إمكانية تجاوز معوقات مشروع حوار الحضارات
إمكانية تجاوز معوقات مشروع حوار الحضارات
د. علي المؤمن
من الواضح أنّ إزالة المعوّقات الموضوعية التي سبق الحديث عنها هو ضرب من المستحيل، ولكن قد يكون من الممكن التخفيف من خطورتها على استمرار مشروع حوار الحضارات، من خلال حشد جهود بعض المفكرين والمثقفين والكتّاب والإعلاميين والسياسيين في أكثر من دولة، ومحاولة استثمار بعض الثغرات التي تبعث على الأمل. أمّا على مستوى المعوقات الخاصة بالمشروع، فإنّ بالإمكان تذليلها واحتواءها، وهو المدخل الأساس لاستمرار المشروع.
إنّ التواصل مع الواقع العالمي يستدعي أن يكون المشروع علمياً في بُناه ونظريته، وعلمياً في خطابه، وواقعياً في حركته. ومهمةٌ بهذه الصعوبة تحتاج إلى آليات وأدوات عمل مؤثرة ودائمة. وسيسمح ذلك بتحويل الحوار الحضاري إلى معادلة ثابتة في العلاقات الدولية، ويسهّل عملية دفع المنظمات الدولية للاستمرار في تبني المشروع، فضلاً عن بعض الدول التي يمكن جعلها شريكة فيه. وتتكامل هذه العملية بالانفتاح على الحضارات والمدنيات التاريخية والقائمة، كالحضارة الإسلامية بكل تنوعاتها، حضارة وادي الرافدين، الحضارة المصرية، الحضارة الفارسية، الحضارة اليونانية، الحضارة اليابانية، الحضارة الصينية، الحضارة الهندية، الحضارة المكسيكية، حضارات الهنود الحمر، الحضارة اليمنية، الحضارة الفينيقية، الحضارة الروسية، الحضارات الأُوروبية، الحضارة الأمريكية وغيرها.
ويستدعي المنهج العلمي اعتماد معايير ثابتة لتقسيم هذه الحضارات، كالتاريخ مرة، والدين أُخرى، والقومية ثالثة، وأن تكون الحضارة قائمة، وبذلك يمكن الانفتاح على كل ألوان التحضّر واتجاهاته؛ ليكون الحوار حوار نظراء. ولا شك أنّ اعتماد المعيار التاريخي وحده سيحوِّل الحوار إلى حوار هياكل وأعمدة رخامية أثرية.
ومن هنا، ينبغي تعريف الحضارة التي يراد إدخالها في مشروع الحوار. وتحديد هويتها بدقة، للوقوف على طبيعة القرابة بين الحضارات المتحاورة (مساحات الاشتراك والافتراق)، ومن يمثل هذه الحضارات، والأهداف العلمية والواقعية المرجو تحقيقها في الحوار مع كل منها.
وفي إطار تقوية البنية النظرية للمشروع، ينبغي الالتفات إلى معادلات سنن التاريخ أو السنن الإلهية، بما في ذلك سنن صعود وأفول الحضارات، وسنن الصراع والتنافس والتدافع ـ حسب التعبير القرآني ـ بين الوجودات الإنسانية المختلفة، فضرورة الحوار وحقيقة الشراكة الإنسانية لا تلغيان سنّة التدافع.
وعلى مستوى المعوقات الموضوعية، فإنّ مهمة النقد الذاتي والمراجعة المستمرة تقف في مقدمة معالجات الوجودات الحضارية الإنسانية لواقعها فالمسلمون ـ مثلاً ـ ما يزالون في بداية مسيرة العودة الحضارية، وهي عودة عسيرة تسبقها العديد من المخاضات. ومدخل هذه العودة اكتشاف الذات أو الهوية، وهدفها إيجاد البناء الحضاري الإسلامي الذي من شأنه دخول الحوار المتكافئ مع الحضارات الأُخر. وحينها ستتوحد هوية هذا البناء كمزيج متجانس متشكل من عدة مجموعات سكانية متوزعة جغرافياً وليس حضارياً، فالمسلمون العرب لا يمثلون حضارة إسلامية عربية، والمسلمون الإيرانيون كذلك، وهكذا المسلمون الأُوروبيون، إذ إنّ هوية البناء الحضاري الإسلامي ترفض التشظي والتجزئة إلى عدة بنى حضارية، ولا تعطي أي مسوّغ للحديث عن إسلام عربي أو إسلام شرق آسيوي أو إسلام أُوروبي.
ولا أعتقد أن طبيعة التكوين الحضاري لأية أُمّة، ولا سيما الأُمّة المتشكلة عقائدياً كالأُمّة الإسلامية، تسمح بتفرد وحدة سكانية جغرافية منها في التعبير عن وجودها الحضاري، فقاعدة البناء الحضاري الإسلامي في القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن تقتصر على مسلمي أُوروبا فقط، كما قد يرى الدبلوماسي الألماني المسلم “مراد هوفمان”، أو غيره.
ولكي نكون موضوعيين في تقويمنا للواقع الإسلامي، نقول: إنّ اللوم لا يقع فقط على الغزو الخارجي، بل إنّ العوامل الداخلية لها الأثر الأكبر في بلورة الواقع الإسلامي بكل إشكالياته وتراجعاته التي لا تسمح له بأن يدخل مضمار الحوار كحضارة قائمة متماسكة تحظى بالمقومات الحضارية المتعارفة علمياً. ولعل أبرز هذه المقومات:
1 ـ استحضار الأُصول الإسلامية في النظرية والمنهج والسلوك، وهي محور الهوية الإسلامية الموحّدة، ومضمون البناء الحضاري الإسلامي، وعنوان أصالته. ولا شك أنّ هذا الاستحضار يتحرك في دائرة المتغيرات على أساس استيعاب البناء الحضاري الإسلامي لكل متطلبات الحاضر والمستقبل.
2 ـ التكامل الإسلامي في شتى المجالات؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية. وقد استخدمنا هنا مصطلح (التكامل) للتعبير عن واقعية المشروع، في حين أنّ مفاهيم كالوحدة الإسلامية قد تكون هدفاً صعب المنال في الحاضر أو المستقبل المنظور.
3 ـ مواكبة العصر، وهي ضرورة أساسية جداً يستعيد فيها المسلمون خيارات العقل والواقع والعلم والتكنولوجيا. ومضامين هذه الخيارات ينبغي أن تراعي الخصوصيات الإسلامية بكل حساسياتها.
4 ـ التنمية الشاملة في كل مجالات الحياة، وهي تنمية تبدأ من المجتمعات الإسلامية الموزعة جغرافياً، وتنتهي بمشروع تنموي تكاملي.
وبالنسبة للحضارات أو الوجودات الحضارية الأُخر التي يساهم واقعها في إيجاد المعوقات التي سبق الحديث عنها، فإنّها معنية أيضاً بالمراجعة والنقد الذاتي، وأمامها مسار شاق ومخاضات لتكون مهيأة لدخول الحوار المتكافئ المطلوب، ولا سيما الوجودات الحضارية الغربية. ونترك الحديث في هذا المجال لحقل علمي جديد عنوانه (الاستغراب)، وهو حقل يركِّز وعي المسلمين بحقيقة الغرب، وقد يساعد الأخير أيضاً في إعادة اكتشاف نفسه وإعادة اكتشاف الآخرين، فهو مرآة يقدمها الشرق إلى الغرب ليرى فيها نفسه، ولكنها ليست مرآة شرقية مؤدلجة، بل مجرد أداة محايدة، على العكس من (الاستشراق) الذي هو ـ في حقيقته ـ ايديولوجية غربية يعي من خلالها الغرب الآخر الشرقي.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua