الانشقاق المؤسس للمنظومة الطائفية في تاريخ المسلمين

Last Updated: 2024/04/02By

الانشقاق المؤسس للمنظومة الطائفية في تاريخ المسلمين

د. علي المؤمن

إذا كانت بعض العقائد والأفكار تحمل التناقض أو بذور الخلاف والتفرقة في داخلها أو في تكوينها، فإن الإسلام على العكس من ذلك تماماً، إذ جاء رحمة للبشرية كافة، جاء ليوحدهم ويلم صدعهم ويردم ما يفصل بينهم من اختلاف وتمييز وتباين، على جميع المستويات. وفي كلمة للإمام علي حول الرسول محمد، يقول: «فصدع بما أُمر به، وبلَّغ رسالات ربّه، فلم الله به الصَّدع، ورتق به الفتق، وألّف به الشّمل بين ذوي الأرحام».

بعد وفاة الرسول مباشرة، بدأت بوادر الانقسام الأول بالظهور بقوة في الواقع الإسلامي، بشكل ومضمون غير متوقعين، حيث اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة في المدينة، لاختيار من سيخلف رسول الله، قبل أن يتم دفن الرسول، وحين كان علي بن أبي طالب يقوم بدفن النبي ومعه عدد من آل البيت. وهنا بذرت بذرة الانقسام، وبدأ الانشقاق الأساس في الواقع الإسلامي، والذي تمحور حول من سيخلف رسول الله في قيادة المسلمين ورئاسة الدولة الإسلامية، واللتين تلخصتا في منصب «الخلافة».

وقد انقسم المسلمون المجتمعون في السقيفة – ابتداء – إلى ثلاث جماعات، إحداها مالت إلى أبي بكر، وأخرى إلى سعد بن عبادة (رئيس الخزرج)، والثالثة إلى علي بن أبي طالب، ثم انتهوا إلى جماعتين:

  • أكثرية، بايعت أبي بكر بالخلافة، وفيهم أغلب الصحابة، يتقدمهم عمر بن الخطاب، الذي لعب الدور الأساس في إقناع أغلب الجمع بمبايعة أبي بكر، ثم تبلورت هذه الأكثرية – فيما بعد – بما عرف بـ «أهل السنّة».
  • أقلية، رفضت بيعة أبي بكر، وأصرّت على أن علي بن أبي طالب هو صاحب الحق الوحيد بالخلافة، وضمّت الأسرة النبوية وبني هاشم وبعض المهاجرين والأنصار، ويقف على رأسهم الإمام علي نفسه، وتمخضت – فيما بعد – عما عرف بـــ «الشيعة».

وقد ساهمت رؤوس المعارضة للإسلام، يتقدمهم أبو سفيان عميد الأسرة الأُموية، مساهمة فاعلة في تعميق الانشقاق والخلاف، إذ كان يدعو أبو سفيان عشيرته الى سرقة الزعامة والقيادة بقولته الشهيرة: ((تلاقفوها آل أمية))، بل أنه بعد انتهاء اجتماع السقيفة، وخروج القيادة من آل البيت والأسرة النبوية، ذهب الى قبر الحمزة عم النبي (سيد شهداء العهد النبوي) ليركله برجله ويعلن النصر على الإسلام.

وهنا يمكن تسجيل عدد من الملاحظات على هامش مخرجات اجتماع السقيفة والمرحلة التي أعقبته:

  • إن الصراع على منصب إمامة المسلمين وقيادة دولتهم، لم يكن ليحدث لو تم الالتزام بنصوص رسول الله على من سيخلفه، وهي نصوص ووقائع ينبغي أن تكون حاسمة وواضحة عند الصحابة.
  • إن الانشقاق تسبب في حرف المفهوم الديني لإمامة الأمة بعد رسول الله، وفي اختراع منصب دنيوي عنوانه “الخلافة”، في حين أن منصب “الإمامة” هو امتداد للنبوة، وهو منصب ديني ودنيوي، ومصداقه الحصري بعد الرسول هو علي بن ابي طالب. وربما يمكن هنا اعتبار هذا المفصل، بدايةً لتاریخ الممارسة العلمانیة عند المسلمین؛ فقد کان الخلیفة خلیفةً للنبي في البعد الزمني لشخصية النبي، أي خليفةً لرئیس الدولة وامتداداً للحکومة الزمنیة، ولیس خليفة للنبي في بعده الديني، في حين أن هذان المنصبان کان منصباً واحداً في عهد النبي، ولم يكن الفصل بينها بعد وفاة النبي، سوى قراراً سياسياً مقابل النص. وهذا الفصل بين المنصبين هو جوهر فصل السیاسة عن الدین، بعد أن أصبح حاکم المسلمین حاكماً سياسياً، وليس حاكماً سياسياً دينياً. بينما نصّ رسول الله علی استمرار وحدة المنصبین بعد وفاته، من خلال منصب الإمامة، الذي هو إمامة دینیة وسیاسیة، وامتداد للنبوة في بعديها الديني والدنيوي، وكان الإمام علي، وفق نصوص النبي، یمثل هذا الامتداد، إلّا أن إبعاده عن موقعه، خلق إشکالیة الممارسة العلمانیة التاريخية في واقع المسلمين.
  • بقیت عملیة الفصل مستمرة بين الموقعين الديني والزمني؛ حتی اتحدا ثانیة بانتخاب الامام علي خلیفة للمسلمین، إذ نصّب هذا الانتخاب الامام علياً حاکماً زمنياً للمسلمین، ولم ینصبه في موقع الإمامة الدینیة، لأن موقع الامامة الدینیة هو موقع منصوص عليه وذاتي وخاص بالامام علي والأئمة من بعده، وفق العقيدة الإمامية، ولا یفقده الإمام، حتى لو يكن حاکماً زمنياً للمسلمین. أي أن الإمام علياً کان في عهد الخلفاء الثلاث، یمتلك منصب الإمامة والخلافة الدینیة بالقوة والفعل، كما يمتلك منصب الخلافة السياسية بالقوة وليس بالفعل، ما يعني أنه کان الإمام الشرعي، ولکن لم یکن مبسوط الید. أما بعد استلامه زمام الخلافة السیاسیة، فقد اتحد المنصبان بالفعل مرة أخری، وبالتالي؛ کان انتخابه للخلافة تفعیلاً لموقعه الشرعي ولیس ؛عطاء الشرعیة له، أو بکلمة أُخری إعطاءه المشروعیة القانونیة لممارسة السلطة الزمنیة علی المسلمین. وقد استمر هذا الأمر (وحدة المنصب) في عهد الإمام الحسن.
  • بعد انتقال السلطة السیاسیة إلی معاویة في الظروف المعروفة تاریخیاً، انفصل المنصبان مرة أخری؛ فأصبح معاویة حاکماً سیاسیاً للمسلمین، ولکن بقي الحسن بن علي هو الامام الشرعي للمسلمین، إذ أنه تنازل عن السلطة السیاسیة ولم یتنازل عن منصب الإمامة، الذي هو منصب خاص وذاتي، وليس بيده أن يتنازل عنه.
  • تعرض عترة الرسول الى التدمير المعنوي والمادي، وهي التركة التي أوصى رسول الله المسلمين بالتمسك بها الى جانب القرآن الكريم.
  • سيطرة المعارضة للإسلام، والمتمثلة بآل أُمية، على حكم المسلمين، من خلال مروان بن الحكم صهر الخليفة عثمان، سيطرة مباشرة، الأمر الذي مهّد لسيطرتهم النهائية على مقدرات الإسلام والمسلمين فيما بعد.

ومع أن الإمام علي بقي يرى نفسه أحق بالخلافة الزمنية، وفق ما تدل عليه خطبه، ولا سيما الخطبة الشقشقية، فضلاً عن احتجاجه بحديث الغدير، إلّا أنه بذل كل سعيه لتجاوز آثار الخلاف، حفاظاً على وحدة الأمة، وكان يردد: ((لأُسالمنّ ما سلمت عليه أمور المسلمين))، ويقول أيضاً: «وليس رجل – فاعلم – أحرص على جماعة أمة محمد وأُلفتها مني»، واضعاً بذلك الأسس الأولى للتقريب والوحدة بين المسلمين، باتجاهاتهم الفكرية والسياسية المختلفة؛ إذ لم يكن يمانع من مد يد العون والمشورة والنصح للخلفاء الثلاثة، ولم يكن خلافه معهم سبباً في إيجاد الفرقة والنزاع بين المسلمين، وهو ما كان يحمل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على القول أكثر من مرة: «لولا علي لهلك عمر» و«لولاك لافتضحنا».

والاتجاهات التي كان لها موقف من قضية “الخلافة”، انقسمت حيال محورها (الإمام علي بن أبي طالب) إلى أربع فئات رئيسية:

  • فئة بغت عليه وغالت في عدائه، وهم «الخوارج» و«النواصب»، وفي مقدمهم آل أمية.
  • فئة غالت في حبّه، وهم «الغلاة»، بل أن قسم منهم رفعوه الى مرتبة الإلوهية.
  • فئة ساوته بأبي بكر وعمر وعثمان، وقدّمتهم عليه في المنزلة، واعتبرت أن اتجاهها واقعي وينسجم مع التراتبية التاريخية، وهي مدرسة الخلفاء، أو من يطلقون على أنفسهم «أهل السنّة».
  • فئة عرفت حقّه في النص عليه كخليفة لرسول الله وإماماً دينياً ودنيوياً للأمة من بعده، ووالته عقدياً وواقعياً، وهم «الشيعة»، أي شيعة علي.

وربما لا يكون هذا التقسيم حقيقة مطلقة، بل بين فئاته ثمة تداخل أحياناً، ولكن نذكره هنا لتلخيص الصورة المعقدة التي كانت سائدة آنذاك. وفي هذا المقام يقول الإمام علي: «سيهلك فيّ صنفان: محبٌ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحق، ومُبغضٌ مُفرطٌ يذهب به البغض إلى غير الحقّ، وخير الناس فيَّ حالاً النمط الأوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة».

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment