الآثار الحديثة والمعاصرة للصراع العثماني ــ الصفوي

Last Updated: 2024/04/02By

الآثار الحديثة والمعاصرة للصراع العثماني ــ الصفوي

د. علي المؤمن

شكّل قيام الدولة الصفوية عاملاً مهماً في نشر المذهب الجعفري في إيران والهند وشرق آسيا، وحماية المذهب في العراق والبلدان الخليجية العربية، وكان يتم ذلك من خلال الأساليب التبليغية والثقافية التي يقودها المبلغون العرب، وكذا الترغيب السياسي والاقتصادي. وقد بادر مؤسس الدولة السيد إسماعيل الصفوي الى دعوة الفقيه الشيخ علي الكركي (ت 940 هـ) من جبل عامل في لبنان، للمجيء إلى إيران، لقيادة عملية تثبيت دعائم المذهب الشيعي في مفاصل الدعوة وبين عموم شعوب بلاد فارس؛ فأصبح الشيخ الكركي مرجع الدولة والشيعة في البلاد، واستعان عشرات العلماء والدعاة الشيعة العرب، الذين جاؤوا من لبنان والحجاز والقطيف والعراق والبحرين. كما استقدم الشاه عباس (حفيد إسماعيل الصفوي) فقيهاً كبيراً آخر من جبل عامل، هو الشيخ بهاء الدين العاملي، فكان له ما كان للمحقق الكركي من الدور والموقع، ثم قدم الفقيه الفقيه الشيخ محمد الحر العاملي (ت 1104 ه) من لبنان والسيد نعمة الله الجزائري (ت 1112 ه) من العراق، والعشرات غيرهم.

وقد قام هؤلاء العلماء والمبلغون بتأسيس حوزات علمية ومراكز تبليغية في أغلب مناطق بلاد فارس، وباشروا بتدريس وتعليم العقيدة والحديث والتفسير والفقه، وفق ما أنتجه المحدثون والمتكلمون والفقهاء الشيعة، ولم يكن أياً من هذه المعارف التراكمية تتمايز عن تشيع علي بن أبي طالب وأئمة أهل البيت؛ إلّا إذا عُدّ تمايز المذاهب الشيعية الأخرى عن المذهب الإمامي الإثني عشري، كالزيدية والإسماعيلية، بأنه تشيع مفارِق لمسار التشيع الإثني عشري عقدياً وفقهياً وقواعدياً وتاريخياً، أما المدارس الحديثية والفقهية والأصولية التي تتنوع في قراءتها لأصول التشيع وأدوات هذه القراءة؛ كالإخبارية والأصولية وغيرهما؛ فلا يمكن فرزها كتشيّعات جديدة متعارضة أو متضادة، وإعطاءها تسميات انشقاقية؛ لأن الخلافات بينها خلافات علمية طبيعية غالباً، ولا تصل الى مستوى الانشقاق المذهبي إطلاقاً. وبالتالي؛ لم يفرز هذا العمل العملي والتبليغي أي تشيع آخر، كما روجت له الدولة العثمانية، وتلقفه بعض الأصوات والأقلام الطائفية أو الشيعية المنفعلة فيما بعد، وهو ما أطلقت عليه التشيع الصفوي، وهو إطلاق دعائي مبني على وهم وانفعال ونكاية.

وإذا كان المتهم بتأسيس التشيع الصفوي، هم ملوك الصفويين؛ فإن هؤلاء الملوك وذويهم لم يكونوا فقهاء ومحدثين ومتكلمين، لكي يؤسسوا مدرسة عقدية وفقهية شيعية جديدة تتعارض مع تشيع أهل البيت؛ بل كانوا يأخذون شرعيتهم في الحكم وفتاواهم من مراجع وفقهاء عصرهم، وكان الفقهاء العرب من لبنان والبحرين والعراق، كالشيخ الكركي والشيخ البهائي وحسن بن زين الدين العاملي والشيخ الحر العاملي والشيخ الجباعي والسيد نعمة الله الجزائري؛ هم أصحاب الفتوى ومروجي عقيدة أهل البيت وفقههم وحديثهم في جغرافيا الدولة الصفوية، ولم يكن للأسرة الصفوية الحاكمة أية دالة وسطوة على هؤلاء الفقهاء، بل العكس هو الصحيح، وهو خلاف ما كان يحدث في الدولة العثمانية؛ حيث كان المشايخ والمفتون مجرد موظفين عند السلطان العثماني.

وبالتالي؛ كان يستحيل على الأسرة الصفوية إيجاد تشيع جديد ومذهب فقهي جديد، غير مذهب الإمام الصادق، وغير فقه الصدوق والمرتضى والمفيد والطوسي وابن إدريس والحلي والشهيدين العامليين، وخاصة في ظل وجود الفقهاء العرب في العاصمة الصفوية إصفهان، والقابضين بإحكام على الوضع الديني في البلاط وجميع مفاصل الدولة، فضلاً عن يقظة فقهاء النجف وكربلاء وجبل عامل، وأغلبهم كان يراقب حراكات الدولة الصفوية ويمضيها. نعم؛ أسس الصفويون لمدرسة جديدة في سلوكيات الحكم، لم تكن مألوفة في الدول الشيعية التي سبقتها، وتتمثل في الاهتمام رسمياً بتعظيم شعائر أهل البيت وذكرهم وسيرتهم وفضائلهم، وخاصة ذكرى استشهاد الإمام الحسين، وفي فتح البلدان وتأسيس الممالك باسم أهل البيت، وبهدف تبليغ سيرتهم وتعاليمهم، وفي دعم الحوزات العلمية والعلماء، ونشر المبلغين في كل جغرافيا الدولة، بإشراف مباشر من المرجعية الدينية.

وخلال حكم الدولتين العثمانية (الحنفية السنية) والصفوية (الجعفرية الشيعية)، أصبح الصراع الطائفي في جانبه الأعظم صراعاً وتنافساً سياسياً مغلّفاً بالشعارات المذهبية. وقد ساهمت في صنعه وتعميقه دول أوربا (التي كانت في بدايات مد نفوذها الخارجي)، بهدف تفتيت وحدة الدول الإسلامية. فخلال انتصارات العثمانيين المتتالية في عمق أوربا، والتمدد الصفوي في المنطقة، وبعد أن أصبحتا أقوى دولتين في العالم الإسلامي أجمع، تحرك الأوربيون لضربهما من الداخل، فنشبت الحروب بينهما، حتى قيل إن أية دولة في العالم لم تستطع الوقوف بوجه العثمانيين سوى الدولة الصفوية، وإن أي دولة لم تناصب الصفويين العداء أكثر من الدولة العثمانية. وفي الوقت الذي كان فيه الصفويون يحولون دون تمدد العثمانيين باتجاه الشرق، فإن العثمانيين كانوا يجبرون شيعة لبنان وسوريا والعراق على العمل كمقاتلين وعاملين في الجيش العثماني، ليموتوا في القوقاز وشرق أوروبا وشمال أفريقيا، فإنهم كانوا لا يسمحون لأي عسكري شيعي أن يصبح ضابطاً.

وكانت النتيجة؛ أن انتهى صراع النفوذ الطائفي – السياسي بين الدولتين المسلمتين الأكبر، إلى سقوط الصفويين عاجلاً، وسقوط العثمانيين آجلاً، وتقسيم الدولة الصفوية الى دول وممالك، وكذلك تقسيم الدولة العثمانية بالصورة نفسها، وإخضاعهما للنفوذ البريطاني والأوروبي.

وإذ يتركز الحديث على قيام السلطات بممارسة الطائفية، وخاصة خلال الحكم العثماني، فلا يعني ذلك أن الصراع انحصر في الدائرة الرسمية، وفي منطقة معينة، وأن الشعوب الأخرى كانت تنعم بالتعايش المذهبي فيما بينها، بل إن الصراع قد حفر آثاره في عمق عقول الكثيرين من المسلمين وضمائرهم، وظلت تتوارثه الأجيال واحداً تلو الآخر. ولعل الحادثة التي ينقلها السيد جمال الدين الأفغاني الأسد آبادي مصداق لهذه الحقيقة، إذ يقول: «يوجد في بلاد الأفغان قبيلة تدعى التركمان، يعيشون على السلب والنهب، فيغيرون على بلاد إيران، يأسرون الرجال والنساء ويبيعونهم باسم العبيد والإماء، مستدلين بأن أسراهم من الشيعة، وكثيراً ما يأسرون أشخاصاً من السنيين، ويجبرونهم بالضرب والكي على أن يعترفوا أمام الناس بالتشيع، كي لا يمتنع أتقياء بخارى عن شرائهم».

وفي العام 1744 م، تم عقد أخطر اتفاق في التاريخ الإسلامي الحديث، بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والأمير محمد بن سعود، أمير نجد، برعاية بريطانية، عرف بــ “اتفاق الدرعية”، وبموجبه يتعهد محمد بن سعود بتبني العقيدة الجديدة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي عرفت فيما بعد بــ “الوهابية”، مقابل تقديم محمد بن عبد الوهاب كل أنواع الدعم الديني لمحمد بن سعود، وأهمها فتاوى التكفير والغزو والقتل والسبي، وبموجبه أطلق محمد بن عبد الوهاب على محمد بن سعود لقب (الإمام)، بينما اطلق محمد بن سعود على محمد بن عبد الوهاب لقب (شيخ الإسلام).

وبعد هذه الاتفاقية الدينية ــ السياسية، التي  أعادت لمعتقدات آل أمية أمجادها، بكل المعايير العقدية والفقهية التكفيرية، والسلوكيات الإرهابية؛ أخذت الخارطة الطائفية والسياسية لإمارات الجزيرة العربية تتغير بالتدريج، فضلاً عن سريان رياح التغيير باتجاه العراق والمنطقة الخليجية؛ فقد كانت العقيدة الوهابية ــ السعودية معادية لكل مذاهب المسلمين وفرقهم، سنة وشيعة، وكانت تكفر الجميع، عدا أتباعها، وتعطي لنفسها الحق في احتلال أراضي المسلمين ونهبها وقتل رجالها وسبي نسائها، ولذلك؛ فقد بدأ آل سعود بترويع السنة قبل الشيعة. ومنذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، قامت الدولة السعودية بمحاولات هدم أئمة آل البيت في العراق، وضرب الشيعة، حتى نجحت في العام 1802 م بتدمير مرقد الإمام الحسين، لكنها فشلت في تدمير مرقد الإمام علي في النجف، رغم تكرار المحاولات، ثم قامت بقتل الشيعة في الشرقية والحجاز وحضرموت، وطاردتهم وهمشتهم وكفّرتهم، خلال دولتها الثانية والثالثة، ولاتزال هذه الدولة حاضنة لكل الأفكار التكفيرية التي تتحول الى جماعات مسلحة، متخصصة في الذبح والحرق والاغتصاب والمصادرة، أمثال منظمات “القاعدة” و”داعش” و”النصرة” و”بوكو حرام” و”طالبان”، كما لاتزال ممارساتها ضد المسلمين تتصاعد بقوة في مناطق السعودية نفسها، وفي العراق والبحرين وسوريا ولبنان وايران وباكستان وأفغانستان واليمن وغيرها.

وفي البحرين، استولى آل خليفة على السلطة في العام 1783 م، وتحكموا برقاب أتباع المذاهب الأُخرى، وخاصة الشيعة، رغم أن الشيعة يشكلون الأكثرية السكانية البالغة آنذاك 80 بالمائة من نفوس البلاد، واليوم يشكلون حوالي 70 بالمائة من سكان البحرين، ولكن لايزال النظام يمارس ضدهم كل ألوان التمييز والإقصاء والاعتقال والتهجير وإسقاط الجنسية والقتل، وهو وضع يشبه نسبياً وضع شيعة العراق خلال سنوات حكم البعث.

وبعد انهيار الدولة العثمانية، تحولت مستعمراتها الى مستعمرات بريطانية وفرنسية، ثم بلدان مستقلة شكلياً، ومنها الدول التي يشكل فيها الشيعة أكثرية سكانية كالعراق ولبنان، أو تحظى بحضور سكاني شيعي كثيف، كتركيا نفسها وسوريا، ولكن تحكمها الرموز العثمانية الطائفية نفسها، والتي حولت ولاءها من الأتراك الى البريطانيين والفرنسيين، وبرزت الأفكار الطائفية العنصرية التي تستهدف الشيعة ووجودهم ومذهبهم بصور جديدة ووسائل جديدة؛ فأصبح الشيعة بين مطرقة التهميش والإقصاء السياسي والثقافي والقانوني، وبين الاتهام بكونهم إيرانيين وهنود وغجر.

ورغم أن الشيعة في العراق يمثلون الأكثرية السكانية المطلقة (65 بالمائة)؛ فإن سياسة الإقصاء والتهميش والتمييز الطائفي استمرت ضدهم خلال العهدين الملكي والجمهوري، وازدادت بشاعة بدءاً من الحكم الطائفي لعبد السلام عارف. وحين استولى حزب البعث على السلطة في العراق، تحوّل البلد الى ساحة عاصفة للإقصاء والقتل الطائفي، وبشكل غير مسبوق، اللهم إلّا في عصور يزيد والمنصور وصلاح الدين وسليم الأول؛ إذ مارس البعث أبشع صنوف التهميش والاعتقال والقتل والمطاردة والتهجير ضد الشيعة، فضلاً عن مصادرة معتقداتهم وممارساتهم الدينية والمذهبية، وكان ممن قتلهم المئات من الفقهاء الشيعة، كما افتعل أربعة حروب، أولها ضد الكرد، ثم ضد الجارة الشيعية إيران، ثم غزو الكويت؛ فكان أغلب القتلى في هذه الحروب هم من الشيعة، ثم أغار على المناطق الشيعية العراقية المنتفضة بعد حرب الكويت وقتل مئات الآلاف. ويعد صدام حسين أكثر حاكم تورط بدماء الشيعة بعد المنصور وصلاح الدين الأيوبي وسليم الأول؛ إذ يقدر عدد من تسبب بقتلهم من شيعة العراق وإيران والكويت وباكستان وأفغانستان ولبنان وسوريا؛ أكثر من مليونين ونصف المليون شخص.

وبعد سقوط دولة البعث؛ ظل معتنقو المعتقدات الأموية الوهابية، من أمثال القاعدة والنصرة وداعش؛ يمارسون الأفعال التكفيرية الإرهابية نفسها ضد المسلمين عامة، وشيعة آل البيت خاصة، وبتقنيات عالية وأموال وفتاوى ومخابئ توفرها لهم الدولة السعودية ومشايخها، فضلاً عن دعم ميداني ومعلوماتي وتدريبي ومالي من بعض الحكومات الخليجية والطائفية وبقايا نظام صدام.

وحين توافرت للشيعة في العراق فرصة المشاركة في حكم الدولة العراقية بعد العام 2003، بحكم أكثريتهم العددية؛ فإنهم لم يقوموا بحركة ثأرية أو إقصاء أو تهميش ضد الطوائف الأخرى، رغم ما تعرضوا له على أيدي المنظومة الطائفية وحواضنها من محاولات اجتثاث رهيبة، لكنهم ارتضوا أن يكون لهم ثلث مناصب الدولة، وثلثان للسنة (العرب والكرد)، مع أن بإمكانهم تشكيل دولة شيعية وحكم شيعي، ورغم انتظارهم هذه الفرصة لمدة (1350) عاماً.

وذهاباً الى البحرين؛ حيث يشبه الواقع ما كان عليه في العراق خلال حكم نظام صدام حسين؛ إذ تنتمي الدولة والحكومة والسلطة الى الطائفة الأقل سكانياً، بينما الأكثرية المحكومة والمقموعة تنتمي الى الآخر المذهبي، وحين تحاول هذه الأكثرية السكانية أن تعبر عن إنسانيتها، من خلال التوجع العلني والنطق بالألم، والاعتراض السلمي على قمع وإرهاب واضطهاد وتهميش السلطة المنتمية الى الأقلية السكانية الطائفية؛ فإنها تتهم بالممارسة الطائفية والتخريب الأمني، وقبل ذلك بالتهمة التقليدية المعلبة الجاهزة: العمالة لإيران. وظل حكام المنطقة ومشايخها الطائفيين وجماعاتها الدينية والعلمانية يجمعون على دعم حكومة البحرين في ضرب شعبها المستضعف الأعزل، بل ودعمها في احتلال البلد عسكرياً، لضرب الطائفة المقموعة.

وفي حالة لبنان السياسية أيضاً؛ فإنّ رئيس الحكومة ينتمي طائفياً الى الأقلية السكانية في البلد، وفي الوقت نفسه ظلت أغلب النخبة السياسية لطائفية الأقلية تقاتل بكل وسائل المال والسياسة والإعلام لتجفيف منابع القوة السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية للطائفة الأكبر، أي الشيعة، حتى لو أدى هذا التجفيف الى انهيار البلد أمام العدو الصهيوني الذي يستهدف تدمير المقاومة التي تنتمي الى الشيعة، وبالتالي؛ فإنّ المهم هو ضرب القوة التي يواجِه بها لبنان العدو، بل أنّ انتصارات المقاومة الشيعية على الكيان الإسرائيلي في أكثر من موقعة وحرب، لاسيما في عامي 2000 و 2006، كان يواجَه بامتعاض وغضب وتآمر أغلب النخبة السنية، رغم أن مآلات حراك المقاومة الشيعية اللبنانية تصب في مصلحة لبنان والعرب والمسلمين، وليس مصلحة الطائفة الشيعية وحسب.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment