الأدب.. لمن؟

Last Updated: 2024/04/01By

الأدب.. لمن؟

د. علي المؤمن

لا نهدف هنا الى تكرار المقولات والتساؤلات التي بقيت محل حوار ونقاش بين مختلف الاتجاهات: لمن الأدب أو الفن؟ للإنسان، للحياة، للأدب أو الفن، أم لشيء آخر؟ فهذه التساؤلات أُشبعت بحثاً، وأجاب عنها كل اتجاه، على وفق تصوره للحياة، بمن فيهم أصحاب النظرية الإسلامية، ولكن نشير إلى بعض الملاحظات التي تقف على هامش هذه الإشكالية.

هناك نمط من المدارس الأدبية الوضعية، تحدد اتجاهها من خلال رؤيتها للأديب وعلاقاته وهدفيته؛ فمدرسة الأدب للإنسان تؤكد فردانية الإنسان وإنسانيته الأرضية، وكذلك مدرسة الأدب للأدب، التي تعتقد بعدم وجود أية علاقة بين المعتقد والأخلاق والخير والشر من جهة والأدب من جهة أخرى، إذ أن الأدب هنا غاية وهدف بذاته وليس وسيلة للتعبير عن ذات الأديب، بوصفه إنساناً وحساساً ومنفعلاً، ولا عن إنسانية الإنسان ومشاعره. وبالتالي؛ فإن هذه المدارس الوضعية تعدّ الأدب – كما يذهب زكريا إبراهيم – مجرد مهارة فنية في تصوير الجمال وإرضاء الحس الباطني لدى الإنسان، دون وجود هدف معيّن أو منفعة أخرى. سوى المتعة الجمالية. أي أنه «صياغة فنية لتجربة بشرية». وبهذا فهو ينظر الى الأدب كقضية وجدانية محضة لا مدخلية للانتماء الفكري فيها. وهذا ما يدفع للحديث عن مفهوم الأدب المنتمي والأدب المؤدلج والأدب المستقل والثقافة المستقلة.

إن قضية الأدب – عموماً – هي جزء من قضية الثقافة بمعناها الواسع، وتحديداً الثقافة المجتمعية؛ إذ أن محتوى الأدب وشكله تفرضانه البيئة الثقافية للمجتمع عادة، أي أنه نابع من ثقافة المجتمع وبيئة الأديب، وبالنتيجة يدخل في المضمون الثقافي. ورغم ذلك؛

 

وتشكك أغلب الاتجاهات النقدية في إمكانية وجود أدب مستقل أو أدب محض يعمل للأدب فقط، باعتباره مجرد إبداع، ولحظة وحي مجردة وتجربة وجدانية محضة خالية من أي موقف فكري، أي أنه تداع ذهني ونفسي ذاتي لا يتدخل فيه أي عنصر خارجي، وخاصة الأيديولوجيا. قد تكون هناك اتجاهات تجعل الأدب قضية مستقلة وحرة للغاية بعيداً عن أي التزام أو انتماء، وتطلق على نفسها مدرسة الأدب للأدب أو الفن للفن، بيد أن المنسوبين لهذه المدرسة هم ملتزمون ومنتمون أيضاً؛ فهم منتمون لمدرستهم التي تشَكل – هي الأخرى – تصوراً معيناً للحياة، وبالتالي فهي ايديولوجيا من نوع آخر.

وربما يعتبر بعضهم أن العمل الأدبي لا علاقة له بسلوك الإنسان الأدبي وايديولوجيته؛ لأن السلوك والأيديولوجيا عمليتان خاضعتان لحسابات كامنة في شعور الإنسان، أي خارج تداعياته الذهنية ولحظات انفعالاته النفسية، وبالتالي؛ يكون السلوك الخارجي للإنسان، أي فكره وعمله، خاضعاً لمنطق الحظر والمنع ايديولجياً، أما الإنتاج الأدبي فهو لحظة انفعال نفسي لا علاقة لها بأي منطق خارجها، وبالتالي؛ فهي لا تخضع لذلك المنطق. وهذا خلاف ما أثبتته حقائق الأدب والإنسان؛ فكل الأدباء ملتزمون ومنتمون، ولا وجود لأديب غير منتم وغير ملتزم، حتى في المفهوم غير الإسلامي للانتماء والالتزام.

ويعرف الروائي الأميركي «نورمان مولر» الالتزام بأنه «بمثابة طوق النجاة في خضم القيم المتصادمة في عالم اليوم.. صداماً أفضى إلى الفوضى»؛ فالالتزام – حسب مولر – هو الارتباط بشيء خارج الذات والعمل في إطار ضوابطه، لتجنّب العبث والفوضى، فعدم الالتزام والانتماء يعني الفوضى والعبث؛ بل إن العبث تحوّل أيضاً إلى مدرسة أدبية شهيرة. وإذا كان الأدب جزءاً من قضية الثقافة – كما تقدّم – فهل هناك ثقافة لا منتمية أو فكر لا منتم أو تيار لا منتم؟ الواقع أن الثقافة اللا منتمية خرافة، لأنها هي الانتماء، كالانتماء للمجتمع أو لتيار اجتماعي. وإذا صحّ وجود ثقافة غير منتمية؛ فقد صحّ أيضاً وجود أدب غير منتم وغير مؤدلج، وعلوم إنسانية واجتماعية غير مؤدلجة، وفن غير مؤدلج، وصولاً إلى الرياضة والموسيقى. ومهما كان الأديب متمرداً على ثقافة مجتمعه أو بيئته الخاصة؛ فإن هذه الثقافة تلقي بظلالها عليه، ويكون نتاجه متأثراً سلباً أو إيجاباً بهذه الثقافة.

وحتى طبقة «الانتلجنتسيا» التي تحاول أن تطرح نفسها طبقة غير منتمية، وأنها تتكوّن من أفراد غير منتمين؛ فهي منتمية أيضاً، أي منتمية لمفهوم الانتلجنتسيا نفسه؛ إذ تحوّلت بدورها إلى تيار فكري واجتماعي، قاعدته النقد من أجل النقد؛ بهدف التغيير وإيجاد التحول في المجتمع. ورغم أن النظرية الثقافية الإسلامية والنظام الاجتماعي الإسلامي لا يمنعان تشكيل طبقة «انتلجنتسيا إسلامية»، بينهم أدباء ومثقفون إسلاميون، إلّا أن المثقف الإسلامي يبقى منتمياً وعضوياً بشكل تلقائي، لأن أهدافه في الحياة تنزع إلى التغيير والبناء في إطار التصور الإسلامي، وليس إلى النقد المجرد، بعيداً عن أي انتماء بمعناه العام والخاص.

وفي النظرية الإسلامية؛ لا معنى لاستقلال الثقافة والأدب والفن عن العقيدة؛ فالعقيدة الإسلامية هي المنطلق الذي يحدد للمثقـف والفنان والأديب أهدافهم المراد تحقيقها من الإنسان، بوصفه خليفة الله على أرضه، وهي أهداف معرفة الله والدعوة إليه والى دينه، وإعمار الأرض وخدمة خلق الله. ووفق ذلك؛ يستعصي على المسلم العقائدي في فكره وسلوكه، أن يكون غير عقائدي في نتاجه، مهما كان نوع هذا النتاج: فنياً أو أدبياً أو ثقافياً أو فكرياً.

كما أن المنهج الإسلامي في النقد الأدبي، يلتزم ــ هو الآخر ـــ بمعايير النظرية الإسلامية، من حيث دلالات المادة الأدبية ومضامينها، وليس الجانب الفني فيها وحسب، وهو الجانب الذي يُعنى بدراسة النص وصوره ودلالاته الفنية دراسةً علمية محضة، في حين أن خضوع الإنتاج الأدبي الى المعيار العقدي في الدلالة والمضمون؛ فإن النقد الأدبي يكون عندها عقدياً أيضاً.

ونستخلص من ذلك أن الأدب لا يقف على الحياد بين الدين واللا دين، بل يفرض التصور الإسلامي أن يكون الأدب الإسلامي خاضعاً له، شكلاً ومضموناً وهدفاً، إلى الحد الذي يتحوّل فيه الأدب الإسلامي إلى وسيلة لتحقيق هدف يلتقي مع الدين. وككل القضايا التي للدين رأي فيها، فإن الدين يتدخل في مضمون الإنتاج الأدبي وشكله وتأثيراته، ولا يترك للأديب حرية التعبير المطلق عن كوامنه النفسية، لأن الإنسان مسؤول عن استخدام حواسه {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا، وإنه سيحاسب عليها: و{قفوهم إنهم مسؤولون، ويكون لكل كلمة مدخلية في احتساب الأجر والثواب، وبالتالي؛ لا يمكن للفنان والشاعر والأديب أن يستثنى نفسه من هذه المسؤولية، بحجة أن ما يقوله صادر من لحظة انفعال وجدانية، وأنها مجرد تعبيرات وصور جمالية فنية، أي مجرد تعبيرات هدفها التصوير الفني وحسب، فلا تدخل – حينئذ – في إطار المنع والحظر الشرعي والعقيدي.

ولا شك أن مدرسة الأدب الإسلامي هي مدرسة الإنسان، ولكنه ليس مطلق الإنسان، بل إنه الإنسان الذي يلتقي بمثل السماء، وليس الإنسان الأرضي المادي وحسب. وبكلمة أخرى؛ فإن الأدب الإسلامي لا يغرق في هموم الإنسان ومعاناته ويؤكد إنسانيته الأرضية وحسب، بل إنه يهدف إلى منح الإنسان إنسانيته، ولذلك؛ فإن أي نتاج أدبي يدعو الى الحق والفضيلة ومكارم الأخلاق والعفة والخير والمحبة والجمال والعدل والعاطفة الصادقة؛ فإنه يصب في الهدف الإسلامي نفسه، مع مراعاة الأسلوب والتعبير بطبيعة الحال، كما إن كل ما يخدم قضايا الإنسان الحقة والإنسانية؛ فهو أدب ملتزم ويلتقي مع الإسلام، بل يعتبره كثير من الفقهاء والمفكرين أدباً وفناً دينياً؛ فكل فن «يتبنى إنسانية الإنسان ومثله التي أقرّها الله سبحانه وتعالى فهو فن ديني، حتى لو أن مبدعيه ليسوا مسلمين وليسوا ملتزمين بالتدين»، وبالتالي؛ فإن كثيراً من نتاجات أدباء غير مسلمين تعد أدباً خاضعاً لمعايير النظرية الإسلامية في الأدب.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment