اختراق نظام الثنائية القطبية السوفيتية الأمريكية

Last Updated: 2024/05/11By

اختراق نظام الثنائية القطبية السوفيتية الأمريكية

د. علي المؤمن

محاولات الاختراق

في عقد الخمسينات أخذت تبرز بوادر تخلخل في معادلة الثنائية القطبية، وتحولت هذه البوادر إلى ظواهر إقليمية وعالمية حالت دون استقرار المعادلة، إلا أنها لم تتمكن من تغييرها، ولعل سياسة «جواهر لال نهرو» (رئيس وزراء الهند) في إدارة علاقات بلده الخارجية تعد المحاولة الأولى في هذا الاتجاه، إذ حاول أن يسير بالهند على طريق الحياد بين الكتلتين، ولكنها لم تتحول إلى ظاهرة دولية، ولم تؤثر سلباً على مصالح الاستعمار في الهند والمنطقة، ومن هنا لم تبادر إحدى الكتلتين إلى محاربة نهرو أو إسقاطه. على العكس من محاولة محمد مصدق (رئيس وزراء إيران) التي نفذها بتأميم النفط، مما أدى إلى تضرر مصالح الغرب في إيران، ودفعت بريطانيا وأمريكا إلى إسقاطه عام 1953، في الوقت الذي لم يكن يحظى بتعاطف الاتحاد السوفيتي. وكان من شأن محاولة مصدق – في حال استمرارها – التأثير على مصالح بريطانيا وأمريكا في معظم دول المنطقة.

وقد استخدم جمال عبد الناصر (الزعيم المصري) الأسلوب ذاته حين أمّم قناة السويس عام 1956، إذ قام الكيان الصهيوني وبريطانيا وفرنسا بعدوان ثلاثي مشترك ضد مصر، إلا أن عبد الناصر لم يكن يشبه مصدق في طريقة إدارته للأزمة وفي امتلاكه لأدوات القوة، فقد كان عبد الناصر ثائراً أكثر من كونه رجل دولة، كما كان يمسك بزمام القوات المسلحة وكان مستعداً لاحتمالات ردود الأفعال، فضلاً عن تمتعه بدعم الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية.

أما المحاولة الأهم، والتي بدا أنها تستحيل ظاهرة دولية مؤثرة فهي محاولة «ماوتسي تونغ» (الزعيم الصيني)، فقد أخذت مواقف «ماو» تبتعد تدريجياً عن مواقف الاتحاد السوفيتي بعد موت ستالين، وتكرس الخلاف بعد استئثار «خروشوف» بالسلطة في الاتحاد السوفيتي، وطرحه فكرة التعايش السلمي مع الغرب عام 1958،وتحويلها إلى سياسة ثابتة (فيها قدر من المرونة) في علاقات الاتحاد السوفيتي. وعد «ماو» هذه السياسة انحرافاً عن الماركسية اللينينية وحتمياتها التاريخية ومبادئها، حتى تحول الخلاف إلى طلاق نهائي ثم عداء مستحكم، الأمر الذي دفع «ماو» إلى سلك سياسة وسط بين الكتلتين العظميين، اللتين سعتا لعدم التفريط بفرصه «التعايش السلمي» من أجل الابتعاد عن «حافة الهاوية» وتجنب أية مواجهة عسكرية بين الطرفين، يكون فيها السلاح النووي هو رهان النصر بالنسبة لهما. وكان الرعب الذي أصاب العالم جرّاء أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا عام 1962، سبباً في تكريس الاتجاه نحو سياسة التعايش السلمي، ولا سيما أن الكتلتين أحستا أن تقاربهما ضروري لكبح جماح القوة الجديدة الصاعدة التي يقودها «ماو»؛ أي الصين المحايدة. وشهد الخلاف الصيني – الروسي مجابهات عسكرية غير مباشرة في عدد من مناطق النفوذ، كما حصل في كمبوديا حين كان كل من روسيا والصين يدعمان أحد طرفي الحرب، وهكذا الأمر بالنسبة للخلاف بين فيتنام والصين، ودعم الاتحاد السوفيتي لفيتنام ضد الصين.

وكانت قضية فيتنام تتفاعل فوق نار ساخنة منذ عام 1949 حين أعلنت فرنسا انضمام فيتنام إلى الجمهورية الفرنسية، ثم إعلان هوشي منه (الزعيم الشيوعي الفيتنامي) عام 1950 حكومة محلية فيتنامية، واعتراف روسيا والصين بها، في مقابل اعتراف الدول الغربية بالحكومة التابعة لفرنسا. وبدأت المعركة العسكرية بين الطرفين حين أعلنت دول حلف الأطلسي عام 1952 دعمها الكامل لفرنسا؛ لأن سقوط فيتنام بأكملها في أيدي الشيوعيين يعني تهديداً لكل دول منطقة الهند الصينية. ودخلت الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها في الحرب، ثم تحولت فيها طرفاً أساسياً في مقابل قوات فيتنام الشمالية الشيوعية. واستمرت الحرب أكثر من عشرين عاماً، قتل فيها مليونا فيتنامي (شمالي وجنوبي)، كانوا ضحايا الصراع الأمريكي – الروسي، الذي كان يتكرر في أكثر من دولة من الدول الصغيرة، وهو ما حصل مع كوبا الشيوعية بقيادة «كاسترو»، فقد كان الاتحاد السوفيتي يعتبر كوبا جزءاً من أمنه القومي، في حين عدتها أمريكا خطراً يهدد أمريكا اللاتينية حديقتها الخلفية.

لم تقتصر محاولات الاختراق على آسيا وإفريقيا (محاولات نهرو، مصدق، عبد الناصر وماو) بل شهدت أوربا محاولات مثيلة، أبرزها محاولة «جوزف بروس تيتو» (الرئيس اليوغسلافي) الذي سحب يوغسلافيا الشيوعية من حلف وارشو في عام 1955، واختلف مع زعماء روسيا، وأجرى اتصالات مع الأمريكان، ولكنه لم يرتم في أحضانهم؛ بل بقي على الحياد بين الكتلتين. وفي المعسكر الرأسمالي حاول «شارل ديغول» (الرئيس الفرنسي) زعزعة استقرار الولايات المتحدة الأمريكية في موقعها كزعيمة للعالم الاستعماري الغربي؛ فقد سحب «ديغول» عضوية فرنسا من حلف الأطلسي عام 1966، ودعا إلى أوربا مستقلة عن النفوذ الأمريكي وقادرة على مواجهة الخطر الشيوعي بأدواتها الذاتية.

وكانت أوربا الغربية في عقدي الخمسينات والستينات قد تحولت إلى مخزن للسلاح الأمريكي، ولا سيما الاستراتيجي منه، فقد كانت الولايات المتحدة تمتلك مئات القواعد العسكرية في أوربا الغربية، من بين (1400) قاعدة كانت تمتلكها عام 1959 في (31) دولة، في إطار عشرات المواثيق والمعاهدات العسكرية التي عقدتها مع هذه الدول. وارتفعت هذه الأرقام إلى الضعف في السبعينات، فقد كان هناك حوالي مليون جندي أمريكي ينتشرون في حوالي (100) دولة من دول العالم.

سياسة الحياد الإيجابي

حيال هذا الوضع، كان الحياد بين الكتلتين العظميين يعد سياسة شبه مستحيلة، ولا سيما الحياد الإيجابي، أي التأثير الإيجابي المحايد في الأحداث الدولية، وهي المهمة التي حاول بعض زعماء الدول المحايدة تنفيذها، ولو على مستوى الشكل. وقد أطلق مصطلح عدم الانحياز «جواهر لال نهرو» خلال مؤتمر الدول الأفرو – آسيوية في «باندونغ» بأندونيسيا عام 1955، الذي يمثل الحجر الأساس لحركة عدم الانحياز، وقد حضرته (27) دولة، وكان نجومه الرئيس الأندونيسي «سوكارنو» والرئيس المصري جمال عبد الناصر ورئيس الوزراء الصيني «شوان لاي» ورئيس الوزراء الهندي «نهرو»، الذين يعدون مؤسسي كتلة عدم الانحياز، وزعماءها، إضافة إلى الزعيم اليوغسلافي «تيتو»، الذي حضر قمة «بريون» مع عبد الناصر و«نهرو» عام 1956، ثم تزعمت دولته الحركة خلال مؤتمر بلغراد عام 1961، وسمي بمؤتمر عدم الانحياز الأول، وحضرته (25) دولة، (11) منها إفريقية و(12) آسيوية وواحدة أوربية (هي يوغسلافيا) وواحدة أمريكية (كوبا). وقد أعلن المؤتمر عن أهداف الحركة المتمثلة بتحقيق التعايش السلمي بين مختلف البلدان والأنظمة، وسيادة الأمم، وتحقيق العدالة والمساواة في العلاقات الدولية، واحترام حقوق الإنسان، ونبذ التمييز العنصري، وعدم الدخول في التكلتلات الدولية السياسية والعسكرية. وهي نفسها المبادئ التي طرحت في باندونغ ثم في مؤتمري القاهرة وكوناكري التحضيريين. وفي مؤتمر بلغراد أخذ مصطلح «العالم الثالث» يتجسد على المستوى الدولي بصورة حركة عالمية غير منحازة لإحدى الكتلتين العظميين، ولكنها إيجابية في حيادها، وتضم الدول النامية والفقيرة، أي دول الجنوب (عدا يوغسلافيا التي تنتمي جغرافياً إلى دول الشمال). وارتفع عدد أعضاء الحركة إلى (47) دولة خلال مؤتمر عدم الانحياز الثاني في القاهرة عام 1964، ثم (54) دولة في «مؤتمر لوساكا» بزامبيا عام 1970، وارتفع إلى (87) دولة عام 1976 في «مؤتمر كولومبو» الخامس. ثم انضمت معظم دول العالم الثالث إلى الحركة؛ ليس للالتزام بسياساتها في الواقع الدولي والمحلي؛ بل لرفع شعاراتها؛ لأن كثيراً من هذه الدول كانت منحازة بشكل وآخر إلى إحدى الكتلتين، حتى باتت مؤتمرات الحركة مجرد تظاهرة سياسية عالمية للدول النامية والفقيرة.

ويدفع موضوع عدم الانحياز البحث للوقوف على موقع العالم الثالث في تقسيمات النظام العالمي، هذه التسمية (Third World) التي أطلقها الاقتصادي الفرنسي «الفريد سوفي»، ثم استخدمها عالم الاجتماع الأمريكي «ارمنغ هوفيتيز» في كتابه «عوالم ثلاثة للتنمية»، المراد بها العالم المتخلف الذي لا ينتمي إلى العالم الأول: الغرب الرأسمالي، والعالم الثاني: الدول الاشتراكية.

ويعتبر مصطلح دول العالم الثالث مرادفاً لمصطلح دول الجنوب، إذ يصفها «جان لاكوتير» بأنها الدول التي لم تستفد من الثورات الصناعية في القرنيين 18و19 والثورة الاشتراكية في القرن العشرين، ويشير إلى السمات المشتركة لها، مثل: حداثة الحصول على الاستقلال السياسي ومشاكل التخلف الاقتصادي والتكنولوجي.

هناك آراء أخرى في معيار تقسيم النظام العالمي، منها الرأي الذي يذهب إلى وجود خمسة عوالم:

الأول: يضم الدول الصناعية المتقدمة المتميزة بنظامها الرأسمالي.

الثاني: يضم الدول الاشتراكية.

الثالث: يضم الدول النامية التي تمتلك مستويات اقتصادية متوسطة ولديها ثروات مهمة.

الرابع: يضم الدول المتخلفة ذات المستوى الاقتصادي المنخفض.

الخامس: يضم الدول الأكثر تخلفاً في الاقتصاد.

ويعتمد هذا التقسيم المعيار الاقتصادي ومؤشراته، كمستوى التطور الاقتصادي والثروات القومية ودخل الفرد. وهناك الرأي الذي يتبناه «ماوتسي تونغ»، إذ يقسم العالم إلى ثلاثة عوالم:

الأول: يضم الدول الإمبريالية، ويقصد بها الاتحاد السوفيتي وكتلته الاشتراكية والولايات المتحدة الأمريكية وكتلتها الغربية.

الثاني: يضم الدول التقدمية والنامية المستقلة.

الثالث: يضم الدول الأقل نمواً أو المتخلفة اجتماعياً واقتصادياً أو المستعمرة.

أما الإمام الخميني فإنه يقسم العالم إلى عالمين:

الأول: عالم الاستكبار، ويضم كل القوى العظمى التي تمارس هيمنة استكبارية سياسية واقتصادية وعسكرية على العالم.

الثاني: هو عالم المستضعفين، ويضم الدول والشعوب الخاضعة لهيمنة قوى الاستكبار سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.

بيد أن الإمام الخميني يشير إلى وجود قوى مستقلة فاعلة ضمن عالم المستضعفين.

وقد تأسست في إطار دول العالم الثالث أو الدول المستضعفة عدد من المنظمات الإقليمية، أهمها: «منظمة الوحدة الإفريقية» عام 1963، التي ضمت (30) دولة عند التأسيس، وارتفع العدد إلى (50) دولة عام 1980. ووضعت المنظمة هدف تحرير القارة الإفريقية من الاستعمار في مقدمة أهدافها. وقبلها كانت «جامعة الدول العربية» التي تأسست عام 1945، إلا أنها شهدت تحولاً في فاعليتها في عقد الستينات، بعد حصول معظم الدول العربية على استقلالها، وتعرض المنظمة لتهديدات خارجية جادة، ولا سيما من قبل الكيان الإسرائيلي وحماته. وقد دفع التهديد زعماء حكومات البلدان الإسلامية لتأسيس «منظمة المؤتمر الإسلامي» عام 1969 خلال قمة الرباط التي عقدت في أعقاب محاولة الصهاينة إحراق المسجد الأقصى. ووصل عدد أعضاء المنظمة حتى نهاية السبعينات إلى (42) دولة مسلمة. وكان الكيان الإسرائيلي وبفعل عوامل عديدة، منها ما يرتبط بالوضع في المنطقة العربية والإسلامية وأخرى ترتبط بالتبني الغربي المطلق له، قد نجح في التمدد جغرافياً على حساب الدول العربية المجاورة بعد حرب عام 1967، التي أدت إلى هزيمة عربية كبيرة، فقدت فيها فلسطين الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، ومصر منطقة سيناء، والأردن شريطها الحدودي الغربي، وسوريا مرتفعات الجولان. وهي هزيمة أذهلت الشعوب العربية والمسلمة، وأثارت فيها مشاعر متناقضة، أدت إلى بروز تيارات جديدة في الساحة السياسية والاجتماعية. ثم جاءت جميع الخطوات التي أقدمت عليها الدول الكبرى والأمم المتحدة لتصب في صالح الكيان الإسرائيلي وتدعمه لفرض الأمر الواقع على الدول العربية.

سلاح النفظ

بعد حرب عام 1967 بين الكيان الصهيوني ودول الجوار العربي، تحولت قضية فلسطين إلى بؤرة توتر عالمي وأزمة شرق أوسطية تهدد السلام الدولي. ثم دخل معادلتها بعد فاعل، رغم أنه لم يكن جديداً، ولكنه بات عاملاً مهماً، وهو البعد الإسلامي، فقد أصبحت فلسطين محور اهتمام العالم الإسلامي، حين اضطرت حكومات البلدان الإسلامية إلى الاهتمام بالقضية بفعل الضغط العربي المتصاعد، بل إن نظاماً يمتلك أقوى العلاقات مع (إسرائيل) هو نظام إيران الشاه، اضطر لإطلاق شعارات دينية يزايد فيها على البلدان لإسلامية الأخرى بشأن القضية الفلسطينية، بعد أن أصبحت علاقاته بالكيان الإسرائيلي إحدى عوامل تهديد استقراره.

وبقيت الحالة بين الكيان الإسرائيلي ودول الجوار العربي ملتهبه على الأرض وفي الإعلام والمحافل الدولية. ثم شهدت تحولاً جديداً خلال عام 1970، إثر الصراع المسلح بين الأردن والمقاومة الفلسطينية، وموت جمال عبد الناصر في أعقابه، فقد بدأت المقاومة الفلسطينية تأخذ شكلاً أكثر تنظيماً. وانتهت حالة اللاصلح واللاحرب إلى حرب تشرين / اكتوبر 1973 التي حقق فيها الجيشان المصري والسوري انتصارات لها أهميتها المعنوية ولكن هذه انتصارات كانت ممهداً لخروج مصر من حالة اللاحرب واللاسلم؛ انتهت بمبادرة الرئيس المصري أنور السادات إلى عقد معاهدة صلح منفرد مع الكيان الإسرائيلي عام 1979، بعد سنتين على زيارته تل أبيب. وهو ما أحرج الدول العربية ودفعها إلى عزل مصر وتجميد عضويتها في جامعة الدول العربية. وبالرغم من أن مبادرة الصلح المنفرد لأنور السادات قد قوبلت باستنكار إسلامي وعربي شديد، على الصعيدين الرسمي والشعبي، إلا أنها – في الحقيقة – مهدت الطريق للموقف الرسمي العربي للانخراط في المبادرة.

وتسببت القضية الفلسطينية وحرب 1973 في دخول النفط أيضاً عاملاً جديداً في الصراع، فقد حملت الدول العربية شعار النفط سلاحاً في المعركة، ولكنه لم يكن في الحقيقة سلاحاً حقيقيا بقدر ما كان آلية لإحداث التوازن وامتصاص ردود الفعل الشعبية، ثم تحسين اقتصاديات الدول النفطية عربية وغير عربية، فقد ارتفعت أسعار النفط ارتفاعاً كبيراً، حتى بلغت حوالي (40) دولاراً للبرميل الواحد، بعد أن رفعت الدول العربية الأعضاء في (الأوابك) سعر نفطها بنسبة 7% بهدف الضغط على الدول الغربية.

هكذا كاد ارتفاع الأسعار وانخفاض صادرات النفط يتحول إلى أزمة عالمية كبيرة، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية تمكنت من تفتيتها، ثم إعادة الأسعار إلى وضعها الطبيعي بالتدريج.

وكانت الحرب الأهلية اللبنانية التي نشبت عام 1976 واستمرت ما يقرب من (15) عاماً جزءاً من تداعيات قضية فلسطين، وكان أبرز دوافع اندلاعها من قبل المارونية السياسية القضاء على وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان، ولكنها تطورت بدخول أطراف جديدة فيها، وتطورت معها أهدافها وعوامل استمرارها، حتى شملت الساحة اللبنانية بأجمعها تقريباً.

وظل الاتحاد السوفيتي يناور في دعم القضية الفلسطينية، كجزء من آليات حربه الباردة مع الولايات المتحدة وأوربا الغربية اللتين تراهنان على حماية الكيان الإسرائيلي، رغم أن الاتحاد السوفيتي وبعض الدول الاشتراكية بقيت تحتفظ بعلاقات سياسية واقتصادية جيدة مع (إسرائيل). وبعيداً عن القضية الفلسطينية، فقد شهدت الحرب الباردة في هذه الفترة مشاهد جديدة في كثير من مناطق العالم، لعل من أبرزها انتهاء حرب فيتنام عام 1975، وتوحيد أراضيها رسمياً بعد سقوط «سايغون» عاصمة فيتنام الجنوبية، ونجاح فيتنام الشمالية ومن ورائها الاتحاد السوفيتي في كسب الحرب نهائياً على حساب أمريكا، التي ارتبك وضعها الداخلي بسقوط رئيسها «نيكسون» إثر فضيحة «وترغيت» عام 1974، ففقدت بذلك الحرب الفيتنامية آخر دعاتها. وقد بلغ عدد ضحايا الحرب الفيتنامية من عام 1954 وحتى 1975 ما يقرب من مليون ونصف المليون شخص، منهم حوالي مليون فيتنامي شمالي و(300) ألف جنوبي و(58) ألف أمريكي من مجموع مليونين و(600) ألف جندي أمريكي اشتركوا في الحرب.

إلا أن أمريكا التي خسرت في فيتنام، نجحت في إسقاط نظام «سلفادور آلنده» الشعبي في شيلي عام 1977 لصالح نظام جديد متحالف مع أمريكا. وفي المقابل تمكن «الساندينيون» اليساريون من استلام السلطة في نيكاراغوا عام 1979. وهو العام نفسه الذي دخلت فيه قوات الاتحاد السوفيتي أفغانستان لتحتلها في حملة عسكرية استعمارية تذكِّر بأي إجراء روتيني للقوى الاستعمارية في بدايات القرن.

ويمكن القول إن عقد السبعينات مثل نهاية للاستعمار السياسي، فقد تخلت فيه بريطانيا عن آخر مستعمراتها، واحتفظت بمناطق استراتيجية محدودة، فضلاً عن دول التاج. وكما كانت اسبانيا والبرتغال أولى الدول الاستعمارية، فإنها كانت آخرها أيضاً، بعد أن تخلت الأولى عن الصحراء الغربية عام 1976 والثانية عن أنغولا وموزمبيق عام 1975 وزيمبابوه عام 1980.

التحول في الخارطة السياسية للشرق الأوسط

بدأ التحول في الخارطة السياسية الدولية شرق أوسطياً، وانتهى في أوربا الشرقية. فعقد الثمانينات كان عقد الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي بامتياز؛ لأنه العقد الذي رسمت أحداثه بداية النهاية للنظام العالمي لما بعد الحرب الاستعمارية (العالمية) الثانية.

ويمكن القول إن الثورة الإسلامية التي انتصرت في إيران عام 1979م، كانت الشرارة الأولى التي تسببت في إنهاء الحقبة الاستعمارية القديمة، كما كانت المسمار الأول في نعش النظام العالمي، بعد أن اخترقت معادلاته وموازينه. وجاء اندلاع الثورة الإسلامية تتويجاً لتحرك متواصل استمر ما يقرب من ستة عشر عاماً، بدأه الإمام الخميني عام 1962م وانتهى في عام 1979، بانتصار الثورة وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد تخلل ذلك صراع تمثل في بعده العمودي، مواجهةً بين الإرث الامبراطوري الذي يمتد إلى 2500 عام في التاريخ، وبين الإرث الإسلامي والوطني الذي يتبناه الشعب. أما في بعده الأفقي، فقد امتد الصراع إلى كل قرية وقصبة في إيران، واستوعب كل التيارات الاجتماعية في البلاد، وإن كان التيار الديني يشكل قاعدة الصراع وقيادته؛ فكانت شوارع المدن الكبرى، ولا سيما العاصمة طهران، تشهد مسيرات وتظاهرات ندر نظيرها في تاريخ الثورات، وحروب شوارع دامية بين الشعب الأعزل والقوات المسلحة الشاهنشاهية التي كانت تمثل خامس قوة عسكرية في العالم.

وفوض الإمام الخميني أحد أنصاره بتشكيل حكومة مؤقته؛ فكان لإيران خلال عشرة أيام (2شباط /فبراير – 11شباط /فبراير) نظامان مستقلان يحكمان في العاصمة نفسها، أحدهما جماهيري ثوري يقوده الإمام الخميني ويرأس وزارته مهدي بازركان، وله وزارات ودولة وجيش وحرس ثوري ولجان شعبية، والآخر ملكي يقوده الشاه محمد رضا بهلوي ويرأس وزارته شاهبور بختيار، وله وزارات أيضاً وأجهزة وقوات مسلحة. أما أجهزة الدولة ووحدات الجيش فقد انقسمت على نفسها.

وفي 11 شباط / فبراير 1979م سقطت آخر قلاع الحرس الشاهنشاهي في طهران، وسيطر الثوار على الإذاعة والتلفزيون، واستقر وزراء الثورة وعناصرها في المباني الحكومية، وبذلك انهار النظام الشاهنشاهي العتيق الذي حكم البلاد آلافاً من السنين، وانهارت معه الإمبراطورية الفارسية التي حكمتها – غالباً – أُسر ذات توجهات شوفينية، لمصلحة دولة إسلامية تستمد شرعيتها من القرآن الكريم ويقودها عالم دين يضع على رأسه عمامة سوداء تشير إلى نسبه الذي يعود إلى النبي محمد بن عبد الله(ص).

وبذلك قلبت الثورة الإسلامية الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية في إيران، وأقامت واقعاً جديداً تتكامل أبعاده العقائدية والفكرية والحقوقية والسياسية والاجتماعية والتاريخية وغيرها. كما أقامت واقعاً جديداً أيضاً على المستوى الدولي، برزت آثاره في كثير من مناطق العالم. من هنا لم تكن الثورة حدثاً سياسياً قلب السلطة فحسب، ولا حدثاً محلياً ظل محصوراً في حدود إيران، بل شكلت آثارها منعطفاً جديداً في التاريخ الإنساني. فالثورة الإسلامية الإيرانية مثلت أحد أركان مثلث التغيير الآيديولوجي في التاريخ الإنساني المعاصر، إلى جانب الثورة الفرنسية التحريرية التي أنجبت أوربا الحديثة في فكرها الاجتماعي ومذاهبها السياسية، والثورة الشيوعية الروسية التي مكنت الماركسية من السيطرة على نصف العالم خلال القرن العشرين.

وقد رافق هذا التحول مجموعة أحداث لفتت أنظار العالم، كان كثير منها ردود فعل مباشرة أو غير مباشرة. ففي عام 1979م غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان، ودخل في صراع مسلح شامل مع الشعب الأفغاني. وأخذت عملية المساومة على فلسطين وغيرها من الأراضي التي احتلتها (إسرائيل) تتسارع بشدة، وكان الرئيس المصري أنور السادات الطرف الأساس في العملية التي ترعاها واشنطن، إذ عقد جملة من الاتفاقيات والمعاهدات مع إسرائيل مكملة لمعاهدة «كمب ديفيد»؛ الأمر الذي دفع الدول العربية إلى عزل مصر عن المجتمع الرسمي العربي، وقيام جبهة الصمود والتصدي التي تضم دول المواجهة العربية الرافضة للصلح مع (إسرائيل).

وأخطر ما واجه منطقة الشرق الأوسط في هذه المرحلة كان القرار الدولي الذي مهدت له بعض الدول الغربية بشن غزو عسكري شامل ضد إيران، نفذ فصوله رئيس النظام العراقي صدام حسين، ابتداء من 21 أيلول/سبتمبر 1980، مستثمراً حالة عدم الاستقرار التي كانت عليها أجهزة الدولة الإيرانية، وانشغال الجيش والقوات المسلحة في إعادة بناء نفسها. وهكذا تحول الغزو إلى حرب استنزاف استمرت ثماني سنوات، أي حتى عام 1988م. وقد كان العنصر البشري للغزو عراقياً، أما الغطاء المالي فكانت تؤمنه بعض دول المنطقة، والسلاح كان من روسيا وفرنسا وألمانيا، والدعم الفني العسكري كان أمريكياً وبريطانياً. وهدفت الحرب إلى إسقاط النظام الإسلامي الجديد واقتطاع إقليم خوزستان من خارطة إيران، أو إدخال الجمهورية الإسلامية في عملية إلهاء كبرى تحرفها عن توجهاتها الأصلية. وانتهت الحرب دون أن يحرز أحد الطرفين نصراً على الأرض، ففي الوقت الذي أخفقت فيه حكومة صدام ومعها الدول التي كانت تدعمها في إسقاط الجمهورية الإسلامية واقتطاع خوزستان، فإن الإيرانيين أيضاً لم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم التي أعلنوها أثناء الحرب، والمتمثلة في ما أسموه بتحرير العراق وصولاً إلى القدس، ومحاكمة صدام حسين ومساعديه كمجرمي حرب.

بنية النظام العالمي خلال الحرب الباردة

ظلت القضية الأهم التي شغلت العالم طيلة السنوات الأولى لعقد الثمانينات هي قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وما رافق مسيرتها من أحداث وآثار. خلال ذلك كان الإمام الخميني يؤكد تغيير معادلات الخارطة الدولية من الجذور، إذ أدخل في الأدبيات السياسية المعاصرة مفهومي الاستكبار والاستضعاف، وحوَّلهما إلى واقع قائم في هيكل الخارطة الدولية، بعد أن حدد القوى العالمية في كتلتين متصارعتين: الاستكبار العالمي، بمختلف أشكاله، وكتلة المستضعفين، إضافة إلى دوائر تتوسط الكتلتين الرئيستين. فكان ذلك التصنيف الذي وضع إيران خارج الدوائر التقليدية في الخارطة السياسية الدولية؛ التحدي الأول الذي مهد لانهيار النظام العالمي – كما أشرنا -.

ووفقاً لهذا التصنيف، يمكن استخلاص بنية النظام العالمي خلال سنوات الحرب الباردة وحتى نهاية الثمانينات، من وجهة نظر الإمام الخميني، على النحو التالي:

1 – دول الاستكبار، وهي تضم الدول الداخلة في حلف «وارشو» ومنظمة «الكوميكون» من جهة، وحلف «الناتو» و«الجماعة الاقتصادية الأوربية» من جهة أخرى، أي الاتحاد السوفيتي ومعه الكتلة الاشتراكية، والولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول الغرب، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أوربا الغربية شكلت قوة عظمى شبه مستقلة، إلا أنها متحالفة مع أمريكا، في حين كانت أوربا الشرقية مجرد تابع للاتحاد السوفيتي، ما عدا يوغسلافيا وألمانيا الشرقية اللتين كانتا تتمتعمان بانعتاق نسبي من الاتحاد السوفيتي.

2 – دول الاستضعاف التابعة، وهي دول العالم الثالث التي تحكمها أنظمة مرتبطة بإحدى الكتلتين ارتباطاً غير مباشر، وهي تنتمي إلى حركة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الإفريقية وجامعة الدول العربية ومنظمة دول أمريكا اللاتينية ومنظمة دول جنوب شرق آسيا.

3 – الدول ذات الوضع الخاص، والتي تتميز عن المجموعتين السابقتين بكونها قوى اقتصادية وسياسية ذات وزن دولي خاص، والنموذجان الأبرز لها: اليابان (القوة الاقتصادية الثانية في العالم) والصين (العضو في مجلس الأمن الدولي).

4 – دول الاستضعاف المستقلة، وتتقدمها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي سعت لتشكيل تيار دولي مستقل وناهض، بصيغة لم يألفها النظام العالمي.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment