الإسلامية المعلمنة والعلمانية المؤسلمة

Last Updated: 2024/04/02By

الإسلامية المعلمنة والعلمانية المؤسلمة

د. علي المؤمن

التوليف بين قواعد الشريعة الإسلامية والفكر السياسي الوضعي، يمثل أحد أهم صور الإسلامية الانتقائية أو العَلمانية الانتقائية. ويمكن أن نعد حكومات البلدان الإسلامية نماذج تطبيقية لهذه الفكرة، فهذه الحكومات ليست حكومات عَلمانية لا شكلاً ولا مضموناً، وإن أعلنت هي ذلك؛ بل هي علمانية بنسبة معينة وإسلامية بنسبة أخرى. بالطبع لا نقصد هنا جانب الممارسة بل بنية النظام الفكرية والواقعية.

إن عَلمانية حكومات البلدان الإسلامية ليست عَلمانية حقيقية؛ بل هي عَلمانية هجينة، فالأفكار التي استوردها المسلمون أو صدّرت إليهم، كالعلمانية والديمقراطية والليبرالية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والمجتمع المدني والعقلانية والتنوير والثيوقراطية والقومية أو الدولة القومية وغيرها، دخلت وعي المسلمين بطرائق خاصة، يغلب عليها الطابع المزاجي، فقد أدخلوا فيها إرثهم التاريخي والثقافي والاجتماعي، وأنتجوا من خلال ذلك أفكاراً ونظماً لا تشبه أياً من تلك الموجودة في الغرب أو الشرق، رغم أنهم يطلقون عليها الأسماء نفسها. بينما انطلق آخرون من خلفياتهم الإسلامية وأضافوا على مولوداتهم أسماء إسلامية، وكانت المحصلات: ديمقراطية إسلامية، وإسلامياً متنوراً، ورجل دين شيوعياً، وماركسية إسلامية، ومجتمعاً مدنياً دينياً وغيرها، وهم بذلك يعبّرون عن ألوان من العجز والهزيمة، بعد أن قرروا تطويع الواقع الإسلامي لفكر لم يفرزه ولنظم لم تنتجها البيئة الإسلامية، وذلك لتحقيق هدف أساس، يتمثل بإظهار الواقع الإسلامي أو الفكر الإسلامي بمظاهر متحضرة ومتمدنة، وإبعاد شبهة الانغلاق والتعصب والتطرف والتخلف عنهما؛ وهو أمر لا يمكن إقناع الغرب به؛ لأن الأخير – بنخبه السياسية والثقافية – يدرك مدى التشويه الذي تلحقه عمليات التطويع تلك بفكره ونظمه، وبذلك لا يعترف الغرب بعلمانية حكومات البلدان الإسلامية ولا بديمقراطيتها ولا باشتراكيتها.

لا شك في أن وجهة النظر الغربية في هذا المجال هي أقرب إلى الموضوعية، فالعلمانية الحقيقية التي أنتجتها البيئة الغربية بفعل تراكمات فكرية وواقعية لازمت الصراع بين الأنظمة الثيوقراطية الكنسية والفردية، من جهة، والمعادين لها من جهة أخرى، وهي تعبّر عن فصل شبه كامل بين العقيدة الدينية والدولة وتشريعاتها ونشاطاتها السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا الفصل تحوّل من أفكار وتشريعات إلى مؤسسات ونظم صارمة على الأرض. وبالتالي فالدولة العربية العلمانية حيادية بين الدين واللا دين في كل المجالات. أما علمانية حكومات البلدان الإسلامية – باستثناء علمانية الدولة التركية- فهي علمانية من نوع خاص، يمكن أن نطلق عليها مصطلح «العلمانية المتدينة» أو «الإسلامية المعلمنة»، فهذه الحكومات ليست حيادية بين الدين واللا دين، كما هو مقتضى العلمانية؛ بل إنها حكومات متدينة في بنيتها، فهي تولي الدين أهمية كبيرة، ليس على صعيد النشاط الاجتماعي؛ بل على صعيد حركة الدولة وتشريعاتها وعملها أيضاً، أي إنها لا تفصل بين الدين والدولة ولا تفصل بين الشريعة والسياسة، ولكنها تنتقي مجالات اللقاء والفصل، وفقاً لما تقتضيه مصالحها ووجهتها.

مثلاً: معظم دساتير البلدان الإسلامية تؤكد أن الإسلام هو دين الدولة، أو أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع أو أحد مصادر التشريع في الدولة، وهذا هو التناقض الأهم مع جوهر العلمانية وفلسفة المذهب الديمقراطي وأي مذهب أرضي؛ إذ إن السلطات التشريعية لن تكون حرة أو مطلقة اليد في تشريعاتها، وإنما ستكون ملزمة (نظرياً كحد أدنى) برعاية أحكام الشريعة الإسلامية، فهي المرجعية وليس الشعب. كما أن لكل دولة مرجعاً دينياً رسمياً – يحمل لقب «المفتي» – يمتلك صلاحيات محددة، لها علاقة – أحياناً – بعمل الدولة وسياساتها العامة؛ بل إن بعض الحكومات تستند في بعض ممارساتها السياسية إلى فتاوى هذا المفتي، لإضفاء طابع الشرعية الدينية على تلك الممارسات وتخصص هذه الحكومات – أيضاً – مؤسسات دينية لها حق الرقابة الكاملة على قسم من النتاجات الثقافية والفكرية والفنية التي تتطرق للموضوعات الدينية. هذا على مستوى السطلتين التشريعية والتنفيذية، أما القضاء فهناك دول تحيل حالات الإعدام على مفتي الدولة لإقرارها وإمضائها، ما يعني أن الأحكام القضائية، ولا سيما ما يرتبط بالقوانين المدنية والجزائية خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامية.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن إطلاق صفة «الحكومة الإسلامية» على مثل هذه الحكومات، فهي نفسها لا تدعى ذلك، فضلاً عن وجود اختلاف في البنية، بينها وبين الحكومة الدينية، فالأخيرة خاضعة للدين والعقيدة الدينية في كل المجالات، بما في ذلك الأهداف والغايات والسيادة والمشروعية والأركان والسلطات والتشريعات والممارسات، وبالتالي فهي الحكومة أو الدولة التي لا تفصل – بأي نحو كان – بين العقيدة والشريعة من جهة، والدولة وأهدافها وقوانينها ونشاطاتها من جهة أخرى؛ لأنها دولة تأسست على الدين وليست دولة سياسية.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment