التأسيس للفقه السياسي الإسلامي
التأسيس للفقه السياسي الإسلامي
د. علي المؤمن
بين الشريعة والقانون
في البحوث التي تتناول موضوعات تطبيق الشريعة في الدولة الإسلامية، كثيراً ما تتردد مصطلحات ومفاهيم أساسية، تشكّل مداخل عامة لتلك الموضوعات، أبرزها: الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي والقانون الإسلامي. ورغم أن كلاً منها يحمل مدلولاً خاصاً، إلا أنها تتداخل في كثير من المساحات، أو أنها تحمل مدلولات مشتركة ومترادفة – أحياناً – ولكن استخداماتها تختلف باختلاف زاوية النظر والمنهج العلمي، فربما يحمل مدلول الشريعة في الدراسات العقائدية الفكرية مدلول الفقه نفسه في العلوم الشرعية، أو مدلول القانون في علوم القانون.
الشريعة – في اصطلاح علمائها – عبارة عن الأوامر والنواهي والإرشادات التي أوحى الله تعالى بها إلى رسوله الأكرم(ص)، بغية هداية البشرية، وتنظيم حياة أهل القبلة، وتوجيههم نحو إقامة مجتمع الحق والعدالة، ليرتقوا من خلال ما تفرضه الشريعة من معتقدات وأخلاق وممارسات إلى مستوى منصب الخلافة الإلهية(1)، أي إنها – بتعبير آخر – القانون الإلهي للبشرية الذي يشتمل على أحكام الإسلام عامة. وعلى أساس هذه الحقائق استنبط بعض الفقهاء مجموعة من المقاصد خصوا بها الشريعة الإسلامية، أبرزها حفظ الدين والنفس والأرض والمال وغيرها(2)، مع ملاحظة أن كلمة «شريعة» لم ترد في القرآن الكريم سوى في آية واحدة (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها)(3).
ويقسّم الفقهاء أحكام الشريعة إلى قسمين: أحكام العقيدة وأحكام النظام، ويطلقون على أحكام العقيدة عنوان: «أحكام السلوك النظري» ويدرسها علم الكلام أو علم الإلهيات أو علم أصول الدين، ويطلقون على أحكام النظام عنوان «أحكام السلوك العملي»، ويدرسها علم الفقه. هذا التقسيم استقر بعد اتساع العلوم الإسلامية في بدايات القرن الثالث الهجري، فيما كان – قبل هذا التاريخ – مدلول كلمة شرع أو شريعة يرادف كلمة فقه، فكان يقال لأحكام العقيدة: «الفقه الأكبر»(4)، ولأحكام النظام: «الفقه الأصغر». وربما يقسِّم بعضهم الشريعة الإسلامية إلى: أحكام العقيدة (العلاقة النظرية للإنسان بالله تعالى)، الأحكام الأخلاقية (ما يجب أن يكون عليه الإنسان من خلق نظري وعملي)، والأحكام العملية (العلاقة العملية للإنسان بالله تعالى وبنفسه وبالآخرين). ثم جاء التفريق الآخر بعد أن استقر الفكر الأصولي على أن مؤديات الاجتهاد – باعتباره وسيلة استنباط الحكم من الدليل – هي مؤديات ظنية، فخصوا الشريعة بالأحكام القطعية (التوقيفية) التي تحظى بنصوص واضحة من الكتاب والسنة، وعمموا الفقه على الأحكام القطعية والظنية معاً، أي إن الشريعة تختص بأحكام الإسلام القطعية، سواء كانت عقيدية أو فقهية، ولا تشتمل على الأحكام الظنية والقطعية، ولكنها لا تتسع لأحكام العقيدة(5). ومن هنا أمكن القول بأن الشريعة الإسلامية هي الدين نفسه، أي التعبير الحقيقي عن الإسلام وأصوله المقدسة.
أما الفقه فيمثل – في جانب كبير منه – اجتهادات الفقهاء. وهذا التفريق في غاية الدقة، وله علاقة بجانب الإلزام والقداسة والتكليف؛ إذ إن أحكام الشريعة (العقيدية والفقهية على حد سواء) ملزِمة للمسلمين كافة؛ لأنها قطعية ونصوصها واضحة، في حين أن الأحكام الظنية في الفقه هي أحكام اجتهادية – عادة – ولها علاقة بفهم الفقيه للنص أو لطبيعة الموضوع والمصداق، فلا تكون ملزمة إلا لدائرة مقلديه ومستفتيه.
ويتضح من خلال ذلك أن الفقه يطلق على الأحكام العملية التي تحدد علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبالآخرين وبالمخلوقات الأخرى، وموضوعه فروع الدين. ويتم استخراج هذه الأحكام، ولا سيما الظنية منها في إطار عملية الاجتهاد وأساليبها وشروطها، والتي يبذل الفقهاء فيها أقصى جهدهم العلمي لفهم المصادر الإسلامية وأدلتها التفصيلية، فهماً دقيقاً، بتوظيف مجموعة كبيرة من العلوم، أبرزها علوم القرآن والحديث واللغة وأصول الفقه وغيرها. وفي النتيجة يستنبط الفقيه الحكم العملي أو الفتوى الشرعية بالاعتماد على عدة أنواع من الأدلة، فمهمة الفقيه هي: «تحديد التكليف العملي لكل حادثة في حياة الإنسان»(6) من خلال استنباط حكمها الشرعي من الأدلة. ولا يعبِّر هذا الحكم عن الرأي الشخصي للفقيه، بحيث يمكنه تغييره، وإنما يعبِّر – في نظره – عن حكم الشريعة الإسلامية الذي توصّل إليه(7)، أو بكلمة أخرى: يعبِّر عن فهمه العلمي للمصدر والدليل الشرعي، وهو فهم مجرد، تعضد نزاهته عدالة الفقيه. وعلى هذا الأساس لا يمكن القول بأن الفقه المنسوب للمجتهد، هو كالقانون المنسوب للحقوقي، وبأنه وضع بشري مبني على الاجتهاد العقلي، انطلاقاً من التأمّل في كتاب الله(8).
وقد برزت الحاجة لوضع علم الفقه بالتدريج، وكانت تشتد كلما ابتعد المسلمون زمنياً عن عصر الوحي والتشريع، وبروز العديد من الحوادث والوقائع المستجدة. وهكذا ظهرت طلائع الفقهاء في القرن الهجري الثاني، وتأسست المدارس الفقهية، التي كان كل منها يعتمد على قواعد وأصول فقهية اكتشفها أو أعاد اكتشافها أو استعارها؛ بغية «رفع الغموض عن الموقف العملي الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة»(9).
وهو ما يلخصه الشهيد السيد محمد باقر الصدر بقوله: «فعلم الفقه – إذن – هو العلم بالدليل على تحديد الموقف العملي من الشريعة في كل واقعة. والموقف العملي من الشريعة الذي يقيم الفقه الدليل على تحديده، هو السلوك الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة؛ لكي يكون تابعاً مخلصاً لها وقائماً بحقها. وتحديد الموقف العملي بالدليل، هو ما نعبر عنه بـ«عملية استنباط الحكم الشرعي». ولأجل هذا يمكن القول بأن علم الفقه هو علم استنباط الأحكام الشرعية، أو علم عملية الاستنباط(10). وبذلك تتلخص مهمة علم الفقه في عملية التشريع في حدود الأدلة، وليس مطلق التشريع. وقد يطلق تعبير التشريع – بمعنى القوانين الشرعية – على الفقه في الاصطلاح العلمي القائم. وبناءً عليه، يقسِّم الشيخ الفضلي(11) التشريع الإسلامي إلى أحكام عملية ضرورية، وهي الأحكام القطعية الثابتة التي لا تتغير، والمتفق عليها بين الفقهاء، وأحكام عملية نظرية، وهي الأحكام الظنية المتغيرة أو الاجتهادية أو الخلافية؛ لأنها محل خلاف علمي بين الفقهاء. وعلى صعيد الإلزام، فإن الأحكام الضرورية لازمة الاتباع على جميع المسلمين، والأحكام الظنية يقتصر الالتزام باتباعها على مقلّدي الفقيه.
أما التشريع في إطار عمل الدولة، فيراد به التقنين أو وضع القوانين، فيكون تحويل الأحكام الفقهية (القطعية والظنية) إلى قوانين هو أهم أنواع التشريع، وتطلق الدولة على هذه الأحكام العملية عبارة «قوانين الشريعة». وفي هذه الدائرة تترادف مداليل الشريعة والفقه والقانون. وهذا النوع من القانون الذي يعتمد المصادر الدينية أو المصادر المقبولة دينياً، هو القانون الإسلامي، مقابل القانون الوضعي الذي يعتمد مطلق العقل والعرف. وهذا لا يعني وجود تقاطع بين القانون الإسلامي من جهة والعقل والعرف من جهة أخرى، بل إن العقل هو أحد المصادر الكاشفة للتشريع الإسلامي؛ وكذا العرف، فإنه أحد مصادر القانون الإسلامي، إلا أن العقل والعرف لا يوضعان كمصدرين متكافئين إلى جانب المصادر المقدسة (القرآن الكريم والسنة الشريفة).
والقانون – في الاصطلاح العلمي – هو الأداة التي تعتمدها سلطة الدولة في تنظيم حياة الجماعة وعلاقات أفرادها وسلوكهم الظاهر، على أساس العدالة والحق، وخلق حالة الإجماع لدى الأمة، أي إنه المرجعية الحقوقية الملزمة للجميع، والتي لا تقبل تفسيرات مختلفة. وهذا الموقع لا يمكن للفقه أن يحتله في واقع الدولة الإسلامية، إلا إذا تحوّلت أحكامه إلى قوانين أقرّتها الجهات المخولة؛ لأن الفقه يحتوي على أكثر من اجتهاد، ولا سيما في مجال الأحكام الظنية. أما الشريعة – وتحديداً أحكامها العقيدية – فعلاقتها بالدولة ترتبط غالباً بالجانب النظري؛ أي الأسس التي تقف عليها الدولة الإسلامية ومبادئها وأهدافها ووظائفها ومسوغات قيامها وجذورها العقيدية. وهناك موضوعات في الفقه لا يستوعبها القانون ولا تدرسها العلوم القانونية، وهي الموضوعات ذات الصلة بعلاقة الإنسان بالله تعالى وبنفسه، وبالآخرين – أحياناً – في حين يستوعب الفقه جميع موضوعات القانون(12).
ويعرّف القانون بأنه: «مجموعة من القواعد يتمثّل كل منها في حكم عام مجرد يتناول سلوك الإنسان في المجتمع بالتنظيم، ويتوافر له الإلزام الاجتماعي»(13)، أو «مجموعة القواعد التي تنظّم الروابط الاجتماعية، والتي يُجبَر الأفراد على احترامها بواسطة السلطة العامة»(14). ويعمد بعض علماء القانون والفلاسفة إلى تقسيم القانون إلى إلهي وطبيعي ووضعي، على أساس المصادر التي تعتمدها هذه القوانين(15)، «فالقانون الإلهي هو مشيئة الله تعالى، يهدي إليها من يشاء من عباده عن طريق الوحي والشعور. والقانون الطبيعي هو ما يصنعه الإنسان من قواعد قانونية مستلهماً قواعد القانون الطبيعي»(16). وينظر آخرون إلى هذه التقسيمات من زاوية ثانية، فأنصار القانون الطبيعي يرون أنه قانون عقلي، يتوصل إليه العقل الإنساني بعد التأمّل في طبيعة الإنسان وعلاقاته بالوسط الذي يعيش فيه، فيكتشف النظام الأمثل لحكم سلوك الإنسان في المجتمع؛ وبهذا، فهم يطلقون على قانونهم الطبيعي تعبير «القانون العقلي» أيضاً. في حين يرى بعض اللاهوتيين أن القانون الطبيعي هو القانون الإلهي الذي يتعين على القوانين الوضعية التزامه؛ لأن الله تعالى هو خالق الطبيعة وخالق قوانينها المادية والاجتماعية(17). وقد بحث الفقهاء والفلاسفة المسلمون في موضوع منشإ الحقوق ومصدر القانون وكيفية إيجاده وشرعية قواعده، وفسّروه في إطار الفكر التوحيدي، الذي يعتقد بأن إرادة الله تعالى هي القاعدة التي تستند عليها كل موضوعات القانون. والقانون الذي منحه الله تعالى للبشرية يتوافق مع طبيعة المخلوقات وفطرة الإنسان، فاللّه هو خالق الكون ومسيِّر جميع الموجودات وواضع قوانينها. وتتسم قوانين الكون والطبيعة بصفة الجبر؛ لأنها ترتبط بولاية الله التكوينية. أما القوانين الخاصة بالإنسان فترتبط بولاية الله التشريعية. ورغم أنها ملزمة للإنسان إلا أن بإمكانه التمرد عليها. وهذه القوانين – التشريعية – هي في الأصل عبارة عن أحكام الشريعة والفقه، وتتحوّل إلى قانون – حسب الاصطلاح العلمي الحديث – بعملية التشريع، التي تعد الأسلوب الطبيعي لصنع القانون.
ويقسَّم القانون الحديث – على أساس تخصص القوانين وموضوعها – إلى: قانون عام، يرتبط بتنظيم المؤسسات، وقانون خاص يرتبط بالأفراد. وينقسم القانون العام إلى: قانون دولي عام (خارجي)، وقانون عام داخلي. ويختص القانون الدولي العام بشؤون العلاقات الدولية، وعمل المنظمات الدولية والإقليمية، وقوانين الجو والبحار وغيرها، فيما يتسع القانون العام الداخلي للقانون الإداري، القانون الدستوري، القانون المالي والقانون الجنائي. أما القانون الخاص، فإنه يشتمل على: القانون المدني، القانون التجاري، القانون الخاص، وقانون العمل. وقد عرفت قوانين الشريعة الإسلامية هذا التقسيم خلال تجربة التطبيق الحديثة.
موقع الفقه السياسي في تقسيمات الفقه الإسلامي
النشاط الحثيث للفقهاء والمدارس الفقهية الإسلامية، منذ بروز حركة الاجتهاد، وتزايد الموضوعات الجديدة خلال عدة مئات من السنين، نتج عنهما كم هائل من الأحكام الشرعية التي دونتها كتب الفقه. وأخذت الحاجة لتبويب هذه الأحكام وتقسيم موضوعاتها تشتد بمرور الزمن. واعتمد كل فقيه أو مدرسة فقهية أسساً متعددة لتبويب الأحكام الشرعية، وفقاً لطبيعة البحث الفقهي ومنهجه.
والتقسيم على أساس الموضوع ظل متداولاً منذ ظهور المدونات الفقهية الأولى وحتى الآن. ولعل أشهر ما عرفه الفقهاء القدامى من أهل السنة، هو تقسيم الفقه إلى: فقه العبادات وفقه المعاملات، وقد وضعه الشيخ أبو حامد الغزالي (ت: 505هـ).
ثم وضع أساساً جديداً، وزّع فيه الأحكام الشرعية على أربعة أبواب: العبادات، المنجيات، المهلكات والعادات(18). فالعبادات ترتبط بحق الله تعالى، وتشتمل على العبادات الخاصة (كالصلاة والصوم وغيرهما) وأحكام الأحوال الشخصية، فيما تختص الأحكام الأخرى بحق الأفراد (مع بعضهم البعض أو مع المجتمع)، وهي المعاملات، والتي تدخل موضوعات الفقه السياسي في إطارها. وهذا التقسيم ما زال معتمداً لدى معظم الفقهاء. وهناك من فقهاء أهل السنة المعاصرين من يؤكد على ضرورة إعادة النظر في هذا التقسيم، واستبداله بتبويب جديد وفقاً لتصنيف الموضوعات الحقوقية، مثلاً: فقه العقوبات، الفقه المدني، الفقه السياسي، الفقه الاقتصادي، فقه العلاقات الدولية(19).
وعرف الفقهاء الشيعة السلف تبويب العبادات والمعاملات نفسه، أو العبادات والمحرّمات والأحكام(20)، أو العبادات والأحوال الشخصية(21). إلا أن أشهر تقسيم هو الذي وضعه المحقق الحلّي (676هـ) الذي قسّم أبواب الفقه إلى:
1 – العبادات: كالطهارة، الصلاة، الزكاة، الخمس، الصوم، الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.
2 – العقود: كالتجارة، الرهن، الوكالة، الوصية، النكاح، وغيرها.
3 – الإيقاعات: كالطلاق، العتق، الإقرار وغيرها.
4 – الأحكام: كالصيد: الغصب، إحياء الأرض، الإرث، الشهادات، الحدود، القصاص، الديات وغيرها(22).
وفي هذا التبويب نرى أن أحكام الفقه السياسي موزعة على أكثر من باب ومدخل، ولا سيما في العبادات والأحكام. وقد أعاد السيد الشهيد محمد باقر الصدر النظر في هذا التبويب، واستحدث تبويباً جديداً قسّم من خلاله الأحكام الفقهية إلى:
1 – العبادات: الصلاة، الصوم والحج فقط. وأخرج منها الجهاد والخمس والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووضعها في أبواب أخرى.
2 – الأموال: العامة والخاصة، كالخراج، الأنفال، الخمس، الزكاة، التملّك والتصرف.
3 – السلوك الخاص: وتقع في إطاره الأحكام ذات العلاقة بالأسرة والمجتمع.
السلوك العام: ذو العلاقة بالتنظيم الاجتماعي، كالحسبة والجهاد والقضاء والولاية والحكم(23).
وأَولى هذا التبويب الحديث موضوع الفقه السياسي وقضايا الدولة والحكم والقضاء عناية واضحة، أسوة بباقي موضوعات الفقه، إذ وضع له باباً خاصاً، أعطاه عنوان «السلوك العام».
وهناك من الفقهاء المعاصرين من يدعو إلى تبويب أكثر منهجية ووضوحاً، وعلى نحو تجتمع فيه أحكام الفقه العام معاً، ثم فقه القضاء (المحاكم والعقوبات وغيرها)، الفقه المدني (العقود) فقه الأسرة (الزواج، الطلاق، الإرث وغيرها)، فقه الاقتصاد والمال (الأموال العامة والخاصة وغيرهما)، فقه العبادات (الصلاة، الصوم والحج)، الفقه السياسي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحسبة، الحكومة والولاية، الجهاد، العلاقات الدولية وغيرها)(24).
وهذا التبويب أقرب إلى مناهج العلوم القانونية الحديثة، وله علاقة مباشرة بتطور موضوعات الأحكام وبروز موضوعات جديدة (مستحدثة ومتفرعة)، بالشكل الذي تفرضه حركة الزمان ومتغيراتها وواقعها وظواهرها وإشكالياتها، وهي تتوالد بصورة ديناميكية ذاتية(25).
ويتضح من خلال ما سبق، أن التبويب التقليدي لموضوعات الفقه، والذي ما زال حاضراً في معظم المدونات الفقهية المعاصرة، لا يولي فقه الدولة الإسلامية عناية خاصة، فنجد أن موضوعاته كالجهاد والخمس والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما زالت توضع في باب العبادات، وقد تفرد بعض المؤلفات باباً للخمس والزكاة والأنفال عنوانه الأموال، في حين تدرج موضوعات القضاء والحدود والديات والقصاص في باب الأحكام. وعلى أساس هذه النظرة التقليدية، فإن الفقه السياسي يضم الأبواب الخاصة بالنظام العام، كالرهان والحسبة والخراج والحدود وأمثالها. ولا فارق كبير هنا بين المدارس الفقهية السنية والشيعية. أما النظرة التجديدية للفقه، والتي نجحت في إخضاع الواقع للشريعة الإسلامية في كل الميادين، ولا سيما ميدان الدولة، فإنها وضعت الفقه السياسي وفقه الدولة الإسلامية في أبواب مستقلة، ربما فاقت الأبواب الأخرى سعة وتشعباً، وهي تشتمل على كل قضايا الدولة الإسلامية وأسسها وأهدافها ومصدر شرعيتها وسيادتها ورئاستها ونظمها ومؤسساتها وأساليب عملها(26).
ونشير هنا إلى فارق منهجي بين الفقه الشيعي والفقه السني على صعيد زاوية النظر إلى بعض موضوعات الدولة الإسلامية، ولا سيما موضوع ولاية الأمر أو رئاسة الدولة الإسلامية، فمدرسة الخلافة تٌصنِّف الأحكام الخاصة بموقع رئيس الدولة الإسلامية (على مختلف مسمياته) ضمن أبواب الفقه المعروفة، في حين تدخل مدرسة الإمامة هذا الموقع في إطار أحكام العقيدة؛ لأنه يتصل بموقع الإمام المعصوم؛ أي إنه يبحث في ثنايا موضوع الإمامة والولاية وامتداداته. أما في عصر الغيبة فيبحث فقهاء الشيعة موضوع ولاية الأمر في إطار أحكام العقيدة وأحكام الفقه معاً.
جذور التأسيس للفقه السياسي الإسلامي
في عهد الرسول الأعظم(ص) كان النظام السياسي للدولة الإسلامية يتلخص في شخصه الكريم؛ فقد كان محور حركة الأمة والدولة على الصعد كافة؛ لأنه علة وجودهما ومصدر شرعيتهما. كما أن موقع الرسالة وما يتضمنه من خصائص، فرض الرسول(ص) مرجعية مطلقة للأمة والدولة؛ فكان يمثل الزعامة الدينية، والقيادة السياسية والعسكرية، ومرجعية التشريع، وسلطة القضاء، ولم تكن هذه المواقع منفصلة أو مستقلة عن بعضها، بل كانت جميعها تجليات لموقع الرسالة، إذ لا يمكن للشخصية التي تتبوأ هذه المواقع (شخصية الرسول) أن تتجزأ(27).
وبعد وفاة الرسول(ص) والانقسام الذي حصل بين المسلمين، بقيت فئة منهم محافظة على نظرتها إلى أئمة آل البيت(ع) باعتبارهم الامتداد الديني والزمني للرسول(ص)، فتبلورت هذه النظرة في مبدأ «الإمامة» وعدّوه أصلاً ممتداً – امتداداً شرعياً – إلى أصل «النبوة»، فكان الإمام، بذلك، يمتلك صلاحيات الزعامة الدينية والقيادة السياسية في إطار التخطيط الرباني لمسيرة الرسالة والشهادة والخلافة على الأرض، كما عبّرت عنه نصوص الكتاب والسنة، وليس في إطار إرادة الأمة وتخطيطها، وإن كان للأمة دور كبير في تفعيل هذا المبدأ بشكل إمامة نافذة الأوامر. وتعتبر هذه الفئة من المسلمين أن مبدأ الإمامة ليس وليد الظروف السياسية التي استجدت بعد وفاة الرسول(ص)، بل إنه أصل عقائدي أثبته الرسول(ص) نفسه قبل وفاته، فكان مبدأ الإمامة معداً – على مستويي التشريع والواقع – ليأخذ موقعه بعد وفاة الرسول(ص)، إلا أن الظرف السياسي حال دون قيام الإمامة بدور الخلافة السياسية للرسول، باستثناء فترة خلافتي الإمام علي(ع) والإمام الحسن(ع). وراحت فئة أخرى من المسلمين تبحث عن حل لمعضلة الفراغ الذي تركه الرسول(ص) بوفاته، فالتفتت – تحت ضغوط الواقع – إلى استحقاق موقع القيادة السياسية أو – بتعبير آخر – الرئاسة الدنيوية، دون أن تكون مستندة إلى حقائق نظرية مسبقة. وانتهى الأمر إلى قيام نظرية سياسية جديدة إلى جانب «الإمامة»، عرفت بـ«نظرية الخلافة». وفي حين حافظ مبدأ الإمامة على وحدة الموقعين الديني والزمني، فإن نظرية الخلافة اضطرت للفصل عملياً بين الموقعين، وإن أضفت على الخليفة ألقاباً دينية، وأصبح واقع الفصل في غاية الوضوح بعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة.
وليس الهدف من هذا المدخل إجراء مراجعة تاريخية، بل الهدف الوصول إلى أصل الفرق بين مدرستين في الفقه السياسي الإسلامي؛ إذ ينشأ الخلاف الرئيس في مقولات الفقه السياسي الإسلامي بين السنة والشيعة من تلك النقطة بالذات؛ فالشيعة يختصرون الحكومة الإسلامية في شكل ومضمون واحد، هو «الإمامة»(28)، باعتباره منصباً إلهياً، ويقولون بعصمة الإمام، وإنه معيّن من قبل الله تعالى عبر الرسول(ص)، وله زعامة الدين والدنيا معاً(29). أما أهل السنة فإنهم يعطون للحكومة الإسلامية عنوان «الخلافة»، ويعتبرونها منصباً بشرياً، لا وجود معه لنص على الخليفة أو اشتراط للعصمة، فالخليفة زعيم دنيوي، وإن استند إلى قاعدة دينية، فلا مانع من إطلاق مختلف الألقاب عليه: سلطان، ملك، أمير، وغيرها. والحديث هنا يقتصر على الجانب النظري المرتبط بموقع الخلافة، ولا يتسع لجانب الممارسة السياسية أو مستوى الالتزام الديني والخلقي للخليفة. من هنا كان الفقه السياسي لمدرسة الخلافة، هو فقه الواقع، وليس فقه النص، ويعبّر عن نظرية سياسية ذات صبغة دينية. في حين لا تعد مدرسة الإمامة نفسها نظرية سياسية، بل مقولة دينية إطارها العقيدة وأركان الدين، وإن كانت لها تجليات في الميدان السياسي، فالنظرية السياسية هي جزء من مدرسة الإمامة وليست المدرسة كلها، على العكس من مدرسة الخلافة، التي تمثل نظرية سياسية شكلاً ومضموناً.
ويضع كثيرون من مفكري أهل السنَّة حدوداً صارمة بين واقعين في مدرسة الخلافة، الواقع الأول، يمثل عهد الخلافة الراشدة، وما أفرزه من فقه سياسي أصيل – كما يقولون – والثاني عهد الخلافة الأموية والعباسية ومثيلاتها، والتي يتهمونها بالانحراف الكبير في الفكر والممارسة(30). ولا تلتزم مدرسة الخلافة بشكل واحد في تعيين الخليفة، فمنذ خلافة أبي بكر، وحتى خلافة يزيد، ظهرت عدة أشكال كلها مقبولة فقهياً لديها. أما مدرسة الإمامة، فلها شكل واحد فقط، هو التعيين بالنص(31)، وآليته نص النبي(ص) على الأئمة عموماً، ثم إعلان كل إمام عن الإمام الذي سيخلفه.
ويمكن استخلاص خمس طرق مختلفة لاختيار الخليفة لدى أهل السنة، من خلال الوقائع التاريخية التي شهدها عهد الخلافة الراشدة (أبو بكر، عمر، عثمان، علي، الحسن بن علي)، ثم بداية العهد الأموي (معاوية ويزيد). وهذه الطرق كانت تنتهي كلها بالبيعة، سواء عن رضى وإيمان أو مصلحة أو خوف أو إكراه:
1 – الاختيار العام المباشر من قبل بعض أو جميع فئات الأمة، وهو نوع من الشورى العامة، كما في حالتي الخليفة الأول أبي بكر والإمام علي(32).
2 – الاختيار من قبل الخليفة السابق، كما في حالتي الخليفة الثاني عمر بن الخطاب والإمام الحسن بن علي(33).
3 – الاختيار الخاص من قبل فئة صغيرة منصوبة من قبل الخليفة السابق، كما في حالة الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
4 – العنف والإكراه، من خلال التمرّد على الخليفة الشرعي وإجباره على التنازل، كما في حالة معاوية بن أبي سفيان.
5 – ولاية العهد الوراثية، من خلال تنصيب الحاكم ابنه وريثاً للملك، كما في حالة يزيد بن معاوية.
ومع الأسلوب الخامس بدأت الملكية الوراثية أو حكم الأسرة في حكومة المسلمين، وسارت عليها معظم الدول التي حكمت المسلمين فيما بعد – سنية وشيعية – وأحياناً كان تعيين الخليفة مزيجاً من العنف والإكراه والإطاحة بالخليفة السابق وولاية العهد الوراثية. وغالباً ما كان الملك الوراثي يتم في إطار حكم الأسرة الواحدة أو الدولة – الأسرة، أما العنف فيتم عند تحوّل السلطة من أسرة إلى أخرى، وأحياناً في داخل الأسرة، كما في حالة الأمين والمأمون.
ثم ظهر الفقه السلطاني ليقر هذا الواقع ويسبغ عليه ألواناً من الشرعية، في الوقت الذي لم يكن فيه الفقه السياسي السلطاني – في أغلب مقولاته – مرتبطاً بحقائق الشريعة الإسلامية، إلا بمقدار تطويعها لتسويغ أحكامه ومقولاته، إذ كان مفصّلاً على مقاس السلطان، أو ما كانوا يسمونه جدلاً بـ«الخليفة». أما الدولة فكانت تختزل بالعشيرة الحاكمة أو أسرة السلطان (مثال: الدولة الأموية، العباسية، الأيوبية، العثمانية وغيرها).
ولم يكن هذا الواقع حكراً على مدرسة الخلافة، بل انتشرت عدواه إلى أتباع مدرسة الإمامة أيضاً؛ فبعد انتهاء عصر الأئمة – في الواقع المنظور – بغيبة الإمام المهدي(ع)، جاءت الظروف السياسية القاهرة لتقف حائلاً أمام الفقهاء الشيعة دون مبادرتهم إلى بلورة موضوعات الفقه السياسي وأحكامه في عصر الغيبة. وكانت النتيجة أن ظهرت دول ينتسب حكامها إلى التشيّع، ولكنهم عاشوا ازدواجية بين المعتقد والممارسة، أشد تعقيداً مما كانت عليه مدرسة الخلافة؛ إذ كان الملوك والأمراء الشيعة ينتمون في العقيدة وفقه العبادات إلى مدرسة الإمامة، ولكنهم في قضايا الدولة والفقه السياسي، كانوا ينتمون إلى الفقه السلطاني، وإن حاولوا أن يضفوا على أنفسهم مسوحاً دينية، بل ومضامين مذهبية عميقة أحياناً (مثال: الدولة البويهية، الفاطمية، الإدريسية، الحمدانية، الصفوية وغيرها).
وفي الحقيقة، كان هناك فصل بين ما يفرزه الفقه الإسلامي من أحكام ومضامين سياسية أصيلة، وبين طبيعة هذه الدول – سنية كانت أم شيعية – ابتداءًً بشرعيتها وأنظمتها ومؤسساتها وأساليب تعيين حكامها، وانتهاءًً بأساليب ممارسة السلطة والإدارة، فقد كانت نظماً وممارسات وضعية في الغالب، من هنا يمكن القول إن الدول (الشيعية) كانت متأثرة إلى حد كبير بالفقه السلطاني الذي أنتجته مدرسة الخلافة.
مدرستان في الفقه السياسي الإسلامي
إن الذي يعنينا، هنا، هو المسار التاريخي لتطور الفقه السياسي الإسلامي، فقد أصبح الفصام النظري واضحاً بين اتجاهين أو مدرستين، كان لكل منهما مدوناته الفقهية ومسيرته الفقهية المستقلة؛ الأمر الذي يفرض بحث مسيرة المدرستين في عنوانين منفصلين، بغية الوقوف على طبيعة ذلك التطور. وتوخياً للدقة في التعبير العلمي، فقد اعتمدنا – كما مر – اصطلاحي «مدرسة الخلافة» و«مدرسة الإمامة» في التعبير عن هذين الاتجاهين، بدلاً من اصطلاحي السنة والشيعة، اللذين قد يقحمان البحث في مجالات بعيدة عن موضوع الفقه السياسي؛ بالنظر لما يتضمنه اصطلاحا السنة والشيعة من مداليل ومفاهيم تتسع لمجالات العقيدة والكلام والتاريخ، فضلاً عن الفقه؛ في حين أن الذي يعنينا هنا هو مجال الفقه السياسي. أما مصطلحا الخلافة والإمامة – بالمعنى الأخص – فإنهما يعبِّران عن مضامين تدخل في إطار الفقه السياسي. ولكيلا يكون هذان المصطلحان غائمين أيضاً، نشير إلى أن مدرسة الخلافة تتجسد في الخلفاء الراشدين – باستثناء علي وابنه الحسن – ومن جاء بعدهم، وتدخل في إطار العنوان الرسمي الكبير: «التسنن». أما مدرسة الإمامة فإنها تتجسد في إطار «التشيع» عنواناً رسمياً. ونستعرض هنا – بشيء من التفصيل – مسار الفقه السياسي لكلا المدرستين:
1 – مدرسة الخلافة:
كانت مدرسة الخلافة السبّاقة في تدوين الفقه السياسي الإسلامي، ووضع مؤلفات خاصة به، منفصلة عن أبواب الفقه الأخرى، ويعود هذا السبق إلى عدة عوامل، أهمها:
أ – إن مدرسة الخلافة هي أول من أخذ بمفهوم الاجتهاد والعمل بالرأي، ومارستهما في وقت مبكر. في حين تقبلت مدرسة الإمامة هذا المفهوم في وقت متأخر؛ ففي عصر الأئمة الاثني عشر لم يكن للاجتهاد أهمية مع وجود الإمام المعصوم، وإن بقي الفقهاء الشيعة قروناً طويلة بعد الغيبة (ربما حتى القرن السابع الهجري) مترددين في قبول مفهوم الاجتهاد وتطبيقه، فقد كان الاجتهاد يعني لديهم العمل بالرأي ومواجهة النص(34).
ب – كانت مدرسة الخلافة سبّاقة لاستلام السلطة، وظلت تهيمن عليها قروناً طويلة، فبرزت الحاجة لدى الخلفاء والسلاطين – بدءاً بالأمويين وانتهاءً بالعثمانيين – لغطاء ديني، أو مستند شرعي ديني، ولم يكن هذا ممكناً إلا بقيام بعض الفقهاء والفلاسفة بتدوين أحكام ومقولات سياسية، غلّفوها بشواهد من الشريعة الإسلامية وسيرة الصحابة؛ لجعلها أحكاماً شرعية ملزمة للمسلمين؛ بهدف شرعنة سلطة الخليفة وتسويغ ممارساته. في حين لم تكن مدرسة الإمامة بحاجة إلى ذلك، سواء في عصر الأئمة أو ما بعده؛ لأن أتباعها لم يؤسسوا دولاً إلا في المراحل اللاحقة.
ج – الظرف السياسي المساعد، ورعاية الدولة للمذاهب السنية رعاية رسمية، الأمر الذي مكًنها من التحرك بحرية في كل المجالات، بما فيها المجال العلمي والمجال الدعَوي. في حين كانت مدرسة الإمامة تعيش قمعاً شديداً يهدف إلى استئصالها فكرياً وفقهياً وجسدياً.
هذه العوامل التي أفرزها الواقع، فرضت في الجانب المنهجي أن تكون المؤلفات التي أنتجتها مدرسة الخلافة أقرب إلى السياسة العملية أو النظام، منها إلى الفقه، أو النظرية، وقد صدر معظمها في حقبة الدولة العباسية، ومن أبرزها: «الخراج» للقاضي أبي يوسف (ت 182هـ)، «السير الكبير» للشيخ محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ)، «الأحكام السلطانية» للشيخ علي بن محمد الماوردي (ت 450هـ)، «الأحكام السلطانية» للشيخ أبي يعلى الفراء (ت 458هـ)، «غياث الأمم والتياث الظلم» لإمام الحرمين الجويني (ت 478هـ)(35)، «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» و«الحسبة في الإسلام» للشيخ تقي الدين ابن تيمية (ت 728هـ).
ورغم ما كانت تقدمه السلطات الحاكمة من رعاية لهذا اللون من الفكر السياسي، إلا أنه لم يكن يمثل بالنسبة لها أي نوع من الإلزام إلا من طرف واحد، ويتمثل في طاعة الأمة للسلطان، وحرمة الخروج عليه (صالحاً كان أم طالحاً)، والدفاع عن الدولة، وجبي الأموال والخراج لها.
وقد تنبه عدد من مفكري مدرسة الخلافة إلى خطورة هذا الاتجاه الغالب، فتحدّثوا عن أنواع من الحكم، في محاولة للفصل بين الدولة الإسلامية التي تمثل الشرعية الدينية بكل أسسها، ودولة المسلمين التي تمثل حكماً سياسياً لا تتوافر فيه أسس الشرعية الدينية أو بعضها، ولكن هذا الخلل لا يسلبها حق الطاعة المفروضة على المسلمين. وأبرز هؤلاء المفكرين عبد الرحمن بن خلدون (ت 806هـ) الذي أشار – في تاريخه إلى هذين النوعين من «المُلك»: الأول هو المُلك الشرعي أو «الخلافة»، وعرّفه بأنه «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ إن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا»(36). أما الثاني فهو «المُلك السياسي»، ويعرّفه بأنه «حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار»، ويعتبره حُكماً مذموماً؛ لأن السلطة فيه تجري بمقتضى السياسة العقلية، وليس بمقتضى الشرع(37).
ويلمح ابن خلدون بذلك إلى ثنائية الشرع – السياسة، وما يترتب عليها من تطبيق لمفهوم فصل الدين عن الدولة في الحكومة السياسية التي تدير ظهرها للشرع.
2 – مدرسة الإمامة:
خلال عصر الأئمة الاثني عشر، كان الفقه السياسي لمدرسة الإمامة متجسّداً في مبدإ الإمامة نفسه، الذي تعدّه المدرسة جزءاً من أصول الدين والمعتقد، وليس مجرد مسألة فقهية. وفي عصر الغيبة، دخل الفقه السياسي لمدرسة الإمامة مرحلة جديدة تماماً. وقد كان المطلب الأساس هو تحديد صاحب الحق الشرعي في ملء موقع قيادة الإمامة. ولم يكن لهذا الموقع – ابتداء ً – بُعد سياسي واضح، بل كان منحصراً في أبعاد أربعة: فقهي (الإفتاء)، تحكيمي (القضاء)، ومالي (شؤون الحقوق الشرعية)، واجتماعي (إدارة المجتمع الشيعي)؛ وذلك لأن الظروف القاهرة كانت تضطر فقهاء الشيعة إلى الابتعاد – قدر المستطاع – عن العمل السياسي الصريح؛ للمحافظة على ما يمكن المحافظة عليه من الوجود الشيعي الذي كان يتعرض لأقسى ألوان القمع والاستئصال. وقد استفاد فقهاء مدرسة الإمامة في بلورة هذا الموقع ودعمه شرعياً، من مجموعة من الأحاديث والروايات، أبرزها التوقيع الصادر عن الإمام محمد بن الحسن المهدي(ع): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»(38)، وفيه دلالة على المرجعية الدينية ببعديها الاجتماعي والفقهي. وحديث الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) المعروف بمقبولة عمر بن حنظلة: «من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً»(39)، وفيه دلالة على مرجعية شبه كاملة، تفيد – كما يذهب القائلون بولاية الفقيه العامة – القضاء وقيادة المجتمع والحكم. وحديث الإمام الحسن بن علي العسكري(ع) «وأما من كان من الفقهاء صائنا لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه»(40)، وهو دال على مرجعية الإفتاء.
هذه الأحاديث وغيرها كانت كافية لفقهاء الشيعة للحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي والسياسي لأتباع أهل البيت، ووحدة كيان مدرسة الإمامة ووحدة قيادتها، وما يترتب على ذلك من ترابط وثيق بين القاعدة والقيادة التي تجسدت، في ما بعد في مفهوم «المرجعية الدينية»، وقد كان هذا الكيان نوعاً من الحكومة أو الدولة ناقصة السيادة، وبه كان يتلخص الفقه السياسي لمدرسة الإمامة حينها. ولم تكن الأحكام الخاصة بهذا الكيان مصنّفة، في باب فقهي مستقل؛ لعدم شعور الفقهاء الشيعة بالحاجة إلى ذلك، أو للحيلولة دون تأليب الحكام عليهم. واستمر هذا الحال قروناً طويلة، كان فيها الفقهاء يتمتعون بوضع متميز في النظام الاجتماعي الشيعي، يشكّل مزيجاً من القيادة الدينية والإدارة الاجتماعية، لكنهم لم يتصدوا لموقع القيادة السياسية ورئاسة الدولة؛ حتى في ظل الدول التي كان حكّامها ينتمون إلى مدرسة الإمامة، فقد كان الفقهاء، عادة، لا يرغبون بأكثر من موقع الاستشارة أو القضاء في هذه الدول والتي كانت – كما ذكرنا – متأثرة جداً بمبادئ الفقه السياسي السلطاني، وفي مقدمتها نظام المُلك السياسي والحكم الوراثي(41).
وبرغم ذلك، فإن مصادر مدرسة الإمامة الحديثة في الفقه السياسي تعتبر غنية جداً، وفيها مادة كافية لتدوين مبادئ فقه سياسي إسلامي، متكامل، وفي مقدمة تلك المصادر المدوّنة: عهد الإمام علي(ع) لمالك الأشتر(42) (واليه على مصر)، الذي يمكن من خلاله استنباط وتأسيس الكثير من الأصول المرتبطة بالفقه السياسي، كالحقوق والحريات الأساسية، والقوانين الإدارية والدستورية والدولية وغيرها.
أما المؤلفات السياسية التي وضعها فقهاء مدرسة الإمامة والفلاسفة من أتباعها، خلال القرون الهجرية من الثالث إلى الحادي عشر، فأهمها: «سياسة الملوك» لقاسم بن علي العجلي (ت 225هـ)، «كتاب الجهاد» للشيخ محمد بن حسن الصفار القمي (ت 290هـ)، كتاب «الخراج» للشيخ قدامة بن جعفر، المعروف بالكاتب البغدادي (ت 329هـ)، «السياسة المدنية» و«آراء أهل المدينة الفاضلة»، للفيلسوف محمد بن أحمد الفارابي (ت330هـ)، «السياسة السلطانية» ابن مسكويه (ت421هـ)، و«كتاب الجهاد» للشيخ محمد بن مسعود النجاشي (ت 450هـ)، وغيره.
والملاحظ أن الجزء الأكبر من هذه المؤلفات، يعبّر عن رؤية فلسفية، ونظر عقلي، أما المؤلفات الفقهية منها، فإنها تعالج موضوعاً فقهياً واحداً، ولا سيما الجهاد والخراج، ولا تستوعب موضوعات الفقه السياسي الإسلامي كلها، على عكس المؤلفات المتكاملة للفقهاء السنة كالماوردي وابن الفراء والجويني. في حين أن المؤلفات القريبة من الفلسفة السياسية كسياسة الملوك للعجلي، والسياسية المدنية للفارابي وغيرهما، لا تعبّر عن النظرية السياسية الشرعية لمدرسة الإمامة، حتى أن أياً من الفقهاء الشيعة المتأخرين – في مرحلة تدوين الفقه السياسي الإمامي – لم يستند أو يرجع إليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) انظر: عباس علي عميد زنجاني، فقه سياسي (بالفارسية) ج2 ص22.
(2) أشهر من أسس لمفهوم «مقاصد الشريعة» هو الشيخ الشاطبي، وجاء بعده فقهاء ومفكرون بلوروا وأضافوا أو دمجوا قسماً منها. انظر؛ أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي.
(3) سورة الجاثية، الآية 18.
(4) انظر على سبيل المثال: الإمام أبو حنيفة النعمان، الفقه الأكبر، وهو كتاب في أصول العقيدة.
(5) انظر: د. عبد الهادي الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي، ص8 – 9.
(6) عميد زنجاني، فقه سياسي، ج2 ص23.
(7) السيد محمود الهاشمي، مصادر التشريع ونظام الحكم في الإسلام، ص17.
(8) كما يذهب د. برهان غليون، الذي يعد الفقه برمته عبارة عن أحكام ظنية خلافية متغيرة لا تعبر عن شرع الله الثابت، بل عن رأي الفقيه. انظر: نقد السياسة، ص440 – 441. وهو بذلك لا يدرك أن هناك أحكاماً قطعية ثابتة في الفقه تعبّر عن موقف الشريعة.
(9) الشهيد السيد محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، ص12.
(10) الشهيد السيد محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، ص: 12.
(11) انظر: الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي، ص9 – 10.
(12) للمزيد في هذا المجال انظر: عميد زنجاني، فقه سياسي، ج2 ص23 – 24.
(13) د. مصطفى وعبد الحميد محمد الجمال، النظرية العامة للقانون، ص129.
(14) محمد شفيق غربال (إشراف) الموسوعة العربية الميسرة، ص1363.
(15) أبرزهم الفيلسوف اللاهوتي توماس الأكويني. انظر: د. الجمال، النظرية العامة للقانون، ص135.
(16) المصدر السابق نفسه.
(17) انظر: د. الجمال النظرية العامة للقانون ص133 – 135.
(18) انظر: الغزالي، إحياء علوم الدين.
(19) انظر: د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته.
(20) كما في كتاب المبسوط للشيخ أبي جعفر الطوسي.
(21) كما في الفقه على المذاهب الخمسة للشيخ محمد جواد مغنية.
(22) انظر الشيخ جعفر بن الحسن الحلي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام.
(23) هذا التبويب صاغه السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه الفتاوى الواضحة، الذي طبع منه الجزء الأول الخاص بالعبادات فقط، لكنه أشار إلى هذا التقسيم في المقدمة، ص99.
(24) انظر زنجاني، فقه سياسي، مصدر سابق، ج2، ص47.
(25) الحقيقة أن السرعة الفائقة التي تشهدها حركة الحياة والثورات المتواصلة في مختلف الميادين، ولا سيما في مجال الاتصالات والمعلومات وحركة الثقافة والإعلام وغيرها، تستدعي استحداث أبواب فرعية في الفقه، تركّز بشكل أكبر على موضوع الحكم ومجال تطبيقه، فيكون هناك باب – مثلاً عنوانه «فقه الثقافة»، يشتمل على موضوعات التعليم والإعلام والفن وغيرها، وهي تدخل بأكملها في صلب عمل الدولة الإسلامية، ولا تقل أهمية عن موضوعات فقه السياسة وفقه الاقتصاد. انظر: علي المؤمن، الفقه الثقافي الإسلامي.. نحو تأصيل فقهي مستقل للموضوعات الثقافية، صحيفة كيهان العربية (طهران)، العدد 443، 24/1/1999.
(26) يمكن في هذا المجال مراجعة الموسوعتين الفقهيتين: «دراسات في فقه الدولة الإسلامية» في أربعة مجلّدات، للشيخ حسين علي المنتظري، و«الفقه السياسي» في خمسة مجلدات، للشيخ عباس علي عميد الزنجاني؛ للوقوف على حجم المساحة التي تغطيها موضوعات الفقه السياسي الإسلامي. تجدر الإشارة إلى أن منهجي الكتابين يكمل أحدهما الآخر، فالأول بحث موضوعات فقه الدولة الإسلامية بمنهج حوزوي (الدراسات الشرعية التقليدية) والثاني بمنهح أكاديمي حديث.
(27) بعض القائلين بعدم وجود دولة في الإسلام يحاولون الفصل بين الرسول النبي(ص) وصاحب الدعوة الدينية، وبين محمد بن عبد الله رجل الدولة؛ فالنبي هو رجل دين ودعوة وهداية وليس رجل دولة. وآخرون يؤكدون أن النبي لم يؤسس دولة، وإنما كان يمارس نشاطاً اجتماعياً، أو أن النظام الحكومي الذي أقامه كان حاجة زمنية لتثبيت دعائم الدين الجديد، وأنه كان مشروعاً خاصاً طرحه النبي(ص) ولا علاقة له بالدين وتشريعاته. أما دولة الخلافة فهي دولة دنيوية، وهي دولة المسلمين وليس الدولة الإسلامية. ومن هؤلاء – على سبيل المثال – علي عبد الرزاق في كتابه الإسلام وأصول الحكم.
(28) يقتصر هذا الحصر على الأئمة ولا يشتمل على عصر غيبة الإمام المهدي(ع).
(29) انظر في هذا المجال: السيد عبد الحسين شرف الدين، المراجعات، والسيد مرتضى العسكري، معالم المدرستين.
(30) مفكرو أهل السنة، وخاصة المعاصرون منهم، يفرقون بين واقعين في مدرسة الخلافة، الأول يمثله عهد الخلافة الراشدة وما أفرزه من فقه سياسي أصيل كما يقولون. وبين عهود الخلافة الأموية والعباسية وغيرها وما رافقها من انحرافات كبيرة في الفكر والممارسة. يقول د. حسن الترابي: «ولما تولى الخلافة أئمة راشدون شحنت كلمة «الخلافة» بكل ظلال نماذج حكمهم رشداً وصلاحاً، فلما تأمَّر على المسلمين، في ما بعد، ولاة استلبوا الحكم استلاباً وجنحوا به شيئاً ما عن شرع الله وسنة الرسول(ص) وخلفائه، ومدوا على أنفسهم اسم (الخلفاء) ليتعدى إليهم شيء من سمعة الصحابة ونهجهم السني، وذلك ضرب من الدعاية السياسية التي تؤدي بطول الملابسة بين الكلمة وتطبيقاتها اللاحقة إلى الهبوط بقيمة الكلمة، فنضطر إلى إضافة صفة الراشدة إلى الخلافة لنحترز بها عن المعنى المطلق». نظرات في الفقه السياسي، ص68.
(31) بالنسبة للأئمة الاثني عشر فقط، وفي عصر الغيبة هناك آلية أخرى.
(32) ليس القصد هنا الحديث عن الموقع الشرعي للإمام علي(ع)، أي منصب الإمامة المنصوص عليها، بل يختص الحديث بالسياق التاريخي لتولية حكومة المسلمين من الناحية الفعلية والواقعية.
(33) المفهوم الوارد في الهامش السابق ينطبق على حالة الإمام الحسن بن علي(ع) أيضاً.
(34) انظر: عبد الهادي الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي، ص421، تجدر الإشارة هنا إلى أن الشيعة رغم كونهم نصوصيين، أي يعتمدون النصوص المقدسة بالكامل، ولا يجتهدون في مقابلها، ويستنبطون كل نظرياتهم منها، إلا أنهم لم يجمدوا على فهم السلف للنصوص وللأحكام ولموضوعاتها؛ بل كانت أجيال الفقهاء ولا تزال تعتمد فهمها للنص وللواقع في استنباط الحكم الشرعي، أي إن باب الاجتهاد لم يغلق لديهم، وهو ما جعل في فقههم ديناميكية وحركية واضحتين.
(35) يقول محقق كتاب «غياث الأمم»، بأن الآراء الواردة في هذا الكتاب هي «تعبير صحيح عن موقف شيوخ أهل السنة والجماعة في نظرية الخلافة وما يتصل بها». انظر: عبد العظيم الديب، مقدمة تحقيق كتاب غياث الأمم للجويني.
(36) ابن خلدون، المقدمة، ص170.
(37) المصدر نفسه.
(38) رواه الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص484.
(39) رواه الكليني، أصول الكافي، ج1 ص86.
(40) رواه الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص264.
(41) ربما تستثنى من ذلك بدايات دولة «السربداران» في شمال شرقي إيران (القرن الثامن الهجري) والتي أسسها وحكمها الفقهاء في بداياتها في إطار نظرية سياسية مستنبطة من مدرسة الإمامة. وهي الأخرى تعرضت للانشقاق؛ بسبب تأثر بعض قيادييها السياسيين والعسكريين بالنظريات السلطانية، فأسسوا دولة ملكية وراثية إلى جانب دولة الفقهاء.
(42) انظر على سبيل المثال: توفيق الفكيكي المحامي، الراعي والرعية، د. حسن جابر، الفكر السياسي عند الإمام علي، نوري جعفر، فلسفة الحكم عند الإمام علي، الشيخ محمد باقر الناصري، علي ونظام الحكم في الإسلام.
الفصل الثاني
التحول في الفقه السياسي
مسار التحول في الفقه السياسي
يمكن القول إن معظم النتاجات السياسية التي صدرت عن فقهاء ومفكري مدرسة الخلافة المتأخرين – حتى نهايات القرن الثالث عشر الهجري – لم تكن تختلف كثيراً في مناهجها واتجاهاتها الفكرية وموضوعاتها عن النتاجات التي دوّنها الفقهاء المتقدمون، فلم يشهد الفقه السياسي لمدرسة الخلافة تحولاً يذكر خلال القرون الهجرية من التاسع وحتى الثاني عشر، بعد أن تسنى له النهوض والتبلور في زمن مبكر، ولم يعد في وسع الفقهاء الذين جاؤوا بعد ابن تيمية والإيجي، أن يضيفوا ما يعتد به. ولكن التحول الفكري بدأ يظهر من بين ثنايا الواقع السياسي الذي شهده العالم الإسلامي خلال القرن الثالث عشر الهجري، فبرزت كتابات وأفكار تهتم بالشأن السياسي العام للأمة الإسلامية، وكان لها أكبر الأثر في الاتجاه الجديد للفكر السياسي الإسلامي، برغم أنها كانت تعبّر عن طابع دعوي إصلاحي، ولا تمثل مؤلفات في فقه الدولة الإسلامية، وفي مقدمة تلك الكتابات «العروة الوثقى» للسيد جمال الدين (الأسد آبادي) الأفغاني(1) (ت 1897م) وتلميذه الشيخ محمد عبده (ت 1905م).
وقد حاولت المؤلفات السياسية التي صدرت خلال القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي) في دائرة مدرسة الخلافة، أن تجمع بين الأصالة في مصادرها وأفكارها ونتائجها، والعصرية في مناهجها وتطلعاتها، فمثّلت إعادة شاملة لصياغة ما كتبه الماوردي وابن الفراء وابن تيمية والجويني. ولعل من أهمها: «الخلافة والإمامة العظمى» للشيخ محمد رشيد رضا (ت 1935م)، ورسائل الشيخ حسن البنا (ت 1949م)، ومجموعة مؤلفات الشيخ محمد تقي النبهاني (ت 1966م) كـ«الخلافة» و«الدولة الإسلامية» و«نظام الإسلام»، وبحوث الشيخ أبي الأعلى المودودي (ت 1980م) التي جُمعت في كتاب «نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور»، و«فقه الخلافة وتطورها»(2) للدكتور عبد الرزاق السنهوري. كما صدر عدد من المؤلفات والدراسات المهمة لعلماء وباحثين إسلاميين كردود على كتاب «الإسلام وأصول الحكم»(3) لعلي عبد الرزاق. ومثلت هذه المؤلفات – الردود – إضافات جيدة للمكتبة السياسية الإسلامية؛ بيد أن النهضة البحثية الحقيقية جرت فصولها خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين الميلادي، وتمخّضت عن صدور عشرات الكتب والدراسات والرسائل الجامعية، في مجال الدولة الإسلامية وفقهها ونظامها ودستورها. وتميزت هذه الدراسات، ولا سيما التي صدرت بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران، بعرض نظرية مدرسة الخلافة بمناهج علمية حديثة(4)، في عملية مقابلة للثورة البحثية التي شهدتها مدرسة الإمامة في فترة الثمانينات، إذ يمكن القول إن أغلب تلك الدراسات صدرت كرد فعل على الواقع الذي أفرزته الجمهورية الإسلامية وأطروحتها الفقهية، فكانت بذلك تستبطن دفاعاً عن نظرية مدرسة الخلافة، ودعوة لعدم الخلط بين النظريتين؛ للحؤول دون تحول التأثر الديني والوجداني بالثورة الإسلامية الإيرانية إلى تأثر عقيدي وفقهي.
أما التحول الذي شهدته مدرسة الإمامة في مسار فقهها السياسي، فإنه بدأ بطيئاً في نهاية القرن العاشر الهجري، وشهد انتعاشاً خلال حقبة الدولة الصفوية، إلا أنه ظل محكوماً – في كثير من الأحيان – بمعطيات الواقع السياسي لهذه المرحلة؛ فقد ظهرت في هذه المرحلة بحوث كثيرة ذات صلة بالفقه السياسي، ولا سيما في موضوعات الأراضي الخراجية والجهاد وصلاة الجمعة ومشروعية السلطة وغيرها. ولعل الدولة الصفوية كانت أكثر الدول الشيعية التي أعطت الفقهاء دوراً مميزاً، تمثل في الإشراف والرقابة، بل اقترب هذا الدور – في بعض الفترات – من حالة الولاية على الحكم، كما حصل مع الشيخ علي بن الحسين الكركي(5) (ت 940هـ) والشيخ بهاء الدين العاملي(6) (ت1035هـ)، فكان الفقهاء يفوضون سلاطين الدولة الصفوية بممارسة الحكم، وبذلك يمنحونهم الشرعية الدينية. ولا نريد الخوض هنا في حقيقة توجهات الدولة الصفوية وأساليب ممارستها للسلطة، ومستوى التزاماتها الشرعية، ولكن الهدف هو الوقوف على طبيعة هذه المرحلة ومعطياتها، وما أفرزته من واقع جديد في مجال إعادة التأسيس للفقه السياسي الإسلامي لمدرسة الإمامة.
في هذه المرحلة تبلور مفهوم النيابة العامة للإمام المهدي المنتظر(ع)، والذي سبق أن كشف عنه، وألمح إليه – قبل ذلك بأكثر من قرن ونصف – الشيخ محمد بن مكي الجزيني العاملي (استشهد سنة 786)(7) في مؤلفاته، ولا سيما «اللمعة الدمشقية». ومفهوم نيابة الإمام المهدي هو الركيزة الأساس التي يستند إليها مبدأ «ولاية الفقية». حتى أن بعض المفكرين والباحثين المعاصرين يعدّ الشيخ محمد بن مكي العاملي مؤسساً لهذا المبدإ. يقول الدكتور الفضلي في معرض تحليله لأسباب استشهاد الشيخ العاملي: «أما الإدانة – حقيقة – فكانت لأنه كان يقول بمبدإ ولاية الفقيه، وكوّن له تحت مظلتها مرجعية كبيرة في ربوع الشام… وبدفع قوي من هذه المرجعية تحرك في ربوع الشام لتجميع فلول الشيعة، وجمع أمرهم، وإقامة سلطة سياسية شرعية لهم، فجبى الأموال وأعدّ الرجال، واتصل بحكومات الشيعة في وقته سراً وعلانية»(8). كما يقول باحث سني: «يمكن اعتبار المجتهد الشيخ محمد بن مكي الجزيني (العاملي) أول من تطرّق إلى موضوع ولاية الفقيه في كتابه القيّم «اللمعة الدمشقية»، إذ أشار فيه إلى مصطلح «نائب الإمام» و«سلطة نائب الإمام»(9).
ثم جاء المحقق الكركي – بعد أكثر من قرن ونصف – ليكمّل صياغة مفهوم «نيابة الإمام» ويضعه إطاراً وركيزة أساسية للفقه السياسي لمدرسة الإمامة في عصر الغيبة، ويحوّله إلى واقع عملي، حيث «سار الشيخ الكركي في مرجعيته العامة، وزعامته للطائفة، سيرة الشهيد الأول، فقد كان يقول بولاية الفقيه، وأدار، في هديها وبحكم نيابته عن الإمام المهدي(ع)، شؤون الدولة الصفوية(10). وكان شاهات الدولة الصفوية عموماً يظهرون ولاءهم للولي الفقيه، ويعتبرون أن الملك له في الأساس، وهم مفوّضون عنه(11). إلا أن مصطلح «الولي الفقيه» لم يكن مطروحاً حينها، بل كان يطلق على الفقيه الذي له الإشراف الشرعي على الدولة لقب «شيخ الإسلام». وفي هذا اللقب محاكاة لما قامت به الدولة العثمانية (العدو اللدود للدولة الصفوية) من ابتداع منصب «شيخ الإسلام»، إلا أن التشابه في التسمية لا يعني التشابه في الأسس النظرية والواقع العملي للمنصبين، فهما مختلفان؛ إذ كان شيخ الإسلام في الدولة العثمانية موظفاً لدى السلطة برتبة «مفتي»، وكان يستمد شرعيته من السلطان الذي يعيّنه، في حين كان شيخ الإسلام في الدولة الصفوية مرجعاً للأمة والدولة، وهو الذي يمنح الشرعية للسلطان ويفوّضه ممارسة الحكم ويراقبه، ولا يعيّن بأمر السلطان، بل هو متعيَّن أساساً، ويكون – عادة – كبير فقهاء الشيعة، والذي تُجمع على مرجعيته الحواضر الدينية الشيعية، ولا سيما النجف الأشرف.
ونشير هنا إلى وثيقة كتبها الشيخ جعفر بن خضر الجناجي النجفي المعروف بكاشف الغطاء(12) (ت 1228م)، وتعد من وثائق التحوّل الذي شهده الفقه السياسي الإسلامي، فهي توضح طبيعة المستوى العملي الذي بلغه مبدأ «ولاية الفقيه» آنذاك. وهذه الوثيقة عبارة عن إجازة أو تفويض منحه الشيخ جعفر (كاشف الغطاء) إلى السلطان فتح علي شاه القاجاري، تُمَكِّن الأخير من التصرف في الشأن السياسي العام والخراج والزكاة، جاء فيها: «ولما كان الاستيذان من المجتهدين أوفق بالاحتياط، وأقرب إلى رضا رب العالمين، وأقرب إلى الرقي، والتذلل والخضوع لرب البرية، فقد أذِنتُ… للسلطان… فتح علي شاه… في أخذ ما يتوقف عليه تدبير العساكر والجنود، ورد أهل الكفر والطغيان والجحود، من خراج أرض مفتوحة بغلبة الإسلام، وما يجري مجراها، وزكاة». ثم يأمره بتنفيذ عدد من القضايا ذات العلاقة بالجوانب السياسية والمالية والدعوية(13).
تركيز مبدإ نيابة الفقيه للإمام
ظهر في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)، عدد من البحوث الفقهية الجديدة التي ركزت مبدأ نيابة الفقيه للإمام المهدي(ع)، (ويقصد به الفقيه العادل الجامع لشروط المرجعية)، وتحدثت عن صلاحيات الفقيه وحدودها ومساحات ولايته وأنواعها، وهي عموماً بحوث أدخلت الفقه السياسي لمدرسة الإمامة مرحلة جديدة، وأهمها:
1 – «ولاية الحاكم الشرعي» للشيخ أحمد النراقي(14) (ت1245هـ)، وبحثه عبارة عن فصل مستقل من كتاب «عوائد الأيام»، ويعد باكورة البحوث الفقهية الاستدلالية الجامعة التي أكدت اختصاص الفقيه (الجامع للشرائط) بولاية الحكم والإفتاء والقضاء وإقامة الحدود والتصرف في الأموال الشرعية وشؤون القاصرين، بحدود الولاية نفسها التي كانت للنبي(ص) والأئمة(ع)، إلا أن يقوم دليل شرعي على الاستثناء، استناداً إلى قاعدة نيابة الفقيه للإمام(ع) والوكيل كالأصيل عند غيابه. فجاء هذا البحث نقلة حقيقية في الفقه السياسي لمدرسة الإمامة؛ إذ مثّل طليعة البحوث المعمقة والشاملة في ولاية الفقيه. ورغم أن الشيخ النراقي لم يصرح بولاية الفقيه على الحكم واختصاصه برئاسة الدولة الإسلامية، بالنظر لما يبدو من ابتعاد هذا الموضوع عن الواقع وعن معطيات المستقبل المنظور، وكأنه من أشد الموضوعات افتراضاً آنذاك، إلا أن حيثيات البحث واستنتاجاته تشير بمجموعها إلى رأي الشيخ النراقي الراسخ باشتمال ولاية الفقيه على شؤون الدولة والحكم(15).
2 – «الولايات والسياسات» للشيخ مير فتاح حسين المراغي (ت 1250هـ)، وهو ثلاثة بحوث مستقلة من كتاب «العناوين» الفقهي الاستدلالي، درس المؤلف في أحدها موضوع ولاية الفقيه، وأثبت فيه الولاية العامة للحاكم الشرعي (الفقيه)، واختص الآخر بولاية المؤمنين العدول، وطرح فيه الكثير من موضوعات الفقه السياسي وشؤون الحكم الإسلامي، وفي الثالث درس الولايات الخاصة، كولاية الأب والوصي. ولم تحظ بحوث الشيخ المراغي هذه بالاهتمام الذي حظي به بحث الشيخ النراقي، بالنظر لشهرة الأخير وموقعه العلمي الكبير، وكونه أحد أساتذة الشيخ مرتضى الأنصاري، وتناول الفقهاء اللاحقون بحوثه بالدرس والتحقيق والنقد، وهو ما لم يحصل مع بحوث الشيخ المراغي، بالرغم من أهميتها؛ إذ نادراً ما يتطرق الباحثون الجدد لكتابه «العناوين» خلال تناولهم موضوعات الفقه السياسي الإسلامي، إلا أن بعض الباحثين المعاصرين أشاد كثيراً بالكتاب ووصفه «بالدقة والعمق العجيب»(16).
3 – «الجهاد» و«المكاسب المحرمة» للشيخ محمد حسن النجفي المعروف بالجواهري(17) (ت 1266هـ)، وهي بحوث من كتاب «جواهر الكلام»(18). ولم يخصص صاحب الجواهر بحوثاً مستقلة لموضوعات الفقه السياسي، لكنه تناولها في أكثر من باب، أهمها «كتاب الجهاد» و«كتاب المتاجر»، وقد تطرق في باب «المكاسب المحرمة» إلى موضوع شرعية ولاية الحكم والقضاء، بالنسبة للحاكم العادل، وأحكام الأراضي الخراجية. كما بحث في باب «نفوذ تصرفات الأولياء» بعض شؤون ولاية الحاكم الشرعي (الفقيه)(19). ورغم أن الجواهري يعد من أبرز تلاميذ كاشف الغطاء، الذي كان يقول بالولاية العامة للفقيه وتصدى لها عملياً في فترة الأحداث التي جرت في النجف الأشرف، ورغم طبيعة علاقته بالدولة القاجارية في إيران، إلا أن للجواهري مبانيه الاجتهادية الخاصة التي ربما لا تتفق – أحياناً – مع مباني أستاذه(20). ومن هنا لم يخصص بحوثاً مستقلة في «جواهر الكلام» لموضوعات الفقه السياسي، رغم اهتمامه بها، فمثل بذلك منهجاً وسطاً بين ما كان عليه السلف (كالمحقق الحلي والشهيد الأول)، وبين التحوّل الذي أوجده الفقهاء الذين عاصرهم (كالشيخ كاشف الغطاء، والشيخ النراقي) في طريقة تناولهم وتبويبهم لموضوعات الفقه السياسي.
4 – «مناصب الفقيه» للشيخ مرتضى الأنصاري(21) (ت1281هـ)، وهي مجموعة بحوث متفرقة من كتاب «المكاسب»(22) الفقهي الاستدلالي. وقد وردت معظم بحوث الفقه السياسي في قسم البيع منه. ومن أولى المواضيع التي يطرحها المؤلف، حرمة التعاون مع الحكومات غير الشرعية أو الظالمة – كما يسميها – وهو عنوان لكل الحكومات غير الإسلامية. ويستثنى من ذلك من يهدف إلى إصلاح الأمة وخدمتها، شرط أن يكون قادراً على ذلك، أو من يكون مكرهاً ومجبراً حقاً. أما البحث الأساس الذي خصّه بمنصب الفقيه والولاية على الأنفس والأموال، فيخلص فيه إلى أن مناصب الحكومة والعمل على إقامتها والقضاء، وإحقاق الحقوق، وإقامة الحدود والفتوى، هي من اختصاص الفقيه الجامع لشَرطي الأعلمية والعدالة وغيرهما(23).
وسار الفقهاء الذين جاؤوا بعد الشيخ الأنصاري على منهجه الفقهي، ومبناه الاجتهادي في مجمل مسائل الفقه، ومنها ما يرتبط بالفقه السياسي. ولم تشهد هذه المرحلة حتى اندلاع ثورة المشروطة في إيران بحوثاً هامة في هذا المجال، ربما باستثناء ما أورده السيد محمد بحر العلوم(24) في باب «الولايات» من كتاب «بُلغة الفقيه»، إذ كان هذا البحث غنياً في معالجاته لكثير من أحكام الفقه السياسي والحكومة، وولاية الفقيه، معالجة معمقة وواسعة.
نتائج مرحلة التحول
دخل الفقه السياسي لمدرسة الإمامة مرحلة جديدة أخرى خلال العقدين الأول والثاني من القرن العشرين الميلادي؛ بسبب الحاجة العملية التي واجهت الفقهاء، جراء الواقع الجديد الذي خلقته الأحداث الكبرى في إيران والعراق، وفي مقدمتها ثورة المشروطة عام 1906م، وثورة العشرين عام 1920م. فاندلاع ثورة المشروطة في مواجهة استبداد النظام السياسي في إيران، كان دافعاً للفقهاء في إيران للبحث عن البديل السياسي الشرعي؛ إذ ظهر العديد من الآراء الاجتهادية، والبحوث الفقهية في هذا المجال، والتي ساعد تضاربها – أحياناً – على اتساع دائرة موضوعات الفقه السياسي، وإعادة منهجتها وتبويبها، وأهم بحثين ظهرا في هذه الفترة الخصبة:
1 – «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل» للشيخ فضل الله النوري(25) (ت 1907م)، الذي يمكن اعتباره تحولاً مهماً في مسار تطور فقه الدولة في الفكر الشيعي. في هذا البحث، دعا الشيخ فضل الله إلى الحكومة المشروعة أو الشرعية، في مقابل الحكومة المشروطة التي طغت أفكارها على الساحة السياسية. والحكومة المشروعة – حسب الشيخ النوري – هي التي تستمد شرعيتها ووجودها من الشريعة الإسلامية وأحكامها، أي التي تحكم بالشريعة الإسلامية، وبما أن الفقهاء هم علماء الشريعة، فلا بد أن يكون لهم الإشراف الكامل على الدولة. أما الحكومة المشروطة فهي التي تدعو إلى حكم الدستور الذي يعطي لنظام الأكثرية البرلمانية حق منح الشرعية للحكومة، وهو ما رفضه الشيخ النوري بشدة. وبناءً على ذلك اضطر دعاة المشروطة إلى إضافة مهمة في دستور الدولة الإيرانية، يتلخص مضمونها في إشراف الفقهاء على القوانين والقرارات التي يصدرها مجلس الشورى الوطني الإيراني، وتمثلت آليته في اختيار مراجع الدين في النجف الأشرف وإيران خمسة من الفقهاء يكونون بمثابة مجلس رقابة دائم في داخل البرلمان.
2 – «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة»(26)، للشيخ الميرزا محمد حسين النائيني(27) (ت 1936م)، ويعد أهم بحث صدر حينها، فهو أول بحث شامل في الفكر السياسي الشيعي ينشر مستقلاً، ويكتب بهدف تأسيس نظام سياسي، وليس لمجرد التنظير الفقهي، كما أن كاتبه كان من أبرز فقهاء النجف الأشرف (قبل تسلمه موقع المرجعية الدينية العليا)، وأيد آراءه الفقهية المطروحة في الكتاب عدد من أهم الفقهاء الشيعة، وفي مقدمتهم الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني(28) (ت1911م) والشيخ عبد الله المازندارني(29) (ت 1913م). وعلى أساس مضامين الكتاب تأسس النظام السياسي في إيران في أعقاب ثورة المشروطة. وقد أكد الشيخ النائيني مفهوم نظام الحكم المنتخب من قبل الأكثرية المتمثلة في البرلمان، وعد هذه الأكثرية مصدراً لمشروعية النظام، وإن كان الشاه يترأس هذا النظام، شرط أن يكون مقيداً بالدستور والقوانين وليس مطلق الصلاحيات.
والحقيقة أن الشيخ النائيني لم يهدف من وراء الكتاب إلى طرح نظرية متكاملة في فقه الدولة الإسلامية، أو يقول بأن مضامين الكتاب تمثل الموقف العقائدي والفقهي النهائي لمدرسة الإمامة، بل كان يتعامل مع الممكن ومع الواقع، فقد عد هذا النوع من النظام السياسي (الدستوري) أكثر أنظمة الحكم عقلانية، وأكثرها ملاءمة للواقع وللظروف الموضوعية، فالحكومة الدستورية هي خيار الأمة في مقابل الاستبداد والنظام الشمولي، من باب دفع الأفسد بالفاسد، على اعتبار أن النظام الملكي الدستوري هو أهون الشرين، وليس باعتباره الخيار المثالي للأمة. ومن أبرز مؤشرات هذه الحقيقة، أن الكتاب لم يكتب بالعربية، بل بالفارسية، مما يعني محدودية تداوله وأغراضه، في حين أن البحوث الفقهية الأخرى للشيخ النائيني كلها كتبها – كغيره من الفقهاء – بالعربية، كما احتوى الكتاب على مضامين وتحليلات تدخل في إطار الفلسفة السياسية والرؤى السياسية التحليلية، وربما تكفي مطالعة الفصل الخامس من الكتاب، الذي احتوى على كثير من المصطلحات القانونية والسياسية المتداولة، للوقوف على ذلك. ثم إن الشيخ النائيني سحب – في السنوات اللاحقة – جميع نسخ الكتاب من الأسواق والمكتبات، وحرّم إعادة طبعه. وبشكل عام، فقد نجحت رؤية الشيخ النائيني هذه نسبياً في تحديد سلطات الشاه، وتأسيس مجلس للشورى، منتخب من قبل الأمة، ويضم عدداً من الفقهاء الذين يشرفون على تشريعاته.
أما الحدث المهم الآخر الذي أعقب الثورة المشروطة فهو ثورة العشرين في العراق، التي فجّرتها فتاوى الفقهاء الشيعة، وفي مقدمتهم الشيخ محمد تقي الشيرازي(30) (ت 1920م) الذي قاد الثورة، ومعه معظم فقهاء العراق، وبادر إلى تأسيس إدارات محلية في المناطق المحررة تتبع سلطته، ويمكن القول بأنها كانت حكومة إسلامية ثورية يقودها الفقيه، وتعمل بأحكام الشريعة، وهي خطوة عملية رائدة في حينها، تأسست على الآراء الفقهية للشيخ الشيرازي وغيره من الفقهاء.
وفي أعقاب هذين الحدثين، اللذين كان محفّزين لظهور العديد من البحوث في مجال الفقه السياسي الإسلامي – كما ذكرنا – لم تشهد الساحة العلمية بحوثاً مهمة، باستثناء بعض الكتابات والآراء السياسية المحدودة لعدد من فقهاء مدرسة الإمامة، كالسيد محسن الأمين في سوريا، والسيد حسن المدرس والسيد أبي القاسم الكاشاني في إيران، والسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ محمد مهدي الخالصي والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد محسن الحكيم في العراق. بيد أن عقود الخمسينات والستينات والسبعينات شهدت منعطفاً جديداً آخر في مسار الفقه السياسي الإمامي، بسبب انتشار فكر الحركات الإسلامية الشيعية في إيران والعراق، والتي كانت تدعو إلى تأسيس الدولة الإسلامية. وتميّز هذا الفكر بالجمع بين الفقه السياسي والفقه الحركي، وهي ظاهرة لم تكن معروفة في الوسط الفقهي والفكري الشيعي. ولعل من أهم بحوث عقد الخمسينات التي حملت هذه السمة بحث «وجوب إقامة الدولة الإسلامية» للسيد الشهيد محمد باقر الصدر(31) (ت 1980م).
وبعد هذه المسيرة العلمية التاريخية الطويلة التي قطعتها مدرسة الإمامة، استقر فقهها السياسي على شكلين من الحكم الإسلامي:
الأول: الشكل الأصلي، وهو الذي يختص بالإمام المعصوم(ع) المنصوص عليه، وهو الأساس الثابت.
الثاني: الشكل الفرعي، أو الملحق المتفرع من الشكل الأصلي، وتطبيقاته مؤقتة، وتقتصر على عصر غيبة الإمام المهدي(ع)، ويقف على رأسه نائب الإمام (الفقيه العادل الجامع للشروط). وهناك عدة اتجاهات فقهية في هذا المجال (سنتعرض إلى بيانها لاحقاً).
ولا يختلف الشكلان في مساحة الحكم والصلاحيات التنفيذية – كما يذهب القائلون بولاية الفقيه العامة – فللفقيه الحاكم ما للإمام المعصوم من شؤون ولاية المسلمين؛ باعتباره نائباً ووكيلاً عنه في غيبته، دون المساس بمنزلة الإمام المعصوم وخصائصه التي يتفرّد بها.
أطروحة «الحكومة الإسلامية»
شكّل ظهور الآراء الفقهية للإمام روح الله الموسوي الخميني(32) (ت 1989م)، في عقد الستينات، البداية الحقيقية للنهضة المنهجية في الفقه السياسي لمدرسة الإمامة، فكانت المرة الأولى في تاريخ مدرسة الإمامة التي يؤسس فيها أحد الفقهاء لأطروحة فقهية متكاملة في «الحكومة الإٍسلامية»، ويدعو الفقهاء – صراحة – إلى تطبيقها، وينتقد من خلالها الاتجاه السائد – آنذاك – في الحوزات العلمية الدينية، والذي يركز جهوده على المزيد من البحث الفقهي في مجال العبادات وغيرها من الأبواب التقليدية في الفقه، ولا يولي اهتماماً كافياً بموضوعات الفقه السياسي وشؤون المسلمين العامة. ورأى الإمام الخميني أن تأسيس الفقهاء للحكومة الإسلامية وقيادتهم لها ليس خياراً إلى جانب الخيارات الأخرى، بل هو واجب، ليتمكن الإسلام – من خلالها – من أداء رسالته، كما أراد الله سبحانه وتعالى.
اعتمد الإمام الخميني خلال مرحلة التدريس في النجف الأشرف كتاب «المكاسب» للشيخ الأنصاري؛ ليكون محور دروسه الفقهية التي يلقيها على طلبة البحث الخارج (الدراسات العليا)، وكان من أهدافه التركيز على قضايا الفقه السياسي وفقاً لمنهجية الشيخ الأنصاري. وبذلك جُمعت أهم آرائه ونظرياته – في الفقه السياسي – في شروحاته وتعليقاته على المكاسب، ولا سيما في قسم المكاسب المحرمة وقسم البيع. ففي المكاسب المحرمة طرح موضوعات «معونة الظالم» و«حرمة الولاية من قبل الجائر» و«جوائز السلطان» و«الخراج ومقاسمة السلطان الجائر» و«أداء الزكاة إلى السلطان الجائر»(33)، كما طرح في قسم البيع موضوع «ولاية الفقيه»(34)، الذي نشر في ما بعد بحثاً مستقلاً تحت عنوان «الحكومة الإسلامية» أو «ولاية الفقيه»(35)، وهو خلاصة أطروحته في الدولة الإسلامية، التي انعطف فيها الفقه السياسي لمدرسة الإمامة انعطافة تاريخية، وبلغ مرحلة البلوغ والنضج.
في أطروحته، عدّ الإمام الخميني «ولاية الفقيه» فكرة علمية واضحة لا تحتاج إلى برهان، بمعنى أنها بديهية لمن يفهم عقائد الإسلام وأحكامه فهماً حقيقياً(36). بيد أن اليهود والصليبيين شوهوا صورة الإسلام في أذهان الناس، لكي يبعدوا فكرة قدرة الإسلام على تنظيم شؤون الحياة والمجتمع وتأسيس الحكومة(37). ويؤكد الإمام الخميني تناقض الإسلام مع الفقه السلطاني والنظام الملكي والحكم الوراثي؛ لأنها صور مقتبسة من الآخرين وهدفها استعباد الناس(38)، في حين أن كمال الإسلام يجعله نظاماً يستوعب كل مجالات حياة الإنسان… تخطيطاً وتشريعاً وتحكيماً وتنفيذاً، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الحكومة التي هي جزء لا يتجزأ من الإيمان بالولاية (ولاية النبي والأئمة المعصومين)، والسعي من أجل ذلك، هو مظهر من مظاهر ذلك الإيمان(39).
ويلخص الإمام الخميني أدلة ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية بما يلي:
1 – ضرورة المؤسسات التنفيذية، التي من شأنها إخراج التشريعات الإسلامية إلى حيز التطبيق، والحكومة الإسلامية هي التي تنفذ قوانين الشريعة الإسلامية، لهذا قرر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع، فجعل للأمر ولياً للتنفيذ، وهو ما تدل عليه سيرة النبي(ص)(40).
2 – ضرورة استمرار تنفيذ الأحكام، إذ لا تختص أحكام الإسلام بزمان الرسول(ص)، بل إنها خالدة، ولا بد من الاستمرار في العمل بها، فلا يجوز تعطيل الحدود والقضاء، وإهمال جباية الأموال الشرعية، وترك الدفاع عن الأمة الإسلامية وأراضيها(41).
3 – حقيقة قوانين الإسلام، فهذه القوانين شرعت لتكوين دولة، فيها إدارة وفيها اقتصاد وفيها ثقافة، وكل ما من شأنه إيجاد نظام اجتماعي متكامل يسد احتياجات الإنسان(42). والحكومة هي الكفيلة بإقامة ذلك، فمثلاً: الأحكام المالية تدل على أنها تهدف إلى تأسيس دولة، وكذلك أحكام الدفاع، وأحكام الحدود والديات والقصاص(43).
4 – ضرورة الثورة السياسية، التي تهدف إلى الحيلولة دون مسايرة أنظمة الشرك والانحراف والفساد والظلم، وتستبطن حرمة التعاون معها؛ لأنها حكومات غير شرعية. ومواجهة هذه الحكومات يستدعي إيجاد البديل الذي يكفل إجراء العدالة والقسط والصلاح والاستقامة(44).
5 – ضرورة الوحدة الإسلامية، فلا سبيل إلى توحيد الأمة الإسلامية، ولمّ شمل المسلمين والقضاء على مؤامرات الاستعمار إلا بالحكومة الإسلامية التي تكون محوراً لحركة الأمة ووحدتها(45).
6 – ضرورة إنقاذ المظلومين والمحرومين، فالشريعة الإسلامية تفرض على أتباعها العمل على إنقاذ المظلومين في كل مكان، وتخليصهم من براثن الظالمين والمستغلين، وهي رسالة الإسلام الأساسية(46).
ويدعّم الإمام الخميني هذه الضرورات بشواهد من سيرة الرسول(ص) والإمام(ع) ومجموعة من الأحاديث والروايات. وحين يصل إلى طبيعة النظام السياسي في الإسلام، فإنه يرفض كل الأشكال التاريخية والقائمة، حتى تلك التي تدَّعي الانتساب إلى الإسلام، إذ يقول إن «الحكومة الإسلامية لا تشبه الأشكال الحكومية المعروفة؛ فهي ليست حكومة مطلقة يستبد فيها رئيس الدولة برأيه، عابثاً بأموال الناس ورقابهم، فالرسول(ص)، وأمير المؤمنين(ع) وسائر الأئمة(ع) ما كانوا يملكون العبث بأموال الناس ولا برقابهم، فحكومة الإسلام ليست مطلقة، وإنما هي دستورية، ولكن ليس بالمعنى الدستوري المتعارف الذي يتمثل في النظام البرلماني أو المجالس الشعبية، وإنما هي دستورية بمعنى أن القائمين بالأمر يتقيدون بمجموعة الشروط والقواعد المبينة في القرآن والسنة، والتي تتمثل في وجوب مراعاة النظام وتطبيق أحكام الإسلام وقوانينه. ومن هنا كانت الحكومة الإسلامية، هي حكومة القانون الإلهي. ويكمن الفرق بين الحكومة الإسلامية والحكومات الدستورية، الملكية منها والجمهورية، في أن ممثلي الشعب أو ممثلي الملك، هم الذين يقننون ويشرعون، في حين تنحصر سلطة التشريع بالله عزّ وجل في الحكومة الإسلامية، وليس لأحد أياً كان أن يشرّع، وليس لأحد أن يحكم بما لم ينزل الله به من سلطان… وكل ما ورد في الكتاب والسنة مقبول. في حين أن الحكومات الدستورية، الملكية أو الجمهورية، إذا شرعت الأكثرية فيها شيئاً، فإن الحكومة بعد ذلك تعمل على أن تحمل الناس على الطاعة والامتثال بالقوة إذا لزم الأمر(47).
ثم يذكر شروط الحاكم الإسلامي (رئيس الدولة الإسلامية)، كالعقل والبلوغ وحسن التدبير، ويركز على الشرطين الأكثر أهمية، وهما: العلم بالقانون الإسلامي والعدالة، وقصد بالقانون الإسلامي الفقه؛ على اعتبار أن الحكومة الإسلامية هي حكومة الشريعة وتجسيدها العملي، فلا بد أن يكون رئيسها عالماً بالشريعة حسب ما يقتضيه العقل السليم. أما جانب العدالة، فلا بد لمراعاته أن يتحلى الحاكم بأقصى حد من كمال العقيدة وحسن الأخلاق مع العدل والنزاهة، وهو مقتضى من يتصدى لإقامة الحدود وإحقاق الحقوق والتصرف في أموال الأمة(48). وحسب مدرسة الإمامة، فإن الإمام المعصوم هو أفضل من يمتلك هاتين الصفتين، بصرف النظر عن أصل النص عليه. أما في عصر الغيبة، فلا يوجد نص على شخص معين بالاسم، فلزم البحث عمن تتوافر فيه تلك الخصائص. إذا استثنينا العدالة التي يمكن أن تتوافر في كثير من المؤمنين، فإن العلم بالشريعة منحصر بالفقهاء. وعند هذه النقطة يصل الإمام الخميني إلى موضوع ولاية الفقيه، فيقول: «إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يليه الرسول(ص)، وأمير المؤمنين(ع)، على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة»(49). وموضوع حديث الإمام الخميني هنا هو مساحة الولاية والحكومة أو الوظيفة العملية، أي مجالات الحياة التي تشملها سلطة الحاكم الشرعي، وليس منصب النبوة أو الإمامة، فهذان المنصبان خاصان، وفيهما شؤون لا يمكن لأي إنسان امتلاكها.
ويؤكد الإمام الخميني حقيقة أن الدولة الإسلامية، هي وسيلة لتحقيق الأهداف السامية للإسلام، وليست هدفاً أو غاية بذاتها، ويتلخص الهدف في تطبيق شريعة الله تعالى، وتحقيق العدل في الأرض، وكفالة سعادة البشرية، وتعبيد الطريق لهم للوصول إلى الآخرة. وحكومة بهذا المستوى لا بد أن يكون حاكمها على مستوى خاص من الصفات والخصال. من هنا يدعو الإمام الخميني الفقهاء العدول إلى أن يغتنموا الفرص ويعملوا على تشكيل حكومة رشيدة يراد بها تنفيذ أمر الله، وإن كان يحمّلهم جهوداً ومساعي غير يسيرة، ولا يقبل عذراً في ذلك؛ لأن تولي الفقيه لأمور الناس بالقدر المستطاع يمثل – بذاته – انصياعاً لأمر الله تعالى وأداءً للوظيفة الشرعية الواجبة(50).
ويستعرض الإمام الخميني عدداً من أهم الأحاديث والروايات التي تستفاد منها الدلالة على ولاية الفقيه، كأحاديث الرسول الأعظم(ص): «اللهم ارحم خلفائي.. الذين يأتون من بعدي، يروون حديثي وسنتي، فيعلّمونها الناس»(51)، و«الفقهاء أمناء الرسل»(52)، و«العلماء ورثة الأنبياء»(53)، و«العلماء حكام على الناس»(54)، وحديث الإمام موسى الكاظم(ع): «الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها…»(55) وحديث الإمام الصادق(ع): «من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا.. فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً»(56).
ثم يدعو الإمام الخميني علماء الإسلام إلى العمل الجاد والجهاد من أجل إقامة الدولة الإسلامية، ويعدد السبل التي من شأنها تحقيق هذا الهدف، وفي مقدمتها: إصلاح المراكز الدينية، والحوزات العلمية، وتطهيرها من الأفكار الجامدة والمشوهة، ومقاطعة فقهاء السلاطين، وتوعية الأمة، وإزالة آثار الغزو الاستعماري في مجالي الفكر والأخلاق، وعدم مهادنة الحكومات الجائرة(57).
وتتضح من ثنايا هذا البحث طبيعة التحول الذي أوجده الإمام الخميني في مجال الفقه السياسي الإسلامي، بعد أن أعاد النظر في مفهوم انتظار المهدي(ع) في عصر الغيبة، وفتح الباب على مصراعيه لتجاوز فكرة اختصاص تأسيس الدولة وإدارتها بالإمام المعصوم(ع)، هذه الفكرة التي ظلت إحدى العقبات النظرية الرئيسة في طريق إقامة الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وفقاً لمدرسة أهل البيت(ع)، كما حالت دون تدخل كثير من الفقهاء في رعاية الشأن السياسي، بعد أن حددوا ولاية الفقيه في الفتوى والقضاء والمال الشرعي.
ويعتقد كثير من الباحثين السنة، أن أطروحة الإمام الخميني فتحت باب التقريب بين الشيعة والسنة، وتحديداً في مجال تأسيس ولاية الحكم – في عصر الغيبة – على مبدإ البيعة، وعدم حصرها في شكل واحد، وهو المبني على النص، والخاص بأئمة أهل البيت، هذا الحصر الذي أدى إلى تعطيل مساعي إقامة الحكم الإسلامي – في عصر الغيبة – وعمّق الهوة بين السنة والشيعة، كما فتحت الأطروحة الباب أمام علماء الإسلام الشيعة ليؤسسوا الحكومة الإسلامية على أساس الشورى(58). ولسنا هنا بصدد مناقشة وجهة النظر هذه، ولكن مما لا شك فيه أن الحقائق التي أفرزها واقع التطبيق قد أكّدت إمكانية التقاء النظريتين الفقهيتين المؤصلتين السنية والشيعية في إطار مبدإ «ولاية الفقيه»، وإن اختلفتا في بعض المنطلقات والتفاصيل، ولكن النتائج لدى النظريتين تبقى متقاربة إلى حد كبير.
إحالات الفصل الثاني
(1) رغم أن السيد جمال الدين (الأسد آبادي) الأفغاني كان شيعياً إلا أنه كان ذا تأثير في معظم التيارات السياسية الإسلامية التي تأسست بعد وفاته. والعروة الوثقى، في الأصل، صحيفة سياسية إسلامية، كان قد أصدرها في باريس، ثم جمعت في مجلد واحد.
(2) الكتاب كان في الأصل رسالة دكتوراه قدمها السنهوري بالفرنسية لجامعة ليون بفرنسا عام 1924 وترجمته التي قام بها الدكتور توفيق محمد الشاوي والدكتورة نادية السنهوري صدرت عام 1989م.
(3) كان صدور هذا الكتاب – الذي نفى أي وجود للدولة في الإسلام – دافعاً للكثيرين من المفكرين والباحثين الإسلاميين للخوض في موضوع الفقه السياسي والنظام السياسي للدولة الإسلامية.
(4) أورد نصر محمد عارف قائمة بمجموعة مهمة من هذه المؤلفات في كتابه «من التراث السياسي الإسلامي» ص59 – 74.
(5) المعروف بالمحقق الكركي، وهو من جبل عامل في لبنان، كبير فقهاء الشيعة، وشيخ الإسلام في الدولة الصفوية.
(6) فقيه كبير من جبل عامل بلبنان، شيخ الإسلام في الدولة الصفوية.
(7) المعروف بالشهيد الأول، المرجع الديني الأعلى للشيعة، ولد في لبنان واستشهد في دمشق.
(8) د. الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي، ص401.
(9) محمد عبد الكريم، النظرية السياسية المعاصرة للشيعة، ص102.
(10) الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي، ص401.
(11) انظر: المصدر السابق، ص402.
(12) المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، ولد وتوفي في العراق.
(13) الوثيقة منشورة في كتابه كشف الغطاء، باب الجهاد. انظر: الفضلي، مصدر سابق، ص456.
(14) أحد كبار الفقهاء في النجف الأشرف، ولد في إيران وعاش وتوفي في العراق.
(15) انظر: النراقي، عوائد الأيام، مبحث ولاية الحاكم.
(16) انظر: الشيخ عميد الزنجاني، فقه سياسي، ج2 ص57 – 58.
(17) المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، ولد وتوفي في العراق.
(18) يعد كتاب «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام» أكبر موسوعة فقهية استدلالية وأهمها في مدرسة الإمامة.
(19) المصدر السابق نفسه، كتاب الجهاد، ج21، وكتاب المتاجر، ج22.
(20) للمزيد انظر: الزنجاني، فقه سياسي، مصدر سابق، ج2، ص60 – 61.
(21) المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، أحد أبرز المجددين في القرون الأخيرة، ويلقب بالشيخ الأعظم، ولد في إيران وعاش وتوفي في العراق.
(22) يعد كتاب «المكاسب» من أهم الكتب الفقهية الاستدلالية لمدرسة الإمامة خلال القرون الأخيرة، ولا يزال الأكثر هيمنة على الأجواء العلمية الشيعية.
(23) انظر: الشيخ الأنصاري، المكاسب، كتاب البيع، ج9 ص305 – 374.
(24) أحد كبار الفقهاء في النجف الأشرف، ولد وتوفي في العراق.
(25) أحد كبار الفقهاء في إيران، كانت آراؤه الفقهية التي دعا فيها للمشروعة، أي الدولة الإسلامية الشرعية، في مقابل المشروطة، أي الملكية الدستورية، السبب في إعدامه بضغط من العناصر العلمانية التي اخترقت ثورة المشروطة.
(26) حمل الكتاب حين صدوره باللغة الفارسية في إيران والعراق عام 1909م عنوان: «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة في لزوم مشروطية الدولة المنتخبة لتقليل الظلم على أفراد الأمة»، ثم نشرت مجلة العرفان اللبنانية نص ترجمته العربية في عامي 1930 – 1931م.
(27) المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، ولد في إيران وعاش وتوفي في العراق.
(28) المعروف بالآخوند، المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، ولد في إيران وعاش وتوفي في العراق.
(29) أحد مراجع الدين في إيران، ولد وتوفي في إيران.
(30) المرجع الديني الأعلى للشيعة، ولد في إيران، وعاش وتوفي في العراق.
(31) أحد كبار المفكرين ومراجع الدين المجددين في النجف الأشرف، شكّلت بحوثه في مختلف المجالات منعطفات تاريخية على الصعيدين العلمي والفكري لمدرسة الإمامة، ولد وتوفي في العراق.
(32) المرجع الديني الأعلى ومؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية. بعد بروزه قائداً لجهاد الشعب الإيراني، ثم نفيه إلى العراق، أخذ يعلن عن آرائه الفقهية في النجف الأشرف من خلال دروسه، التي أثمرت عن تأسيس دولة إسلامية قائمة على مدرسة الإمامة. ولد وتوفي في إيران.
(33) انظر: الإمام الخميني، المكاسب المحرمة، ج2.
(34) انظر: الإمام الخميني، البيع، ج1.
(35) نشر – بعد مراجعته – في أواخر عام 1970 في النجف الأشرف ثم بيروت، وهو نص البحوث التي ألقاها الإمام الخميني خلال 24 درساً على طلبته في النجف الأشرف في الفترة من 21 كانون الثاني – 10 شباط 1970.
(36) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص7.
(37) المصدر نفسه، ص8.
(38) المصدر نفسه، ص12.
(39) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص19.
(40) المصدر نفسه، ص23 – 25.
(41) المصدر نفسه، 25 – 26.
(42) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص26 – 27.
(43) المصدر نفسه، ص29 – 33.
(44) المصدر نفسه، ص33 – 34.
(45) المصدر نفسه، ص35.
(46) المصدر نفسه، ص36 – 37.
(47) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص41 – 42.
(48) المصدر نفسه، ص45 – 47.
(49) المصدر نفسه، ص49.
(50) المصدر نفسه، ص54.
(51) رواه الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي، الحديث 50.
(52) رواه الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج1 ص58.
(53) المصدر نفسه، ج1 ص42.
(54) رواه الشيخ عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، الحديث 599.
(55) رواه الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج1، ص47.
(56) وهي المشهورة بمقبولة عمر بن حنظلة، رواها الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج1 ص56، وتعد أهم أدلة ولاية الفقيه على الحكم، وعدّها بعض المحققين المعاصرين رواية صحيحة. انظر: السيد جعفر مرتضى العاملي، ولاية الفقيه في صحيحة عمر بن حنظلة وغيرها، مجلة التوحيد (ق1)، العدد الرابع، رمضان 1403هـ، ص66.
(57) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص119 – 145.
(58) انظر: د. توفيق محمد الشاوي، فقه الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة، ص19، و306.
الفصل الثالث
الفقه السياسي الإسلامي الحديث
تدوين فقه الدولة الإسلامية الحديثة
اتضح مما سبق أن مسيرة الفقه السياسي الإسلامي استغرقت زمناً طويلاً وشهدت تحولات كثيرة لتصل إلى مرحلة تدوين فقه الدولة الإسلامية الحديثة، ويمكن إجمال المراحل التي مرت بها المدرستان بما يلي:
1 – مدرسة الخلافة: تمثلت المرحلة الأولى في الكتابات التي ظهرت في العهد الأموي، ومعظمها عبارة عن أحاديث وروايات وتفسيرات موضوعة، هدفها تسويغ الحكم وممارساته وإضفاء الشرعية عليه من جهة، وتشويه صورة المدرسة المنافسة (الإمامة) من جهة أخرى، ثم ظهرت المؤلفات الأساسية في العصر العباسي، ومعها بدأت المرحلة الثانية التي استمرت حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وحينها دخل الفقه السياسي لمدرسة الخلافة مرحلته الثالثة من خلال النتاجات الجديدة للمفكرين والفقهاء الإصلاحيين، وظل يعيش هذه المرحلة حتى الثلاثينات من القرن العشرين، حين بدأت المرحلة الرابعة والتي ما زالت قائمة، وفيها ظهرت مؤلفات وبحوث مهمة استوعبت جميع جوانب فقه الدولة الإسلامية ونظمها.
2 – مدرسة الإمامة: تمثلت مرحلتها الأولى في الكتابات التي عمّقت مبدأ الإمامة وخصائصها من منظور العقيدة، ثم اتسعت لتشتمل على الجانب الفقهي أيضاً، وقد استوعب هذه المرحلة زمنياً عصر الأئمة الاثني عشر، واستمرت حتى ظهور حركة الاجتهاد ومعها المدوّنات الفقهية، فكانت المرحلة الثانية التي تبلورت خلال القرن الثالت الهجري، وامتدت إلى عصر الدولة الصفوية، حينها بدأت المرحلة الثالثة التي مثلت نقلة في المسار التاريخي للفقه السياسي الإمامي، أما المرحلة الرابعة فقد بدأت في القرن الثالث عشر الهجري مع ظهور بعض الكتابات الفقهية السياسية المهمة. وبظهور بحوث الإمام الخميني في أواخر الستينات من القرن الميلادي العشرين انتهت المرحلة الرابعة، فكانت بحوث الإمام تمثل مرحلة بذاتها، وهي المرحلة الخامسة. ثم بدأت المرحلة السادسة مع نشأة الجمهورية الإسلامية في إيران.
في المرحلة الأخيرة التي ذكرنا أنها شهدت نهضة بحثية في الفقه السياسي لمدرسة الإمامة على المستويين الكمي والنوعي، بلغت المؤلفات والدراسات في هذا المضمار أرقاماً قياسية كمّاً ونوعاً، فمجموع ما صدر خلال السنوات العشر الأولى من عمر الجمهورية الإسلامية الإيرانية (1979 – 1988م) كان أكثر بكثير مما كتب خلال ألف عام سبقتها(1). والأهم من ذلك هو المستوى النوعي لهذه المؤلفات؛ إذ استوعبت معظم موضوعات فقه الدولة الإسلامية الحديثة ونظمها، وهي موضوعات لم يكن كثير منها قد طرح على طاولة البحث الفقهي، أو أنه طرح بصور افتراضية مقتضبة. وكان هذا التطور من ثمار جهود استثنائية قادها الفقهاء والأكاديميون الإسلاميون في الحوزات الدينية والجامعات، في أكثر من بلد إسلامي، ولا سيما إيران ولبنان. ومن أهم ما صدر في هذه المرحلة:
1 – «الإسلام يقود الحياة» للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، وهو ست دراسات في فقه الدولة الإسلامية ونظامها السياسي وفكرها الاجتماعي والاقتصادي، صدرت في أوائل عام 1979م. وهي دراسات رائدة كانت ذات تأثير في الأوساط الفقهية والقانونية في الجمهورية الإسلامية، حتى عدّها بعض المهتمين بأنها – وتحديداً لمحته الفقهية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية – كانت أحد المصادر الرئيسة للدستور الذي أقرّه مجلس الخبراء في إيران(2).
2 – «الفقه السياسي» للشيخ عباس علي عميد الزنجاني، وهي موسوعة رائدة (بالفارسية) في خمسة أجزاء كبيرة، يحمل الأول عنوان: القانون الدستوري وأسس دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الثاني: النظام والقيادة في الإسلام، الثالث: القانون الدولي الإسلامي، الرابع: أسس السياسة الخارجية وأساليب الدبلوماسية في الإسلام، والخامس: القواعد الفقهية الحاكمة على الموضوعات السياسية في الإسلام. وقد بدأت بالصدور اعتباراً من عام 1984م.
3 – «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية» للشيخ حسين علي المنتظري، وهي موسوعة فقهية استدلالية في عدة أجزاء كبيرة، وقد صدر منها أربعة أجزاء حتى الآن، وتتميز بشموليتها لكل موضوعات الدولة الإسلامية الحديثة ونظمها. وقد بدأت في الصدور عام 1986.
4 – «صحيفة النور» وهي خطب الإمام الخميني ورسائله وبياناته، جمعت في أكثر من خمسة وعشرين مجلداً، وتضم مقولات أساسية في فقه الدولة الإسلامية وفكرها السياسي والاجتماعي والأخلاقي ونظمها وسلوكها العملي، ويمكن القول بأنها تمثل النهج العملي والسلوك اليومي الذي ينبغي أن تكون عليه الدولة الإسلامية وحكّامها. كما جمعت هذه الخطب والبيانات والرسائل في موسوعة أخرى محققة بعدة مجلدات عنوانها: «الكوثر».
وقد أخذ مبدأ ولاية الفقيه حقه من التنظير الاستدلالي المعمق، في معظم تفاصيله التي تستوعبها عناوين: شرعية ولاية الفقيه، حاكمية الفقيه ومساحتها، موقع الولي الفقيه، علاقة الفقيه الحاكم بغيره من الفقهاء، علاقة الفقيه الحاكم بالمسلمين خارج الحدود الجغرافية للدولة الإسلامية، نصب الفقيه ومراقبته وعزله وغيرها.
أما على مستوى نظم الدولة الإسلامية، فإنها قامت على أساس النظريات والتشريعات الفقهية التي صاغها الفقهاء والحقوقيون والمتخصصون – غالباً – في إطار مجالس تخصصية.
وقد تناولت هذه المواضيع معظم تفاصيل النظرية والتطبيق واستوعبت حركة الدولة والمجتمع والسلطة على مختلف المسارات الاجتماعية والثقافية والحقوقية والسياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية وغيرها. إلا أن النظام السياسي للدولة سبق النظم الأخرى في النضج والتبلور، وفي زمن قياسي لا يتجاوز السنتين، في حين واجهت الجمهورية الإسلامية صعوبات وإشكاليات كثيرة على مستوى النظم الأخرى، فظلت لسنوات عديدة – وما زالت – تعيش مرحلة الاكتشاف وإعادة الاكتشاف والتأصيل والأسلمة؛ لأنها – في الحقيقة – لم ترث – فقهاً يسد حتى جزءاً من حاجاتها الجديدة.
النظريات الحديثة في الفقه السياسي الإسلامي
في مرحلة تدوين فقه الدولة الإسلامية الحديثة، برزت عدة نظريات وأطروحات فقهية في موضوع الدولة الإسلامية، وهي تنقسم إلى اتجاهين رئيسين:
الأول: لا يؤمن بقيام دولة إسلامية شرعية في عصر الغيبة، استناداً إلى بعض الروايات والمنقولات التي تعد كل راية، قبل المهدي، راية ضلال، وأصرّ هذا الاتجاه على التفسيرات الخاصة التي تحمل رؤى مسبقة. وهو بذلك لا يعبّر عن الظهور الموضوعي أو الفهم الموضوعي للروايات. هذا الاتجاه يرى أن إقامة الحكومة الإسلامية، هو حق خاص بالإمام المعصوم(ع)، فلا ولاية للفقيه على الحكم، ولا شورى للأمة، وإنما هناك ولاية للفقيه في الأمور الحسبية، وهو حق مكفول للأمة أيضاً، ويعدّ واجباً كفائياً تحدده الظروف. إضافة إلى قوله بولايتي الإفتاء والقضاء الخاصتين بالفقيه أيضاً. ويبتعد هذا الاتجاه عن أي جهد عملي في الشأن السياسي، وعن ممارسة أي سلوك سياسي؛ بل يحصر جهوده الفقهية في أبواب الفقه التقليدية.
ولا ينحصر هذا الاتجاه بمدرسة الإمامة، بل إن بعض المفكرين السنة يذهب إلى الرأي نفسه، إلا أن المنطلقات تتباين هنا، فالاتجاه الفقهي الإمامي القائل بهذا الرأي ينطلق من رؤى دينية ويعبّر عن فهم فقهي، في حين ينطلق المفكرون السنة من رؤية دنيوية سياسية، وإن لم تصرح بعلمانيتها، وتتلخص في عدم إيمانها بشمولية الدين لموضوع الدولة وبتناول الشريعة لموضوعات الفقه السياسي، والذي يمكن طرحه في هذا المجال هو دولة المسلمين والتجربة التاريخية لدولة المسلمين وليس الدولة الإسلامية(3).
الثاني: يؤمن بقيام الدولة الإسلامية. هذا الاتجاه يضم النظريات التي تؤمن بشرعية قيام الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، لكنها تختلف في عدد من أسسها وأدلتها الشرعية، وتلتقي في معظم الأهداف والنتائج، وفي مقدمتها هدف إقامة الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة، وحماية الدين وتحقيق غاياته والدفاع عن المسلمين ومقدراتهم. أما الأساس الأهم الذي تختلف حوله هذه النظريات، فهو صاحب الولاية في الدولة ومصدر شرعيتها، حتى أصبح هذا الأساس معيار تقسيم نظريات الدولة الإسلامية الحديثة، وأشهرها: نظرية الشورى، ونظرية ولاية الفقيه المنصوب، ونظرية ولاية الفقيه والشورى. ونستعرض هنا أهم معالم النظريات الثلاث، ليس بهدف دراستها، ولكن بهدف دراسة تطور نظرية الدولة في الفقه الإسلامي؛ على اعتبار أن هذه النظريات هي خلاصة لأهم ما توصل إليه الفقهاء المسلمون المعاصرون بوصفه امتداداً لجهود الفقهاء المتقدمين:
الأولى: نظرية الشورى:
يتمسك بهذه النظرية معظم الاتجاهات الفقهية المعاصرة لمدرسة الخلافة، إضافة إلى بعض الاتجاهات الفكرية في مدرسة الإمامة. وتتلخص – في مفهومها للولاية – بحصر حق الولاية بالأمة التي تنتخب من تفوضه في رئاسة الدولة؛ ليكون وكيلاً عنها وليس ولياً عليها في إدارة الدولة وممارسة الحكم. وتستند هذه النظرية إلى قاعدة الشورى في اختيار رئيس الدولة وممارسة السلطة، عبر عدد من الآليات أهمها: الاستناد إلى رأي أكثرية الأمة، فيمكن حينها لجميع أفراد الأمة احتلال موقع رئاسة الدولة الإسلامية من دون اشتراط العلم الشرعي أو الفقاهة. بيد أن هذه النظرية لا تمانع في أن يكون رئيس الدولة فقيهاً، ولكن ليس لأنه فقيه، بل لكونه مواطناً، إذ ليس للتخصص العلمي الشرعي أي مدخلية في الانتخاب والتعيين.
ويذهب مفكرو هذا الاتجاه من الشيعة إلى عدم وجود شكل محدد للنظام السياسي في الإسلام، وعدم وجود ولاية لأحد على أحد من المسلمين، وبذلك تضع هذه النظرية موقع رئاسة الدولة، أو ولاية الحكم، في إطار الشكل وليس المضمون. ويختلف دعاة هذه النظرية حول آيات تنفيذ الشورى، الأمر الذي قسّمها إلى عدة نظريات؛ ولكن على المستوى النظري، فإن آلية انتخاب رئيس الدولة الإسلامية، إما تكون بالانتخاب المباشر وضمن مرحلة واحدة، أي الابتداء بالبيعة، والانتهاء بالتنصيب، أو الانتخاب غير المباشر على مرحلتين، وفيه يتم انتخاب الحاكم الأعلى من قبل أهل الحل والعقد الذين ترتضيهم الأمة، ثم تنتهي عملية التنصيب بالبيعة. وفي كلتا الحالتين، فإن الانتخاب الشعبي هو الذي يمنح الحاكم الأعلى شرعية ممارسة الحكم. وإذا تجاوزنا الجوانب العقيدية والمنطلقات الفكرية في هذه النظرية، وأمعنّا النظر في نظامها السياسي وطبيعة ممارسة السلطة، فسنجدها أقرب إلى الديمقراطيات التقليدية.
وحول أرضية نمو الشورى ونضجها، في إطار مدرسة الخلافة، يمكن القول: إنها أرضية خصبة، ولعلها الخيار الأبرز لمدرسة الخلافة؛ لانسجامها مع المباني العقيدية والفقهية للمدرسة، فضلاً عن مسارها التاريخي. يقول أحد الفقهاء السنّة المعاصرين: «إن طريقة الإسلام الصحيحة عملاً بمبدإ الشورى وفكرة الفروض الكفائية، هي طريقة واحدة، وهي انتخاب أهل الحل والعقد وانضمام رضا الأمة باختياره، أما عدا ذلك فمستنده ضعيف»(4).
ولكن على صعيد مدرسة الإمامة، فإن نظرية الشورى تواجه العديد من العقبات الشرعية، فضلاً عن العقبات النفسية لدى الأمة، وهي لا تمتلك من الأدلة ما تعتدّ به؛ بالنظر لغربتها عن مبدإ الإمامة وامتداداته، وغياب معظم الأبعاد الدينية والروحية لمبدإ الإمامة من مضامين الدولة وأشكالها وفي علاقة القاعدة بالقمة؛ إذ ستكون هذه العلاقة مجرد علاقة سياسية ضعيفة، وعقد اجتماعي هش، من حيث المضامين الدينية التي تؤكد عليها مدرسة أهل البيت(ع).
الثانية: نظرية ولاية الفقيه:
وتستند إلى دعامة النصب الشرعي للفقيه العادل الكفوء ولياً للأمة، بوصفه نائباً عاماً للإمام المهدي(ع)، الأمر الذي يحصر الحق الشرعي في رئاسة الدولة الإسلامية به، بوصفها أحد مظاهر ولايته، من دون أن يكون للشورى مدخلية في منحه شرعية الحكم؛ لأنها شرعية مكتسبة من ولاية الإمام المعصوم، ولكن الشورى يمكن أن تكون معياراً للتفاضل بين الفقهاء الجامعين لشروط القيادة في ما لو تعددوا. أما البيعة فهي مظهر لإعلان الطاعة من جانب الأمة. ويتولى الولي الفقيه من أمور المسلمين ما كان يتولاه النبي(ص) والإمام(ع)؛ لأنه مفوض من قبل الإمام في قيادة المجتمع عند غيبته، كما يقول الإمام الخميني في بحث «الحكومة الإسلامية».
وتأسيس الدولة الإسلامية واجب كفائي على الفقهاء العدول، ولو أقامها أحدهم وجب على الفقهاء الآخرين عدم مزاحمته في مساحة ولايته. وهكذا فالفقيه الحاكم غير ملزم بالشورى في ممارسة الحكم إلا بمقدار الترجيح بين آراء المشيرين، وإن تجاوزت مساحة المشيرين أهل الحل والعقد وأصحاب الاختصاص إلى الأمة. وعدالة الفقيه هي ميزان استمراره في الحكم. والفقيه هو مصدر شرعية الدولة وسلطانها. ويقول بهذا الرأي فقهاء مدرسة الإمامة السلف من الذين يعممون ولاية الفقيه على موضوعة الحكم. أما أبرز من نظر لها من الفقهاء المعاصرين فهو الإمام الخميني، الذي حوّلها إلى واقع عملي. كما أسهم معظم تلامذته، ومعهم أيضاً فقهاء ينتسبون علمياً إلى اتجاهات مرجعية أخرى، في شرحها وتعضيد أدلتها وبلورتها.
والحقيقة أن نظرية ولاية الفقيه المنصوب لا تلتقي – من ناحية مصدر الولاية وإطلاقها – مع اتجاهات مدرسة الخلافة؛ لتقاطعهما في مبدإ شرعية المصدر وحقه في منح الشرعية، وهو أساس عقيدي مهم عنوانه: الإمامة. ولكن من النواحي الأخرى – كما سيأتي – يختفي التقاطع ويأخذ الاختلاف حجمه الطبيعي، بل قد ينعدم كثير من الاختلافات عند تلمس النتائج.
الثالثة: نظرية ولاية الفقيه والشورى:
يطلق على هذه النظرية أيضاً اصطلاح ولاية الفقيه المنتخب، وهي نظرية حديثة تتوسط نظرية ولاية الفقيه، ونظرية الشورى؛ إذ إنها تشترط الفقاهة في ولي الأمر، ولكن اختياره يتم في إطار الشورى التي تمثلها الأمة. وانتخاب الأمة هو الذي يمنحه شرعية ممارسة الحكم، كما أن أساليب إدارة السلطة متروكة للأمة أيضاً من خلال ممثليها. وبذلك تكون للأمة ولاية الحكم، وللفقيه ولاية الرقابة والإشراف والإدارة العليا، بوصفه نائباً للإمام المعصوم، ومظاهرها قيادة الأمة ورئاسة الدولة الإسلامية. وطبقاً لهذه النظرية، فإن الشورى ملزمة للولي الفقيه.
وأول من طرح هذه النظرية وبلورها السيد الشهيد محمد باقر الصدر(5)، الذي يعبّر عن طبيعة هاتين الولايتين وطريقة تكاملهما؛ من خلال تسمية الأولى بـ«خلافة الأمة» باعتبار الخلافة الممنوحة للإنسان على الأرض، والثانية «شهادة الفقيه»؛ باعتبار نيابته العامة للإمام المعصوم. ومن خلال انتخاب الأمة للفقيه سيلتقي خط الخلافة بخط الشهادة، فيكون الفقيه حينها مجسّداً للخطين(6). ويشترط الشهيد الصدر في الولي الفقيه أن يكون مرجعاً دينياً، ومرشحاً من قبل مجلس المرجعية (أهل الحل والعقد)، ومنتخَباً من قبل الأمة (في حال تعدد المرجعيات المتكافئة المرشحة). وتقف هذه النظرية على عدد من الأسس الشرعية:
1 – لا ولاية بالأصل إلا للَّه تعالى.
2 – النيابة العامة عن الإمام المعصوم هي للمجتهد المطلق العادل الكفوء، وهي مصدر الولاية الممنوحة للفقيه، بمعنى القيمومة على تطبيق الشريعة، وحق الإشراف الكامل.
3 – الخلافة العامة للأمة على أساس قاعدة الشورى، هي التي تمنحها حق ممارسة أمورها بنفسها ضمن إطار الإشراف والرقابة الدستورية من قبل نائب الإمام.
4 – فكرة أهل الحل والعقد، التي طبقت في الحياة الإسلامية، والتي تؤدي بتطويرها على النحو الذي ينسجم مع قاعدة الشورى وقاعدة الإشراف الدستوري من قبل نائب الإمام إلى افتراض مجلس يمثل الأمة وينبثق عنه بالانتخاب.
وبناء على ذلك، يخلص الشهيد الصدر إلى أن الإسلام يرفض نظرية القوة والغلبة في تكوين الحكومة ونظرية التفويض الإلهي الإجباري، ونظرية العقد الاجتماعي، ونظرية تطور الدولة عن العائلة. ويذهب إلى أن الدولة ظاهرة نبوية وتصعيد للعمل النبوي. أما من الناحية الوظيفية، فإن وظيفة الدولة – كما يقول – هي تطبيق الشريعة الإسلامية التي وازنت بين الفرد والمجتمع، وتحميه لا بوصفها وجوداً (هيغلياً) مقابلاً للفرد؛ بل بوصفها تعبيراً عن مجموعة الأفراد(7).
وتبنَّى هذه النظرية – في ما بعد – وبحثها بمزيد من التفصيل والاستدلال عدد من الفقهاء، الذين وجدوا عند دراستهم لنظريات الدولة في فقه الإمامة أن القول الظاهر لفقهاء الإمامية السلف يتمحور حول نظرية ولاية الفقيه المنصوب من قبل الإمام المعصوم، وفيها لا يكون لانتخاب الناس أثر في تعيينه. ويجمع هؤلاء الفقهاء بين نظرية ولاية الفقيه ونظرية الشورى بنحو الطولية، باعتبار أنهما غير متقاطعتين، بل تكمل إحداهما الأخرى، ويخلصون إلى القول: إن النصب المباشر للولاية، هو من قبل الله تعالى، كما في حالة النبي(ص) والأئمة الاثني عشر(ع)، ولا تنعقد الإمامة لغير المنصوب إلهياً مع وجوده والتمكن منه. وفي حالة عدم وجوده (غيابه) كان للأمة حق الاختيار، ولكن ليس الاختيار المطلق، بل لمن وجدت فيه الشرائط والمواصفات المعتبرة، وهنا تنعقد الإمامة للفقيه بانتخاب الأمة له. وهناك من فقهاء مدرسة الخلافة المعاصرين، من يتبنى هذه النظرية بنحو أو آخر، كالدكتور محمد مبارك الذي يقول: إن «رئيس الدولة إمام المسلمين وأميرهم هو المرجع الأعلى في شؤون الدولة للاجتهاد في التشريع… مع وجود مبدإ الشورى، ولذلك كان الأصل أن يكون رئيس الدولة الإسلامية بالغاً درجة عالية من فقه الإسلام وفهم مبادئه وحسن تطبيقها، وإن كان ينبغي أن يكون معه من العلماء من يستشيرهم ويأخذ آراءهم تجنباً للاستبداد»(8). فهو يشترط في ولي الأمر أن يكون فقيهاً تفرزه الشورى ويعمل بالشورى.
مقارنة بين نظريتين
إذا حاولنا عقد مقارنة بين النظريتين الأخريين: ولاية الفقيه، وولاية الفقيه والشورى، نجد أن الاختلاف بينهما لا يتجاوز الجانب النظري غالباً، ويكاد ينعدم في الجانب التطبيقي. ويمكن القول: إن نظرية ولاية الفقيه تتمتع بقبول أوسع في أوساط فقهاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويطلقون عليها «ولاية الفقيه المطلقة أو العامة» في حين أن نظرية ولاية الفقيه والشورى، والتي يطلق عليها بعضهم ولاية الفقيه المنتخَب أو ولاية الفقيه المقيّدة، بمعنى المقيدة بالدستور، وليس بمعنى الناقصة، فهي النظرية الحاكمة في الواقع السياسي الإيراني القائم، على مستوى الدستور والتطبيق، الأمر الذي يدل على أن النتائج التي تفرزها النظريتان تظل واحدة، ولا سيما في ما يتعلق بمساحة حاكمية الولي الفقيه وصلاحياته وهيكلية النظام السياسي. ويتلخص جذر الاختلاف في زاوية النظر إلى انتخاب ولي الأمر؛ فنظرية ولاية الفقيه تقول: إن انتخاب الخبراء (أهل الحل والعقد) لا يمنح ولي الأمر الشرعية، بل هو كشف وتفاضل. وتقول النظرية الأخرى: إن هذا الانتخاب يمنح الشرعية الدينية والمشروعية القانونية للفقيه لكي يمارس الحكم، على اعتبار أن الحكومة الإسلامية هي عقد شرعي بين الأمة والحاكم المنتخب.
ويقود هذا الاختلاف إلى فروق نظرية أخرى، كدور بيعة الأمة وانتخابها، وموقع الشورى، وعلاقة أجهزة الدولة بالشورى، وعزل الفقيه وغيرها. فمثلاً يتم عزل الفقيه الحاكم في نظرية ولاية الفقيه المنتخَب عبر الخبراء (أهل الحل والعقد) إذا فقد أحد الشروط المطلوبة، وهو عزل شرعي وقانوني، ولكن في نظرية ولاية الفقيه المطلقة، فإن الفقيه الحاكم يُعزل ذاتياً إذا فقد أي شرط، ويكون دور الخبراء هو الكشف عن العزل، أي أن دور الخبراء في نظرية ولاية الفقيه هو «الإخبار عن الحكم»، وفي نظرية ولاية الفقيه والشورى «إنشاء الحكم».
ومما سبق يظهر أن معظم اتجاهات الفقه السياسي الإسلامي المعاصرة لا تحول دون تولي الفقيه العادل الكفوء قيادة المجتمع ورئاسة الحكومة الإسلامية، وملء منطقة الفراغ التشريعية والتنفيذية والقضائية، والإشراف على تطبيق أحكام الإسلام وإقامة حدوده وفرائضه مما لا خلاف فيه بين الفقهاء، ولا يوجد فقيه يحتمل أن تكون هذه الولاية لأحد من أبناء الأمة الإسلامية دونهم… وإنما الاختلاف بحسب الحقيقة في أمرين:
أولاً: في ثبوت هذه الولاية للفقيه على حد ما هو ثابت للإمام(ع) [في ما يرتبط بمساحة الولاية] أو اختصاصها بخصوص الدائرة التي يتوقف عليها حفظ النظام الإسلامي وإدارة المجتمع على أساس الإسلام.
ثانياً: في صحة بعض الأدلة والنصوص التي استدل بها لإثبات هذا المبدأ(9).
وحتى الاتجاه الفقهي الذي يدعو إلى نظرية الشورى، فإنه يوافق على تولي الفقيه للحكم إذا انتخبته الشورى، فالقدر المتيقن لدى الاتجاهات الثلاثة (السنية والشيعية) هو اشتراكها في فتح الأبواب أمام الفقيه لتولي الحكومة الإسلامية، وهو ما يمكن أن يكون قاعدة لتوحيد الركائز العملية أو التطبيقية التي أفرزها الفقه السياسي الإسلامي بمختلف مذاهبه واتجاهاته(10)؛ إذ إنها توافق على قرار أهل الحل والعقد في نصب ولي الأمر وعزله، وكون أهل الحل والعقد هم أهل العلم والخبرة الذين ترتضيهم الأمة، وأن الفقيه العادل الكفوء هو أصلح من يتولى الحكم (حسب نظرية الشورى) أو أن ولاية الحكم محصورة به (حسب النظريتين الأخريين)، وأن صلاحيات ولي الأمر تشتمل على جميع مجالات حركة الدولة أي إنها جمعت بين إمامة الفقيه وشورى الأمة. وقد انبثقت القاعدة المشتركة بعد مراحل طويلة مرّت بها مسيرة الفقه السياسي الإسلامي (انظر أدناه الشكل الذي يبيّن التقاء النظريتين)، آخذين بنظر الاعتبار أن تطبيق هذه القاعدة المشتركة بين الاتجاهات الرئيسية لمدرستي الخلافة والإمامة إنما يصلح لعصر غيبة الإمام(ع) فقط.
إحالات الفصل الثالث
(1) وضع الباحث عبد الجبار الرفاعي موسوعة من عشرة مجلدات تحت عنوان «النظام الإسلامي»، وخص المجلد الثامن منها بمصادر الإمامة والسياسة، وعند النظر في هذه المصادر، وتحديداً الخاصة بمدرسة أهل البيت، سنجد أن معظمها صدر بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران.
(2) يقول الباحث الأميركي (هرايرد يكمجيان) في دراسته حول الحركات الإسلامية في العالم العربي، بأن آية الله السيد محمد باقر الصدر يعد ّ «أحد الآباء الفكريين لدستور الجمهورية الإسلامية». انظر: علي المؤمن، سنوات الجمر، ص194.
(3) من أبرز دعاة هذا الرأي علي عبد الرّازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم».
(4) د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ج6 ص674.
(5) في بحثيه: لمحة فقهية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية، وخلافة الإنسان وشهادة الأنبياء.
(6) للمزيد انظر: الشهيد الصدر، لمحة فقهية عن مشروع دستور الجمهورية، ضمن الإسلام يقود الحياة، ص13 و14.
(7) انظر: الشهيد الصدر، لمحة فقهية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية، ضمن الإسلام يقود الحياة، ص16ـ 17.
(8) د. محمد المبارك، نظام الحكم: الحكم والدولة، ص44.
(9) السيد محمود الهاشمي (مصدر سابق) ص67.
(10) د. توفيق الشاوي (مصدر سابق)، ص306.
المصادر والمراجع
أ – الكتب
1 – القرآن الكريم.
2 – ابن خلدون، عبد الرحمن، المقدمة، ط 4، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د.ت).
3 – أبو حنيفة النعمان، الفقه الأكبر، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د.ت).
4 – الآمدي، عبد الواحد التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ط 2، جامعة طهران، طهران، 1360هـ.ش.
5 – الأنصاري، الشيخ مرتضى، المكاسب، تحقيق السيد محمد الكلانتر، مكتب الإعلام الإسلامي، قم.
6 – الترابي، د. حسن، نظرات في الفقه السياسي، الشركة العربية لخدمات الإعلام، الخرطوم (د.ت.).
7 – توشار، د. جان وآخرون، تاريخ الفكر السياسي، ترجمة: د.علي مقلد، الدار الجامعية، بيروت، 1987م.
8 – جعفر، د. نوري، فلسفة الحكم عند الإمام علي(ع)، مكتبة النجاح، طهران 1990م.
9 – الجمال، د. مصطفى ود. عبد الحميد، النظرية العامة للقانون، الدار الجامعية، بيروت، 1987م.
10 – الجمل، د. يحي، الأنظمة السياسية المعاصرة، دار النهضة العربية، بيروت، 1969م.
11 – الجويني، (إمام الحرمين) عبد الملك، غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: عبد العظيم الديب، دار الأنصار، ط 2، القاهرة، 1981م.
12 – الحر العاملي، الشيخ محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، دار إحياء التراث، بيروت 1382م.
13 – الحلي، (المحقق) جعفر بن الحسن الحلي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، دار استقلال، قم 1415هـ.
14 – خالد، خالد محمد، الديمقراطية.. أبداً، مؤسسة الخانجي، القاهرة، دار اليقظة العربية، دمشق 1958م.
15 – الخميني، الإمام روح الله الموسوي، الحكومة الإسلامية، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام، طهران 1996م.
16 – الخميني، الإمام روح الله الموسوي، صحيفة نور (بالفارسية) وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران (عدة تواريخ).
17 – الخميني، الإمام روح الله الموسوي، كتاب البيع، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام، طهران 1993م.
18 – الخميني، الإمام روح الله الموسوي، المكاسب المحرمة، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام، طهران 1997م.
19 – الرفاعي، عبد الجبار، مصادر النظام الإسلامي، مكتب الاعلام الإسلامي، قم، 1417هـ.
20ـ الريسوني، د. أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، 1993م.
21 – الزحيلي، د. وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، دمشق، 1983م.
22 – زنجاني، الشيخ عباس علي عميد، فقه سياسي ج1، حقوق أساسي ومباني قانون أساسي (بالفارسية)، مؤسسة انتشارات أمير كبير، طهران، 1373هـ.ش.
23 – زنجاني، الشيخ عباس علي عميد، فقه سياسي ج2، نظام سياسي ورهبري در إسلام (بالفارسية)، مؤسسة انتشارات أمير كبير، طهران 1373هـ. ش.
24 – الصدر، الشهيد محمد باقر، الإسلام يقود الحياة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1990م.
25 – الصدر، السيد محمد باقر، الفتاوى الواضحة، ط 8، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1992م.
26 – الصدر، السيد الشهيد محمد باقر، المعالم الجديدة للأصول، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1989م.
27 – الصدوق، الشيخ أبو جعفر، كمال الدين وتمام النعمة، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1378هـ.
28 – صديقي، د. كليم، الحركة الإسلامية، المعهد الإسلامي، لندن، 1981م.
29 – الطبرسي، الشيخ أحمد بن علي، الاحتجاج، ط 2، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1983م.
30 – الطوسي، الشيخ أبو جعفر، المبسوط في فقه الإمامية، ط2، المكتبة الرضوية، طهران، 1378هـ.
31 – السنهوري، د. عبد الرزاق، فقه الخلافة وتطورها، ترجمة د. نادية السنهوري ود. توفيق الشاوي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1989م.
32 – الشاوي، د. توفيق محمد الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة، منشورات العصر الحديث، 1995م.
33 – شرف الدين العاملي، السيد عبد الحسين، المراجعات، تحقيق: حسين الراضي، الدار الإسلامية، بيروت، 1992م.
34 – الشهرستاني: د. محمد علي، المدخل إلى علم الفقه (محاضرات)، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، لندن (د.ت).
35 – عارف، نصر محمد، في مصادر التراث السياسي الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، 1994م.
36 – عبد الله د. عبد الغني بسيوني، القانون الدستوري، الدار الجامعية، بيروت، 1987م.
37 – عبد الرزاق، علي، الإسلام وأصول الحكم، تحقيق: محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972م.
38 – عتوم، محمد عبد الكريم، النظرية السياسية المعاصرة للشيعة الإمامية، عمان، دار البشير، 1988م.
39 – العسكري، السيد مرتضى، معالم المدرستين، مؤسسة البعثة، طهران، 1407هـ.
40 – غربال، محمد شفيق (إشراف)، الموسوعة العربية الميسرة، ط 2 – القاهرة، 1972م.
41 – الغزالي، الشيخ أبو حامد إحياء علوم الدين، دار أحياء التراث، بيروت (د.ت).
42 – غليون، د. برهان، نقد السياسة: الدولة والدين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، بيروت، 1993م.
43 – الفضلي، د. عبد الهادي، تاريخ التشريع الإسلامي، مؤسسة أم القرى، قم، 1418هـ.
44 – الفكيكي، المحامي توفيق، الراعي والرعية، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، (د.ت).
45 – الكليني، الشيخ أبو جعفر الرازي، الأصول من الكافي، المكتبة الإسلامية، طهران، 1388هـ.
46 – الماوردي، الشيخ أبو الحسن علي بن محمد، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ط 2، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1966م.
47 – المبارك، د. محمد، نظام الحكم: الحكم والدولة، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران 1404هـ.
48 – مجموعة مؤلفين، الحكومة الإسلامية، مقالات المؤتمر الرابع للفكر الإسلامي، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران، 1986م.
49 – مغنية، الشيخ محمد جواد، الفقه على المذاهب الخمسة، ط7، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1982م.
50 – المنتظري، الشيخ حسين علي، دراسات في فقه الدولة الإسلامية ج1 وج2، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، ط 2، قم 1409هـ.
51 – المؤمن، علي، سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق، دار المسيرة، لندن، 1993م.
52 – النائيني، الشيخ الميرزا محمد حسين، تنبيه الأمة وتنزيه الملة، ترجمة: صالح الجعفري، مجلة الموسم، العدد الثاني، 1990م.
53 – النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام في شرح الإسلام، ط 7، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1981م.
54 – النراقي، الشيخ أحمد، عوائد الأيام، فصل ولاية الفقيه، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1990م.
55 – الهاشمي، السيد محمود، مصادر التشريع ونظام الحكم في الإسلام، سلسلة من هدي الإسلام (6)، قم، 1408هـ.
ب – الدراسات
1 – شمس الدين، الشيخ محمد مهدي، العلمانية.. الشورى.. المجتمع المدني والشريعة (حوار)، مجلة منبر الحوار، بيروت، العدد 34، خريف 1994م.
2 – العاملي، السيد جعفر مرتضى العاملي، ولاية الفقيه في صحيحة عمر بن حنظلة، مجلة التوحيد، طهران، العدد الرابع، رمضان 1403هـ.
3 – المؤمن، علي، الفقه الثقافي الإسلامي: نحو تأصيل فقهي مستقل للموضوعات الثقافية، صحيفة كيهان العربي، طهران، 24/1/1999م.
4 – المؤمن، علي، معالم النظرية السياسية في الإسلام، ق1 و2، مجلة التوحيد، العددان 31 و32، تشرين الأول – كانون الأول 1987م وكانون الثاني – شباط 1988 م.
5 – المؤمن، علي، النظام السياسي الإسلامي، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، قم، العدد الأول 1995م.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua