افغانستان وتحديات
أفغانستان وتحديات ما بعد الانتصار..
(كلمة تحرير مجلة التوحيد، 1992)
بقلم: علي المؤمن
رئيس التحرير
الجسد الاسلامي مثخن بالجراح ، جراح لها عمق في التاریخ والجغرافیا؛ جرح فلسطین… جرح افغانستان … جرح العراق.. جرح الجزائر.. وجراح أخرى في كل بقعة من وطننا الاسلامی الکبیر. وحلم المسلمين هو أن تلتئم يوماً هذه الجراح، ليعود الجسد الاسلامي الى سابق عافيته وقوته، ولذلك – بالطبع – شروط وسنن، نأمل أن يكون لنا حديث بشأنها مستقبلاً.
ومنذ الأمس القريب بدأ جرح أفغانستان يلتئم رويداً رويدا، وذلك بعد ما يقرب من ثلاثة عشر عاما من الجهاد المرير والمقاومة والصمود، توّجت بالاطاحة بالحكم الماركسي في أواخر نيسان ١٩٩٢، والاعلان رسمياً عن انتصار ((الثورة الاسلامية في افغانستان)) .
وبغض النظر عن طبيعة الوضع الدولي الجديد والمتغيرات التي شهدتها الخارطة السياسية الدولية منذ عام ١٩٨٩، وفى مقدمتها انهيار الاتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية، والذي حدث في خضمها و تأثیر ظروفها انتصار ثورة المجاهدین فی افغانستان، فان الحدث الأفغاني يبقى حدثاً في غاية الأهمية على الصعيدين الدولي والاسلامی، ویشکل مفردة جدیدة فی التغییرات المستمرة فی الخارطة الدولية، بل أنه الحدث الأول على الصعيد الاسلامى خلال الفترة التي أعقبت قيام الجمهورية الاسلامية في ايران.
وبعد انتصار الثورة الاسلامية فى افغانستان اسدل الستار على المرحلة الأولى من مسيرة الثورة، وبدأت مرحلة الثبات على النصر، وهي مرحلة أصعب ومليئة بالمخاطر والتحديات؛ فالمحافظة على النصر أصعب من صنعه، كما قيل. ومن هنا فان فرحتنا بانتصار ثورة أهلنا فى افغانستان مشوبة بالقلق، فمن حقنا أن نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً على أفغانستان الحبيبة وخشية على مستقبلها ومستقبل ثورتها، بل أن الواجب الاسلامي يحتم علينا أن نساهم في حل ما يمكننا من مشاكلها ورفع حصار المخاطر التى تحيط بها.
اننا نعيش الهم الأفغانستاني بكل جزئياته، وبكل أحداثه وآلامه وآماله، فنحن من الجسد الأفغاني باللحم والعظم، كما نحن من الجسد الفلسطینی واللبناني والعراقی والکشمیری والاذربیجانی. وإن كان ما حدث ويحدث أو سيحدث فى أفغانستان يسميه البعض شأناً داخلياً بين اخوة يعيشون قضية واحدة. فنحن نقول: نعم. . انه شأننا الداخلي نحن المسلمين جميعاً، حيث لا فواصل ولا فوارق ولا حدود بين أبناء الأمة؛ من اندونيسيا وحتى الأندلس. فاذا لم يكن ما يحدث في أفغانستان أو مصر أو البوسنة والهرسك من شأنى، فلا بدّ لي من مراجعة حقيقة انتسابي للاسلام وللوطن الاسلامي الكبير.
اذن.. فنحن نتعامل مع المرحلة الأصعب من مسيرة الثورة الاسلامية في افغانستان تعامل العضو مع العضو في الجسد الواحد، الذي ((إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى)). وقد بدأ مؤشرات التحديات التي تواجه الثورة، بالظهور منذ اللحظة الأولى للانتصار، وقد يصعب تناولها جميعاً بالبحث والتحلیل، ولكن ثقة مخاطر وتحديات تبقى هي الأبرز، و تشکل التهديد الأقوى الذي من شأنه -لا قدّر الله – إهدار ثلاثة عشر عاماً من الجهاد، ودماء ملیون ونصف ملیون شهید .
ولا نريد هنا أن ننظر الى الأمور نظرة تشاؤمية أو نعطي صورة سوداوية عن الوضع، وفي الوقت نفسه، يجب أن لا تتجاوز الواقع الى الخيال والتمنيات المحضة، بل لا بدّ من التعامل مع الأحداث بكل واقعية.
ان معظم التحديات التى تواجه الثورة الاسلامية الأفغانية بعد انتصارها يرجع إلى التعددية والانقسامات الحادة في كل شيء، فضلاً عن التحديات الموروثة أو التى برزت كافراز لمسيرة الثورة. وهى – بشكل عام – تتمثل بالانقسامات فى التنظيمات الجهادية والسياسية، المذاهب الاسلامية، القوميات، اللغات، العشائر، الطرق الصوفية، الولاءات السياسية الخارجية، اضافة الى محاولات الاحتواء، والاقتصاد المنهار، وانحدار مستوى الثقافة والتعليم…
ونستطيع القول بأن التحدي الأول يتمثل بمحاولات الاحتواء الاستكباري للثورة، من خلال استغلال ثغرة الولاءات السياسية الخارجية للتنظيمات أو المساعدات الاقتصادية أو الدعم السياسى. وهى محاولات يجد لها الاستكبار مسوغاً، من خلال هلعه من اقامة حكومة اسلامية في أفغانستان وتحوّلها إلى جمهورية اسلامية تطبّق دستور القرآن الکریم، لتشکل مع الجمهوریة الاسلامیة فی ایران، والبلدان الاسلامية الأخرى، وخاصة المجاورة، كجمهوريات آسيا الوسطی، قوة اسلامیة کبری فی المنطقة . فالاستکبار العالمی حفظ الدرس الايراني المرير جيداً، ويحاول التصرف مع الحدث الأفغاني وفق معطیات تجاربه القاسیة مع ایران.
والولايات المتحدة الأمريكية وبعض حكومات البلدان |الاسلامیة التی تمثل الخط الامریکی هی محور هذه المحاولات، لتدخلها السافر فى شؤون أفغانستان الداخلية، وفرض العناصر والفئات الموالية لها ، ولعلها تصل الى حالة شبيهة بالوصاية .
وربما من أهم المخاوف التي لا تخفيها الحالة الاسلامية بصفتها العامة، بما تمثله من حرکات و شخصیات اسلامیة اصیلة فی کل العالم الاسلامی، هو ظهور نموذج اسلامي في افغانستان یکون في قبالة النموذج الاسلامي في ايران، من النواحي الطائفية أو شكل الحكم أو السياسة الخارجية. وهذه الحالة – دون شك ـ هي أخطر افراز لمحاولات الاحتواء. بيد ان المجاهدين الأفغان الأصلاء بما عرفوا به من مقاومة وصمود وعناد مقدس سيحولون دون ذلك، بل بامکانهم ضرب کل محاولات الاحتواء والتفتیت الداخلی، حتی لواستمر ذلك ثلاثة عشر عاماً آخری!
التحدي الثاني، هو التنافس بين التنظيمات السياسية – الجهادية، والذي يصل – أحياناً – الى الاصطدام المسلح. فالكثير من هذه التنظيمات هو خليط معقد يجمع في داخله خصائص مذهبية وقومية وديمغرافية. ويزيد عدد هذه التنظيمات – الاسلامية منها فقط – على 25 تنظيماً وسبق للكثير منها في ادخال معارك حقيقة مع التنظيمات الأخرى).
والانتصار المبارك وضع جميع هذه التنظيمات على المحك الحقیقی، فالشعارات التی رفعت خلال سنوات الجهاد الطویلة لا بد أن تجد لها مصداقية منذ اللحظة الأولى، ولكن فضل البعض – وللأسف – أن يسير بالاتجاه المعاكس لشعاراته. فلم يكن الصراع الدامي الذي بدا في الایام الاولی بعد الانتصار یدور بین فئات مجاهدة وأخرى طارئة على الجهاد وتحاول سرقته ، بل كان بين فئات ساهمت جميعها في ارواء شجرة الثورة وحمايتها بالدم والدمع وعرق الجبین!
وهناك قضية خطيرة ستزيد من تعقيد التحديين السابقين، وهى وجود بقايا النظام السابق التي لا زالت تمارس عملها في الدوائر الرسمية الحساسة، كالجيش وجهاز المخابرات والعناصر الماركسية، فالعفو الذي أصدرته الحكومة المؤقتة عن جميع عناصر النظام – باستثناء رئیسه -، ومسا همة بعض ضباط الجیش سیفسح المجال لهذه العناصر بممارسة الدور الذي يحلو لها، بالنظر لما تتمتع به من خبرة في ممارسة السلطة ووضع اقتصادي جيد ونفوذ واسع في دوائر الدولة وقوة عسكرية لا يستهان بها. وهؤلاء سيشكلون – من خلال اختراقهم مختلف المواقع الحساسة ـ خاصرة ضعيفة في الحكومة الاسلامية يضغطون عليها متى شاءوا .
وفضلاً عن الجيش والعناصر المسلحة الاخرى من بقايا النظام، فهناك مالا يقل عن (500) ألف مسلح من أبناء الشعب، معظمهم يشكلون المجاميع التابعة للتنظيمات الجهادية أو العشائر أو الناس العادیین. و وجود هذا السلاح – ومنه الثقیل – المنتشر بایدی هؤلاء يشكل خطراً أمنياً واجتماعياً كبيراً جداً على البلاد.
والانقسامات المذهبية هى التحدي الآخر الذي لا تقل خطورته عن تناحر التنظیمات السیاسیة، فالسنة یشكلون 65 بالمائة من سکان البلاد تقریباً، والشیعة 35 بالمائة. والمؤسف ان بعض التنظیمات السياسية التى تشكل الأغلبية المذهبية تمارس تمييزاً طائفياً مقيتاً وتعزف على الوتر الطائفى، ومنها ما يتلقى دعماً خارجياً قوياً للغاية، كالتيار الوهابي (السلفي)! الذي يضع (الخطر ) الشيعي فوق الخطر الشيوعى !!، بل ان مهمته الأساسية اثارة الفتنة الطائفية وحسب ومن هنا، فالفتنة الطائفية إذا اشتعلت -لا سمح الله – في افغانستان فانها ستكون مرعبة ورهيبة، وسيكون إخمادها صعبا للغاية، ولذا لا بد من التصدي بقوة لكل التيارات التي تمارس الفتنة الطائفية.
والانقسام القومي واللغوي هو خطر كامن آخر؛ فهناك أكثر من ثماني قوميات، لكل منها وجودها المستقل – غالباً ـ جغرافياً وتاريخيا ومذهبيا وربما سياسيا . فالبشتو – اكبر القوميات – هم من اهل السنة ـ ويتكلمون بالغة التي تحمل الاسم نفسه ويسيطرون على السلطة المركزية منذ قرنين تقريبا . والهزارة – ثاني القوميات عدداً – ابناءها من الشيعة – ويتكلمون اللغة الفارسية اضافة الى البلوش ، وهم امتداد للبلوش القاطنين في باكستان وايران . والتركمان والاوزبك قوميتان يتكلم ابناءهما لغتين جذورهما تركية . اما التاجيك فيتكلمون اللغة الفارسية وهذه القوميات الثلاثة الاخيرة هي امتداد للقوميات التي تحمل الاسم نفسه ، والقاطنة في ثلاث جمهوريات مستقلة من جمهوريات اسيا الوسطة (في الاتحاد السوفيتي سابقاً ) .
وهناك جذور تاريخية للتنافس – ان لم نقل التناحر – بين هذه القوميات ، حتى في سنوات الجهاد المشترك ضد الحكم الماركسي .
وبعد سنوات الحرب الطويلة والدمار الذي خلفته ، تبرز مشكلة الاقتصاد المنهار كمشكلة كبرى ، ستبقى تعاني منها افغانستان ، حيث ان اعادة بناء الاقتصاد واعمار البلاد والقضاء على مؤشرات المجاعة الواضحة ، وشحة المراكز الصحية امر ليس هينا مطلقاً ، بل يحتاج الى تظافر جهود اسلامية دولية حثيثة ، فالبلد فقير ، ومستوى دخل الفرد منخفض للغاية . اضف الى ذلك ان عودة مليون لاجئ ومشرد (5/3 مليون في باكستان، ومليونين في ايران ، وعدة الاف في بلدان اخرى ) سيضاعف من المشكلة الاقتصادية . فكيف سيتم استيعاب هؤلاء داخل البلاد وتشغيلهم واسكانهم ؟!.
ويبقى التحدي الثقافي الذي يشكل عاملاً مساعداً للمزيد من التعقيد للمخاطر والتحديات السياسية والمذهبية والاقتصادية والاجتماعية. ويكفي ان نقول ما يقرب من 85% من عدد السكان يئنون تحت وطأة الأُمية.
ان معظم هذه التحدیات والمخاطر هو افرازات للدور الاستكباري التاريخي في هذا البلد الاسلامي المستضعف.وسنوات الاحتلال والحكم الشيوعيين، الذين أمعنا في تدمير البلد خلال تلك الفترة العصيبة. اذن.. المهمة الأولى والأساسية للحكومة الاسلامية في افغانستان هي هدم آثار هذا الدور وآثار تلكالسنوات، وبناء البلد في جميع المجالات. ويجب أن لا يكون هناك تصوّر بأن مواجهة كل تلك التحديات والمخاطر والقضاء عليها هي ضرب من المستحیل، بل أنه أمر ممکن تماماً، من خلال التخطیط العلمى والتنفيذ الدقيق وحسن الظن بالله تعالى والتوكل عليه .
وما نطرحه هنا هو تصورات عامة للاسس التی یمکن من خلالها مواجهة تحديات ومخاطر مرحلة ما بعد انتصار الثورة الاسلامية الأفغانية:
1- القاعدة والمنطلق والهدف في التعامل مع الأحداث والقضايا هو الاسلام ومصلحته، والوسائل والأساليب تكون نابعة من صمیم الاسلام ایضاً، فالاسلام یصنع الانسان ویبنیه ویحقق هدف وجوده على الأرض.
2- التعامل مع المخاطر والتحديات والأحداث بحكمة ووعي وواقعية، ليكون سنداً عملياً للمبدئية والالتزام بالأهداف والشعارات الاسلامیة والتوکل علی اللّه تعالی.
۳- و علی المستوی الاقتصادی، فان افغانستان تستعین بالبلدان الاسلامية التي يفرض عليها الواجب الاسلامي والانساني أن تقدم الدعم والعون اللامشروط لهذا البلد المحطم. كما ان استثمار الحكومة الأفغانية الجديدة لثروات البلاد الطبيعية بصورة علمية وبالاستعانة بالخبراء المسلمين من البلدان الاخرى، سيمكنها – الى حد ما – من التعويض عن بعض ما دمرته الحرب. ولا سيما ان أفغانستان تتمتع باحتياطي هائل من النفط والغاز والفحم الحجري والحديد.
٤- على مستوى التطبيق، فان أمام الثورة الاسلامية الأفغانية نموذجاً جاهزاً ووحيداً، هو نموذج الدولة الاسلامية في ايران، التي آثبتت بنجاحها الباهر ان ابناء الوطن الاسلامی یمکنهم النهوض والانتصار، وحفظ النصر والصمود، والبناء، رغم كل المؤامرات والعقبات الداخلية والخارجية. ونقول النموذج الوحيد، وذلك لوجود الكثير من القواسم المشتركة على الأرض، فضلاً عن الهدف المشترك لكلا الثورتين، وهو عنصر لا يتوافر في أي نموذج آخر، رغم ان ایران الثورة – کانت ولازالت – تمتع بالکثیر من عناصر الثبات والاستقرار والوحدة التی تفتقر الیها افغانستان . وفی بناء الدولة أيضاً فان وجود تجربة الثورة الاسلامية الايرانية هى فرصة عظيمة للمجاهدين الأفغان للاستفادة منها، ابتداءً من السيطرة المؤقتة على البلاد من قبل مجلس قيادة الثورة والحكومة المؤقتة، و اجراء الاستفتاء علی شکل الدولة والحکومة، وانتخابات مجلس الخبراء لتدوین الدستورالدائم، ثم الاستفتاء علیه، و انتهاء بانتخابات مجلس الشوری ورئاسة الجمهوریة و تعیین الحکومة الدائمة. فضلاً عن الاستفادة من تجربتها فى إحباط التآمر العالمى المستمر، ومحاولات الاحتواء، ومواجهة الحروب، واعادة البناء… الخ.
ولقد اثبت المجاهدون الافغان – خلال سنوات الجهاد المرير – أنهم في المقدمة دائماً، في شجاعتهم وصبرهم وصمودهم وتحدّيهم. وهم اليوم يعيشون مرحلة الانتقال من الثورة الى ((دولة الثورة))، فيجب أن يثبتوا أنهم فى المقدمة أيضاً. فحتى الآن لازال كل شيء مؤقتاً، في حين أنّ منتهى آمالنا تجاه هذا الجزء الغالي من وطننا الاسلامي أن نرى فيه دولة اسلامية قوية راسخة الأقدام وقيادة موحدة و دستورا دائماً و مجلساً للشوری…
((إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامکم))
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua