

3 ـ ازدياد حدة التناقض في المصالح بين أقوياء العالم الذين يمتلكون رؤوس الأموال والتكنولوجيا المتطورة، ممّا يهدّد بأفجع الكوارث خلال مرحلة المخاض التي سيشهدها النظام العالمي، والتي ستسدل الستار على المرحلة الانتقالية التي استفردت خلالها الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم، إذ ستحاول أمريكا بكل الوسائل المحافظة على موقعها، فيما ستعمل القوى الأُخر على أن يكون لها مواقع تنافسية في النظام العالمي. ويبدو أنّ المثلث الروسي ـ الصيني ـ الإيراني سيكون مثلث التوازن أو التعادل في النظام العالمي، وإن كان من الصعب معيارياً تحوّله إلى قطب دولي موحد.

4 ـ أزمات الطاقة والمياه والموارد الطبيعية، وتحديات الفقر والجوع والمرض والبطالة والتلوث البيئي والانفجار السكاني، هذه التحديات المتراكمة ستزيد من الفواصل الطبقية والنفسية بين الأُمم، وإن تقاربوا مكانياً، ومن شأن كل واحد منها تفجير مختلف ألوان الصراع في العالم. فمثلاً تضاعف عدد السكان العالم إلى (عشرة مليارات نسمة في عام 2025 م) سيؤدي إلى أزمات حادة في المواد الغذائية، وتزايد الطلب على السلع الاستهلاكية، ويتبعه نزوع الدول الضعيفة إلى تصدير المزيد من ثرواتها الطبيعية (النفط والمعادن خاصة) لسد حاجة شعوبها، الأمر الذي ينتج عنه أزمة أُخرى في الطاقة بعد أن تنفد احتياطات النفط بالتدريج، وسيكون الحديث عن الطاقة المائية البديلة غير مجد؛ لأنّ أزمة المياه ستتفاقم وستؤدي إلى صراعات إقليمية بسبب شح المياه. ويرافق ذلك بالطبع شح في المحاصيل الزراعية؛ تبعاً للمشكلات التي يعاني منها الريف، ولا شك أنّ اجتذاب المدن للمزيد من السكان سيؤدي إلى عجز واضح في قابليتها على امتصاص حاجات السكان، ولا سيما على صعيد الغذاء والسكن والدواء والعمل والتعليم.

وتقدِّر منظمة العمل الدولية أنّ العالم سيحتاج إلى توفير ما يقرب من ملياري فرصة عمل حتى عام 2030م تقريباً، بمعدل (5) مليون وظيفة سنوياً. وسينتج عن ذلك أزمات اجتماعية حادة أُخر، كالجريمة بكل أشكالها، والفساد الأخلاقي، وأعمال العنف وغيرها. فضلاً عن تصاعد معدلات الهجرة من الدول الفقيرة أو النامية إلى الدول الغنية، مما يضاعف من مشكلات المجتمعات الهجينة وذات التعددية الثقافية غير المنسجمة.

وستتسبب هذه الحالة في نقمة الجميع؛ فالسكان الأصليون (دول أُوروبا الغربية والشمالية مثلاً) قد يتحولون ـ بتضاؤل معدلات النمو السكاني لديهم وازدياد الهجرة إلى بلدانهم ـ إلى أقلية بمرور الزمن، وسيؤدي ذلك إلى نقمتهم وإلى بروز حالات خطيرة من العداء للأجانب، سيعزز خطورتها نزوع المهاجرين نحو التكتل والمحافظة على الهوية، وإن كان نزوعاً شكلياً وبدافع التعصب ورد الفعل فقط.

ولنتصور حال بلد مهم وذي حضارة عريقة كالهند، ففي عام 2050 سيصل عدد سكان الهند إلى قرابة ملياري إنسان، فكيف سيمكن تلبية حاجة هؤلاء من الغذاء والسكن واللباس والدواء والعمل والتعليم وغيرها؟ لا شك أنّ نصفهم ـ كحد أدنى ـ وغيرهم من شعوب العالم المستضعفة، سيتحولون إلى جيوش كبرى من المعوقين مالياً وغذائياً وصحيّاً وتعليمياً، وسيكونون العلامة الفارقة التي ستميِّز مستقبل العالم المحكوم بنظم العولمة، والذي اختار طريق القطيعة والصدام!

5 ـ تحدي التخلف والجهل، وهو تحدٍّ لا يقتصر ميدانه على الفقراء وغير المتعلمين، فالتقدم التكنولوجي والعلمي الذي لا تنظِّم حركته الضوابط الأخلاقية والقيم المعنوية، سيفرز مجتمعاً متخلفاً وجاهلاً من نوع خاص، أي مجتمعاً غارقاً في التخلف الأخلاقي والجهل القيمي. كما أنّ المجتمعات المتخلفة تكنولوجياً وعلمياً ستعيش واقعاً مأساوياً آخر، وإن حاولت التشبث بالأخلاق والقيم المعنوية. وسيكون لكلا المجتمعين تحلله وفساده وجريمته، إلى جانب التناقض الخطير بين هذين النوعين من المجتمعات، ولا سيما التي تعيش فضاءً واحداً.

هذه التحديات التي ستطبع مستقبل العالم هي نذر الكارثة. وليس من المبالغة أن نقول إنّ آلية التفاهم والحوار الحضاري المتكافئ هي الكفيلة بحل كثير من حالات التمايز والاختلاف والتناقض والصراع بين المجتمعات البشرية.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment