إصلاح الواقع العراقي ومدخلية البحث العلمي

Last Updated: 2024/05/11By

إصلاح الواقع العراقي ومدخلية البحث العلمي

د. علي المؤمن

القراءة العلمية لأزمات العراق؛ مقدمة للإصلاح

قبل الدخول الى بوابة الحلول الصعبة لأزمات العراق المستعصية؛ لابد من تشخيص طبيعة هذه الأزمات وعمقها وامتداداتها؛ فالعلاج الحقيقي لا يُعطى للمريض إلّا بعد اكتشاف طبيعة المرض أو الأمراض ومراحلها واستفحالها وتجذرها في جسد المريض. وربما يكتفي الطبيب بالمسكنات أو العلاج بالعقاقير، ولكنه قد يقرر إجراء العمليات الجراحية؛ وصولاً الى عمليات الاستئصال؛ من أجل إنقاذ حياة المريض.

      أزمات مركبة معقدة تبدأ بالتاريخ ولا تنهي بالجغرافيا. ليست سياسية فقط ولا معيشية ولا بنية تحتية ولا إرهاب ولا دستور ونظام سياسي وعلاقات دولية وتدخلات خارجية. بل هي مجتمعة ومتراصة ومتداخلة ومركبة، وليس ملفات مستقلة؛ ولذا يصعب تفكيكها إلّا على المستوى النظري؛ لأغراض البحث والدراسة. ويزيد من تفاقم هذه الأزمات هو تسطيحها أو تهويلها أو إخفاؤها؛ وهي ثلاث رؤى غير موضوعية. فلا توجد تشخيصات علمية موضوعية محايدة الصوت العالي هو للسياسيين وللإعلاميين والصحافيين والمدونين الإلكترونيين. وهؤلاء هم الذين يخلقون الرأي العام غالبا. ويتبلور الرأي العام في عقل جمعي نجد إفرازاته في التظاهرات والاعتصامات. أما صوت البحث العلمي فهو خافت ويشبه الأنين وغير مسموع، أما لنقص في مستلزمات البحث العلمي وقدرة الباحثين أو لرؤية السياسيين المبتورة لأهمية البحث العلمي. ولما كانت المقدمات والمناهج والتشخيصات غير موضوعية؛ فمن الطبيعي أن تكون المخرجات والنتائج غير صحيحة. ولو بقي العراق خمسون عاماً على هذا الحال فلن تحل أية مشكلة. ولا يمتلك الحاكم والسياسي وعالم الدين الحلول السحرية أو حتى الحلول المسكنة والمهدئة، ولذلك؛ من الغريب أن تقدم الكتل السياسية حلولها السياسية، وغريب أيضاً أن تعتمد الحكومة على فريق سياسي أو فريق تكنوقراط سياسي. نعم التكنوقراط السياسي نعتمد عليه في التنفيذ ولكن التكنوقراط الفني هو الأساس. أما من يمتلك الحلول الحقيقية والواقعية؛ فهو البحث العلمي التخصصي الجامع.

ابتداءً؛ من الخطأ الفادح الاعتقاد بأن أسباب الفشل والأزمات في العراق هي حكومات ما بعد عام 2003؛ بدءاً من حاكمية الاحتلال بقيادة “غارنر” و”بريمر”، مروراً بحكومتي أياد علاوي وإبراهيم الجعفري المؤقتتين، ومروراً بحكومات نوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي، وليس انتهاء بحكومة محمد شياع السوداني، كما أن من غير الصحيح الاعتقاد بأن العلمانيين إذا حكموا وتنحى الإسلاميون، أو أمسك التكنوقراط بالوزارات وأبتعد السياسيون، أو تم حل جميع الأحزاب الحالية وتأسيس أحزاب جديدة، أو ترك البلد بلا أحزاب؛ فإن أزمات العراق ستنتهي.

ولو عاد حكم صدام حسين بكل ما كان لديه من قسوة وجبروت وتفرد وقدرة على افتعال الحروب والقتل والقهر وكتم الأنفاس وقطع الألسن وقمع أي تحرك معادي للسلطة؛ لما استطاع فعل شيء؛ سوى إخماد بعض النيران؛ ليبقى الجمر كامناً تحت الرماد؛ لأن أزمات العراق لها علاقة بماضِ سحيق؛ يستحيل التخلص منه بالقوة القاهرة أو بالمصالحات السطحية بين الفرقاء وصفقات الترضية، أو بالشعارات الرنانة والمهرجانات الخطابية التي تصرخ  بالوطن والوطنية؛ بل إن أزمات العراق لصيقة بتكوينه الخاطئ بعد معاهدة (سايكس ــ بيكو)؛ التي أورثت العراق كل موبقات الدولة العثمانية الطائفية، ثم بقيام ما عرف بالدولة العراقية عام 1921 وما ترشح عنها من مركّب سلطة طائفية عنصرية؛ تحمل الإرث العثماني والأموي من جهة، وإفرازات ما عرف بأفكار الثورة العربية وتشكيل الدول العربية الحديثة والمعاصرة على أسس قومية عربية، ثم ظهور أفكار الجماعات العنصرية؛ وأبرزها حزب البعث.

وقد تبلورت الأزمات بتطبيق نظام حزب البعث العراقي عام 1968 لكل مفاسد الموروث الطائفي العنصري؛ بدءاً بالموروث الأموي، وانتهاءً بفكر وزير المعارف في العهد الملكي ساطع الحصري وممارسات حكم الرئيس عبد السلام عارف وايديولوجيا مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق. ونتج عن كل ذلك ثقافة مجتمعيه، وثقافة سلطوية، ونظماً سياسية وقانونية؛ مولّدة للأزمات، ومراكمة لها، ومفككة لبنية المجتمع، ومدمرة لوحدة الدولة، ومثيرة للحروب والصراعات الداخلية بين مكونات الشعب العراقي. ولكن كان نظام البعث يقمع هذه الثقافات والمناخات النفسية المريضة التي أنتجها الموروث التاريخي العراقي وأنتجها فكره وممارساته، ويقمع ترشحات هذا الواقع المريض ويغطي على بؤر النيران؛ بقوة السلاح والحروب والقتل وخنق الأنفاس وكل أنواع القسوة والطغيان والجبروت. وبالتالي؛ بقيت تلك الثقافات والصراعات المتجذرة ناراً تحت الرماد، حتى سقطت سلطة القمع والطغيان عام 2003؛ لتنطلق هذه الثقافات والصراعات بقوة الى العلن.

وبعد انهيار سلطة القمع والطغيان عام 2003؛ بفعل مشروع الاحتلال الذي كان معنياً بمصالحه، وليس معنياً بحل أزمات العراق؛ فإن تلك الثقافات والأزمات النفسية وتبعات الموروثات التاريخية والبيئة النفسية الحاضنة لكل أنواع الأزمات؛ تحررت فجأة وانطلقت بقوة تدميرية هائلة؛ لتملأ الواقع العراقي بالتناقضات والتعارضات والصراعات. حتى أصبح الشغل الشاغل للحكومة ذات الأغلبية الشيعية؛ هو مكافحة الإرهاب وحل التناقضات بين الفرقاء السياسيين، وتفكيك العقد بين مكونات الشعب العراقي، وإشكاليات النظام السياسي، وتنظيم صلاحيات الحكومة المركزية وحكومات الإقليم والمحافظات. وجميعها مشاغل متشعبة جدلية؛ تجد جذورها بالكامل في ممارسات الأنظمة العراقية السابقة وأعرافها وأفكارها وسلوكياتها. وتم اكتشاف مفارقات أخرى موروثة تتعلق بالخدمات والبنية التحتية؛ بما في ذلك الكهرباء ومياه الشرب والمجاري.

الذي أريد قوله باختصار؛ إن عراق ما بعد 2003؛ ورث بلداً ليس فيه مساحة صالحة للعيش الحقيقي.. بلداً مدمّراً منكوباً، وشعباً شديد الإرهاق؛ بفعل 1350 عاماً من التمييز الطائفي والتهميش والقمع الفكري والثقافي والحرب النفسية والقتل والاعتقال والتهجير والاضطهاد للأكثرية المذهبية الشيعية في العراق؛ على يد الأمويين والعباسيين والأيوبيين والسلاجقة والمماليك والعثمانيين؛ ثم على يد بقايا العثمانيين والقوميين العروبيين الجدد في العهدين الملكي والجمهوري؛ وأخيراً بفعل (35) عاماً من الحروب المتواصلة والقتل الجماعي وجرائم الإبادة والاضطهاد الشامل والتهجير والهجرات المليونية والخسائر المادية الهائلة والدمار الاقتصادي المرعب وانهيار البنية التحية؛ الذي كان أبطاله البعثيون الطائفيون العنصريون.

ولم يكن هذا الدمار الشامل الذي يعاني منه البلد وشعبه؛ قد حصل بفعل عمليات الغزو الأمريكي واحتلال العراق، أو بفعل ممارسات الحكومات التي تعاقبت على العراق من عام 2003 وحتى الآن؛ بل هو دمار موروث؛ أعاد حزب البعث تنفيذه منذ عام 1968؛ أي منذ السنة الأُولى للانقلاب البعثي. فكان كل ذلك بحاجة الى خطة استراتيجية استشرافية؛ أمدها المناسب هو (50) عاماً؛ تتقسم على خمس خطط عشرية وعشر خطط خمسية. ولكن منذ اللحظة الأولى؛ برزت الأزمات وأخذت تتراكم بشكل مرعب بسبب انشغال الحكومة بنفض ركام الخراب الرهيب والأنقاض الموروثة الهائلة التي خلّفها النظام البعثي؛ ولمّا تنتهي بعد.

وهذا لا يعني إن نوع الحكومات التي توالت على العراق بعد عام 2003 غير مسؤولة عما وصل إليه الواقع العراقي؛ بل أنها تتحمل وزر رفض حل عقد العراق وأزماته. ولا أقصد بالحكومات هنا؛ الكابينة الوزارية أو رئاسة الوزراء؛ بل كل الفرقاء الذين شاركوا في الحكم. هذه الحكومات تضم عشرات الأحزاب والجماعات والكتل والائتلافات المختلفة دينياً ومذهبياً والمتعارضة سياسياً وثقافياً، وكل منها يفرض على الدولة العراقية شروطه وقوانينه ومرشحيه ونسبته من المسؤوليات والمناصب؛ بدءا برئيس الجمهورية وانتهاء بالمدراء العامين. ثم تتحول الوزرات الى مراكز يديرها ـ عادة ـ الحزب الذي ينتمي إليه الوزير. وبالتالي؛ يتحوّل نظام الحكم الى مهرجان من الثقافات والايديولوجيات والموروثات النفسية المتعارضة والانتماءات السياسية غير المنسجمة. وقبال هذا الوضع؛ يكون من الطبيعي تسلل كل ألوان الفساد الإداري والمالي والأخلاقي والقانوني والثقافي والإعلامي الى الجسد الحكومي والوطني الذي تتصارع أعضاؤه ويفشل بعضها الآخر، ومن الطبيعي أيضاً أن ينخفض منسوب الإنجاز لدى الحكومة الى حدها الأدنى.

والأكثر من ذلك؛ إن يعض الفرقاء السياسيين الذين يشكلون نظام الحكم العراقي؛ يضع قدماً في الحكومة، وقدماً آخر في المعارضة السياسية، وقدماً ثالثاً في الجماعات المسلحة التي تقاتل الدولة علناً. وهذا التعارض الغريب بين الفرقاء السياسيين؛ له مسوغاته الضاربة بعمقها في أزمات العراق التكوينية والبنيوية. أي أن كل فريق يعطي لنفسه الحق في رؤية العراق من زاويته، ويتغنى بالوطن الذي يعتقد بشكله ومضمونه؛ وهو شكل ومضمون يختلف من فريق لآخر. وهو ما ينطبق أيضاً على المفاهيم أيضا ودلالاتها وتطبيقها. فكل الفرقاء ينادون بحب الوطن والتضحية من أجله، وبكرامة المواطن وبالعدالة والمساواة والحقوق والحريات والمشاركة؛ ولكنهم يختلفون في ماهية الوطن الذي يضحون من أجله ونوعية هذه التضحية، ويختلفون في دلالات المواطنة والكرامة والعدالة والحقوق والمشاركة والمساواة وتطبيقاتها. وفي النتيجة تكون ممارساتهم متعارضة بالكامل؛ وهم يحملون المفاهيم والشعارات ذاتها ويشتركون في إدارة الدولة والسلطة. وأبسط مثال على ذلك هو أن معظم الفرقاء السنة يعتقدون إن عراقهم هو عراق ما قبل 2003، وانهم يقاتلون ـ غالباً ـ من أجل العودة إليه. أما عراق ما بعد 2003 فهو ليس العراق التقليدي الذي يعتقدون به وينتمون إليه. بينما يقاتل الشيعة من أجل الاندفاع قدماً للتخلص من عراق ما قبل 2003. وحيال ذلك يكون الوطن غير الوطن، والتضحية غير التضحية، والعدالة غير العدالة.

وهكذا فرقاء متضادين في دلالات المفاهيم وتطبيقاتها ومصاديقها؛ لا يستطيعون الاشتراك في بناء دولة وحكومة وسلطة منسجمة متوازنة؛ إلّا إذا أذعنوا للواقع الجديد واعترفوا بحقائقه واستحقاقاته. وهنا قد يكون مفيداً إعادة إجابتي على تساؤلات بعض الباحثين والسياسيين العرب عن نهاية أزمة العراق؛ خلال بعض الندوات والحلقات الدراسية في لبنان وغيره، أو في بعض دراساتي وكتبي التي صدرت بعد عام 2003.

إن أزمة العراق هي مجموعة أزمات مركّبة كبرى، وإن ما حدث في عام 2003 هو صدمة تاريخية لا تعرف جوهرها حتى الدول الكبرى التي أسقطت نظام صدام حسين؛ وعلى رأسهم الأمريكان؛ فيتصورون إنهم أسقطوا دكتاتوراً اسمه صدام حسين؛ كما أسقطوا غيره من دكتاتوريات؛ من أمريكا اللاتينية وحتى شرق آسيا؛ ولكنهم لا يعلمون أنهم في العراق أسقطوا تاريخاً عمره (1350) عاماً. وكان هذا هو سبب تأليفي كتاب «صدمة التاريخ» الذي نشرته في العام 2010 حول هذا الموضوع تحديداً. ولذلك كنت ولا أزال أقول بأن أزمة معقدة عمرها مئات السنين؛ لا يمكن حلّها بخمس أو عشر سنوات؛ بل أن العراق بحاجة الى (50) عاماً حداً أدنى ليصل الى النتيجة المطلوبة؛ شرط أن يكون الطريق الذي يسلكه العراقيون هذه المرة طريقاً علمياً وواقعيا وسليماً في المنهج والفرضيات. ولا أطلق هذا الرقم من باب التخمين العابر؛ بل من منطلق علمي ورؤية استشرافية. ويبقى إن هكذا مشروع بحثي استشرافي إستراتيجي؛ هو عمل حكومي؛ ينفذه عشرات المتخصصين العراقيين والعرب والأجانب؛ ممن يعون عمق الأزمات العراقية وأعراضها. وقد يطول تدوينه أربع الى خمس سنوات.

استحالة الحل بسبب الرفض الخارجي للتغيير الداخلي:      

لقد زاد من صعوبة حلحلة مشاكل العراق المتجذرة، وعدم قدرة أية حكومة على تفكيك عقده؛ ثلاثة عوامل خارجية أساسية مترابطة ويكمل أحدها الآخر:

    1- التدخل الإقليمي الرافض للتغيير:

ظل التدخل الإقليمي الضاغط، المتمثل برفض أنظمة السعودية وتركيا وقطر والأردن وغيرها التغيير الحاصل في التركيبة الطائفية العنصرية للدولة العراقية بعد العام 2003؛ عقبة أساسية في حلحلة الأزمات الداخلية العراقية؛ فهذه الدول لم تكن رافضة الإطاحة بنظام صدام حسين واحتلال العراق؛ بل العكس كان يهمها تدمير العراق وتحويله الى سوق استهلاكية ثقافية واقتصادية وسياسية وعسكرية لها؛ ولكنها رفضت بضغط بالغ وتدخل غير مسبوق؛ التغيير الذي أدى الى دخول الشيعة شركاء غالبين بثقلهم العددي في حكم الدولة العراقية. وهو ما يعني صدمة للتاريخ العراقي بشكل خاص، والعربي والطائفي بشكل عام؛ على اعتبار أن العراق ظل الخندق الطائفي الذي يُحرق فيه الشيعة العرب طيلة (1350) عاماً، والبوابة الشرقية الطائفية العنصرية التي تمنع امتداد الشيعة من الشرق الهندي والباكستاني والأذربيجاني والإيراني باتجاه البلدان العربية؛ وهو الشرق الذي يضم ما يقرب من (300) مليون شيعي. والأهم من كل ذلك؛ فإن هذه الدول المتدخلة الرافضة للتغيير في العراق؛ تعتقد أن شيعة العراق إذا تحركوا مذهبياً في فضاء الحرية؛ فإنهم سيقلبون المعادلة المذهبية في المنطقة العربية خلال (30) عاماً فقط. ومن هنا؛ بذلت هذه الأنظمة كل ما لديها من جهد وقوة ونفوذ لمنع التغيير في تركيبة الدولة العراقية، وأبقت الحكومات العراقية المتعاقبة منشغلة في مكافحة الإرهاب والعنف، وعدم التوجه الى التغيير الحقيقي في الواقع العراقي، وفي عملية البناء الثقافي والمجتمعي والسياسي والاقتصادي، والإعمار وتقديم الخدمات.

2- حرب الإرهاب الشاملة:

لم تكن حرب الإرهاب الشاملة التي تعرض لها العراق بعد العام 2003، حرباً داخلية؛ بل حرباً عالمية. صحيح أن بقايا النظام البعثي وحلفائها كانت جزءاً من هذه الحرب، إلّا أن الجماعات الوهابية، مثل: (القاعدة) و(داعش) استقطبت المسلحين من كل بلدان العالم، بما فيها بلدان المسلمين. وفي حين كانت هذه الجماعات الإرهابية الطائفية تمارس العمل المسلح بكل عنف؛ فإن بقايا البعث ظلت تمارس الحرب الداخلية المفتوحة في مساربها السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية والنفسية. ورغم اندحار أغلب موجات الإرهاب؛ إلّا أنه لا يزالا خنجراً غائراً في خاصرة العراق الجديد.

    3- المشروع الأمريكي ـ الصهيوني في المنطقة:

يستثمر المشروع الأمريكي ـ الصهيوني كل عوامل الخلاف والصراع المذهبي والقومي والفكري والثقافي في المنطقة العربية والشرق أوسطية؛ لتثبيت دعائم مشروع استقرار الكيان الإسرائيلي، وفتح قنوات امتداد سياسي واقتصادي وثقافي وإعلامي له في المنطقة. فكانت عين هذا المشروع على عراق ما بعد السقوط. ولكن فوجئ هذا المشروع بسيطرة قوى الممانعة الشيعية على قرار الدولة في العراق، وحالت دون أي نفوذ أو تطبيع من أي نوع مع الكيان الإسرائيلي واللوبيات الصهيونية الأوربية والأمريكية. وهذا ما دفع المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي الى إتباع كل الوسائل التي من شأنها الإبقاء على الدولة العراقية وحكومتها الممانعة؛ ضعيفة هشّة متناحرة؛ للحيلولة دون تحولها الى قوة مؤثرة في محور الممانعة؛ ولا سيما بعد دخول حكومة السيد نوري المالكي في هذا المحور علناً؛ عبر التحالف مع إيران، ودعم الجبهة السورية، والتعاطف مع حزب الله اللبناني، والوقوف الى جانب انتفاضة الشعب البحريني.

إن المحاور الدولية والإقليمية والمحلية الثلاثة التي تضم الدول والتنظيمات المتضامنة المتكاملة في مشروعها الإستراتيجي الإقليمي المعادي للتغيير الحقيقي في العراق؛ ونقصد بها الولايات المتحدة الأمريكية، السعودية، إسرائيل، قطر، تركيا، الأردن، حزب البعث العراقي، تنظيما القاعدة وداعش، وغيرها؛ هي الحائل الحقيقي دون استقرار العراق ودماره؛ والتي ستبقى تربك العملية السياسية وإعادة بناء العراق إرباكاً هائلاً؛ وتحول دون أية إمكانية حصول التغيير والحل في العراق. وبالتالي؛ فإن من يعتقد بإمكانية بناء علاقات طبيعية مع أنظمة السعودية وتركيا وقطر والأردن؛ أو يرى ضرورة العفو عن البعثيين وحزب البعث وإدخالهم في العملية السياسية، أو إمكانية تحييد الإرهابيين الايديولوجيين؛ أمثال القاعدة وداعش ونظائرهما، أو يعتقد إن تغيير الحكومات العراقية ورؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء سيغير من قواعد اللعبة في العراق؛ فهو واهم بالكامل؛ لأن خلاف هذه الدول والتنظيمات مع العراق الجديد ليس خلافاً سياسياً أو اقتصادياً أو جغرافياً أو حدودياً؛ بل هو صراع وجودي وبنيوي؛ لا يمكن حله؛ إلّا إذا تحوّل العراق الى دولة قوية في كل المجالات؛ تكون ندّا لهم، أو يعود خندقاً طائفياً كما كان قبل 2003. وحينها ستتغير مواقفهم. فالقاعدة وداعش والبعث وغيرهم من المعارضين للتغيير بالسلاح؛ هؤلاء أساساً لا يريدون المصالحة أو دخول العملية السياسية؛ بل مطلبهم الوحيد هو عودتهم الى السلطة بكل ما يمتلكون من ايديولوجيا طائفية وعنصرية. أما الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة؛ فيهمهما ابتعاد العراق تماماً عن مشروع المقاومة والممانعة والدول والتنظيمات التي تمثلها: إيران وسوريا ولبنان، ويرفضان انخراط العراق في المضمون الايديولوجي المقاوم للتنظيمات الشيعية العراقية التي تقود العملية السياسية؛ ولا سيما حزب الدعوة الإسلامية (بجميع أجنحته) والتيار الصدري (بجميع تفرعاته) والمجلس الأعلى (بجميع مكوناته)، ومنظمة بدر وتيار الحكمة وحزب الفضيلة وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وغيرها؛ وهذا من المستحيلات السبعة.

أبرز أزمات العراق    

    1- أزمات الموروث التاريخي والتركيبة السكانية:

وهي أزمات مركبة؛ فهي إفرازات معقدة للموروث الطائفي العنصري للدولة العراقية من جهة وحقائق التركيبة السكانية ونسب مكوناتها من جهة أخرى، وتتمثل بما يلي:

  • نظرة المحيط السني الى العراق، بوصفه دولة الرشيد والعباسيين، وعدم القبول بتغيير هذه الصفة
  • عدم قناعة السنة بالتغيير الجذري لواقع العراق بعد العام 2003 ودولته، بوصفهم الأقلية الحاكمة لقرون طويلة
  • عدم قناعة الشيعة بأن ما جرى هو تغيير جذري بالفعل، لأنهم لم يستحصلوا حقوقهم بوصفهم الأغلبية السكانية
  • استثمار الأحزاب الكردية عملية التغيير لمصلحة قومية وليس وطنية
  • علاقات المناكفة والضغط والابتزاز بين أحزاب المكونات القومية والطائفية
  • عدم تعامل الشيعة مع مشروع الدولة تعاملاً استراتيجياً جذرياًـ بل تعاملاً انفعاليا إرضائياً وعاطفياً، أي بالشعارات من جهة وعدم الواقعية من جهة أخرى، وهم يدركون أنهم الأكثرية السكانية وما لذلك من تبعات قانونية وسياسية.
  • دخول الحليفين السابقين المضطهدين: الشيعة والكرد، في مشاكل تتعلق بالثروة النفطية وصلاحيات الإقليم والمركز والمناطق المتنازع عليها والميزانية والمطلوبين للقضاء، في الوقت الذي يتفرج فيه السنة على هذه النزاعات، ويستثمرونها.

    2- الأزمات الموروثة من حكم البعث:

لقد نجح نظام البعث في تحويل العراق، خلال (35) سنة من عمره، وخاصة بعد العام 1979، الى بلد لا يصلح للعيش الكريم، بسبب التمييز الطائفي والعنصري، والمجازر ضد العراقيين، والحروب والديون والحصار والبنية التحتية المنهارة، وهي أزمات معقدة وعميقة. صحيح أن بعضها كان موروثاً من العهود القديمة أو من مرحلة ما بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة في العام 1921، إلّا أن حكم البعث، كان المرحلة الأكثر سوءاً في تاريخ العراق القديم والحديث والمعاصر، وكان متميزاً في قدرته التدميرية، وبالتالي؛ فإن الدمار البنيوي للعراق في مرحلة نظام البعث، على مستويات السياسة والاقتصاد والمعيشة والإعمار والبنية التحتية، والمنظومة القانونية والقضائية والثقافة والدين والتعليم والقوات المسلحة، فضلاً عن الواقع النفسي والاجتماعي والإنساني للشعب العراقي؛ ربما يحتاج الى خمسين عاماً ليتخلص العراق من آثاره.

    3- انشغالات الدولة الجديدة:

    برزت في العراق أزمات كبيرة بعد العام 2003، ظلت تشغل الدولة العراقية بنسب كبيرة، وتعيق حركتها باتجاه الاستقرار وإعادة بناء الإنسان وإعمار البلاد، وأهم هذه الانشغالات:

  • الانشغال بتبعات وجود الاحتلال الأمريكي في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والثقافية
  • الانشغال بتفكيك الصراعات السياسية والطائفية والقومية والاجتماعية بين مكونات الشعب العراقي، بل بين المكون الواحد
  • الانشغال بمواجهة الإرهاب والجماعات الإرهابية الطائفية والوهابية، كالبعث والقاعدة وداعش
  • الانشغال بمواجهة تدخلات دول الجوار، على خلفيات طائفية سياسية غالباً
  • الانشغال بمكافحة الفساد والفشل الإداري والمالي
  • الانشغال بمواجهة ثغرات الدستور الملغوم والنظام السياسي التوافقي، واللذين يحولان دون وجود قوة قاهرة لحماية الدولة ونظمها وسلطاتها عند تشريع القوانين أو تطبيقها؛ إذ كثيراً ما بقيت الدولة ضائعة في ظل التوافقات السياسية، وبقيت حكومات الشراكة معاقة أحياناً حيال حل المشاكل الأساسية
  • الانشغال بتبعات عدم وجود ناظم قومي مذهبي يوحد ثقافة الدولة وسلطاتها وأدبياتها ورمزياتها وإعلامها
  • مشكلة الثقافة الوطنية الواقعية، وفي مقدمتها الظواهر الاجتماعية السلبية، وعدم شعور المواطن والجماعة بالمسؤولية الحقيقية تجاه الوطن والمدينة والشارع والمؤسسات العامة والبنية التحتية والبيئة، رغم وجود العواطف والشعارات الوطنية التي يرددها الجميع، لكنها كثيراً ما تبقى غير مترجمة.

التعايش الوطني والقبول بالواقع

في أعمالي البحثية الكثيرة التي طرحتها في فترة ما بعد عام 2003، بصورة كتب ودراسات ومقالات ومحاضرات؛ طالما أكدت على ضرورة الالتصاق بالواقع، والانطلاق من الواقع في إيجاد المعالجات؛ وإن كان هذا الواقع خطيراً ومرعباً، والحديث فيه يثير الحساسيات والأوجاع؛ لأن هذا هو مقتضى معالجات الأمراض المستعصية. وبالتالي تجاوز الشعارات الفضفاضة والمقولات السطحية في النظر الى مشاكل العراق وأزماته؛ فها هو التغيير السلطوي قد مرّ عليه حوالي (15) عاماً دون أن تنفع شعارات الوحدة الوطنية وعشق العراق وحب الوطن في معالجة مشاكل العراق وحل أزماته؛ لأن كل فريق ينظر الى العراق من زاويته، وكل مكون يريد عراقاً مفصلاً على مقاسه كما ذكرنا سابقاً. فعن أي عراق يتحدثون؟!

وهنا؛ أجد من الضروري الإشارة الى أفكار من بحوثي السابقة؛ التي ظلّ أكثر الساسة العراقيين؛ بينهم قادة أصدقاء؛ يعدونها تنظيراً يعقد الأمور ويثير الحساسيات؛ بل وترفاً فكرياً؛ وكأنهم بذلك يريدون الاكتفاء بحقن الواقع العراقي بالمسكنات والمهدئات، وعدم الإفصاح عن حقائق الأمراض المزمنة الصعبة التي يعاني منها؛ كي لا يرعبوا هذا الواقع؛ كما يعتقدون خطأ..

نستند في معالجاتنا للواقع العراقي الى ثلاث قواعد أساسية:

    1- أزمات العراق ليس ميؤوس منها:

صحيح أن أزمات العراق مزمنة ومعقدة وعميقة وصعبة، إلّا أنها ليست أزمات مميتة وقاتلة وميؤوس منها، بل أن بالإمكان إيجاد العلاجات والحلول لها، في حال وجود إرادة عامة قوية، وإن كانت العلاجات موجعة ومرّة وخطيرة وطويلة الأمد أحياناً، ويستلزم بعضها البتر والكي والاستئصال أحياناً أخرى.

    2- القبول بحقائق العراق الثابتة ووقائعه الجديدة:

ويتشكل هذا القبول من خلال الزعماء السياسيين والدينيين والاجتماعيين للمكونات المذهبية والقومية في العراق، وإذعانها بحقائق العراق الثابتة، ومنها الجغرافية السكانية ونسبها، وبالوقائع الجديدة التي أفرزها سقوط السلطة التاريخية التقليدية العراقية عام 2003، والقبول باستحقاقاتها وتبعاتها، وعدم تجاوزها والعبور عليها؛ لأن في تجاوزها إصرار على إبقاء العراق مشتعلاً وسط نيران الأزمات. ومن هذه الحقائق:

  • إن العودة الى عراق ما قبل العام 2003، أي عراق الانقلابات العسكرية، وعراق الطائفية العنصرية، والأنظمة الوراثية والعسكرية والدكتاتورية الحزبية والعائلية والفردية، وايديولوجياته وثقافاته وسلوكياته الموروثة؛ هي عودة مستحيلة، وإن حزب البعث وأمثاله من الجماعات العنصرية الطائفية، هو جزء من هذا الماضي المؤلم الذي لا عودة إليه، وإن اجتثاث هذا الفكر العنصري الطائفي ورموزه هو العلاج الطبيعي، حاله حال (النازية) في ألمانيا و(الشوفينية) في إيطاليا و(الفرانكوية) في إسبانيا سابقاً، والوهابية في (السعودية) والصهيونية في (إسرائيل) حاضراً.
  • إن الطلب الى ضحايا الدولة العراقية العنصرية الطائفية، وخاصة نظام البعث، أو ذوي الضحايا، المصالحة مع الجناة المصرّين على ايديولوجيتهم وأفكارهم وسلوكهم، وعودتهم الى وضعهم السياسي والثقافي والعسكري، كما كانوا؛ هو طلب يتعارض مع كل قوانين الأرض والسماء، ومع الفطرة الإنسانية في القصاص ودفع الخطر وحفظ النفس والمال والعرض والدين.
  • إن العراق يتألف من ثلاثة مكونات رئيسة؛ بنسبها المعروفة، وما يترشح عن هذه النسب من استحقاقات طبيعية؛ يفرضها الواقع والقانون؛ هي: الشيعة (65 % من سكان العراق)، والسنة العرب (16 %)، والسنة الكرد (حوالي 14 %). وأن الشيعة بعربهم وكردهم وتركمانهم وشبكهم يشكلون أكثر من 60 % من سكان العراق، أي أنهم الأكثرية السكانية المطلقة، وان الكرد ليسوا سنة وحسب؛ بل أن الكرد الشيعة تصل نسبتهم الى أكثر من 5 % من نفوس العراق، وبجمع النسبتين يصل مجموع الكرد الى حوالي 20 %. ويترتب على هذه عدم استفراد الكرد السنة باستحقاقات الكرد.
  • إن نخب السنة العرب لم يعد باستطاعتها احتكار السلطة وقرار الدولة، كما كانوا طيلة مئات السنين. كما لم يعد الشيعة هم المعارضة التقليدية للسلطة الطائفية العراقية، ولم يعد الكرد متمردون كما كانت تصفهم الدولة العنصرية السابقة، ولم يعد الشيعة الكرد والتركمان والشبك مواطنون من الدرجة الثالثة؛ بل بات الجميع مشاركون في إدارة الدولة والحكومة والسلطة؛ مع الأخذ بالاعتبار استحقاق كل مكون بصورة عادلة في قرار الدولة والحكومة، وفي حجم تشكيله لهوية العراق.
  • إن عقيدة الجيش العراقي لم تعد عقيدة طائفية عنصرية؛ هدفها حماية السلطة، وضرب مكونات الشعب العراقي، وتنفيذ رغبات السلطة في الاعتداء على دول الجوار.
  •  إن المناهج التعليمية؛ ولاسيما مناهج التاريخ والجغرافيا والتربية الدينية والوطنية؛ لم تعد تكتب وفقاً للبنية الطائفية والعنصرية للسلطة العراقية السابقة؛ بل وفقاً لآلية علمية، وآلية التوازن بين التوزيع المذهبي والقومي للسكان. وهو ما ينطبق على وسائل إعلام الدولة والحكومة أيضاً، وعلى المؤسسات الدينية والإفتائية والوقفية التابعة للدولة والحكومة.

    3- استبدال المفاهيم والسلوكيات الموروثة بالمفاهيم الواقعية:

ويعني استبدال المفاهيم والسلوكيات التقليدية المتوارثة الفضفاضة ذات العلاقة بالثقافة السياسية للدولة، والتي ظلت الأنظمة المتعاقبة تستغلها لمصالحها العائلية أو الطائفية أو القومية أو الحزبية؛ بالمفاهيم الواقعية التي تنسجم مع حقائق العراق، وفي مقدمتها تنوعه القومي والمذهبي والثقافي، وفي الوقت نفسه وجود أغلبية مذهبية قومية فيه. وأول المفاهيم التي ينبغي استبدالها مفهوم الوحدة القومية ومفهوم الوحدة الوطنية، وتقريبهما من مفهوم التعايش المشترك، لأن مفهوم الوحدة القومية يعني أن يكون قوام الوطن قومية واحدة متحالفة مع أبناء هذه القومية خارج حدود البلاد، والحال أن الوحدة القومية لا تنسجم مع العقيدة الدينية لعموم الشعب العراقي، فضلاً عن أن العراق في بلد متعدد القوميات.

كما أن مفهوم الوطنية الموروث هو مفهوم استغلالي إقصائي ملغوم قبل العام 2003، وظل بعد العام 2003، مفهوماً ضبابياً وعائماً وملغوماً، ويحمل تفسيرات متعارضة؛ فالنظام السابق يفسره بأنه الوحدة الجغرافية والسياسية القسرية القهرية للمواطنين العراقيين تحت هيمنة السلطة أحادية الايديولوجيا وشديدة المركزية، وليس الوحدة النفسية والمجتمعية والسياسية في ظل الوطن، كما هو الممكن في البلدان التي لا تعاني من التركيبة القومية والمذهبية السكانية التي لا يحسد عليها العراق. ومفهوم الوحدة الوطنية بدلالاته الموروثة من النظام السابق؛ شبيه بمفهوم وحدة الخلافة الذي قتلت الدولة العثمانية تحت لوائه ملايين البشر المنتمين الى أعراق ومذاهب شتى، والخاضعين لسلطتها العنصرية الطائفية قسراً. وهو ما ظل يحصل في العراق دائما؛ ففي ظل شعار الوحدة الوطنية قتلت دولة البعث أكثر من مليون ونصف المليون شيعي وكردي عراقي. بل أثبت شعار الوحدة الوطنية خلال مرحلة ما بعد عام 2003 أنه شعار نظري وغير عملي؛ إذ أنه لم يحقق وحدة واقعية بين أبناء الوطن الواحد.

أما شعار التعايش الوطني فهو شعار واقعي وينسجم مع حقائق العراق؛ حتى وإن ترشح عنه التخفيف من مركزية الحكومة الإتحادية، وتشكيل أقاليم جديدة، أو ربما انفصال إقليم كردستان، أو استحداث ضوابط إدارية في العلاقة بين المحافظات. والهدف من كل ذلك فسح المجال أمام أبناء الجغرافية الواحدة أو الدين والمذهب والقومية الواحدة أن يقرروا مصيرهم في الوحدة من عدمها، وليس إجبارهم على العيش قهراً في ظل واقع سياسي وثقافي ونفسي لا يريدونه.

وهذا هو ديدن الدول الديمقراطية التعددية؛ فهي دول تطبق مفهوم التعايش المشترك بين أبناء المذاهب والأديان والقوميات المتنافرة المتصارعة؛ الذين يعيشون حالة المواطنة الحقيقية في ظل دولة واحدة؛ ولكنها تترك لهم حق تقرير المصير؛ فيما لو فشلت الدولة في جعلهم يتعايشون بسلام وانسجام.

مقاربات الحلول

    1- استخدام البحث العلمي:

لعل استخدام البحث العلمي، هو المدخل النظري الوحيد لتفكيك أزمات العراق ومشاكله؛ إذ ينبغي عدم النظر الى أزمات العراق ومشكلاته، سواء الموروثة أو المستجدة، نظرة انفعالية عاطفية أو سطحية، وكذلك عدم ارتجال الحلول لها، أو الاستمرار في وضع الحلول الترقيعية، أو إخضاعها للمصالح السياسية، إنما عبر مقاربة الأزمات والحلول مقاربةً بحثية علمية معمقة في كل مجال من المجالات المشكلة. ويكون من ضمن واجبات المؤسسات والفرق البحثية التي تقوم بهذا الدور؛ وضع استراتيجية شاملة لمدة (25) سنة تشمل جميع الأزمات والمشاكل والحلول، ويتم تقسيمها الى خمس خطط فرعية. وليس القصد هنا وضع خطط وموازنات للدولة كما تقوم به وزارة التخطيط، بل القصد هو وضع استراتيجية وطنية شاملة، ووضع خطط لتنفيذها.

2- الانعتاق من قبضة الاحتلال:

لعل التخلص من سيطرة الاحتلال الأمريكي والتدخلات البريطانية والأُممية، وتبعات مشاريعها السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، هي منطلق الحلول العملية.     

    3- تعديل الدستور:

وهو تعديل شامل، يستهدف الجانبين الفني والمادي، ويضع خاتمة لكل الثغرات التي تسببت طيلة الفترة الماضية بتعميق الخلافات السياسية بين المكونات العراقية والفرقاء السياسيين، وأهمها ما يرتبط بقيد عدم اعتراض ثلاث محافظات لتعديل الدستور، والنظام السياسي، ودور الشريعة الإسلامية.

4- تغيير النظام السياسي البرلماني:

يكون بديل النظام السياسي البرلماني الحالي؛ النظام الرئاسي، على غرار النظام الأميركي، أو النظام الرئاسي- البرلماني، على غرار النظامين الروسي والفرنسي؛ فيكون هناك رئيس جمهورية منتخباً انتخاباً مباشراً من قبل الشعب؛ يتمتع بصلاحيات تنفيذية يحددها الدستور، ويكون القائد العام للقوات المسلحة في الوقت نفسه. كما يكون هناك برلمان منتخباً شعبياً. ويقوم رئيس الجمهورية المنتخب باختيار مرشح الكتلة النيابية الأكبر التي يحدد الدستور مواصفاتها بدقة؛ ليكون رئيساً للوزراء؛ بعد التصويت على كابينته في مجلس النواب. وفي هذا النظام تكمن فلسفة التعايش الحقيقي بين مكونات الشعب العراقي.

    5- حكومة الأغلبية السياسية:

تشكيل حكومة أغلبية سياسية منسجمة، ووجود معارضة داخل البرلمان وخارجه، يعني العمل بمقتضى ما تفرضه الأنظمة الديمقراطية. ويتم تشكيل الحكومة المنسجمة سياسياً والتي تحظى بأغلبية برلمانية؛ من جماعات وأعضاء يمثلون التنوع العراقي، وبشكل متوازن، يكون فيه للعرب والكرد والفيليين والتركمان والشبك، بشيعتهم وسنتهم، فضلاً عن الأقليات الدينية القومية؛ حضور متوازن، أي أن هذه المنظومة الحكومية تذعن الى حقائق الديمغرافيا العراقية في نوع المشاركة وحجمها، وينطلق تشكيلها من نقطة تشكيل تيارات منسجمة سياسياً، تتصدرها أحزاب تنتمي الى الأكثرية السكانية، وينضوي تحتها جماعات وأفراد من كل الطوائف والقوميات، وتدخل الانتخابات كقوائم وطنية وليس قوائم مذهبية أو قومية. أما الائتلافات والأحزاب التي لا تحقق الأغلبية؛ فإنها تبقى في المعارضة، وإن زعم بعضها إنه يمثل مكون معين.

6- تقنين الناظم المذهبي القومي للدولة: 

يتم تقنين الناظم المذهبي القومي للدولة على أساس نسبة الأغلبية السكانية للعراق، والمتمثلة بالشيعة العرب، الذين يزيد عددهم على 56% من عدد سكان العراق، وهو ما يحدد ثقافة الدولة وأدبياتها وتشريعاتها ورمزياتها؛ ككل الدول المتقدمة في العالم، وكما هي عليه جميع الدول العربية، التي تعلن عن كونها دولاً سنية عربية، أو البلدان المسلمة الأخرى التي تعلن أنها سنية وتتخذ لغة وثقافة الأغلبية القومية، وبناء عليه تكون الدولة العراقية شيعية عربية. مع المحافظة على حقوق القوميات والمذاهب الأخرى كافة، ما يعني وجود ناظم مذهبي قومي يوحد ثقافة الدولة ورمزياتها ولغتها، الى جانب وجود منظومة حقوق دولة التعددية القومية والمذهبية والجغرافية، التي تحقق التعايش المشترك بين المختلفين، على قاعدة قناعتهم بهذا العيش المشترك، من خلال الدولة العادلة الإنسانية.

    7- منح حقوق المكونات العراقية:   

وهم الشيعة بكل قومياتهم، والسنة العرب والكرد والتركمان، وتقف هذه الحقوق على قاعدة استعادة المكون الشيعي توازنه النفسي والاجتماعي والسياسي والعمراني، وفق نسبة الدمار الذي تسبب به ظلم النظام البعثي، وأخذ استحقاقاته من المناصب المركزية، ومن الثروات والتعليم والإعمار والبنى التحتية، وفق ما تكتنزه هذه المحافظات من ثروات طبيعية.

وكذلك على قاعدة استعادة المكون السني العربي توازنه وأخذ استحقاقها من البناء والثروات والمناصب، وفق حجم الدمار الذي لحق به جراء عبث الجماعات الإرهابية في مناطقه بعد 2003. وهي القاعدة نفسها التي ينبغي العمل بها حيال حقوق المكون الكردي والمكون التركماني.

أما إقليم كردستان الذي توحّدت فيه المحافظات الكردية الثلاث؛ فإن من حقه العمل وفق آلية تقرير المصير، وصولاً الى إقامة دولة مستقلة؛ إن أراد مواطنوه، لأنه حق يكفله القانون الدولي، بل أن حل مشكلة كردستان حلاً جذرياً، وليس ترقيعياً وتوافقياً وسياسياً، إنما في مقدمة حل أزمات العراق، لأنها مشكلة مربكة جداً للعراق ودولته ومكوناته وحكومته المركزية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) بعض الفقرات مستلة من كتاب «جدليات الدعوة»، للكاتب نفسه.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment