إعلام المنظومة الطائفية

Last Updated: 2024/04/01By

إعلام المنظومة الطائفية

د. علي المؤمن

تلعب وسائل الإعلام والدعاية الطائفية، الدور الأكثر وضوحاً في الفتنة والشقاق والصراع الطائفي؛ فهو الجزء الطافي من جبل الجليد لحراك المنظومة الطائفية، وهذا الدور ليس جديداً على الواقع الإسلامي، وليس ابن عصر الإعلام الحديث والمعلوماتية، بل هو قديم قدم وجود المنظومة الطائفية في الواقع الإسلامي؛ إذ كان يمارسه في التاريخ الإسلامي الرواة والمحدّثون الوضّاعون، والمؤرخون المحرّفون، وخطباء السلطة وشعراؤها. ورغم أن الدعاية الطائفية باتت تُمارس بوسائل متطورة جداً، تنسجم مع تطور العصر وأدواته، إلّا أن أهدافها لا تزال نفسها تقريباً، ويقف في مقدمتها تحريف حقائق المذاهب ورموزها، وتحويل الخلافات بين المسلمين الى صراعات سياسية ودموية، ودعم مخططات تمزيق نسيج المسلمين.

ويعبِّر الإعلام والدعاية الطائفيَّين اليوم عن حجم الغزو الطائفي الرهيب الذي تمارسه المنظومة الطائفية المعاصرة، ولا سيما تلك التي تختبئ وراء الشعارات الإسلامية، من أجل إخفاء حقيقة أهدافها، ومنها الإعلام الذي يمثل أنظمة سياسية ترفع شعارات إسلامية، وعلماء دين، وحركات إسلامية معروفة وشخصيات علمية حركية، وهي من حيث أدائها هذا الدور؛ إمّا أنها تجهل مآلات الفتنة الطائفية؛ فتساهم فيها دون وعي، أو أنها تمالئ الحكام لظرف مالي أو سياسي، أو أنها تعبّر عن حقيقة موقفها الطائفي.

ومن أبرز الأساليب التي تعمد إليها وسائل الدعاية والإعلام هذه، سواء تمثّلت في كتب أو صحافة أو منشورات أو إذاعة وتلفزيون وسينما، أو ندوات ومؤتمرات ومحاضرات، أو وسائل التواصل الاجتماعي، هو التحريف والتشويه والتغطية والاختلاق، عبر قلب صورة الواقع، أو اجترار الماضي والتجديد فيه، بحثاً عن أفكار تقليدية، يقف التكفير في مقدمتها؛ فخلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، ثم في العقدين الأول والثاني من القرن الحالي، صدر في عدد من البلدان المسلمة، وخاصة السعودية والعراق وباكستان وأفغانستان ومصر، مئات البيانات والفتاوي التي كفّرت الشيعة، في أئمتهم ورموزهم وعقائدهم وفقههم وتاريخهم وتحركم السياسي وعلاقاتهم الاجتماعية، كما صدرت فتاوى مماثلة تكفر أهل السنة من قبل جماعات وهابية، مسلحة وغير مسلحة.

وقد بدأت موجة الدعاية الطائفية الجديدة، مع تأسيس الجمهورية الإسلامية في ايران في العام 1979، وبالتزامن معها، تصاعدت حملات تكفير الشيعة ومحاولات عزلهم عن باقي المسلمين، وتكرار المقولات التحريفية التاريخية. وكانت هذه الحملات الدعائية تنجح ــ غالباً ــ في تشويه صورة الشيعي في ذهن السني، أو العكس، بسبب قوة الدعاية الطائفية وحجم أدواتها الفاعلة، إضافة الى ظاهرة الجهل التراكمي لدى المسلمين بالحقائق العقدية والاجتماعية والسياسية لبعضهم، وعدم الاطلاع عليها من مصادرها الأصلية.

ظلت وسائل الدعاية الطائفية تركِّز ــ غالباً ــ على جملة من الموضوعات الجديدة، التي تستهدف الواقع الشيعي الجديد الذي تأسس بعد العام 1979، فضلاً عن الموضوعات القديمة المتراكمة، ومن أهمها الموضوعات تستهدف الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومشروعها الثقافي، وتجربة مشروعها في الوحدة الإسلامية، والجماعات الإسلامية الشيعية في العراق ولبنان والبحرين واليمن، وتجارب مشاركة الشيعة في الحكم. هذه الموضوعات تضعها وسائل الإعلام الطائفية إلى جانب هدف التكفير، لتشكيل محاور أساسية لحركتها وعملها، ومن أبرزها: اتهام الشيعة بالطائفية، واتهامهم بالإرهاب، وباضطهاد أهل السنّة، إضافة الى اتّهامهم بالانحراف الايديولوجي والتآمر السياسي، والتحالف مع خصوم الإسلام، وهي اتهامات تهدف الى قلب الصورة والمعادلة. وقد عملت وسائل الإعلام الغربية ــ هي الأخرى ــ على دعم وسائل الإعلام الطائفية في اتهاماتها المذكورة، بهدف تكريس الفتنة الطائفية وتمزيق الواقع الإسلامي برمته، وكذلك تشوية حقيقة النهوض الشيعي الجديد، وهو هدف تلتقي فيه مع الماكنة الدعائية الطائفية؛ حتى باتت كلمة (الشيعي) في عقد الثمانينات من القرن الماضي، ترادف توصيفات المتعصف والأصولي والمتمرد والإرهابي، وقد عبّر الصحفي الفرنسي “كريس كوجيرا” عن ذلك بقوله: «نحن نرى وراء كل شيعي إرهابياً مضاعفاً»؛ فالتأكيد الغربي على أن الإرهاب الدولي مصدره (الأصوليون) الشيعة غالباً، يحاول أن يوحي بأن هذه الممارسات تقوم بها فئة صغيرة من المسلمين تثير الشغب، ولا تعبأ بالموت.

والملفت؛ أن الماكنة الإعلامية والدعائية الطائفية الجديدة، تعمل على تكريس حالة الجهل لدى مخاطبيها، وعلى خلط الأوراق بين السياسي والديني والاجتماعي؛ فلاتفرِّق بين مذاهب الشيعة المختلفة، ولاتفرِّق بين التشيع كمذهب إسلامي عقدي فقهي وهوية اجتماعية دينية من جهة، وسلوك الجمهورية الإسلامية الإيرانية كنظام سياسي، والجماعات الشيعية كقوى سياسية مشاركة في الحكم من جهة أخرى؛ فهي تتهم التشيع بمختلف التهم، نكاية بالجمهورية الإسلامية أو الجماعات الإسلامية أو المرجعية الدينية، أو أنها تسقط سلوكيات المسؤولين الشيعة والحكومات الشيعية على التشيع.

وبعد التطور الهائل في وسائل الدعاية والإعلام، وظهور القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة بعد عقد الثمانينات من القرن الماضي وحتى الآن؛ استثمرت المنظومة الطائفية هذه الوسائل بشكل غير مسبوق، واستثمرت عشرات مليارات الدولارات لتسليح حروبها الدعائية، وبات لهذه المنظومة مئات الصحف والمجلات والقنوات الفضائية والإذاعات، وآلاف المواقع الالكترونية، وجيوش الكترونية كبيرة، تمارس المهام الطائفية نفسها، وبات لغزواتها وحروبها تأثيراً أكبر حجماً وأشد نوعاً وأوسع جغرافية، وظلت تستمد خطابها الطائفي والتكفيري والإرهابي، وإثارتها للفتن وتأجيجها للعواطف، من الخطاب الموروث نفسه، الذي دوّنته الكتب الطائفية منذ قرون طويلة وحتى الآن.

ولعل نموذج مجلة الفارق (الوهابية الصادرة في باكستان) يلخص هذه الحقيقة بكثير من الوضوح؛ إذ تقول المجلة في إحدى افتتاحياتها في العام 1987: (( إنّ حكومات العالم الإسلامي لو أخذتهم الغيرة على حرمات الله ومقدسات الإسلام؛ لأوقفوا زحوف النصرانية واليهودية والشيوعية والشيعة التي تكتسح العالم. والله إن خطر الشيعة زاحف نحوهم، ولا يوقفه إلّا أحفاد المغيرة بن شعبة وربعي بن عامر رضي الله عنهم، حاملي المصحف والسيف معاً)). فهذه المجلة تضع الشيعة في خندق واحد مع اليهودية والنصرانية والشيوعية، وتجعل الشيعة أشد خطراً منهم جميعاً، وتدعو الى قتلهم علانية، ودون أن تختبئ وراء الألفاظ والمعاني الموهمة، وهي محاكاة حرفية لفتوى عبد الله بن بن جبرين (عضو هيئة كبار العلماء الرسمية السعودية)، الذي عدّ في فتواه اليهود والنصاري والشيعة جزءاً من ملّة الكفر.

وقد ظل النظام السعودي، في مقدمة الأنظمة التي تمتلك هذا النوع من الوسائل الطائفية، دون منازع؛ ففضلاً عن صحافته وقنواته الفضائية وجيوشه الالكترونية المحلية؛ فإنه أسس لكارتلات إعلامية متطورة في خارج السعودية، وخاصة في بريطانيا والإمارات المتحدة ومصر وباكستان، كما أن المؤسسات الوهابية في كل دول العالم تمتلك وسائل إعلام خاصة بها، وبمختلف اللغات، وهي تمارس الخطاب السعودي نفسه. وإضافة الى النظام السعودي؛ فإن أنظمة عربية أخرى تمارس الدعاية الطائفية أيضاً، ولكن بوسائل غير رسمية غالباً. كما أن أغلب الجماعات الإسلامية (السنية) غير الوهابية، في البلدان العربية والمسلمة، كمصر والسودان والجزائر وتركيا وباكستان؛ تتبنى أحياناً الخطاب الطائفي، تحت تأثير الاختراق المالي والإعلامي السعودي.

وبين العام 1979 والعام 2023؛ فإن عدد صحافة المنظومة الطائفية ووسائل إعلامها، ارتفع ما يقرب من مائة ضعف، وهكذا ميزانيته، ولنا أن نتصور ذلك؛ حين نعرف أن عدد الصحف والمجلات العربية التي كانت تقوم بالدعاية الطائفية ــ بنحو من الأنحاء ــ خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، لا يتجاوز الـ(150) جريدة ومجلة يومية وأُسبوعية وشهرية وفصلية، وأن معدل ترتيب صدور هذه الدوريات هو أسبوع لكل دورية، وأن معدل نشرها للمواد الطائفية (خبراً أو تعليقاً أو مقالاً) هو خمس مواد في العدد الواحد؛ فستكون النتيجة ثلاثة آلاف مادة صحفية طائفية شهرياً، باللغة العربية وحدها؛ فما بالك بعد مرور ثلاثة عقود، وظهور الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي.

هذه الأرقام التقريبية تختص بالحالات الاعتيادية، وليس في حالات الإنذار التي تقع في أعقاب حوادث معينة، كما كان يحصل ــ مثلاً ــ خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980ــ 1988)، أو بعد مجزرة الحجاج في مكة في العام 1987، ثم المرحلة التي أعقبت سقوط نظام البعث في العام 2003؛ ففي هذه الحالات تصل حمى الحرب الطائفية الى ذروتها، وتكون صحافة الأنظمة والجماعات ووسائل إعلامها، عبارة عن مرجل طائفي يغلي عل مدار الأربع وعشرين ساعة.

وبعد سقوط نظام البعث في العراق، وظهور الأزمة التاريخية الطائفية التي يعاني منها العراق، إلى السطح، بالصورة التي فاجأت العالم، ولكنها لم تفاجئ العراقيين من ضحايا الطائفية السياسية الذين عانوا من التمييز والإقصاء طيلة مئات السنين؛ فإن حملات الدعاية الطائفية عادت إلى حدّتها وقوّتها، كما كانت خلال فترة الحرب العراقية – الإيرانية، على أساس أنّ الدعاية الطائفية خفّت حدّتها بعد العام 1990، وتحديداً بعد غزو نظام صدام الكويت، بسبب انشغال وسائل إعلام حلفاء الأمس ببعضها. وقد استمر هذا الوضع حتى سقوط نظام البعث في العراق، ودخول الشيعة مشاركين في الحكم، ودعم ايران لهم؛ فعادت الماكينة الدعاية للمنظومة الطائفية إلى العمل بكل قوتها، مستثمرة القنوات الفضائية وعشرات الصحف والمجلات ومئات مواقع الإنترنيت، الحكومية وغير الحكومية، لمهاجمة الواقع السياسي والاجتماعي العراقي الجديد الذي أفرزه سقوط نظام البعث، والمتمثل في مشاركة للشيعة غير مسبوقة وجديدة في الواقع الوطني والإقليمي، وهي المشاركة التي ظلّت محرّمة على على الأكثرية السكانية الشيعية قرون طويلة، في ظل دولة وحكومة تتلخصان في سلطة مطلقة لنخب تنتمي إلى مركب طائفي – قومي، ظل يتوارثها سنين طويلة؛ فكان التغيير السياسي في العراق خطاً أحمر بالنسبة للمنظومة الطائفية، والتي لم يكن يعنيها الاحتلال ومشروعه، لأنها كانت مشاركة فيه، وانطلق من أراضيها، بقدر ما هي حريصة على تقويض جهود الشيعة في الحصول على حقوقهم الإنسانية والسياسية والمذهبية، أسوة بإخوانهم السنة.

ودخلت الفنون، منذ تسعينات القرن الماضي، وخاصة السينما والدراما، ضمن وسائل الدعاية الطائفية؛ فظهرت عدد من المسلسلات الدرامية التاريخية والدينية والسياسية، التي تتناول بعض المفاهيم الدينية، أو تصوّر حياة الخلفاء والسلاطين المسلمين، وكذلك بعض الحقب التاريخية، ومنها حقب سياسية معاصرة وقائمة، وهي تمارس أبشع ألوان الدعاية الطائفية وتزوير التاريخ والحقائق، وجميعها تستمد موضوعاتها وخطابها من الكتب الطائفية وفتاوى التكفير، كما هو مع خطاب الصحابة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الطائفية.

ولعل أكثر موضوع لفت انتباه المسلمين، سنة وشيعة، هو إنتاج السعودية مسلسلاً عن مؤسس العقيدة الأموية معاوية بن أبي سفيان في العام 2022، بكلفة (100) مليون دولار، ولعله أمر طبيعي، ككل ما يفعله النظام السعودي، منذ تأسيسه، لأنه بذلك ينسجم مع انتمائه الى الإرث الأُموي والتيمي؛ فمدن السعودية مليئة بالشوارع والمدارس والمؤسسات التي تحمل أسماء يزيد ومعاوية وأبو سفيان وأبو لهب والمغيرة والعاص والحجاج وعبد الرحمن بن ملجم، وكذا المناهج الدراسية التي تدافع بشراسة عن معاوية ويزيد وأمثالهما، وكذلك الفتاوى التي تكفر الشيعة، لاتزال حاضرة في كل مفاصل الدولة السعودية، وهذه كتب ابن تيمية الذي يعيب على الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين سياساتهم  ويبرر لخصومهم وقتلتهم.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment