التجديد في الفكر الإسلامي ومعالم المرونة في التشريع
التجديد في الفكر الإسلامي ومعالم المرونة في التشريع
دراسة مشتركة بقلم: الشيخ محمد علي التسخيري وعلي المؤمن
الحديث عن أهمية إعادة النظر المستمرة في مضامين الفكر الإسلامي من قبل أصحاب الفكر والاختصاص بات من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل. وحسبنا أنّ الواقع المتغير، والحوادث المستجدة، وسرعة التطور التي نعيشها بشكل يومي، تجعلنا في مواجهة دائمة ومباشرة مع ضرورة التجديد في الفكر الإسلامي. لكن، هذا لا يعني أنّ الضرورة تبيح لنا فتح الباب على مصراعيه أمام كل دعوة للتجديد، أو كل منهج يهدف إلى التجديد، بل على العكس، فإنّ تزايد تلك الأهمية تتناسب طردياً مع تزايد الحاجة إلى ضبط عملية التجديد وتقنينها بالطريقة التي تجعل الاجتهاد أداة لإخضاع الواقع للشريعة، وحينها لا يكون التجديد هدفاً بذاته، بل وسيلة لبلوغ الغاية التي يحقق الدين من خلالها مقاصده وأهدافه.
إنّ عملية التجديد التي نقصدها تتمثل في إيجاد صيغ فكرية جديدة تعتمد المصادر الإسلامية المقدّسة، سواء كانت هذه الصيغ جديدة في موضوعاتها أو أنّها معالجات لموضوعات قديمة، أو أنّها إعادة لتنظيم أفكار موروثة. والمهم هو أن تكون هذه الصيغ قادرة على الإجابة عن التساؤلات الجديدة، وقادرة أيضاً على تلبية الحاجات المتغيرة التي تفرضها تحولات الزمان والمكان.
وعلى هذا الأساس فإنّ الاجتهاد لصيق بعملية التجديد، فهو أداتها والمولّد الذي ينتج مواد التجديد. وبرغم أنّ الاجتهاد يعني اصطلاحاً ـ على وفق الفهم الموروث ـ القابلية على استنباط الحكم الشرعي من مصادر التشريع الإسلامي، إلّا أنّ تعميمه ليشمل كل مجالات الحياة، أو بالأحرى كل مجالات الفكر الإسلامي التي تتدخل في كل زوايا الحياة، سيجعل الاجتهاد منسجماً مع أهداف الشريعة نفسها، والتي هي قانون الحياة.
إذن، فالاجتهاد هو أداة التجديد في فقه الأفراد، وأداة التجديد في فقه المجتمع، وفي الفكر الاقتصادي والفكر السياسي والفكر الاجتماعي وغيرها، فضلاً عن قضايا علم الكلام، وأدوات الاستنباط وآليات فهم المصادر الإسلامية المقدّسة، فهذه كلها تحتاج إلى الاجتهاد للتجديد. وهذا ما يجعل عملية التجديد ضرورية وخطيرة في الوقت نفسه. وتكمن خطورتها في حساسيتها البالغة وآلياتها الدقيقة وطريقها الصعب؛ لأنّ أيّ تهاون أو انحراف فيها ـ لا قدّر الله ـ سيؤدي إلى نتائج كارثية لا تتوقف آثارها على المجدد أو المجتهد أو المفكر وحده، بل تتعداه إلى الأُمّة بأكملها أو إلى فصيل وشريحة منها. ولا نبالغ إذا قلنا بأنّ المفكر داعية التجديد يمشي على حدّ السيف خلال عمله، وبالتالي فأيّ خطأ سينجم عنه منظومة كاملة من الأخطاء.
وتنطلق عملية التجديد من قاعدة المرونة أو عنصر المرونة في الإسلام، فعنصر المرونة هذا هو الذي أعطى للاجتهاد شرعيته، وخلق منه أداة للتجديد في الفكر الإسلامي. ومن هنا ففهم عملية التجديد تبدأ من فهم عناصر المرونة في الشريعة الإسلامية ومظاهرها وتطبيقاتها. وهو ما سنحيله إلى محاور البحث.
التمييز بين التجديد في الفكر الإسلامي وعنصر المرونة في الإسلام يمثل مدخلاً إلى حقائق التجديد والتعرّف عليها؛ لاكتشاف مظاهر المرونة وتطبيقاتها. ويتم هذا التمييز عبر أساسين:
الأول: إنّ الفكر هو تصور مستقى من الإسلام، أي أنّه نتاج فهم المفكر للمصادر الإسلاميـة المقدّسة عـبر الأدوات الشرعية للفهم. وهذا الفهم ـ الذي يبذل فيه المفكـر كل جهوده ليكون النتـاج الفكري أكثر قرباً من مراد الشارع المقدّس ـ له علاقة أيضاً بطبيعة فهم المفكر للواقع.
ومن هنا، فإنّ الفكر المنتج يتأثر بثقافة المفكر ومعرفته بالعلوم ذات المدخلية بموضوع الفكر، فضلاً عن بيئة المفكر، واستجابته لعوامل الاختلاف ونوعيته، وإحاطته بجوانب الموضوع، وهذه العوامل متغيرة من مفكر لآخر، الأمر الذي يؤدي إلى بروز نوع من الاختلاف بين النتاجات الفكرية.
لذا، فإنّ عملية الاستنباط هذه أو الفهم هي الحيز البشري في الفكر الإسلامي. وبالتالي، فالجديد في الفكر يتأثر بمجمل هذه الحقائق؛ لأنّه غاية المفكر التي يستخدم ـ من أجل الوصول إليها ـ فهمه للأُصول المقدّسة وللواقع أيضاً، وهو الذي يعبّر عنه بالاجتهاد.
أمّا الإسلام فهو نظام شامل ومتكامل، وعبر عن الثوابت التي لا تقبل التجديد بذاتها. وللإسلام أساليب ثابتة في التعامل مع الجانب الثابت في الحياة الإنسانية، وله أيضاً أساليب مرنة في التعامل مع الجانب المتغير، أي أنّ مرونة الإسلام وشريعته السمحاء تقتصر على معالجة المتغيرات، التي تمثل المساحة التي تتحرك فيها عملية التجديد.
الثاني: إنّ مرونة الشريعة تخلق مساحة مفتوحة من المتغيرات، وهي مساحة مشروعة يتدخل فيها الاجتهاد أو تصورات المفكر، والعوامل المتغيرة في شخصيته وفي فهمه، والتي يعمل المفكر في إطارها على تنظيم الجوانب التقنينية (التشريعية) والتنفيذية للحياة، بهدف إخضاع الحياة للشريعة. ومن هنا، فإنّ البعد المرن في الفكر الإسلامي ومساحاته يتسع كلما ازدادت متغيرات العصر وضغوطاته وتحدّياته.
لا تعني المرونة التنازل المبدئي أو الميوعة التنظيمية، فإنّ كلّاً منهما يتنافى مع عقائدية المبدأ المرن، وواقعيته العملية؛ ذلك أنّ العقائدية والواقعية توجبان ثبات الأُسس العقائدية والمفاهيم التصورية، وثبات النظم والبناء العلوي الذي يقوم على أساس من ذلك التصور الرصين. فالمرونة ـ إذاً ـ تعني التكتيك والتدريج الواقعي الذي يلحظ ضغوط الواقع، ويستهدف تعميق التصور الأصيل، والوصول إلى تطبيق الصورة التنظيمية المثلى، كما تعني قدرة النظام على استيعاب التحولات الزمانية والمكانية والتعقيدات الاجتماعية كلها، ووضع العلاج الواقعي لها في إطار الأُطروحة العامة للتنظيم. وبالتالي، فالمرونة هي اتخاذ موقف مؤقت يتغير بتغير الحالة بهدف المحافظة على الموقف العام.
والعقيدة لا تخضع لعامل المرونة، فهي الثابت ـ بالمطلق ـ الذي لا يخضع للمساومة تحت ضغط الواقع. في حين أنّ التشريع وأساليب التطبيق والتبليغ فيهما جوانب متغيرة، وبذلك فإنّ لعنصر المرونة مدخلية في صياغتهما ونظمها. وهنا يكمن سر خلود الإسلام وبقائه وقابليته على استيعاب كل ألوان التطور والتحدي. وتتمثل أهم مظاهر المرونة في الشريعة الإسلامية بما يلي:
1 ـ مقاصد الشريعة وقواعدها الفرعية، وهي ـ كما يقول علماء أُصول الفقه ـ على نوعين: مقاصد عامة، وترتبط بالغايات العامة للشريعة، والتي من شأن أحكامها الكلية تحقيق مصالح الأُمّة. ومقاصد خاصة، فهي ترتبط بغايات باب محدد من التشريعات التي تحقق مصلحة معينة من مصالح الناس. والمقاصد الخاصة فيها أيضاً جزئية ترتبط بحكم شرعي معين. وقد اختلف الفقهاء والأُصوليون في تحديد أنواع المقاصد العامة للشريعة، ولكنهم اتفقوا على خطوط عامة تدخل في إطار تحكيم العدالة وتحكيم الأخوة وحفظ الدين وحفظ النفس والعرض وحفظ النسل وحفظ المال وحفظ العقل وغيرها. وبما أنّ قضية المقاصد ترتبط بتحقيق المصالح ودرء المفاسد، فإنّ الخشية من الوقوع في ملابسات الظنون الفردية التي تتجاذب الأفراد، تجعلنا نحيل هذه القضية في المجالات الفردية إلى قطع المجتهد فقط، أمّا بالنسبة للمجال الاجتماعي أو أمر الأُمّة فتحال إلى ولي أمر الأُمّة الشرعي؛ لتكون جزءاً من اختصاصاته في عملية التقنين، وهي بالتالي مساحة مرنة في الشريعة ترتبط باجتهاد ولي الأمر وتشخيصه المصلحة التي تحقق مقصد الشريعة كما سيأتي.
2 ـ الأحكام الشرعية التي تحدد موضوعاتها الأعراف وأهل الخبرة، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بتأثير الزمان والمكان في الاجتهاد ونوعية التأثير هذه لها مدخلية في موضوع المرونة؛ لأنّ تأثير الزمان والمكان في موضوع الحكم الشرعي هو الذي يحدد مضمون الحكم الشرعي وشكله، ومن مظاهر ذلك اختلاف مصاديق المفاهيم من مكان لآخر، كطبيعة الإسراف والغنى والاحترام وإعداد القوة وغيرها. كما أنّ متطلبات الزمان والمكان قد تتطلب ـ أحياناً ـ تعطيل حكم ما أو نظام ما لفترة معينة نتيجة التزاحم بين ضرورة تطبيق الحكم والآثار السيئة التي قد تنجم عن التطبيق في ظل ظروف معينة قاهرة. وإذا كان الحكم يرتبط بعمل الأُمّة فلا بدّ من إيكال تشخيص التزاحم وتقديم الأهم لولي الأمر أيضاً.
3 ـ فتح باب الاجتهاد في مجال استنباط الأحكام الشرعية، وهي المساحة الأكثر مرونة في الشريعة نفسها، أي أنّ عملية الاجتهاد عملية بالغة الدقة وبحاجة إلى نوع متميز من التخصص الذي لا يستطيع أيّ مكلف بلوغه، بل ولا يستطيع المجتهد نفسه ممارسته برأيه واستحسانه. فالمجتهد إذا لم يعثر على دليل من مصادر التشريع، فإنّه يرجع إلى الأُصول العملية في إطار منهجية لصيقة بالشريعة. ومثال ذلك المسائل المستحدثة والجوانب التنظيمية الجديدة، سواء على مستوى فقه الأفراد أو فقه المجتمع، ككثير من قضايا العلوم التطبيقية والقضايا الداخلة في الأُمور الحسبية، كنظم المرور، والتسعير، والتعليم، وقضايا الإعلام والاتصالات، والفنون والآداب وغيرها.
والحقيقة أنّ النصوص التي تركتها مصادر التشريع (تحديداً القرآن الكريم والسنة الشريفة) تتناول قضايا الواقع المرتبط بفترة الصدور، وتتناول أيضاً الخطوط العامة للنظم الإسلامية، إضافة إلى بعض الأحكام التي تستمر موضوعاتها مع الزمان والمكان. والحال إنّ كل يوم يمر على البشرية يحمل معه قضايا وموضوعات جديدة، لا تعجز الشريعة مطلقاً عن تحديد أحكامها، وذلك من خلال نافذة الاجتهاد، هذه المكرمة العلمية التي منحتها الشريعة للأُمّة (من خلال مجتهديها)؛ لكي تبقى قادرة على إخضاع واقعها لأحكام الدين الحنيف. بالطبع فإنّ موضوع الاجتهاد يشتمل على تحديد دور العقل في عملية الاستنباط، كإدراك المصالح العامة أو إدراك التلازم بين أحكامه وأحكام الشرع.
ومن البديهي أن يرفض الشرع المقدّس ـ خلال ممارسة عملية الاجتهاد ـ القواعد الظنية التي لم يقم على اعتبارها دليل قطعي، بل يحدد الاجتهاد في إطار القواعد التي قام على اعتبارها دليل قطعي؛ لأنّ الشارع لا يسمح للفكر البشري المحض أن يضيف من عندياته للإسلام. وهذا الأمر دليل على دقة عملية الاجتهاد، وكونها لا تترك للمجتهد اختراع منهجية أو قواعد أُصول غريبة عن جنس الشريعة كيفما شاء، هذا فضلاً عن غير المجتهد، فذلك من باب أولى بأن لا يتدخل في هذه الأُمور التي ليست من اختصاصه.
4 ـ تشريع الأحكام (الشرعية) الثانوية في الحالات الطارئة. فالحكم الشرعي ـ لاعتبارات مختلفة ـ ينقسم إلى حكم أوّلي، وحكم ثانوي، وحكم ولائي. وما يهمنا هنا هو الحكم الثانوي، ويمكن أن نعرفه بأنّه الحكم المجعول للموضوع بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير حكمه الأوّلي. وهذه الحالات الطارئة هي من قبيل: (الضرر)، (العسر والحرج)، (العجز)، (الإكراه)، (الخوف)، (المرض)، (تزاحم الحكم عند تنفيذه مع حكم أهم منه)، (وقوع الحكم مقدمة لحكم آخر)، إضافة إلى تحول الأحكام الوجوبية الكفائية إلى تعيينية إذا انحصرت بشخص واحد.
ومن هنا، فالحكم الثانوي يعبر عن مرونة تشريعية؛ لأنّ المرونة هنا تعني الاستجابة للحالة الضاغطة بمقدار ما تحمله من ضغط، والحالة الضاغطة هنا ليست دائمة، بل إنّها استثنائية. فمثلاً في حالة (الاضطرار) نستدل بالآية الكريمة: {… فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}([1]) في باب تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها. وكذا في حالة (الحرج) فإنّ الآية الكريمة تقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}([2]) وغيرها. ولا بدّ أن نؤكد هنا على أنّ الأحكام الثانوية تختلف عن الأحكام الولائية (أحكام ولي الأمر)؛ لأنّ الأحكام الثانوية هي أحكام شرعية وضعت للعناوين الطارئة، وتنحصر عناوينها في ما ذكر في القرآن الكريم والسنة الشريفة، فهي ترتكز عليها، بينما ترتكز الأحكام الولائية على المصلحة العامة ومتطلبات الوضع العام للمجتمع، ويصدرها ولي الأمر من منطلق صلاحياته، وهو الذي يحددها، بينما يستطيع الفرد تحديد الأحكام الثانوية في إطار الضوابط والشروط المنصوص عليها.
5 ـ الساحة التي ينفذ فيها حكم ولي الأمر، أو ما يصطلح عليه فقهياً بـ (الأحكام الولائية) أو (الحكومية) أو (السلطانية)، وهي مساحة من الأحكام خاصة بولي الأمر الشرعي، أي الذي تولى أمر المسلمين في إطار ضوابط الشريعة، ومنها قدرته على استثمار هذه المساحة من الأحكام الشرعية، وهي ترادف القدرة على الاستنباط. ونعرِّف الحكم الولائي بأنّه الاعتبار الصادر من الحاكم الشرعي بمقتضى صلاحياته الشرعية، والمتعلق بأفعال العباد، وهو يشتمل على الأحكام التكليفية والوضعية، وهذه الأحكام لا تطلق لكل مجتهد، فذلك ما يؤدي إلى تعدد الإرادات الاجتهادية، وبالتالي تفتت وحدة الأُمّة وتدمير كيانها، وهو ما يتناقض مع مقاصد الشريعة وروحها وغايتها، بل إنّها تنحصر في الولي الذي حددت الشريعة مباني ولايته، أي الولي الحاكم.
ومن هنا، فالأحكام الولائية تختلف عن الأحكام الأوّلية والثانوية التي يحددها جميع الفقهاء، شريطة ألّا يكون فيها تقاطع مع الأحكام الولائية، كما أنّها محددة بموضوعات معينة هي ساحة المباحات في الشريعة وتشمل أساليب تطبيق الشريعة الإسلامية كأساليب تطبيق النظام المالي والاقتصادي أو أساليب تطبيق مبدأ الشورى. وتدخل الأحكام القضائية في هذا الباب وباختصار فإنّ ولي الأمر يصدر الأحكام الولائية في إطار الكليات الشرعية ومقاصد الشريعة، وليس له في هذا المجال ـ كما يقول الإمام الخميني ـ أن يستبدّ بالأمر، بل عليه أن يستشير ذوي الخبرة والاختصاص، ثم ينتهي إلى الحكم الشرعي في ضوء:
1 ـ مصلحة الأُمّة، وهنا تسمح الشريعة لولي الأمر بالنظر في المصالح وتحديدها عبر استشارة المتخصصين.
2 ـ الأضوية الكاشفة ـ كما يعبر الإمام محمد باقر الصدر ـ، وهي التي أعطته إياها الشريعة ليسلطها على الواقع ويشخص الحكم المطلوب، ومن هذه الأضوية الأحكام الولائية التي أصدرها الرسول العظيم بصفته ولياً للأمر، وهذا باب واسع لا نستطيع تفصيله هنا.
3 ـ الأوّليات، وهي التي يواجه بها المساحة التي تتزاحم فيها الأحكام فيقدم الأهم على المهم، أو في إطار الاحتياط لقضية معينة، فيصدر حكماً يسبق فيه وقوعها أو مضاعفاتها، كما هو الحال في مجال سد الذرائع التي يظن أنّها تؤدي إلى المفسدة، أمّا الذرائع القطعية الأداء، فهي محرمة بالعنوان الثانوي الذي يشخصه المكلف نفسه، ولا تحتاج لحكم ولي الأمر.
وهنا لا بدّ أن أوضح نقطة التقاء مهمة بين المدرستين الفقهيتين الكبريين، مدرسة أهل البيت( ومدرسة أهل السنة، وتتمثل في سماح مدرسة أهل السنة لولي الأمر باستخدام قواعد المصالح المرسلة وسد الذرائع وغيرها، وهي القواعد التي لا يسمح الفقه الإمامي باستخدامها في عملية الاجتهاد بالنسبة لمجمل الفقهاء. فعلى مستوى التطبيق فإنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية وضعت أعلى مجلس استشاري في الدولة هو (مجمع تشخيص المصلحة) أي اكتشاف مصلحة الأُمّة وتحديدها، ثم تقديم القرار لولي الأمر بعد دراسة دقيقة، ثم يقوم ولي الأمر بإصدار الحكم الشرعي المناسب. ونرى أنّ هذا المجمع يبتّ في الخلاف ـ على مستوى التقنين ـ بين مجلس الشورى ومجلس حماية الدستور، إذ يتخذ القرار بتحديد القانون المناسب الذي ينظر فيه لمصلحة الأُمّة والدولة.
منافذ الفكر البشري إلى المساحة المشروعة
لا شك أنّ هناك مساحات في الفكر الإسلامي لها علاقة بالفهم البشري ومدارك الإنسان، وطبيعة نظرية للواقع، ورؤية لمنهجية الإنتاج الفكري، وهي المساحات التي يمكن أن نعدها بشرية، وهذه المساحات تقتصر على المتغيرات، أي المساحات المتغيرة في الفكر الإسلامي، ولا تتمدد إلى الثوابت؛ لأنّ هذه الثوابت مقدّسة وهي الدين بعينه. ويمكن تحديد منافذ الفكر البشري إلى الفكر الإسلامي في المجالات التالية:
1 ـ فهم مقاصد الشريعة، العامة والخاصة أو الجزئية، فهذا الفهم متغير من مفكر لآخر، وهنا قد تختلف النتائج التي يخرج بها المفكرون والفقهاء بالنسبة لواقعة واحدة، مما يشير إلى بشرية هذه المساحة. وبالطبع يتأثر هذا الفهم بعوامل متغيرة بشرية أيضاً، كامتلاك ثقافة الواقع والعصر، وعمق النظرة وبعدها وشموليتها وغيرها.
2 ـ فهم المصاديق، أي تطبيق الكليات على جزئياتها وتطبيق المفاهيم على مصاديقها. وهكذا تتدخل ذهنية الفقيه والمفكر ونوعية التطبيق في اكتشاف المصاديق والجزئيات. وتدخل في هذا الإطار أيضاً محاولات المجتهد للتخريج الفقهي للعقود الجديدة، كالتأمين مثلاً. وهذا الفهم والتخريج يخضعان لعنوان بشرية الفكر.
3 ـ سير عملية الاستدلال لدى المجتهدين وترتيب أدلتهم.
4 ـ تحديد موارد الأحكام الثانوية، والظروف المتغيرات التي ينطلق منها في تجاوز الحكم الأوّلي إلى الحكم الثانوي، وهي مساحة دقيقة ومحدودة، ولكنها ـ في كل الأحوال ـ تتدخل فيها طبيعة استيعاب المجتهد للموضوع وتشخيصه له؛ وبالتالي، فهي مساحة متغيرة.
5 ـ تحديد ولي الأمر لمصلحة الأُمّة في قضية من القضايا، ونوعية تسليطه الأضوية الكاشفة على الموضوعات والأحكام، ونظريته لتحديد الأهم والمهم في الأحكام أو في موارد الاحتياط، وهذه المساحات خاضعة هي الأُخرى لطريقة تفكير ولي الأمر واستيعابه للواقع ودقته في تصريف الأُمور وفي اختيار الرأي الصائب بعد استثمار مبدأ الشورى.
وفي مجمل المساحات المذكورة تدخل عملية التأصيل و(الأسلمة) والتجديد والاكتشاف وهي تهدف بأجمعها إلى اختيار الأُسلوب الأمثل لتطبيق النظم الإسلامية التي تتضمنها الشريعة، وهو ما يمكن أن نسميه بالتقنين أو التشريع ـ مجازاً ـ وهي مساحات تتسع للفكر البشري ليحتك فيها بحرية عملية ترشدها الضوابط الشرعية ومقاصد الشريعة العامة.
ونشير هنا إلى أنّ عملية التقنين لا تحول الحكم الشرعي إلى قانون بشري، وإن كان للفكر البشري دور في صياغته وتشكيله، بل إنّ عملية التقنين تتمثل في اكتشاف الحكم الشرعي لموضوع معين أو تحديد الأُسلوب الشرعي لتطبيق هذا الحكم، وإذا تدخل الفكر البشري في صياغة الأُسلوب أي تحويل الحكم الشرعي إلى قانون ـ وفقاً للمفهوم الوضعي للقانون ـ فلا يعني هذا أنّ القانون ألغى الشريعة وأنّه أنزلها من السماء إلى الأرض. وبالتالي، فهي تكييف منضبط لمنهجية التقنين بهدف خدمة الشريعة، وكذلك للواقع، بهدف إخضاعه للشريعة.
إنّ وجود القواعد كالتي تضبط عملية التجديد تشكل ضرورة لا يمكن لعملية التجديد أن تتم بدونها، وهي في الواقع قواعد تفرضها الشريعة نفسها من خلال النصوص والثوابت الشرعية ومن خلال ما يحكم به العقل من أُسس وأُصول يتفق عليها العقلاء؛ وعليه، فلنا هنا ملاحظات:
أولاً: إنّ التجديد ليس هدفاً بذاته، أي أنّ التجديد ليس من أجل التجديد، بل هو وسيلة تهدف إلى تلبية حاجات المجتمع الجديدة وملاحقة متغيرات العصر والإجابة عن التساؤلات الشرعية. بالتالي، صياغة المشروع الإسلامي النهضوي الذي يستوعب متطلبات الحياة الإنسانية في حاضرها ومستقبلها، وتعبيد طريقها للوصول إلى الآخرة.
أي أنّ التجديد ـ بكلمة واحدة ـ هو معلول الحاجات العملية، وليس مجرد حركة نظرية منفصلة عن الواقع وعن ضوابط الشريعة.
ثانياً: إنّ دواعي التجديد تتعدد بتعدد الحاجة إليه، فالتجديد الهادف هو سنة الله في خلقه، وتؤكده النصوص المقدّسة، مثل: «إنّ الله يبعث لهذه الاُمّة في رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها>([3]). ثم إنّ التجديد يكشف حقيقة أدعياء التجديد الذين ينتسبون إلى تيارات تحريفية وتوفيقية وتغريبية، بيد أنّهم يعملون على مسخ الشريعة بحجة الاجتهاد والتجديد.
ثالثاً: إنّ التجديد يقوم به أصحاب الاختصاص فقط، وهو مطلب شرعي وعقلي {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}([4])، و{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}([5])، وأصحاب الاختصاص هؤلاء لهم مواصفات محددة شأن كل الاختصاصات الأُخر، فإذا احترمنا تخصص الطبيب والمهندس والكيميائي والفلكي وعالم الاجتماع والصحافي، فلا بدّ أن نحترم تخصص المعني بعملية التجديد، وهذا التخصص يعني القدرة على الاستنباط من مصادر التشريع وعلى محاكمة الفكر وتمحيصه، أي أنّ المعني بالتجديد هو المجتهد المفكر الذي استوعب علوم القرآن تماماً، وفهم الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه وأسباب النزول، إضافة إلى علوم الحديث والرجال، وعلوم العربية، وعلم الكلام والعقيدة، وعلم الفقه وقواعده، وعلم الأُصول وقواعده، وهو تخصص عميق ودقيق.
وهذا لا يعني ـ بحال من الأحوال ـ وصاية على الفكر الإسلامي، بل حرص على أن يتحرك كل صاحب اختصاص في فضائه الحقيقي لا في فضاء مزيف يحرفه عن أصالته. وكذلك ليس للطبيب والفيلسوف وعالم الاجتماع والأديب والكاتب أن يتدخلوا في غير اختصاصاتهم، ومنها قضايا الشريعة والتجديد في إطارها.
رابعاً: إنّ التجديد يتطلب مفكراً مجتهداً منفتحاً على الحياة والواقع، مدركاً للضغوط والمشكلات، ملماً بقضايا العصر وأفكاره وثقافته. وبكلمة واحدة: المفكر المجتهد المثقف، وإلّا فالمجتهد المنغلق على الواقع والجامد على فهم الآخرين للنص والبعيد عن ثقافات العصر ومتطلباته وتحدّياته المتجددة والمتسارعة التي تفرضها الثورات المتكاملة في الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا والطب والهندسة الوراثية والبايولوجيا والاقتصاد وحركة المال والسياسة الدولية وغيرها، فضلاً عن التحدّيات التي تفرضها أساليب ووسائل تطبيق الشريعة بكل مجالاتها، هو شخص لا يمكنه الخوض في قضايا التجديد؛ لأنّه سيعكس صورة سلبية منفّرة عن الشريعة السمحاء والدين الحنيف. ومن هنا، نرى أنّ الإمام الخميني وضع شروطاً جديدة للاجتهاد، أبرزها القدرة على تحديد حاجات المجتمع أو العصر وتحديد مصالح المجتمع وفهم الواقع.
خامساً: إنّ فكرة القراءات المختلفة للدين والمبنية على منهجيات عملية مستوردة بعيدة عن ضوابط العقيدة، وغريبة عن جنس الشريعة، كمنهجية الهرمونيطيقيا (التأويل تسامحاً) والأركيولوجيا (الحفريات) والتاريخانية، هي فكرة اعتباطية وفضفاضة وغير دقيقة من الناحية العلمية. ونحن لا ننكر الاختلاف في فهم النص وفي فهم الموضوع وفي اعتماد القواعد الفقهية والأُصولية وفي قبول الحديث وغيرها، ولكنه اختلاف مؤطّر بالضوابط التي تفرضها الشريعة، أي المنهجية الخاصة بكل علم من العلوم الإسلامية، كما أنّه اختلاف بين المفكرين والمجتهدين، وليس بين كتّاب وصحافيين وعلماء اجتماع وفلاسفة ورجال سياسة. وبالتالي فالتعددية (بلوراليسم) لا توزع الحقيقة بنسب متوازنة على كل صاحب رأي، بل إنّ الحقيقة واحدة وثابتة، ويبقى أنّ المفكرين والمجتهدين يبذلون كل ما في وسعهم من جهد للوصول إليها من خلال الكشف عن الحكم أو الأُسلوب الشرعي، في إطار المنهجية الإسلامية المستخرجة من جنس الشريعة وغايات الدين. وإلّا فهذا اللون التغريبي الذي يطرح تحت شعار التعددية والقراءات المتنوعة وفي إطار منهجيات وضعت لعلوم أُخر واخترعتها بيئات أُخر ومناخات علمية ودينية مختلفة عنا هي مثال صارخ للانفلات الفكري الذي يسمح لكل فرد من أفراد الأُمّة الإسلامية أن يكون له قراءته ورؤيته الخاصة بالدين، وبالتالي ـ إذا أذعنّا لهذه المنهجيات ـ سيأتي اليوم الذي لا يبقى فيه من شريعة الله إلّا أشباح أحكام أو معتقدات ممسوخة مفصلة على مقاس كل صاحب هوى.
سادساً: إنّ التجديد لا يتناول الأُطروحة الدينية أو الدين بعينه أو ثوابت الدين، فهذه الثوابت، (أي الأُصول الإسلامية المقدّسة) خالدة خلود الدين الخاتم؛ لأنّ ((حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة))([6])، ولا يمكن تحت أي ذريعة من الذرائع الاجتهاد في مقابل الثوابت وتجديد الأُصول المقدّسة، اللهم إلّا في إطار القواعد الاستثنائية الزمنية التي حددتها الشريعة نفسها، وسبقت الإشارة إليها.
أمّا التجديد فمساحته الفكر الإسلامي الموروث والمعاصر، أي الإنتاج الفكري الإسلامي للمفكرين المجتهدين المتقدمين والمتأخرين، وكذلك في فهم الثوابت الإسلامية وقواعد هذا الفهم وأُصوله، وفي اكتشاف قضايا جديدة (مناهج، نظريات، علوم، رؤى) في المصادر المقدّسة، وأخيراً في (أسلمة) بعض المناهج والنظريات التي وضعها الإنسان في الحقول المحايدة العامة. وبالتالي، فهي بأكملها مساحة متغيرات.
سابعاً: إن ّللتجديد والاجتهاد مرجعية ثابتة لصيقة بهما، وهذه المرجعية يتم الرجوع إليها عند الاختلاف في الفهم والنتائج، وإلّا فالتجديد لا يتحرك في الفراغ ولا ينطلق من فراغ، بل إنّ له فضاءه الذي يجول فيه، وهذا الفضاء هو مرجعية التجديد والاجتهاد المتمثلة في القرآن الكريم، والصحيح من السنة الشريفة، وفي أدوات فهم الأُصول المقدّسة والكشف عن حقائقها كالعقل والإجماع وغيرهما.
في ضوء التصورات التي طرحتها هذه الدراسة، يطرح السؤال التالي نفسه: ما العمل لتحقيق التجديد المنشود؟ وللإجابة عن هذا السؤال نرى أنّ من الضروري تحقيق وعي أشمل وأدق للإسلام من أدلته الأصلية؛ لندرك حقيقة مقاصده وغاياته. ولا بدّ أن نعيد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، في إطار ضوابطه.
وعلى أصحاب الاختصاص في علوم الدين (المفكرين المجتهدين) أن لا يسمحوا لغير المتخصصين بالعبث في شريعة الله ومعتقدات الإسلام تحت ذريعة الاجتهاد والتجديد أو ذريعة تفصيل الدين على مقاس العصر، أو التضحية بالأصالة في مذبح المعاصرة، والتضحية بالتراث في مذبح التجديد، والتضحية بالشريعة في مذبح التعددية، والتضحية بالدين في مذبح العلم، فهذه الذرائع أو الثنائيات المستوردة لا وجود لها في مبادئ الإسلام الخالدة؛ لأنّها ثنائيات أنتجتها العقلية الغربية في العصور التي أعقبت ما يسمى بالنهضة الأُوروبية بهدف إقصاء الدين عن الحياة، وهي إشكالية نابعة من الصراع بين الكنيسة ودعاة العلمانية (لائيسم).
وبالنظر لاتساع التغيير في الحياة وسرعة التطور، نرى أنّ قابلية التجديد على استيعاب هذا الواقع تتطلب آليتين:
الأُولى: آلية الاجتهاد الجماعي، وتتلخص في تشكيل لجان اجتهادية من مجموعة من المفكرين المجتهدين لبحث موضوع أو جملة مواضيع، ثم تتكامل نظراتهم ورؤاهم بعد التداول والمناقشة للخروج بحكم شرعي أو نظرية أو نظام إسلامي في مجال معين.
وهناك تجربة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الذي نأمل أن تكون فيه لجان اجتهادية ثابتة تؤدي عملها على مدار السنة، لملاحقة التطورات الهائلة المتسارعة التي تشهدها البشرية. ومن شأن الاجتهاد الجماعي استيعاب كل الموضوعات واختصار الزمن والخروج بأفضل الآراء.
الثانية: آلية التكامل بين المفكرين المجتهدين وأصحاب الاختصاصات العلمية والمهنية الأُخر، من خلال استشارة المفكرين المجتهدين لهؤلاء المتخصصين في الموضوعات الجديدة والاستعانة بهم في فهم العلوم والمناهج الجديدة وقضايا الواقع المتنوعة والمعقدة، وفي تحديد مصالح الأُمّة والدولة، إذ يتم تداول هذه الموضوعات في لجان أو مجالس مشتركة، ثم الخروج بالرأي أو الاجتهاد الأفضل الذي يحقق مصالح الأُمّة ويكيف الواقع لينسجم مع غايات الشريعة.
وهذه الآلية تمت تجربتها في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولا تزال تؤتي ثمارها، وتتمثل في (مجمع تشخيص المصلحة) الذي يتكون من فقهاء واختصاصيين في مختلف المجالات، ويمثلون النخبة التي تخطط للسياسات العامة للأُمّة والدولة، ثم يعرضونها على ولي الأمر (القائد) لإقرارها.
ولا بدّ من إخضاع تجارب تطبيق الشريعة والنظم الإسلامية في بلداننا إلى التقويم المستمر، أي القيام بعملية رصد علمية لنتائج هذه التجارب (على الطبيعة)، مثل تجارب تطبيق الاقتصاد الإسلامي والبنك الإسلامي والنظام القضائي والنظام السياسي ونظم التكامل والتعاون الاجتماعي والنظام التعليمي وغيرها. وستكون نتيجة هذا الرصد العلمي، من خلال الدراسات والبحوث، وضع مناهج ومبادئ وتفاصيل علوم إسلامية اختصاصية، كعلم الاقتصاد الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي وعلم النفس الإسلامي وغيرها.
لا شكّ أنّ التاريخ الإسلامي شهد ظهور مجددين عظام، بل وموجات رائدة من التجديد وكانت كل حركة تجديد فكري تختص بواقعها وظروفها، أي أنّها حركة تجديد لزمانها. وهكذا فإنّ المحاولات الحالية للتجديد الفكري التي تقوم بها الطليعة المتنورة من المفكرين المجتهدين، هي تجديد لزماننا هذا، ويبقى أنّ للمستقبل تجديده ورجاله. ولكن، في الوقت نفسه، إنّ المخططات الكبرى في مجالات السياسة الدولية والإعلام والاقتصاد والثقافة وغيرها، والتي يقوم بإعدادها من يعبّرون عن أنفسهم بـ(سادة العالم) و(دعاة التفوق)، ثم تسارع الأحداث، وتراكم المتغيرات، والطفرات المتلاحقة في مجال العلم والتكنولوجيا، هذه كلها تجعل الحاضر لحظة غير محسوسة، وتجعل البشرية تعيش في المستقبل دائماً؛ إذ إنّ ما كشفت عنه الدراسات المستقبلية هو الذي جنّب الغرب ما يُعَبَّرُ عنه بـ(صدمة المستقبل)، لأنّ ما تمّ التخطيط له قبل عشرين عاماً ظهرت نتائجه الآن، وما يتمّ التخطيط له الآن ستظهر نتائجه بعد عشرين أو خمسين عاماً، وحيال ذلك لا بدّ أن يكون للإسلام وللفكر الإسلامي موقفهما مما سيحدث في المستقبل أو مما يتمّ الإعداد له من الآن. ويتمثل هذا الموقف في استعداد الفكر للمستقبل. محاولة امتصاص مفاجئاته وصدماته، وهو موقف ندعو إليه.
ولهذا فأنا أدعو لتدارس موضوعة الفكر الإسلامي المستقبلي الذي ينطلق من إشكاليات الحاضر وحيثياته، ويستشرف المستقبل وتحدّياته وخياراته، ثم يخطط له في محاولة لاكتشاف بدائله المنشودة وبنائه والتحكم به. فمثلاً نُظُم الحاضر التي أعدّ لها الآخرون، كالعولمة، والأنسنة، ستتبلور بمرور الزمان وتظهر نتائجها النهائية في المستقبل، وكذلك الكثير من الاكتشافات، كما يحدث في علم الجنتيك (الهندسة الوراثية)، فإنّ نتائجه ستظهر في المستقبل. وهكذا فإنّ الشريعة والفقه وعلم الكلام الإسلامي لا بدّ أن يكون لها رأيها في كل ذلك، وتستعد له؛ لتكون بمستوى تحدّيات المستقبل وضغوطه.
وعلى هذا الأساس فإنّ منهجيات وأفكاراً ورؤى تطرح الآن، وهدفها وضع الفكر الإسلامي بمستوى قضايا المستقبل، كفلسفة الفقه، وفقه المقاصد، وفقه الأولويات، وعلم الكلام الجديد، والتحول في الاجتهاد، و(أسلمة) أو تأصيل العلوم الاجتماعية والإنسانية، وحتى التطبيقية، وغيرها، هي بأكملها مطروحة للبحث والتداول والمدارسة بين دعاة التجديد الأصيل في الفكر الإسلامي؛ بهدف نقل الفكر الإسلامي من المعاصر إلى المستقبلي، وبذلك فنحن نقدم الخدمة المثلى للجيل الإسلامي الذي ينشأ اليوم وسيمسك بزمام المستقبل، حين نعدّ له الأحكام والنظم والنظريات التي تستوعب عصره. وهي في الواقع ـ وقبل كلّ شيء ـ خدمة للجيل الحاضر الذي هو المستقبل، بعد أن أخذت البشرية تفقد إحساسها بالزمن الحاضر. وهذه الدعوة لا تعني ـ بأي حال من الأحوال ـ الهروب إلى الأمام وحرق المراحل والعبور على الأزمنة، بل العكس، هي دعوة للاندكاك في الواقع، ولاستحضار السنن الكونية، والعمل بالنصوص الإسلامية المقدّسة.
([3]) «خاتمة مستدرك وسائل الشيعة»، الميرزا النوري: ج3، ص 273. وانظر: «سنن أبي داود»، سليمان بن الأشعث السجستاني: ج2، ص311، ح4291، تحقيق: سعيد محمد اللحام، ط.دار الفكر ـ بيروت 1410ه/1990م. «كنز العمال»، المتقي الهندي: ج12،ص 193، ح34623، وفيهما: (على رأس).
([6]) «بصائر الدرجات»، محمد بن الحسن الصفار: ص 168، ح 7 باب13 من الجزء الثالث من تجزئة المؤلف، أخرجه بطريقه عن حماد، عن الإمام الصادق%.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua