إشكاليات الهوية الشيعية الجامعة

Last Updated: 2024/05/11By

إشكاليات الهوية الشيعية الجامعة

د. علي المؤمن

 

أسئلة في إطار الهوية الشيعية

قبل البدء بتدوين هذه الدراسة؛ طرحتُ ثماني مجموعات من الأسئلة على عدد كبير من النخب الشيعية، المتدينة وغير المتدينة، من أكثر من عشرين بلداً، أغلبيتهم من العراقيين واللبنانيين والإيرانيين والخليجيين. وسبب هذا التخصيص هو حجم المعضلة التي يعاني منها الشيعة جراء عدم حل الإشكاليات المتراكمة التي تتسبب فيها أزمة الهوية، والتعاطي معها بردود الأفعال والضغوطات العاطفية والتسييس، فضلاً عن محاولات استثمار الآخرين لها إيديولوجيّاً، عبر الخطاب العنصـري أو الطائفي أو المصلحي. وبالتالي، فإنّ هذه الأسئلة لصيقة بالواقع ومشاكله الأساسية، وکانت علی النحو التالي:

1ـ ماذا يعني أن يكون الإنسان مسلماً شيعياً؟ هل يعني أنّه ينتمي عقدياً وفقهياً إلى مذهب أهل البيت (التشيع)، أو أنّه مجرد انتماء اجتماعي إلى جماعة بشرية (الشيعة)؟ أو أنّه كلا الانتماءين؟ وما هو جوهر الهوية الذي سينتج عن كل نوع من أنواع الانتماء هذا؟

2ـ هل هناك تفكيك ديني وواقعي بين الهوية المذهبية للشيعي وهويته القومية وهويته الوطنية؟ أم أنّها باتت هوية مندمجة واحدة لدى المكونات الشيعية في البلدان التي يعيشون فيها حالة المواطنة القانونية والسياسية؟

وفي حال لم تكن مندمجة؛ فهل يعني هذا أنّ الشيعي يعاني من ازدواجية مركبة في الهوية، بالنظر لتعددية الانتماءات؟

3ـ كيف يمكن الجمع والموازنة بين الانتماء لمذهب آل البيت عقدياً وفقهياً (الانتماء للتشيع) واجتماعياً (الانتماء للشيعة) من جهة، والانتماء للقومية كحقيقة جينالوجية وأنثروبولوجية، والانتماء للوطن سياسياً وقانونياً من جهة أُخرى؟ وهل الأولوية الإيديولوجية والواقعية تكون للانتماء للتشيع أو الانتماء للقومية أو الانتماء للوطن؟ وفي حال حدوث تعارض بين الانتماء للتشيع والانتماء للقومية والانتماء للوطن، فأيها يتقدم؟

4ـ هل الانتماء للتشيع يمثل الجانب الديني الأُخروي، والانتماء للقومية وللوطن يمثل الجانب السياسي الدنيوي؟ وفي جانب التقليد والتولي الديني، كيف يمكن التوفيق بين تقليد أو اتّباع مرجع ديني ينتمي إلى وطن آخر، وبين الاندكاك بالقضايا القومية والوطنية ومصالحها؟

5ـ ما هو حجم المساحة التي تجمع الشيعي مع الشيعي من قومية واحدة ووطن آخر، ومثاله: ما يجمع الشيعي العراقي العربي بالشيعي اللبناني العربي، أو الشيعي مع الشيعي من قومية أُخرى ووطن واحد، ومثاله: ما يجمع الشيعي العراقي العربي بالشيعي العراقي الكردي، أو الشيعي مع الشيعي من قومية أُخرى ووطن آخر، ومثاله ما يجمع الشيعي العراقي العربي بالشيعي الإيراني الفارسي؟ وما هي المساحة التي تجمع الشيعي مع السني من الوطن والقومية نفسيهما، ومثاله: ما يجمع الشيعي العراقي العربي بالسني العراقي العربي، أو من القومية نفسها ومن وطن آخر، ومثاله: الشيعي العراقي العربي والسني الإيراني العربي؟

6ـ هل الانتماء العقدي والفقهي للتشيع، والانتماء الاجتماعي للشيعة يقتضي تجاوز ضوابط حدود الجغرافية السياسية والقوانين المحلية والقانون الدولي؟

7ـ هل الشيعي مسؤول فقط أمام الدين والمذهب وأئمة آل البيت والمرجعية الدينية، أو أنّه مسؤول أمام الحاكم والسلطة والقانون، أو أنّه مسؤول أمام الطرفين معاً؟ وكيف تنعكس هذه المسؤولية المركبة على موضوع الانتماء والهوية؟

وكان هدف طرح هذه الأسئلة الإسهام في إيجاد حلول علمية لإشكالية الهوية الشيعية من جهة، والمشكلتان الطائفية والعنصرية المستعصيتان لدى أغلب نظم الاجتماع الديني والسياسي في المنطقة العربية والإسلامية من جهة أُخرى، وهما المشكلتان اللتان تهددان الأمن المجتمعي، وتفرضان على الشيعة حجراً مركباً في حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر والطقوس.

وقد وصلني عدد كبير من الإجابات، كان بعضها علمياً وموضوعياً وواقعياً، ويستحضر العناصر العقدية والفقهية والفكرية والقانونية، بعيداً عن الانفعالات الطائفية وتجاذبات السياسة. في الوقت الذي يستحق هذا الموضوع مزيداً من التداول البحثي العلمي، في إطار دراسات منهجية وندوات ومؤتمرات تخصصية.

هوية الشيعي: بين المذهب والقومية والوطن

تعدّ الأسئلة حول موقف المسلم الشيعي من انتماءاته المتنوعة، وخاصة ما يتعلق بإشكالية التوازن بين انتمائه القومي وانتمائه الوطني وانتمائه لمنظومته الدينية الاجتماعية؛ من أكثر الأسئلة البحثية الموضوعية واقعيةً وأهميةً وحساسيةً، والتي ظل الباحثون والسياسيون والإعلاميون والمثقفون، المتدينون وغير المتدينين، يتداولونها منذ العام 1979 وحتى الآن. وهذا لا يعني أنّ الموضوع لم يكن متداولاً قبل هذا التاريخ؛ لكنه ازداد أهمية وواقعية خلال العقود الأربعة الأخيرة([1]).

إنّ الإنسان الشيعي، ككل البشر المتحضرين، له هوية مركبة ومتعددة؛ تتألف من عدد من العناصر، أهمها عنصران، هما الوطن الذي يحمل جنسيته، والوطن الذي انحدر منه، وعنصر «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» العالمي، الذي يلخص عدداً من الانتماءات المتداخلة، كالإسلام والتشيع والمرجعية الدينية المتصدية وولاية الفقيه والمرجعية التي يقلدها والمجتمع الشيعي المحلي. وهناك عناصر فرعية أُخر للهوية الشيعية، كالقومية والقبيلة والعشيرة والأسرة والمدينة والجماعة السياسية. وهذه التبعية المركبة ليست عملية معقّدة، إنما الذي يعقّدها هي الدعاية المخاصِمة، التي تحوِّلها الى تهم وشبهات ضد الشيعة وضد نظامهم الاجتماعي الديني. والهوية المركية هي سمة جميع المجتمعات المتحضرة في العالم، بينما تتسم المجتمعات البدائية المنعزلة بامتلاكها هوية إنسانية بسيطة، كبعض القبائل الأفريقية وسكان غابات الأمازون ومحميات الهنود الحمر والبوشمن. وكلما ارتفع منسوب التحضر والتعقيد في وسائل العيش، ارتفع عدد العناصر المشكلة للهوية، وتراكمت القواعد المؤلفة للمجتمع، وباتت أكثر تعقيداً وتقعيداً.

ومن الطبيعي أن ينتمي الإنسان الى وطن أو دولة معترف بها دولياً، وهناك من ينتمي الى أكثر من دولة، كما ينتمي الإنسان إلى عقائد، سواء كانت أديان أرضية أو سماوية أو أفكار غير دينية، وإلى عقائد فرعية، أي مذاهب وفرق، وإلى عقائد متشعبة عن العقائد الفرعية، كالجماعات والمدارس الدينية الاجتماعية والفكرية، والى جماعات نسبية، كالسلالات البشرية ثم الأعراق ثم القوميات ثم الشعوب ثم القبائل ثم العشائر ثم الأسر ثم البيوت، والى مؤسسات وظيفية، والى جماعات سياسية، كالأحزاب والمنظمات والتيارات، والى جماعات ثقافية وسلوكية وغيرها من عناصر تأليف الهويات.

ولعل من أهم ميزات الإسلام هو أنه جعل هوية المسلم مركبة، بعد أن كانت أحادية عادة، هي الهوية القبيلية، بينما وضع الإسلام انتماء غالباً أو أعلى أو متفوقاً جديداً، هو الانتماء الى العقيدة، وفي الوقت نفسه لم يتنكر الإسلام الى انتماء المسلم الى القبيلة والى مسقط الرأس ومكان السكن (الموطن)، وحبهم والاعتزاز بهم والدفاع عنهم؛ فبات الإنسان المسلم يوصف بهويته المركبة: مسلم، شيعي، إثني عشري، عربي، قرشي، هاشمي، علوي، عراقي، كوفي، وكلها انتماءات مشروعة وطبيعية، ومن حق الإنسان الانحياز إليها، رغم تعددها. ولكن؛ يبقى أن تقديم إحداها على الأخرى في سلم الأولويات، يعود الى طبيعة مرجعية الإنسان وفهمه، والى طبيعة الظرف؛ فمثلاً بقي بعض المسلمين ينزعون الى القبيلة، ويقدمونها على الدين، وآخرون يقدمون المضرية على الدين، أو العروبة على الدين، بينما كان المسلم الحقيقي هو الذي يتعامل بتوازن مع هذه الانتماءات، ويعي كيف يدير عناصر هويته المركبة، ولا يتركها لقمة سائغة للدعاية الجاهلية أو السلطوية؛ الأمر الذي يتسبب في حالة عميقة من الإرباك الفكري والنفسي، وصولاً الى الوقوع في شرك الانحراف.

ويحظى كل عنصر من عناصر تشكيل الهوية بأهميته وحجم تأثيره في الهوية، وكذا أولويته وتقدمه وتأخره لدى كل إنسان وجماعة ومجتمع، وفق خصوصية كل موضوع؛ إذ لا يوجد – عادة – عنصر مطلق في الأولوية والشمولية والتقدم، بل أن الأولوية والشمولية والتقدم نسبيين. ولكن؛ على مستوى التوصيف العام، يمكن القول إنّ سلم أولويات العناصر المشكلة للهوية الإنسانية المركبة، خاضع للعقيدة والفلسفة والرؤية الحياتية التي يؤمن بها الإنسان والجماعة والوطن؛ فهناك من يقدم الدين على الوطن والمذهب والقومية والحزب والعشيرة والمدينة، وهناك من يقدم الوطن على الدين والمذهب والحزب، وهناك من يعد المذهب هو التجلي الحقيقي للدين؛ فيذكر المذهب ولا يذكر الدين، ويضعه في مقدمة العناصر المؤلفة لهويته، ويعده العنصر الأهم، وهناك من يعد القومية هي العنصر الأهم، وهكذا. فإذا كان متديناً وإسلامياً؛ فإنه يقدم عنصري الدين والمذهب على كل شيء، أو يكتفي بعنصر المذهب فقط؛ فيكون ـــ مثلاً ــ شيعياً ثم عراقياً ثم عربياً، وإذا كان قومياً؛ فإنه يقدم عنصر العرق والقومية على الوطن والدين والمذهب؛ فيكون – مثلاً – عربياً، ثم عراقياً وشيعياً، ولعل بعضهم يقدم عنصر المذهب على الوطن في حين إذا كان يعتد بالوطن أكثر من المذهب والقومية؛ وصف نفسه بأنه لبناني عربي شيعي أو بحراني شيعي عربي.

ومن الطبيعي أن يكون كل إنسان وفياً لمبدئه في تحديد أولويات عناصر هويته، شرط أن لا يتعارض ذلك مع تمسكه بانتمائه السياسي لبلده كضابط أساس، وهو ما قاربه الفقهاء من الناحية الشرعية، حتى بالنسبة للبلدان غير المسلمة؛ فالشيعي المتدين، سواء كان متديناً تقليدياً أو كان متديناً إسلامياً؛ فإنه يقدم انتماءه الى عقيدته الدينية الشيعية بكل تفاصيلها، وما تفرزه من اجتماع ديني يتجلى في النظام الديني الاجتماعي، الذي تقف على رأسه المرجعية الدينية العليا أو مرجعية الولي الفقيه، لأنه يعد عقيدته هذه هو العنصر الأساس والأول لهويته، وهي مدخله الدنيوي لبلوغ رضا الله وآل البيت، وكما يقول هذا الشيعي المتدين؛ فإن الله لايسأله يوم القيامة عن جنسيته وقوميته وحزبه وعشيرته، بل يسأله عن تمسكه بتعاليم القرآن والرسول ومدرسة آل البيت في النظرية والعمل، وبالتالي؛ فإن الانتماءات الفرعية هي مجرد انتماءات قسرية لا دخل ولا فخر للإنسان في اختيارها غالباً.

وبالتالي؛ لا يوجد ما يتعارض بين انتماء الشيعي سياسياً لبلده، وانتمائه العرقي لقوميته، وانتمائه الاجتماعي لعشيرته وأسرته، وبين انتمائه العقدي الاجتماعي للتشيع والنظام الاجتماعي الديني العالمي؛ فكلها عناصر طبيعية، وكذلك لا يوجد تعارض بين وطنية الشيعي من جهة، وشيعيته العالمية من جهة أخرى، وهو يستطيع التوفيق بينهما، ولكن؛ ليس توفيقاً عشوائياً ارتجالياً، بل على أساس ما يفرضه القرآن وسنة الرسول وآل بيته وفتاوى المرجعية الدينية. والحال؛ إن التعارض بين الانتماء للوطن وحبه وحب أبنائه من جهة، والانتماء للدين والمذهب وحب أبنائه من جهة أخرى؛ هو تعارض مصطنع، ولا يستقيم مع التعدد الطبيعي لانتماءات الإنسان وهويته المركبة.

فأبناء العراق أو لبنان أو إيران أو باكستان أو البحرين- مثالاً- يوحدهم تراب الوطن وسماءه وخيراته وجنسيته ومصيره المشترك، ولا تعارض بين وحدتهم بكل طوائفهم وقومياتهم وأفكارهم، على أساس الجنسية والقانون ومبادئ العيش المشترك والمصالح من جهة، وبين وحدة المسلمين على أساس الثوابت الدينية، أو وحدة شيعة العالم في إطار مذهب أل البيت، وحبهم لبعضهم ودفاعهم عن بعضهم، وهو ما تدل عليه عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإمامية.

وهناك ايديولوجيات متعارضة مع العقيدة الإسلامية، تحدد أولويات مغايرة في هوية المسلم، وهي ايديولوجيات تكفيرية إقصائية، رغم انتماءاتها الفكرية المتضادة، وادعاء بعضها الانتماء الى الفكر الديني والآخر الى الفكر الإلحادي، ولعل أبرزها الأيديولوجيات الأربع التالية:

1- ايديولوجيا حزب البعث العنصرية الطائفية، وهي كغيرها من العقائد العنصرية، تجعل من العنصر القومي معياراً للتفاضل المطلق، وتخلق من القومية آلهة تعبد، من أجل أن يستطيع الحاكم تمرير طغيانه وسلوكياته بذريعة الوطن والوطنية والقومية، ويستعبد الشعب تحت رايتها. ولاتزال هذه الايديولوجيا بفعل دعايتها وإعلامها وحراكها في المحيط العراقي والعربي، تمارس أبشع أنواع التضليل في هذا المجال.

2- الايديولوجيا الوهابية السعودية التكفيرية، وهي امتداد للعقيدة الأموية، التي تمزج بين عنصرين: العقيدة الدينية التكفيرية الإقصائية الخاصة، والعقيدة القبيلة؛ إذ تفرض سلطتها التكفيرية القبلية على الآخرين باسم الوطن الشرعي والدين. وتمارس في إطار هذه العقيدة تستهدف ضرب المسلمين عموماً، بوصفهم منحرفين، وضرب الشيعة خصوصاً، بوصفهم كفار وأشد خطراً من اليهود، كما تمارس دعاية فتنوية لضرب المسلمين ببعضهم والشيعة ببعضهم، وفصل مساراتهم، من خلال مفاهيم ومصطلحات تحريفية تخريبية.

3- الايديولوجيا العلمانية الغربية، التي تفصّل مقولات السياسية والقانون على مقاساتها، وتفرضها على كل البشر، بمن فيهم البشر الذين يختلفون معها في عقيدتهم وتاريخهم ومناخاتهم الاجتماعية التراكمية. ومن أبرز مخرجاتها الفكرية ما عرف بالدولة القومية أو الوطنية، والتي تنزع عن الدولة والمواطن أية صفة عقدية، وتجعله ينتمي الى الجنسية فقط، أي جنسية البلد الذي يحمله، وينصره في كل الأحوال.

4- الأيديولوجيا الماركسية، وهي التي ترفض أي انتماء عقدي ديني، وأي انتماء للوطن، وتلخص الهوية الإنسانية بالهوية البروليتارية العمالية العالمية، وحاكمية الطبقة العمالية المنتمية للعقيدة الماركسية، وعالمية هويتها، تحت قيادة الحركة الشيوعية العالمية. وقد تعرضت هذه العقيدة لانهيار شبه كامل بعد سقوط الإتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية في العام 1992.

وليس من الضروري أن يكون الإنسان المسلم منتمياً عضوياً أو عقدياً الى هذه الايديولوجيات، لكي يتبنى أفكارها، لكنه يكون ــ أحياناً ــ واقعاً تحت تأثيرها في وعيه أو في عقله الباطن، وذلك حين يردد أفكارها ومفاهيمها ومصطلحاتها، بوعي أو بدونه. وبالتالي؛ فإن كل إنسان ينطلق من مرجعيته العقدية والفكرية في النظرة الى الأفكار والمفاهيم والمصطلحات، أو من تأثير هذه المرجعية في وعيه وفي عقله الباطن، أي أن الذي يتمسك بمرجعية الإسلام العقدية والفقهية، ينظر الى مفهوم الانتماء والهوية الوطنية والمذهبية، وتنظيم الأولويات؛ نظرة مختلفة عن الشخص الذي ينطلق من مرجعية أرضية، بعثية أو قومية عنصرية أو وهابية تكفيرية أو علمانية أو ماركسية. ولكن؛ يبقى أن الاختلاف حول المرجعية الفكرية، ومن ثم الاختلاف في المفاهيم بين الناس، لا يسمح لأي شخص باتهام الآخر بالخروج عن الدين أو عدم الوطنية؛ فكلا التهمتين تنطلقان من فكر تكفيري إقصائي، سواء كان فكراً تكفيرياً دينياً أو فكراً تكفيرياً علمانياً.

وفي النتيجة؛ فإنّ الإسلام في عقيدته وشريعته وأحكامه دينٌ إلهي عابرٌ للحدود والقوميات. هذا على المستوى العقدي والفقهي النظري. أمّا على المستوى الواقعي، فإنّ النظام الاجتماعي الديني الشيعي يتميز عن المنظومات الدينية الأُخر بكونه نظاماً عالمياً لا تحدّه الانتماءات الجغرافية والوطنية والقومية، وهو ما تعبِّر عنه القيادة العالمية للمرجع الديني الأعلى أو الولي الفقيه لها، وكذا الهيكلية العالمية للحوزة وتقاليدها، وسياقات عمل وكلاء المرجعية الدينية، وتداول المال الشرعي. وهذا النظام الاجتماعي الديني ليس وليد اليوم، بل إنّه متجذّر في الواقع الشيعي، ولم تصنعه مرجعية السيستاني ولا ولاية الخامنئي. ولذلك، لا يمتلك أحدٌ خياراً لتغيير هذا الواقع؛ لأنّه سر حفاظ المذهب الشيعي والمجتمع الشيعي على بقائهما واستمرارهما، في ظل مساعي الإقصاء والاجتثاث التي ظل الشيعة يتعرضون إليها منذ نهاية دولة الإمام علي وحتى الآن. ولذلك، فإنّ ضربات الخصوم باتت منذ العام 1979، تستهدف النظام الاجتماعي الديني الشيعي برّمته وتدميره من الداخل، وتفكيك هيكليته العالمية، أكثر من استهدافها التشيع كعقيدة وفقه.

وحقيقة عالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي هي حقيقة ثابتة، ويستحيل على أي خصم أو صديق؛ مهما بلغ من القوة والتأثير، تغيير معادلاتها، سواء كان هذا الخصم طائفياً، أو كان ذلك الصديق من داخل الواقع الشيعي نفسه. وقد جرّب الأُمويون والعباسيون والسلجوقيون والأيوبيون والعثمانيون والمماليك والوهابيون والإنجليز والبعثيون تغيير هذا الثابت بكل الوسائل، كما جرّبها بعض المنتسبين إلى الشيعة، ولكن ظلّت واقعية عالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي تتجذّر بقوة كلما ازدادت هذه الضغوطات وتصاعدت محاولات تمزيق النظام. أي أنّ ضغوطات السلطات الطائفية على الشيعة وقمعها لهم؛ كانت ولا تزال تزيد من قوة نظامهم الاجتماعي الديني العالمي، وتضاعف تماسكه وتلاحم أبنائه خارج حدودهم القومية والوطنية؛ لأنّ الشيعي سيزيد من احتمائه بنظامه الاجتماعي الديني العالمي؛ كلما تصاعدت ضده عمليات القمع والإقصاء والاجتثاث والإرهاب. وهو رد فعل واقعي طبيعي، يضاف إلى أصل عالمية المنظومة الدينية الشيعية.

نتاج إحساس المجتمع الشيعي بالقهر والاستضعاف

لا تقتصر فتاوى تكفير الشيعة ودعوات قتلهم، بوصفهم أشد خطراً من اليهود، وفق العقيدة الوهابية أو السلفية الجهادية، بل تتسع لفقهاء ومشايخ وخطباء من مدارس مذهبية أُخر. وهذه الفتاوى والدعوات والتوصيفات قديمة قِدم مدارس التكفير والقتل في تاريح المسلمين، بدءاً بالخوارج والأمويين، ووصولاً الى مدرسة ابن تيمية، وهي مقترنة بصمت أغلب الفقهاء والمفكرين والمثقفين الإسلاميين السنة، وخاصة حيال الفتاوى المعاصرة والمتجددة، وعدم رفع أصواتهم بالاستنكار الشرعي حيالها، وسماحهم بوقوع الفتنة واستضعاف المسلمين الشيعة واستباحة دمائهم.

ووفق معادلات علم النفس الاجتماعي؛ فإن خطورة إحساس المسلمين الشيعة بالاستضعاف، تكمن في أن الذي يحس بالاستضعاف والقهر الخارجي، بعد أن يصل الى مرحلة الاختناق، ولا يجد من يدفع عنه خطر القتل والتهديد، أو يرد عنه ما يتحمله من شتائم وتهديد وتحريض ومحاصرة وانتهاك للحرمات؛ سينفجر دون شك؛ فعندما تمر دعوات التكفير والتهديد والتحريض ضد الشيعة وانتهاك حرماتهم، دون موقف إدانة شرعي ودون إجراءات حكومية رادعة؛ فإن أصحاب تلك الفتاوى والدعوات والتوصيفات سيصعدون من مواقفهم من جهة، وستزداد حالة الإحساس بالاستضعاف والقهر خطورة، عبر مزيد من الفتاوى والتهديدات، ونفاد صبر الشيعي عندما لا يجد من يحميه من جهة أخرى. ونموذج ذلك ما حصل ضد شيعة العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وإيران وأفغانستان، بعد العام 1979. ما نسمعه ونشاهده كل يوم بعد العام 2003، للدفع بتركيا والسعودية والإمارات ومصر والأردن وإسرائيل وأمريكا لتوحيد الجهود ضد ما يسمونه الهلال الشيعي أو هلال الممانعة.

ومن أجل حماية حماية الأوطان والاستقرار المجتمعي، وتحديداً أوطان الحضور الشيعي؛ من المهم إعادة النظر في قراءة الواقع الجديد الذي خلقه عصر صعود الشيعة، والتحولات في موازين القوة؛ فالإحساس التقليدي لدى التكفيري والطائفي بالقوة والتفوق؛ لم يعد إحساساً واقعياً، إنما هو ــ غالباً ــ وهمٌ كبيرٌ بكل المعايير الواقعية. وكذا الحال ببعض الشيعة الذين يستصحبون الإحساس بالاستضعاف. وبالتالي؛ فإن صبر الشيعي الذي يعي واقعه الجديد، إنما هو صبر الحليم، وليس ضعفاً حقيقياً، وهو ما ينبغي وعيه أيضاً من قبل المؤسسات السياسية والدينية والمجتمعية في بلدان الحضور الشيعي.

ومما لاشك فيه؛ فإن الشيعي حين يعيش في ظل دولة العدالة والمواطنة والإنسان والحريات والتعددية الدينية والمذهبية والفكرية، والبعيدة عن القمع المذهبي والتمييز والتهميش والعزل الطائفي والقومي، ولو بشكل نسبي؛ فإنّ رد الفعل المذكور سيضعف، وسيكون انتماء الشيعي الحقيقي لوطنه، في حين سيبقى انتماؤه لنظامه الاجتماعي الديني العالمي في حدوده المتعارفة والمقبولة من الناحيتين السياسية والقانونية، وهو ما نراه في تجارب الشيعة الناجحة ـ نسبياً ـ في بعض البلدان، وهم يعيشون توازناً بين الانتماء للمذهب ونظامه الاجتماعي والانتماء للوطن وقوانينه، وهو الحال مع العراق (بعد العام 2003) والكويت وعمان والهند وآذربيجان ولبنان، والتي لا يُعدّ فيها التشيع خروجاً على مذهب الدولة. بينما تأخذ حالة التوازن هذه شكلاً مأساوياً ومعقداً في البلدان التي يتعرض فيها الشيعة إلى التهديد المجتمعي والسياسي الطائفي والإرهابي؛ كالعراق (قبل العام 2003) والبحرين والسعودية وسورية واليمن ومصر والمغرب وأفغانستان وباكستان.

وفي ظل تأسيس الدولة القومية والدولة القطرية خلال القرون الأخيرة؛ بدءاً من أوربا، وتحوّل هذا الشكل من الدولة إلى أمرٍ واقع في بلاد المسلمين، فقد بات لزاماً على الشيعة في البلدان التي يتواجدون فيها، مراعاة ضوابط القوانين المحلية والقانون الدولي؛ إذ إنّهم يعيشون في ظل منظومة قانونية وسياسية محلية واقعية، وفي ظل سلطات محلية ضاغطة، لا يمكن تجاوزها أو العبور عليها.

وليس من الواقعية أن يعمل الشيعي على تجاوز انتمائه الوطني، وإلزامات هذا الانتماء سياسياً وقانونياً، وليس من الواقعية أن يتجرد عن الانتماء لنظامه الديني الشيعي العالمي أيضاً، فلا إفراط ولا تفريط حيال الانتماءين. ولا يبدو صعباً التوفيق بين عالمية انتماء الشيعي لمنظومته الدينية الاجتماعية، وبين محلية انتمائه لمنظومته الوطنية القانونية والسياسية، في ظل توافر الظروف الموضوعية المحلية لذلك. كما يمكن حل كل الإشكالات في هذا المجال؛ بما يحفظ للشيعي كل ألوان انتماءاته: للدين والمذهب والمرجعية والولاية والوطن والحزب والقومية والعشيرة والأُسرة؛ فهي انتماءات في طول بعضها عادة؛ بل تكمل بعضها إذا أراد المواطن الشيعي والدولة ذلك؛ فلا تعارض بين كل هذه الانتماءات؛ لأنّها بمجموعها تكرس صفات التدين والالتزام والوطنية في المجتمع الشيعي.

ولا يعني انتماء الشيعي لنظامه الاجتماعي الديني العالمي أنّه شخصية طائفية أو منعزلة عن النظام السياسي لدولته، أو أنّه غير وطني أو غير إنساني؛ بل يعني أنّ الشيعي لصيق بواقعه الذي يفرض عليه انتماءات متنوعة، وأن يكون لكل انتماء دوره في حياة المسلم الشيعي، سواء كان عراقياً أو بحرانياً أو لبنانياً أو إيرانياً أو مصرياً أو هندياً.

المرجعية الدينية وإشكالية الخطاب القومي والمناطقي

ذكرنا بأن عالمية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» وتماسكه ووحدة مساراته، هي جزء من ثوابت النظام، التي إذا تغيرت سينهار ركن أساس منه؛ فهو منذ تأسيسه في عصر الغيبة الكبرى قبل ما يقرب من (1100) عام على يد نواب الإمام الخاصين ثم الفقهاء، نظام اجتماعي ديني عالمي متماسك. وأهم ركائز هذه العالمية هي عالمية المرجعية الدينية ومنظومتها وسياقات عملها، والتي تتمثل في الاستفتاءات الواردة الى المرجع من كل شيعة العالم، والفتاوى والاحكام والتوجيهات الصادرة منه الى كل شيعة العالم، وعبر شبكة الوكلاء العالمية، وعبر المال الشرعي الذي يدار عالمياً أيضاً، ويصل الى المرجع من كل شيعة العالم، ثم يوصله المرجع الى مستحقيه في كل العالم، وعبر المؤسسات والمشاريع المرجعية المنتشرة في كل العالم، ويتم الإشراف عليها مركزياً، وعبر الحوزات العلمية الفرعية والمدارس الدينية المنتشرة في أغلب بلدان العالم، وهي تابعة الى المرجع، وعبر التوجيهات الصادرة من المرجع في الشأن العام الى الشيعة، وكثير منها توجيهات سياسية أو تدخل في دائرة إدارة المجتمع الشيعي المحلي، فضلاً عن التوجيهات التي تدخل في دائرة الأحكام الولائية.

وكنماذج من التاريخ القريب على موضوع عالمية إشراف المرجعية على قضايا الشيعية السياسية والإدارية ورعايتها الشأن الشيعي العام في البلدان الأُخر؛ ما كان يحدث في الدولة الصفوية؛ حين كان المرجع الديني للدولة الإيرانية لبنانياً أو عراقياً، وكانت الشاه يأخذ شرعيته منه، وكذلك بالنسبة للدولة القاجارية الإيرانية التي كان ملكها يستمد شرعيته من مرجع عراقي، ومثال ذلك تفويض الحكم وإجازة التصرف بالأموال والأراضي الخراج وقيادة الجيش التي منحها مرجع النجف الشيخ جعفر كاشف الغطاء الى الشاه فتح علي القاجاري، وكذلك الممالك الشيعية في شبه القارة الهندية، قبل الاحتلال البريطاني، والتي كان يرعاها من الناحية الشرعية، مرجع إصفهان اللبناني أو مرجع النجف العراقي.

وفي ثورة النجف (1918) أو ثورة العشرين (1920) في العراق، كانت الجماعات المسلحة والعشائر المسلحة عبارة عن حركات مقاومة تابعة الى من المرجع الأعلى وتأخذ فتواها وتوجيهاتها في العمل والحركة منه، وهو مرجع إيراني. وهكذا الأمر بالنسبة لثورة التنباك ثورة المشروطة في ايران، وصولاً الى الثورة الإسلامية في ايران، والجماعات الإسلامية العراقية في زمن النظام البعثي، والتي كانت تعمل بفتوى المرجع في ممارسة العمل المسلح، وهكذا جماعات المقاومة الشيعية اليوم في العراق وايران ولبنان وسوريا واليمن وأفغانستان؛ حيث لا يزال هذا الثابت الشرعي وجميع سياقاته العرفية قائمة حتى الآن، وهي واحدة من أهم التمايزات ذات العلاقة أيضاً بعالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي، والمتمثلة في استمداد الحكومات والأحزاب والجماعات والمؤسسات الشيعية، شرعيتها من المرجع الأعلى، بغض النظر عن جنسيته.

ومن البديهي أن يفرض ظهور الدولة القومية الوطنية التي لديها حدود جغرافية سياسة وقوانين وجنسية محلية؛ على المواطن الشيعي أن يتقيّد بانتمائه الى وطنه الذي يحمل جنسيته، وأيضاً يتقيد بقوانين دولته، في حدود ما يحقق له حريته في التمذهب وفي انتمائه الطبيعي الى المرجعيته الدينية، بغض النظر عن جنسيتها ومحل إقامتها، وكذلك في التعبير عن انتمائه الى النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، أيا كانت جغرافيا مركزيته. ولم يعد التقيد بهذه الأمور عملية عسيرة ومعقّدة؛ فحتى الأنظمة الطائفية بات لديها تفّهم نسبي لهذه الانتماءات الاجتماعية الدينية العالمية المركبة للشيعي.

ولعل هناك من يتساءل عن احتمال تقديم المرجع مصالح البلد الذي يحمل جنسيته على البلدان الأخرى التي يتواجد فيها الشيعة، وهذا التساؤل يصح حيال أي شخص عدا المرجع الديني الشيعي الأعلى، لأنّ من أهم شروط المرجع الشيعي أن يكون عادلاً، أي أن يتمتع بالعدالة والتقوى والقابلية على تقدير مصلحة الشيعة في كل البلدان؛ فالمرجع الأعلى ليس رجل سياسة، حتى وإن كان على رأس دولة، ولا تاجر، ولا زعيم ساذج، لكيلا يعي خصوصيات كل مجتمع شيعي في بلده، ولا يعي الالتزامات القانونية والوطنية للشيعة في بلدانهم. كما أن المرجع الديني لا يربط مواقفه وأحكامه الشرعية وتوجيهاته في الشأن العام، بسلطة أو دولة؛ فهو مستقل في مواقفه، بغض النظر عن جنسيته. وعندما يقوم المرجع بإصدار توجيه للشيعة في أي بلد من البلدان؛ فلا شك أنّه يراعي مصالحهم والتزاماتهم الوطنية، وعندما يتعرضون الى القمع والاضطهاد؛ فإنه يعمل بتكليفه الشرعي في متابعة شؤونهم ومطاليبهم والدفاع عنهم، وربما يشير عليهم بردع الحاكم الظالم والدفاع عن أنفسهم، وغالباً ما يترك المرجع لحكماء الشيعة في بلد ما، وهم وكلاؤه غالباً، أن يتصرفوا بما يرون فيه مصلحة الشيعة، وبالتالي؛ فهو يوجه الأمور وفق مصلحة شيعة البلد، لأن وظيفته الشرعية أن يدفع عنهم السوء والمفاسد ويجلب لهم المنافع والخير والصلاح، وفي مقدمة ذلك أنه لا يدفعهم الى الاصطدام بقوانين بلدانهم، إلّا إذا كان في ذلك دفعاً لضرر أكبر يتعرضون له.

والمشكلة ليست في تبعية الشيعي لمرجع من جنسية أخرى أو يقيم في بلد آخر، لأنه أمر عقدي، وسياقاته متوارثة منذ مئات السنين، بل المشكلة في الأنظمة الطائفية التي تقمع المجتمع الشيعي، ولا تريد له أن يندمج في واقعه، ولا تريد أن تجعل أبناءه مواطنين من الدرجة الأولى، بل تعمل على الإبقاء عليه مهمّشاً؛ فمن الطبيعي أن يتدخّل المرجع للدفاع عن هؤلاء الشيعة جراء ما يتعرضون له من قمع وإقصاء وظلم، وهذا واجبه، سواء كان هذا المرجع عراقياً أو إيرانياً أو لبنانياً أو هندياً، وسواء كان يقيم في بغداد أو قم أو النجف أو طهران أو البحرين أو لبنان، وإذا لم يفعل فهذا يعني أنه تخلى عن واجباته البديهية في حماية المذهب وأبنائه.

وعندما يقوم المواطن الشيعي بفعلٍ يتعارض مع سياسة هذه الحكومة وتلك، بضوء أخضر من المرجع؛ فهو يدافع عن نفسه، للتخلص من ضغط الاستبداد وضغط الانحراف، وبما يتفق ومصلحة المجتمع الشيعي التي يشخّصها المرجع الديني باستشارة حكماء البلد المعني، انطلاقاً من واجبه الديني كقائد للنظام الاجتماعي الديني الشيعي. وهذا ليس فيه أي تعارض مع وطنية الشيعي وانتمائه لدولته؛ فإذا كانت الأُمم المتحدة ومؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية، بل حكومات الدول، تتدخل وتدافع عن حقوق الإنسان وتطالب بالعدالة والديمقراطية؛ فكيف يمكن للمرجع الشيعي أن يصمت إزاء ما تتعرض له رعيته في أي بلد كان؟. وبالتالي؛ فإنّ المرجع يدافع عن مصلحة المواطن الشيعي والمجتمع الشيعي، بصرف النظر عن هويته وجنسيته، وهذه المصلحة تشكل أولوية في واجبات المرجع.

ونتيجة الضغوطات الفكرية والسياسية التي تركتها أحداث عقد التسعينات من القرن الماضي وما بعد، والتي تمثل ارتدادات لسياسات نظام البعث وأفكاره، وصعود الجمهورية الإسلامية الإيرانية والتحول السياسي القومي في آذربيجان؛ فقد ظهرت نزعة لدى بعض الشيعة، وخاصة بعض العراقيين الذين طالبوا بمرجعية عربية أو مرجعية عراقية، فيما يطالب بعض الإيرانيين بأنّ يكون تقليدهم لمراجع قم دون غيرهم، ويصـر بعض الآذربيجانيين على تقليد مراجع من القومية الآذربيجانية حصراً، وإن كانوا من آذربيجان إيران. ولا شك أنّ منطلق هذا الخطاب هو النزعة القومية والمناطقية التي تفتقر إلى أي أصل ديني، أو دفع خصوم خارجيين، أو الجهل بطبيعة عنوان المرجعية. وبرغم أنّ هذا الخطاب العنصري والمناطقي لا يشكل ظاهرة عامة، وليس له عمق نوعي أو عددي؛ لكنه تحول بعد العام 1980 إلى موجة انحرافية خطيرة ذات صوت عال، تزامناً مع التحولات السياسية في العراق وإيران؛ بل بات جزءاً من أجندة نظام البعث بعد العام 1991، وأخذ بعض علماء الدين يتبنونه جهاراً لأول مرة في تاريخ الشيعة، برغم الرفض العام له من الأغلبية الساحقة لشيعة البلدين.

ويغفل أصحاب هذا الخطاب أن شيعة الهند وباكستان ـ مثلاً ـ يبلغون حوالي مئة مليون نسمة، أي أنّهم يشكلون كتلة عددية تفوق عدد شيعة العراق وإيران والدول العربية مجتمعة، فلماذا ـ إذاً ـ لا يطالب شيعة باكستان والهند ـ مثلاً ـ بمرجعية هندية أو باكستانية تحصر مهامها في شبة القارة الهندية فقط؟! خاصة وأنّ هناك فقهاء مرموقين ومراجع تقليد هنود وباكستانيين يقيمون في الهند وباكستان وقم والنجف. لكن وعي شيعة باكستان والهند بعنوان المرجعية يجعلهم لا يقيمون وزناً للتمايز القومي والوطني، ولذلك تجد أنّ 80% منهم يرجعون في التقليد إلى السيد السيستاني في النجف والسيد الخامنئي في طهران.

وإذا كان مبنى هذا الخطاب أن يكون المرجع عراقياً إلزاماً، فهل سيتم إضافة شرط القومية والجنسية إلى شروط المرجعية الأُخر، كالاجتهاد والعدالة والكفاءة، ويكون التقليد حينها للمرجع العربي العراقي وليس للمرجع الأعلم؟ وما هو تكليف باقي شيعة العالم إذا لم يکن في بلدانهم مرجع تقليد؟ وهل سيكون لكل بلد ولكل قومية مرجعاً دينياً؟ هذه الأسئلة الواقعية وغيرها تؤكد أنّ الأُمور الدينية العلمية لا تؤخذ بالعواطف والنزعات الذاتية.

إنّ المرجعية القومية والمناطقية التي يحاول مروجوها تمرير مصطلح المرجعية العراقية، والمرجعية العربية، والمرجعية الهندية، والمرجعية الإيرانية، والمرجعية اللبنانية؛ ليس لها أيّ أصل ديني تشريعي، وليس لها سابقة في تاريخ النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ لأنّ هذا النظام يشكل نسيجاً مذهبياً وعلمياً واجتماعياً ومالياً واحداً، وأن المرجع الديني الأعلى هو مرجع غالبية شيعة العالم، من أستراليا وإندونيسيا والصين وتايلند والهند وباكستان وأفغانستان وروسيا، مروراً بآذربيجان وإيران وتركيا وسورية ولبنان والكويت والسعودية والبحرين وعمان ومصر، وصولاً إلى نيجيريا والمغرب والجزائر وأوربا وأمريكا. وفي أغلب هذه البلدان يمتلك الشيعة مؤسسات دينية وعلماء دين، ومن حق المجتهدين ذوي الخبرة منهم أن يكون لهم دور في فرز مراجع التقليد والمرجع الأعلى، بغض النظر عن جنسية المرجع ومكان إقامته.

ففي العراق ـ مثلاً ـ يتحدث بعضهم عن ضرورة عرقنة المرجعية وقومنتها، ووجوب أن يكون المرجع الأعلى عراقياً عربياً؛ وإن كان هذا المرجع لا يقلده حتى شيعي واحد خارج العراق. ويتّهم آخرون السيد محمد الصدر (ت 1999) بأنّه كان يدعو إلى مرجعية عراقية أو عربية، وهو تقوّل غير صحيح، والدليل أنّه أوصى قبل اغتياله بالرجوع إلى مرجعين غير عراقيين، هما الشيخ إسحاق الفياض (الأفغانستاني) في النجف، والسيد كاظم الحائري (من أصل إيراني) في قم، واللذين كان السيد محمد الصدر يعتقد بأعلميتهما من بعده. كما ينقل بعض ملازميه أنّه قال: لو بلغ أحد تلاميذي مرحلة الاجتهاد؛ لكان هو الأعلم، ولم يقل لأنّ تلميذي هذا عربي وعراقي الجنسية؛ أي أنّه استند إلى شرطي الأعلمية والعدالة، وليس إلى شرطي القومية والجنسية، وهو دليل وعيه العميق بمفهوم المرجعية.

ويسيء الخطاب العنصـري والمناطقي إساءة شديدة لمركزية النجف، بوصفها العاصمة الدينية التاريخية لكل شيعة العالم، وليس لشيعة العراق وحسب، وأنّ مرجعها هو مرجع شيعة العالم، وليس شيعة العراق وحسب. وبالتالي، فإنّ المطالبة بعرقنة المرجعية وقومنتها يؤدي إلى ضرب النجف في صميم عالميته وزعامته العابرة للحدود والقوميات؛ لأنّه سيُفقد النجف مركزيته في النظام الاجتماعي الديني الشيعي، ويقزِّمه، ويحوله إلى مؤسسة دينية محلية، كما سيقود إلى تأسيس مرجعية محلية في كل بلد؛ الأمر الذي يقوِّض دعائم النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي أسسه أئمة آل البيت، وبنيت بجهود وأقلام وعقول ودماء الآلاف من المراجع والفقهاء والمحدثين والمحققين والباحثين والشهداء، طوال 1200 عام.

وسيؤدي هذا الخطاب أيضاً إلى أن يكون للشيعة أكثر من (100) مرجع أعلى، على عدد الدول التي يتواجد فيها الشيعة؛ بل على عدد القوميات؛ إذ سيكون لشيعة العراق مرجع عربي ومرجع كردي ومرجع إيراني ومرجع شبكي ومرجع فيلي ومرجع تركماني. وحينها سيظهر مفهوم جديد أكثر خطورة، هو مفهوم التشيع العراقي والتشيع الباكستاني والتشيع الإيراني والتشيع اللبناني والتشيع البحراني، وهو الخطاب الذي تعمل قوى طائفية وعنصرية واستعمارية إقليمية ودولية على الترويج له بكل الوسائل؛ بهدف تمزيق النسيج الديني الاجتماعي الشيعي.

إنّ من أهم القواعد الوجودية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي تقف المرجعية على رأسه، هي وحدة النظام وعالميته واستحالة تجزئته، وإذا ما انهارت هذه القاعدة؛ فإنّ النظام الشيعي سينهار برمته؛ لأنّ عالمية الإسلام ومذهب آل البيت تؤسس لعالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي تلقائياً. أمّا خطاب الانتماءات القومية والمناطقية الذي يستهدف عالمية المرجعية الدينية الشيعية فإنّه يدل على أنّ أصحابه ومروجيه غافلون عن حقيقة التشيع ومنظومته، ومساحة قيادته المرجعية، أو أنّهم مدفوعون بمخططات خارجية؛ لأنّ الخطاب العنصـري والمناطقي يستهدف نقطة القوة الأساسية للنظام الديني الاجتماعي الشيعي، والمتمثلة بنسيجه المتراص العابر للحدود والأوطان والقوميات. وبالتالي، فإنّ من يقلد مرجعاً دينياً على أساس جنسيته وقوميته؛ فإنّه يبتعد عن أُصول مدرسة آل البيت، بل عن مفهوم الدين بشكل عام.

وبنظرة سريعة إلى المسار التاريخي لتأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة الصغرى، سنجد أنّ ثلاثة من السفراء الأربعة للإمام المهدي كانوا عرباً عراقيين، وواحداً فارسياً إيرانياً هو الشيخ النوبختي، وأن اثنين من الزعماء الأربعة المشـاركين في التأسيس (السيد المرتضى والشيخ المفيد) كانا عربيين عراقيين، والاثنين الآخرين (الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي) كانا فارسيين إيرانيين؛ أي أنّ الثمانية المؤسسين لهذه النظام، كان خمسة منهم عراقيين وثلاثة إيرانيين، وأنّ حاضرة النجف العلمية أسسها فارسي إيراني مشهدي، هو الشيخ الطوسي، المعروف بشيخ الطائفة، وأن مرجعية قم أسسها عربي عراقي كوفي، هو الشيخ محمد بن عيسى الأشعري، المعروف بشيخ القمّيين، وكان بعض زعماء الشيعة في العالم عرباً عراقيين يقيمون في مدينة الحلة، كابن إدريس والعلامة الحلي والمحقق الحلي، كما كان بعضهم لبنانياً عربياً، كالشيخين العامليّين المقيمين في جنوب لبنان، وكان آخرون إيرانيين يقيمون في النجف، كالمقدس الأردبيلي والأنصاري والإصفهاني.

وكان مراجع الدولة الصفوية الإيرانية ومفتوها وقضاتها، بمن فيهم من شغل منصب شيخ الإسلام الرسمي، هم من العرب العراقيين واللبنانيين والبحرانيين([2])، وكان الشيخ جعفر كاشف الغطاء بمثابة الولي الفقيه في عهد الدولة القاجارية الإيرانية([3]). ووصولاً إلى العصر الحاضر؛ إذ كان السيد عبد الله البهبهاني الغريفي، البحراني أصلاً والنجفي مولداً، هو قائد ثورة المشروطة الإيرانية، وقد حكم إيران عملياً أكثر من سنة (خلال العامين 1908 و1909)، وكان يلقّب بـ (الشاه الأسود)؛ بسبب سحنته البحرانية العراقية شديدة السمرة. وفي مرحلة لاحقة تبوّأ السيد حسين البروجردي، الإيراني المقيم في قم منصب مرجع الشيعة الأعلى، ورجع إليه أغلب العراقيين بالتقليد، وأعقبه السيد محسن الحكيم، العراقي النجفي، في موقع مرجع الشيعة؛ فرجع أغلب الإيرانيين إليه بالتقليد؛ بل كانت له دالة حتى على الدولة الإيرانية.

وإذا كانت ظروف المواصلات والاتصالات، وتبادل الرسائل والفتاوى والتأليفات والتوجيهات الدينية والسياسية والأموال الشـرعية؛ غاية في الصعوبة في السابق؛ أي منذ نشأة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وحتى بدايات القرن العشرين الحالي؛ فإنّ ذلك لم يمنع أن يكون الشيخ الصدوق الساكن في قم هو مرجع شيعة العالم، ثم الشيخ المفيد الساكن في بغداد هو زعيم الشيعة، ويكون الشيخ الطوسي المقيم في النجف هو شيخ الطائفة المطلق، ويكون الشيخ محمد بن مكي العاملي الساكن في جنوب لبنان زعيما لشيعة العالم، وصولاً إلى السيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء والشيخ مرتضى الأنصاري الساكنين في النجف، ثم الميرزا الشيرازي الساكن في سامراء، والشيخ محمد تقي الشيرازي الساكن في كربلاء. فإذا كان هؤلاء يقودون شيعة العالم، في ظل الصعوبة البالغة لوسائل الاتصال والمواصلات والإعلام، فكيف الآن وقد أصبح العالم قرية واحدة، بل بيتاً واحداً؟!

ولعل بعض من يتبنّى الخطاب المناطقي، يتذرع بوجود مسطرة عنصـرية يمسك بها من يرشح مرجعيات النجف وقم. لكن هذه الذريعة لا تملك حظاً من الواقعية؛ لأنّ للحوزة معاييرها العلمية والدينية وسياقاتها الخاصة خارج التأثيرات القومية والمناطقية والحكومية. هذه المعايير هي التي تجعل كثيراً من المجتهدين الإيرانيين والعراقيين في قم والنجف، خارج التصنيف المرجعي أو خارج المنافسة على موقع المرجعية العليا؛ ليس بسبب جنسيتهم أو قوميتهم؛ بل لأنّ معايير الرأي العام الحوزوي هي الحاكمة، وليس الترجيحات القومية والمناطقية لهذا اللوبي وذاك، أو هذا الحزب وتلك الجماعة.

ولعل من الخطوات المهمة التي ينبغي أن تتخذها جماعات أهل الخبرة في قم والنجف؛ من أجل سد ذرائع الخطاب المناطقي، هو الانفتاح على مرجعيات الحوزتين؛ فلا تقتصر جماعة مدرسي الحوزة في قم على ترشيح فقهاء قم للمرجعية، وتنفتح على فقهاء النجف أيضاً، كما فعلت حيال السيد السيستاني؛ حين طرحت مرجعيته إلى جانب مراجع قم؛ بل تنفتح أيضاً على المراجع العراقيين والعرب والباكستانيين والأفغانستانيين. وفي المقابل؛ ينبغي ألّا يقتصر أهل الخبرة في النجف على الترويج لمراجع النجف فقط، ويغفلون مراجع قم الكبار وغيرهم. فلطالما أنّ شروط المرجعية هي الأعلمية والعدالة والكفاءة والمقبولية العامة؛ فلا بدّ من شمول جميع الفقهاء بعملية الغربلة والترشيح والترجيح.

ولا تزال أغلبية شيعة العالم، منذ تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، قبل حوالي (1200) سنة، تعي بعمق معنى المرجعية الدينية وعالميتها؛ برغم كل المحاولات الحثيثة لقومنة المرجعية وتمنطقها، والتي ظهرت خلال القرن العشرين الماضي، وتكرّست بقوة بعد العام 1999، ثم بعد العام 2003، بدعم مالي وتخطيطي ودعائي ومخابراتي هائل من حكومات البعث والسعودية وبريطانيا وأمريكا؛ بهدف تمزيق نسيج النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وضرب أهم دعائم قوته وسر ديمومته وصعوده الجديد. ولعل توجهات شيعة العالم في مجال التقليد؛ دليلٌ واقعي ميداني على امتناع تحقق ذلك الهدف؛ فالإحصاءات التقريبية ـ كما أسلفنا في فصل سابق ـ تشير إلى أنّ 80 % من شيعة العالم يقلدون السيد السيستاني والسيد الخامنئي، وهما سيدان حسينيان عربيان، أحدهما يمثل حوزة النجف ويقيم فيها، والآخر يمثل حوزة قم ويقيم في طهران؛ دون أن يلتفت أي شيعي إلى جنسيتهما وقوميتهما؛ ما يدل على عدم وجود توجه شيعي شعبي لقومنة المرجعية وتمنطقها؛ كما تزعم أقلية مدفوعة بعواطفها ونزعتها القومية من أنصار بعض المراجع العراقيين والإيرانيين واللبنانيين.

وإذا أخذنا العراق مثالاً؛ سنجد أنّ حوالي 65 % من شيعته يرجعون بالتقليد إلى السيد السيستاني، و10 % إلى السيد الخامنئي، و10 % إلى السيد كاظم الحائري والسيد صادق الشيرازي والسيد محمد تقي المدرسي والشيخ بشير حسين النجفي والشيخ إسحاق الفياض والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم من المراجع الذين يحملون جنسيات غير عراقية. أمّا المراجع العراقيين، كالشيخ محمد اليعقوبي والسيد علاء الدين الغريفي والسيد كمال الحيدري وغيرهم؛ فيبلغ مقلدوهم حوالي 15 % من شيعة العراق. وهو ما يعني أن 85 % من شيعة العراق يقلدون مراجع غير عراقيين.

قواعد التمايز والتكامل بين المجتمعات الشيعية

عالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي، ووحدته الاجتماعية، وتماسك مكوناته البشرية؛ تعني أنّ الشيعة يشكلون وحدة سوسيولوجية دينية وليست سوسيولوجية محضة أو إنثروبولوجية؛ فكل مجتمع شيعي يتمايز في لغته وقوميته وثقافته المحلية وجغرافياه الوطنية عن غيره من المجتمعات الشيعية؛ فإنّه لزاماً يتمايز في خصوصياته العقلية والنفسية والاجتماعية والإنسانية، أي أنّ له هويته الإنثروبولوجية والاجتماعية المستقلة. إلّا أنّ هذه الخصوصيات لا تعيق تماسك مكونات النظام الاجتماعي الديني الشيعي ووحدة الاجتماع الديني لعموم الشيعة، بل تضفي عليه هذه الهويات المتعددة قوة التنوع الثقافي والعقلي، خاصة وأنّ طبيعة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وتراكم خبراته تجعله يمتلك القدرة الذاتية على تقارب هذه الهويات وتكاملها في إطار هوية اجتماعية دينية واحدة، وبالتالي فإنّ تنوع الهويات الإنثروبولوجية والاجتماعية للشيعة هو عنصر شد وليس فرقة.

ولا يتوقف تعدد الهويات الاجتماعية والإنسانية للشيعة على تعدد بلدان الحضور الشيعي، بل يتسع للخصوصيات اللغوية والقومية والقبلية والمناطقية في البلد الواحد وفي الجغرافيا الواحدة. ففي العراق ـ مثلاً ـ هناك الشيعة العرب والفَيليّين والإيرانيين والكُرد والتركمان والشبك، ولكل منهم لغته وثقافته الاجتماعية الخاصة، وهكذا في أفغانستان؛ هناك الشيعة الهزارة والتاجيك والقزلباش والبشتون والفرس والبلوش والسادة (العرب)، وفي إيران؛ توجد مجموعات عرقية وثقافية ولغوية شيعية كثيرة، كالفرس والآذريين والتركمان واللّر والكرد والبلوش والعرب، وفي آذربيجان، هناك الشيعة الآذريين والطالشيين والكرد والداغستانيين والتتار والروس.

وبالتالي، فإنّ الجامع المشترك لكل هذه العرقيات والثقافات الوطنية والمحلية، هو الاجتماع الديني أو المذهبي الشيعي، وهو جامع مشترك قوي وعميق، ويتفوق ـ غالباً ـ على العنصر القومي واللغوي والمناطقي. فلذلك، نرى أنّ الأواصر المذهبية التي تشد الشيعة ببعضهم أقوى من الأواصر الأُخر. وهذه الحقيقة تتجلى أكثر في المنعطفات والمحن والتحديات المشتركة، رغم الرفض النظري لها والشعارات الظاهرية التي تتعالى عليها. وتزداد هذه الحقيقة وضوحاً، كلما ازداد مستوى التدين والتمذهب لدى الأفراد والمجتمع. لكن هذه الآصرة المذهبية لا تنتقص من الانتماءات الوطنية للشيعة؛ لأنّ الانتماءات الوطنية هي انتماءات سياسية وقانونية، بينما الانتماء الشيعي هو انتماء اجتماعي ديني، وبالتالي، لا تعارض بين الانتماءين، كما فصّلنا في فقرات سابقة.

وللتعرف على طبيعة التنوع النفسـي والاجتماعي والعقلي للمجتمعات الشيعية المتعددة قومياً ووطنياً؛ نستعرض هنا نماذج منتقاة من المجتمعات الشيعية، وهي ستة مجتمعات متميزة، يشكل مجموع سكانها حوالي (270) مليون نسمة، من مجموع (400) مليون شيعي، أي ما نسبته 70 % من عدد شيعة العالم، وهي: مجتمعات شيعة العراق وإيران ولبنان والخليج وآذربيجان والهند:

1ـ المجتمع الشيعي الخليجي:

يُعدّ المجتمع الشيعي الجزيري والخليجي مجتمعاً واحداً إلى حد كبير، من الناحيتين الاجتماعية والإنسانية، وتبلغ نسبته 30 % من عدد سكان دول مجلس التعاون الخليجي (السعودية، الكويت، عمان، الإمارات العربية المتحدة، البحرين وقطر)، وهو الأقدم تاريخياً في الولاء لآل البيت، وأرضه هي جغرافيا تأسيس التشيع، وتحديداً أرض الحجاز، والأكثر تحديداً المدينة المنورة. إلّا أنّ خضوع ولايات الجزيرة إلى الحكومات المناهضة للشيعة منذ عصر صدر الإسلام، مروراً بالحكومات الزبيرية والأُموية والعباسية، وصولاً إلى الحكم السعودي الوهابي الذي يكفِّر الشيعة ويستحل دماءهم، حوّل شيعة الجزيرة والخليج إلى أقلية مذهبية مضطهدة ومهمشة اجتماعياً وسياسياً. وتعزز هذا الواقع، بعد سيطرة الأُسر المتفرعة عن قبائل العتوب النجدية، على أغلب مشيخات الخليج، منذ القرن الثامن عشر الميلادي. وربما كان الاستثناء الوحيد هو اليمن الزيدي حتى سقوط نظام الإمامة فيه.

ويمكن القول إنّ أوضاع الشيعة في شبه الجزيرة العربية والمنطقة الخليجية كانت تشبه غيرها من المجتمعات الشيعية العربية، بل كان أغلب المشيخات الخليجية تحظى بحماية الدولة الإيرانية، وخاصة البحرين، وبالتالي حماية شيعتها، حتى ظهور الوهابية في نجد وهجرة قبائل العتوب وسيطرة الأُسر الحاكمة الحالية على البلدان الخليجية([4]). وكانت جزيرة البحرين حاضرة علمية وثقافية وسياسية شيعية مهمة حتى احتلالها من الأُسرة الحالية، وقد ساهم علماء الدين البحرانيين مساهمة علمية وتبليغية مهمة في دعم الحكام الصفويين، من أجل استتباب المذهب الشيعي في إيران، شأنهم شان علماء العراق ولبنان.

ولعل المجتمع الشيعي الخليجي هو أحد أكثر المجتمعات الشيعية تعرضاً للتهميش، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ الأكثر نزوعاً نحو المسالمة والهدوء والحذر. صحيح أنّ شيعة العراق أكثر منهم تعرضاً للظلم والقمع والقتل بأضعاف مضاعفة، لكن الاختلاف هو أنّ شيعة العراق ظلت لهم سطوات وجولات وثورات وانتفاضات ضد محتليهم وظالميهم، بسبب ما يتمتعون به من عناصر القوة العددية السكانية والديموغرافية، ووجود الحوزة النجفية والمرجعية العليا، والقدرة المالية النسبية، بينما ظل الشيعة الخليجيون، يتعرضون للاضطهاد والقتـل بصمت، كونهم أقليـة عددية حضـرية، وسط واقع قبلي طائفي مناهض شرس. وربما يكون المجتمع الشيعي البحراني هو الاستثناء بين المجتمعات الخليجية الأُخر في الإعلان الدائم للرفض والمقاومة ضد سياسات التهميش والقمع، كونه يمثل الأكثرية العددية السكانية في البحرين([5])، ووجود التنظيمات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تمثله، فضلاً عن عدد نوعي وكمي من الفقهاء وعلماء الدين، وهي بمجموعها مقومات لا يتمتع بها شيعة البلدان الخليجية الأُخر.

ويتناسب الاستقرار المجتمعي الشيعي في البلدان الخليجية مع طبيعة النظام السياسي في كل بلد، فكلما كان هذا النظام قريباً من سياسة المواطنة وحرية التمذهب والحقوق العامة، كان المجتمع الشيعي أكثر استقراراً واندماجاً بمجتمع الدولة وانتماءً لنظامها السياسي، وهو ما تتميز به عُمان والكويت، بينما يحدث العكس تماماً في ظل الأنظمة الطائفية التمييزية القمعية، وهو ما عليه السعودية والبحرين.

والذي ميّز المجتمع الشيعي الخليجي بعد الطفرة المالية النفطية في خمسينات القرن الماضي، هو تحوّله إلى داعم مالي رئيس للمؤسسة الدينية ولعموم النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وخاصة في مجالات التبليغ الديني والنشاطات الوقفية والخيرية والثقافية. ولذلك، ظلت مساهمة المجتمعات الشيعية الخليجية، مؤثرة في تنمية وإعمار المؤسسات الدينية والثقافية والخدمية الشيعية في العراق ولبنان وسورية وإفريقية وأوربا.

2ـ المجتمع الشيعي العراقي:

المجتمع الشيعي العراقي ـ تاريخياً ـ هو القاعدة الثانية للتشيع بعد الحجاز، والمادة الشعبية الأساسية للشيعة، والعراق هو جغرافياً أول قاعدة حكم إسلامي شيعي (دولة الإمام علي في الكوفة)، وسيكون عاصمة آخر حكم إسلامي شيعي (دولة الإمام المهدي في الكوفة أيضاً وفق الروايات) ([6])، أي أنّ حكم آل البيت بدأ في الكوفة وسيتمركز في الكوفة مرة أُخرى. كما كان العراق مركز حكم الإمام الحسن بن علي، ووقعت فيه أهم فصول نهضة الإمام الحسين، كما عاش فيه الإمام الصادق وبلور المذهب الفقهي والعقدي لمدرسة آل البيت، كما عاش فيه الأئمة الكاظم والجواد والهادي والعسكري، وولد فيه الإمام المهدي، وفيه مراقد ستة من أئمة آل البيت (علي والحسين والكاظم والجواد والهادي والعسكري).

وفي العراق؛ ولد النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة على يد شيعة بغداد، وفي النجف تأسست عاصمة الشيعة الدينية العلمية([7])، أي أنّ العراق هو ماضي الشيعة وحاضرهم ومستقبلهم، وكأنّه القلب الذي تحيط به الأعضاء المجتمعية الشيعية الأُخر، من الشرق والغرب والشمال والجنوب، لتشكل معاً الجسد الواحد. ولعل شيعة العراق هم الأكثر تأثيراً في أحداث الشطر العربي من العالم الإسلامي في الوقت الحاضر.

ولم يتحمل شيعة العراق مهمة تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة وحسب، بل ظلوا أحد أهم مصادر تمويل هذا النظام ومرجعيته ومؤسسته الدينية، وكان تجار بغداد الشيعة، منذ عصر التأسيس وحتى الحكم البعثي، يقومون بهذا الدور بانتظام، رغم خطورته على حياتهم وأموالهم في ظل الحكومات الطائفية المتخاصمة مع الشيعة. وقد تعرض تجار بغداد الشيعة ـ في سبيل ذلك ـ إلى كل ألوان الأذى والاعتقال والتشـريد خلال الحكم البعثي([8]).

ويتميز المجتمع الشيعي العراقي بالذكاء التراكمي الحاد، وبكونه مجتمعاً عشائرياً، وباحتفاظه بكثير من أخلاقيات البداوة([9])، ومن ذلك عاطفته الجياشة وميله للفروسية، ووضوحه وشفافية نزعاته، وسرعة ردة فعله وتأثره، وسرعة غضبه ورضاه، وقلة صبره، وقدرته القيادية مقابل ضعف قدرته الإدارية. كما ينزع إلى العمل الفردي وصعوبة الحراك الجماعي المنظم، أو الحفاظ عليه، وهو ما ينعكس على أدائه السياسي والمعيشي غالباً.

وبمرور السنين؛ بدا وكأنّ النظام الاجتماعي الشيعي العالمي مطبوع بطابع مجتمعي عراقي، بالنظر الى الكثافة الشيعية المجتمعية المتفردة في العراق، والى كونه تأسس في الكوفة وبغداد والنجف، وأن مؤسسيه في عصر الغيبة هم عراقيون بغداديون بالأصالة أو السكن، وأن الشيعة غير العراقيين، كالفرس والآذريين والهنود والترك والمغول والكرد وغيرهم، أخذوا اجتماعهم الديني من شيعة العراق، وظلت بوصلتهم الاجتماعية الدينية ــ غالباً ـــ تتجه نحو الكوفة وبغداد والنجف وكربلاء والحلة.

وأوضح هنا نقطتين أساسيتين تتعلقان بدلالات مفهوم الاجتماع الديني الشيعي ومفهوم الاجتماع العراقي، وهما المفهومان اللذان تداخلا خلال قرون طويلة من الزمن؛ ظلت فيها مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي ثابتة في العراق:

الأولى: إنّ مفهوم الاجتماع الديني الشيعي يختص بالجانب الاجتماعي الديني، ونظامه وعقله ومنهجه المحرك، وسياقاته وسلوكه العام وعاداته وتقاليده، أي الظواهر الاجتماعية الدينية التي تشكل بمجموعها النظام الاجتماعي الديني الشيعي، كما فصّلنا في الفصل الأول من الكتاب.

الثانية: إنّ الاجتماع العراقي يتمثل في ظواهر البيئة الاجتماعية العراقية وسلوكياتها الأصلية المتكونة تاريخياً، وليس الاجتماع العراقي العربي الملحق، والممتزج بالاجتماع العراقي الأصلي؛ فسكان العراق الأصليون المؤسسون، هم: السومريون (سكان جنوب العراق) والبابليون (سكان الفرات الأوسط) والعيلاميون (أجداد الفيليين اللر في جنوب شرق العراق) والفرس (في شرق العراق) والكلدان (في الفرات الأوسط) وعرب المناذرة (الحيرة) وعرب التغالبة (الموصل) والآشوريون (شمال العراق)؛ فهذه القوميات كانت تشكل سكان العراق الأصلي، بخارطته الحالية، قبل الفتح الإسلامي للعراق، ثم استعرب أو استكرد أغلب سكان العراق الأصليين بمرور الزمن.

وبالتالي؛ فإن الاجتماع العراقي ليس عربياً بالأصل، ولم يتكون نتيجة هجرة العرب واستيطانهم فيه، بل هو اجتماع بين النهريني، سومري بابلي بالخصوص، وهو سابق على هجرة العرب الى العراق، بل أن العرب الذين استوطنوا العراق تطبّعوا بطباع أهله الأصليين، واستعرقوا، أي صاروا يفكرون كما يفكر العراقيون، ويسلكون سلوكهم، وبكلمة أخرى؛ أصبحوا جزءاً من عقله الجمعي، بينما تطبّع العرب الذين استوطنوا بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا وإيران؛ بطباع أهلها أيضاً، وهي طباع مختلفة عن طباع العرب المستعرقين.

وهناك مقولة تاريخية منسوبة إلى “الإسكندر المقدوني”، تحدث بها إلى أستاذه “أرسطوطاليس”، بعد أشهر على احتلاله بابل قبل (2400) عاماً وإسقاطه الدولة البابلية، أي قبل استيطان العرب العراق بحوالي (1000) سنة. في هذه الرسالة يصف “الإسكندر” أهل العراق ويشكوهم إلى أستاذه بقوله: ((لقد أعياني أهل العراق، ما أجريت عليهم حيلة إلاّ وجدتهم قد سبقوني إلى التخلص منها؛ فلا أستطيع الإيقاع بهم، إلّا أن أقتلهم عن آخرهم)). فأجابه الحكيم “أرسطو”: ((لا خير لك من قتلهم. لو أفنيتهم جميعاً؛ فهل تقدر على الهواء الذي غذى طباعهم؟ فإن ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم)). وهو يريد القول بأن العراقيين (البابليين والسومريين) شعب حاد الذكاء، كثير النقد والجدل، قليل الطاعة. وهي الطباع الحالية ذاتها، والتي سبق أن تطبّع بها العرب المهاجرون الى العراق قبل (1400) عام. وهنا يعيد “أرسطو” السبب الى البيئة التي تغذي العراقيين، أي الهواء والماء والتراب، وهي عوامل اكتشف تأثيرها علماء الإنثروبولوجيا والاجتماع والنفس الاجتماعي بعد مئات السنين من مقاربة “أرسطو”.

ورغم أن العراقيين الأصليين استعربوا بعد الفتح الإسلامي تدريجياً، إلّا أن هذا الاستعراب ربما اقتصر ــ غالباً ــ على اللغة والنسب والمعرفة الدينية وبعض العادات والتقاليد، ولم يستعربوا نفسياً وسلوكياً، بل لقد حدث العكس؛ إذ أن العرب المستوطنين هم الذين استعرقوا وحملوا طباع العراقيين، وذلك لأن سكان العراق الأصليين من البابليين والسومريين وغيرهم؛ كانوا بالملايين، وتقدرهم بعض المصادر التاريخية بثلاثة ملايين نسمة آنذاك، وهي أعلى نسبة كثافة سكانية في العالم حينها، بينما كان عدد العرب الفاتحين والمستوطنين، لا يزيد عن (100) ألف شخص، في أكثر التقديرات. وفي النتيجة؛ فإن العرب منحوا العراقيين أنسابهم ولغتهم ودينهم، ومنح العراقيون العربَ طباعهم، وكثيراً من عاداتهم وتقاليدهم.

بيد أن المؤرخين والرواة العرب وغير العرب في العصرين الأموي والعباسي، تجاهلوا وجود هذه الملايين من البشر من أبناء بلاد الرافدين، وكان كل تركيزهم في الروايات والأخبار والتأريخ، ينصب حصراً على القبائل العربية النازحة من اليمن والحجاز والجزيرة بعد الفتح، ودورها وفاعلياتها السياسية والعسكرية والاجتماعية، وكأنّ أرض العراق كانت خالية من السكان، وأنّ البابليين والسومريين تبخّروا فجأة، ولم تكن لديهم قبائل ولا رموز ولا شخصيات. وهذا التجاهل التاريخي لسكان العراق الأصليين هو أحد مظاهر عداون آل أمية ورواتهم ومؤرخيهم على العراقيين، والتي ظهرت نتائجها في العصر العباسي، على يد الطبري وابن الأثير وابن خلدون وابن الوردي وغيرهم، وكذا أصحاب الطبقات والتراجم والسير، الذين ترجموا لشخصيات المهاجرين والفاتحين العرب من الجزيرة واليمن حصراً، أو بعض عرب الحيرة وتغلب، ولم يذكروا أية شخصية عراقية أصلية، سومرية أو بابلية أو أكدية أو عيلامية، خلال عصر الفتوحات أو العصرين الأموي والعباسي، أصبح قائداً عسكرياً أو سياسياً أو ثائراً أو فقيهاً أو محدثاً أو مؤرخاً.

ولا شك أن بعض سلوكيات الفاتحين، إضافة الى سلوك آل امية الإقصائي وتعاملهم العنصري مع العراقيين؛ قد انعكس على رؤية العراقيين للرموز السلطوية الحاكمة الوافدة، وانعكس أيضاً على رؤيتهم لمدرسة آل البيت، وأسباب انحيازهم إليها، لأن موقف مدرسة آل البيت كان رافضاً لأي سلوكيات إكراه وعنصرية، حتى تبيّن للعراقيين بمرور الزمان، ولاسيما خلال خلافة الإمام علي، بأن مدرسة آل البيت هي مدرسة الدفاع عن الإنسان وحقوقه ومظلوميته، بغض النظر عن دينه وقوميته. مقابل ما كان الأمويون يمارسونه من ألوان الطغيان والاستعلاء ضد العراقيين الأصليين، وهو ما عبّر عنه صراحة والي الأمويين في العراق الحجاج الثقفي بقوله: (( يا أهل العراق.. يا أهل الشقاق والنفاق))، وذلك لأنهم كانوا يعارضون الظالم وحكمه وعقيدته.

ولم يكن انحياز العراقيين الى آل البيت ومظلوميتهم، ومشاركتهم في جميع الثورات العلوية ضد الأمويين والعباسيين، اعتباطياً أو ناشئاً من فراغ، بل هو إحساس بالمظلومية المشتركة، وبنقاء مدرسة آل البيت، وبأنها تمثل أصالة الإسلام وحقوق الإنسان والدفاع عن المظلوم، ولذلك؛ فإن الثابت التاريخي، هو أن الأغلبية الساحقة من القوميات العراقية الأصلية المؤسسة (السومرية والبابلية والعيلامية والعربية وغيرها)؛ قد تشيّعت مبكراً وطوعاً، أي منذ بداية دخول الإسلام الى العراق؛ ما يعني أن العراقي اختار المتاعب لنفسه بنفسه، منذ لحظة تعرفه على الإسلام، وذلك حين فضّل مذهب المعارضة (التشيع) على مذهب السلطة، لأن العراقي حين يكون شيعياً؛ فإن ذلك يجعله تلقائياً في مواجهة الدولة والحاكم، ومعارضاً للسلطة ومذهبها، وسيتعرض بمحض إرادته الى القمع والتشريد والاعتقال والقتل.

وفي المقابل؛ اختارت الشعوب المهاجرة الى العراق، أن تكون سنية غالباً، وتنخرط في مجتمع الدولة، وتدافع عن مذهب السلطة، وتعيش الاستقرار السياسي والاجتماعي والرفاه المعيشي، حتى باتت صاحبة الوطن والدولة والسلطة في العراق، بينما باتت الأقوام العراقية الأصيلة المؤسسة، تعيش غربة الوطن، وتُتّهم في انتمائها للعراق وفي وطنيتها، رغم أنها تشكل الأغلبية السكانية الساحقة، بل ولا يتردد هذا المستوطن المستعرق أن يتّهم السومري والبابلي العراقي الأصيل بأنه غجري وهندي وأعجمي ومجوسي وصفوي وتبعي!!.

وكان الملفت للنظر؛ أن القبائل العربية السنية المهاجرة من مناطق العراق الأخرى أو البلدان الأخرى؛ تتشيع تلقائياً، بمجرد مرور سنوات على إقامتها في الفرات الأوسط والجنوب العراقي وشرق العراق، وهي مناطق السكان العراقيين الأصليين: البابليين والسومريين والفيليين الشيعة، ثم تنصهر هذه القبائل بمناخات مستوطناتها الجديدة، وتتفاعل مع الاجتماع العراقي وتنعجن بطينه، وتذوب فيه، رغم أن قسماً من هذه القبائل العربية، كان يعيش بيئة بدوية ومتعصبة سنياً، وخاصة قبائل نجد وبادية غرب العراق والأردن والشام، ولكنها كانت تتحول تحولاً كبيراً، من النواحي المذهبية والاجتماعية والسلوكية، وتختار العقيدة الدينية المعارضة للحاكم ومذهبه، دون أن يجبرها أو يحتك بها أحد، بل تعرِّض نفسها طوعاً لكل أنواع القمع.

لقد اختار العراقي التشيع وظل في مواجهة الدولة، منذ العصر الأموي الأول وحتى العصر الأموي الأخير (البعثي)، وظل مستعداً للموت، ومفارقة الأهل والوطن، والهروب الى إيران وجبال القوقاز والهند وأفريقيا؛ على أن يكون ضمن مذهب السلطة واجتماع الدولة، ويعيش عيشة طبيعة ومستقرة. وهذا يعني أن الطبيعة العراقية التاريخية المتمردة على الظلم وعلى الحاكم واجتماع السلطة؛ قد انسجمت تلقائياً مع طبيعة المسار الشيعي المعارِض والمقموع منذ وفاة الرسول، وبمعنى آخر؛ اختار العراقيون التشيع، لأنه ينسجم في عقيدته وتكوينه التاريخي المعارض، مع العقل العراقي ومناخات إنتاجه، ومع البيئة العراقية المعارضة بالفطرة. ثم انعكست الطبيعة العراقية على السلوك الشيعي العام؛ ليس في العراق وحسب، بل في كل بلدان الحضور الشيعي، وظل هناك تأثير وتأثر بين التشيع ومسارات نشوء الشيعة واجتماعهم الديني والسياسي والثقافي من جهة، والبيئة العراقية المتحضرة المركبة من السومريين والبابليين والعيلاميين والفرس والكلدان والآشوريين وعرب الحيرة ونينوى من جهة أخرى، وطبع كل منهما الآخر بطابعه، وكانت التأثيرات الاجتماعية العراقية ومناخاتها واضحة في السلوك الشيعي، كما ظل تأثير الاجتماع الشيعي في طبيعة المجتمع العراقي واضحاً أيضاً.

ولعل سر التماهي والتشابك والتفاعل بين الاجتماع الشيعي والاجتماع العراقي، لا يتعلق بالتشيع والشيعة وحسب، بل بطبيعة البيئة العراقية الأصلية، أي البيئة السومرية البابلية المتحضرة للفرات الأوسط والجنوب، وتكوينها التاريخي، منذ خمسة آلاف سنة؛ فهي بيئة تنسجم نفسياً وسلوكياً مع عقيدة التشيع واجتماعه الديني ومساره التاريخي المتميز بالرفض والمعارضة والمقموع، بينما انسجمت المناخات الوافدة الى العراق، أي غير العراقية، مع مسار السلطة وتطبّعت بطابعه، حتى إن الغالبية الساحقة من الثورات والحراكات الثورية الشيعية ضد السلطة الظالمة حدثت في العراق، منذ نهضة الإمام الحسين وثورات التوابين والمختار وزيد، وحتى انتفاضات النجف والصدر والشعبانية، أي أن العراق بقي طيلة (١٣5٠) عاماً، يشكل جغرافيا الصراع المستدام بين السلطة السنية (أموية وعباسية وأيوبية وسلجوقية وعثمانية وبريطانية وحجازية وبعثية.

وفي الوقت نفسه؛ ظلت بيئة الشام ومصر وشمال أفريقيا أيضاً؛ منسجمة مع السلطة في العهود الأموية والعباسية والأيوبية والسلجوقية والمملوكية، ولم تشهد ثورات وحراكات ضد السلطة؛ إلّا تلك التي قادها العلويون والشيعة الهاربون من العراق والحجاز، بل حتى الدول التي أسستها المعارضة في شمال العراق والشام ومصر، كانت دولاً شيعية، كالحمدانية والإدريسية والفاطمية، وكثير من قادتها كانوا عراقيين، ولكن حين سقطت هذه الدول؛ فإن القادة العسكريين العباسيين، كصلاح الدين الأيوبي، الذين تمكنوا من القضاء على الأغلبية الساحقة من الوجودات الاجتماعية الشيعية في هذه البلدان؛ قد فشلوا في العراق فشلاً ذريعاً، ولم يستطيعوا تفكيك المجتمع الشيعي العراقي؛ إذ ظل الشيعي العراقي عصياً على الاجتثاث، بفضل طبيعيته الذاتية المقاومة المعارضة الصعبة، بل بقي يتمدد اجتماعياً ومذهبياً، رغم استمرار محاولات الخصوم، وتنوع أشكال هذه المحاولات ومضامينها، كلما حلّت سلطة جديدة، حتى يبدو للباحث أن الحالة الواقعية المنسجمة مع قواعد الإنثروبولوجيا والسسيولوجيا وعلم النفس الاجتماعي، هي أن يكون العراقي شيعياً بالفطرة وبالتكوين.

وأعتقد أن شيعة البلدان الأخرى الذين تمسكوا بوجودهم الاجتماعي الديني وانتمائهم للتشيع؛ قد اقتبسوا من شيعة العراق واجتماعهم المقاوم الحاد؛ هذه السلوكية، العصيّة على الاستسلام للآخر المذهبي وسلطته وقمعه، بمن فيهم شيعة إيران، الذين يشكلون اليوم الأكثرية الشيعية السكانية في بلدهم؛ فالذي زرع بذور التشيع في ايران ونشره هم العراقيون، ابتداءً من قم والري وخراسان والديلم والأهواز، والذي أسس للاجتماع الشيعي في ايران هم العراقيون، والذي قاد الثورات الشيعية وأسس أولى الدول الشيعية في إيران، هم العراقيون؛ فقد كان القادة والمؤسسون فيها عراقيين غالباً، بينما كان الفرس والآذريين واللر مادة هذه الثورات والحراكات والدول، حتى نرى اليوم؛ إن الإيرانيين حين يتغنون بالثورة والمقاومة؛ فإنهم يضعون أسماء الرموز الشيعية العربية والعراقية في المقدمة، بدءاً بالإمام الحسين ومالك الأشتر والمقداد وعمار والعباس وحبيب والحر، وليس انتهاءً بالتوابين والمختار، وهو ما يؤكد أن الاجتماع الديني الشيعي، بصيغه المحلية والعالمية، هو نتاج تفاعل البيئة العراقية الأصلية واجتماعها وسلوكياتها، مع مسارات نشوء التشيع وحراكاته العقدية والسياسية.

ورغم أنّ المجتمع الشيعي العراقي ظل يشكل الغالبية السكانية العددية في العراق، منذ قرون طويلة، إلّا أنّ السلطة ظلت بيد حكام سنة طائفيين، منذ عبيد الله بن زياد، أول حاكم أُموي، وحتى صدام حسين، آخر حاكم أُموي، باستثناء فترات زمنية حكم فيها المختار الثقفي ثم الشيعة البويهيون والصفويون. وهذا الفصام المذهبي بين النظام الحاكم والمجتمع الشيعي العراقي، تسبب في علاقة فصام سياسي تراكمي بين شيعة العراق والدولة، جعل الشيعة (وهم الأكثرية السكانية) كتلة معارضة دائمة للدولة، وجعل النخب السنية (وهم الأقلية السكانية) كتلة حاكمة دائمة للدولة، وهي ظاهرة حصرية بالعراق، غير موجودة في أية دولة في العالم، حتى ظل الشيعي، يعيش هاجس المواطنة والانتماء للدولة العراقية، حتى في ظل ما سمي بالدولة العراقية الحديثة التي تأسست بعد العام 1921، بل تكرس هذا الهاجس في عهد السلطة البعثية بعد العام 1968.

ورغم انهيار الاجتماع السياسي العراقي التقليدي الموروث في العام 2003، فإنّ المجتمع الشيعي العراقي الذي بدأ ينفض عنه غبار الفصام مع مجتمع الدولة، ويعيش بالتدريج حالة الانتماء الطبيعي للدولة؛ ظل يتعرض لأبشع ألوان المهددات الإرهابية وضغوطات الإفشال من ناحية الجماعات العنصـرية الطائفية الداخلية ومن الأنظمة الخارجية المتماهية معها والداعمة لها بالمطلق؛ للحيلولة دون تبلور الاجتماع السياسي العراقي الجديد الذي يشكل الشيعة ركناً أساسياً فيه، ودون نجاح تجربة المشاركة الشيعية في قيادة الدولة والحكم. وقد ساهمت حداثة خبرة الجماعات السياسية الشيعية في الإدارة الحكومية، وخلافاتها البينية، وبعض مظاهر الفساد المالي والإداري الذي تورط فيه بعض عناصرها، في إعطاء الفرصة للخصوم الداخليين والخارجيين لاستغلال هذه المظاهر والمبالغة فيها، والتغطية على فساد الجماعات الكردية والسنية وفشلها، من أجل تحريك الشارع الشيعي ضد التجربة الجديدة.

والمفارقة هنا، هي أنّ مشاركة القوى السياسية والاجتماعية والدينية الشيعية في قيادة الدولة العراقية الجديدة؛ تسببت في تحمّل المجتمع الشيعي العراقي كل الأعباء المعنوية للدولة، وباتت النخبة الدينية والسياسية الشيعية مضطرة إلى تقديم المزيد من التنازلات السياسية والثقافية والمالية، من أجل مصالحها الفئوية ـ أحياناً ـ أو من أجل بقاء عجلة الدولة تدور وبقاء العراق موحداً ـ أحياناً أُخر.

ومن تلك التنازلات قبولها بظواهر المحاصصة التوازنية المكوناتية التي أفرزها النظام السياسي الجديد الذي تأسس بعد العام 2003، الأمر الذي سلب من المجتمع الشيعي، حقه الديمقراطي، بوصفه مجتمع الأكثرية السكانية، في أن يكون رئيس الدولة شيعياً، كما سلب حقه في أن تكون مناصب الشيعة في الدولة منسجمة مع نسبتهم السكانية، وأن تكون الحكومة منسجمة عقدياً وسياسياً وثقافياً مع مذهب الأكثرية، وأن تشهد مناطق الوسط والجنوب المحرومة نمواً بنيوياً اقتصادياً وخدماتياً مستداماً.

وهذا لا يعني أنّ مطالبة المجتمع الشيعي العراقي بحقوقه الطبيعية المذكورة، ينبغي أن تؤدي إلى تحول الدولة العراقية إلى دولة شيعية، بل يعني أن تراعي القانون والنظام الدولة حق الأكثرية السكانية المذهبية في كل المجالات، وألّا تُكسر ـ دائماً ـ جرّة اللحمة الوطنية والتوازن بين المكونات وتأليف القلوب، برأس المجتمع الشيعي العراقي دون غيره، وأن يبقى هو (أم الولد) التي تتحمل المغارم وحدها، بينما تتوزع المغانم على الآخرين. ولعلّ المفارقة الأُخرى، هي أن يوصم الشيعي الذي يتكلم بمنطق العدالة الواقعية والإنصاف العملي، بالطائفية وانعدام الوطنية، بينما يكون السني الذي يجهر بحقوق طائفته ـ بكل قوة ـ وطنياً، والكردي الذي لا ينظر إلّا إلى مصالحة القومية ابناً باراً للعراق. وهو ما ظل ينعكس سلباً على علاقة المجتمع الشيعي العراقي بالدولة الجديدة والنخبة الدينية والسياسية الشيعية. وبالتالي، بقي التغيير المأمول بعد العام 2003 مبتوراً وناقصاً، رغم أهمية التغيير وكونه يشكل صدمة تاريخية كبرى للدولة العراقية الموروثة.

لذلك، لم يكن التآمر ضد شيعة العراق تآمراً عادياً يوماً، بل هو تآمر وجودي اجتثاثي، منذ عهد الاحتلال الأُموي، ثم الحكم العباسي، ثم العثماني، وصولاً إلى الاحتلال البريطاني والحكم الملكي الحجازي، ثم الحكم الجمهوري والحكم البعثي، وأخيراً الاحتلال الأمريكي. كل هذه الاحتلالات والحكومات كان هدفها استئصال التشيع أو حرفه وتدجينه، وتطويع الشيعة أو اجتثاثهم؛ لأنّ الخصوم، خاصة الأنظمة الطائفية العربية ومؤسساتها الدينية، لا يزالون يعتقدون بأنّ تطويع المجتمع الشيعي العراقي أو اجتثاثه، هو المقدمة الأساسية لاستئصال التشيع بشكل عام؛ لأنّ المجتمع الشيعي العراقي هو قلب الجسد الشيعي العالمي، كما يصفونه.

وأسوق هنا مثالاً على طبيعة تفكير الخصوم حيال شيعة العراق، وهو مثال كنتُ طرفاً فيه. ففي العام 2008 دخلت في حوار مع شيخ وهابي سعودي في بيروت حول مشكلة الوهابيين مع الشيعة، وإمكانية الوفاق بين الشيعة والوهابيين على قاعدة التعايش وعلاقات مصالح الجغرافيا والأوطان، فكان يردد بكل صراحة ما مضمونه: «صحيح أنّ مشكلتنا هي مع الوجود الشيعي بشكل عام، لكن مشكلتنا الأساسية هي مع شيعة العراق تحديداً، منذ تأسيس الدولة السعودية الأُولى وحتى الآن، وصحيح أيضاً أنّ شيعة لبنان وإيران هما عائقان كبيران أمام تحقيق مشروعنا، وأن إيران هي مصدر الحماية، وأن شيعة لبنان هم صوت الشيعة العالي، لكننا نستطيع تفادي خطرهما إلى حد كبير، لكن شيعة العراق هم المارد الذي يرعبنا؛ فهم كثرة نوعية عنيدة مندفعة، ومثقفة مذهبياً، ولديهم عدد كبير من علماء الدين والخطباء والمؤلفين، ولديهم تنظيمات سياسية ومسلحة قوية، ولأنهم عرب؛ فلا تعيقهم اللغة والمعرفة باللهجات الثقافة العربية، من النفوذ في المجتمعات العربية السنية، وهذا ما لا يستطيع الشيعي اللبناني أو الإيراني أو الهندي القيام به. ولو سمحنا لمشايخ شيعة العراق ومثقفيهم بالسفر كما يشاؤون، وممارسة التبليغ المذهبي؛ لتحول 50 % من السنة العرب إلى شيعة خلال خمسين سنة فقط. وها هم الآن متغلغلون في مسارات الدبلوماسية العربية عبر سفارات العراق وجامعة الدول العربية ومؤسساتها. لذلك، من الطبيعي أن تقوم الدولة السعودية وغيرها من الدول السنية، وخاصة بعد العام 2003، بإلهاء شيعة العراق وإشغالهم بمزيد من الأزمات والمشاكل، وضربهم من الداخل، وإشعال الصراعات بين كتلهم الاجتماعية والسياسية، وخلق العداء بينهم وبين شيعة إيران وشيعة لبنان».

وأرى أنّ ما قاله هذا الشيخ السعودي الوهابي لا يحتاج إلى تفسير؛ فهو يشكل القاعدة الإيديولوجية لمخطط الاجتثاث الذي وضعه بندر بن سلطان رئيس المخابرات السعودية في العام 2013، والذي ينتهي ـ كما في الخلاصة التي كشفت عنها صحيفة الاندبندنت البريطانية ـ بتحويل شيعة العراق إلى مشردين، كاليهود في عصر النازية([10]). وهو ما تنبهت له الولايات المتحدة الأمريكية بعد العام 2011، وبدأت منذ ذلك الحين بدعم مخططات الأنظمة الطائفية العربية المعادية للمجتمع الشيعي العراقي.

وفي إطار الاجتماع الديني الشيعي العراقي، هناك اجتماع ديني شيعي متفرد وأكثر خصوصية، وهو الاجتماع الديني النجفي، وهو الاجتماع الذي يتمدد في بنيته وظواهره على الاجتماع الديني العراقي نفسه، وتجاوزه غالباً، بوصفه اجتماع العاصمة الدينية العلمية التاريخية للشيعة في العالم. ولذلك، فإنّ التعرف على بنية الاجتماع الديني النجفي وظواهره العامة والخاصة، تسهل معرفة خصوصيات النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ لأنّ الحضور المركزي المتجذر لرأس المنظومة (المرجعية الدينية) وجهازها الديني العلمي (الحوزة العلمية) في البيئة الجغرافية السكانية للنجف الأشرف؛ حوّل ظواهر الاجتماع النجفي المتراكمة إلى جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي الديني الشيعي بصياغته التاريخية والعالمية، كما جعل سوسيولوجيا النجف واحدة من أعقد السوسيولوجيات في العالم؛ إن لم تكن هي الأعقد.

إنّ الاجتماع الديني النجفي هو اجتماع عالمي بعناصره الإنسانية والفكرية والميثولوجية، وبثقافته الاجتماعية؛ أي أنّ تكوينه الإنساني تكوينٌ عالمي([11])؛ لأنّ النجف تحوّل تلقائياً إلى أرض هجرة مكثفة، منذ تمركز الحوزة العلمية فيه قبل حوالي ألف سنة، والتي حوّلت جغرافيا النجف إلى مركز جذب واستقطاب قوي للشيعة من كل أنحاء العالم لدراسة العلوم الدينية، بفضل مؤسسها الشيخ الطوسي، القادم من مدينة مشهد الإيرانية. فضلاً عن أنّ وجود مرقد الإمام علي ظل محور استقطاب للشيعة أيضاً، لا سيما مع ظهور العمارة الأُولى للمرقد على يد آل شهريار، الأُسرة العلمية القادمة من مدينة قم الإيرانية، والتي أسست لنظام السدانة للمرقد، وظل أفرادها سدنة له طوال قرنين تقريباً([12]).

وفي الوقت نفسه كانت هناك أُسر عربية عراقية، ولا سيما تلك التي تعود جذورها إلى عشائر الكوفة والحيرة، وكذا البغدادية التي انتقلت مع الشيخ الطوسي، تمارس دورها في المساهمة بتأسيس حاضرة النجف. ثم أعقبها هجرة أفراد من القبائل النجدية والحجازية، والذين تحوّلوا إلى أُسر نجفية كبيرة. وهكذا كان للأُسر الإيرانية والعراقية والنجدية والحجازية الفضل في تأسيس الاجتماع الديني النجفي. وبرغم أنّ الانتماء الاجتماعي لهذه الأُسر كان حضرياً وريفياً وبدوياً، إلّا أنّ طابع الاجتماع البدوي تكرّس في النجف بمرور الزمن وبتكاثر هجرة القبائل النجدية والحجازية؛ بسبب وقوع النجف على حافة مجموعة بوادي شاسعة، هي بادية النجف الممتدة إلى بادية السماوة، وبادية الأُردن الممتدة إلى بادية كربلاء وغرب العراق والشام، وبادية نجد الممتدة إلى بادية الحجاز.

وقد كانت القبائل البدوية العربية التي سكن بعض أبنائها النجف؛ قبائل نجدية وحجازية سنية غالباً، ثم تحولت إلى التشيع بفعل قناعتها الدينية بالمذهب، وليس بالوراثة؛ ما جعلها أُسراً شيعية متدينة. وظلت هذه الأُسر ذات الأُصول البدوية تشكل الحماية المسلحة للنجف، بعد أن تركت الترحال واستقرت، واشتغل أبناؤها غالباً في التجارة والكسب، مع احتفاظهم بكثير من عادات البدو وتقاليدهم، ولم يدخلوا الحوزة العلمية إلّا نادراً. ولعل أغلب أُسر طرف (محلة) «المشراق» وطرف (محلة) «العمارة» تعود جذورها إلى هذه القبائل.

في حين كانت الأُسر الإيرانية، الشيعية أساساً، تهاجر إلى النجف لطلب العلم الديني ودخول الحوزة العلمية غالباً، وليس من أجل الاستقرار المعيشي؛ أي أنّها أُسر متدينة بالأساس. أمّا العشائر والأُسر العراقية، سواء الحضـرية أو الريفية، والشيعية أصلاً أو السنية المتشيعة؛ فإنّ هجرتها إلى النجف كان لأسباب دينية غالباً؛ أي طلباً للعلم أو مجاورة مرقد الإمام علي. وهذا لا يعني أنّ بعض أبناء الأُسر ذات الأُصول البدوية لم يدخلوا سلك طلبة العلوم الدينية، أو أنّ بعض أبناء الأُسر الإيرانية لم يدخلوا معترك التجارة والكسب والمهن. واستمر الاجتماع الديني والسياسي والثقافي النجفي في حالة مخاض طوال خمسة قرون، بسبب التحولات الديموغرافية فيه؛ حتى أخذ يتبلور خلال القرون السادس عشر إلى الثامن عشر الميلادي.

الذي أُريد قوله: إنّ الطابع الديني التأسيسي للنجف بفعل هجرة المتدينين الشيعة إليه؛ بهدف مجاورة مرقد الإمام علي أو دراسة العلوم الدينية، أو بفعل هجرة السنة المتحولين إلى التشيع، جعل مظهره الاجتماعي مظهراً دينياً؛ وليكون مجتمعه هو مجتمع الحوزة العلمية والمرجعية الدينية([13]). هذه المعطيات تقود إلى مجموعة نتائج:

1 ـ إنّ الأُسر المؤسِسة للنجف هي أُسر عراقية وإيرانية ونجدية وحجازية غالباً. أمّا المهاجرون الآخرون من باقي بلدان العالم؛ كالبحرين ولبنان وأفغانستان والهند وتركيا والقوقاز؛ فقد هاجروا في مراحل لاحقة، وكان دورهم في تشكيل المجتمع النجفي محدوداً.

2 ـ قام الاجتماع الديني النجفي العالمي على قاعدة إذابة القوميات والوطنيات لمصلحة المذهب ومجتمع المذهب (الطائفة)؛ فالمهاجرون الذين ينتمون إلى عشرات القوميات والوطنيات، تعايشوا ابتداءً، ثم تجانسوا، ثم تضامنوا، ثم ذابوا ببعضهم؛ ليشكلوا نسيجاً اجتماعياً واحداً لا يمكن التمييز فيه بين العربي النجدي البدوي، والفارسي الخراساني الحضري، والعراقي الفراتي الريفي. ولذلك، تتفرد النجف في القابلية على إذابة عادات المهاجرين وتقاليدهم بعد مرور فترة على استقرارهم فيها.

3 ـ إنّ الأُسر التي شكّلت المجتمع النجفي هي أُسر متدينة أساساً، أو تزامن تدينها مع استقراها في النجف. ولذلك، ظلت جزءاً من الحوزة العلمية والمرجعية النجفية، أو أنّها حليفة للحوزة والمرجعية وحامية لهما.

4 ـ كانت الأُسر الفاعلة اجتماعياً هي الأُسر ذات الأُصول البدوية غالباً. لذلك، ظل طابع البداوة هو الغالب في النجف؛ لكنها بداوة من نوع خاص، أي أنّها بداوة بمظهر حضري وثقافة مذهبية وسطية، وهو ما انعكس أيضاً على طبيعة الشخصية النجفية: العاطفية، الطيبة، الكريمة، الصاخبة، المتهورة في شجاعتها، المسكونة بنزعة التفوق والتميز. ويمكن تلمس هذه المواصفات بشكل جلي في طبيعة مراسيم إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين في النجف.

5 ـ إنّ الاندماج بين أفراد الأُسر النجفية من الكَسَبة والتجار وعلماء الدين، والمصاهرات والشراكات الاجتماعية بينهم؛ تجعلهم يعرفون خصوصيات بعضهم الآخر، ويتعاملون على أساسها تلقائياً؛ فهم ينشؤون معاً ويلعبون معاً ويكبرون معاً. لذلك، تظل نظرة الكاسب النجفي إلى الفقيه النجفي هي نظرة الصديق والند والنظير، بعيداً عن حالة القداسة للزي الديني غالباً، على عكس نظرة أبناء المجتمعات الشيعية الأُخر إلى الزي الديني. وقد استثمر الشيوعيون والبعثيون الوجه السلبي لهذا الواقع؛ لضرب وحدة المجتمع النجفي، إذ كان الشيوعيون النجفيون أول من جرّأ الناس على العلماء وطلبة الحوزة في النجف، ثم سار البعثيون النجفيون على خطاهم، ولكن بقسوة أكبر ومساحة أوسع.

6 ـ إنّ أضلاع مثلث الرمزية في المجتمع النجفي، هم:

أ ـ الرمز الديني: ابن الحوزة، وهو المنتمي إلى الأُسر (البيوتات) الدينية، أو ما يصفه بعض المتخصصين بالأرستقراطية الدينية.

ب ـ الغني: ابن السوق، وهو المنتمي إلى الأُسر (البيوتات) التجارية والمالية، أو ما يسمى الأرستقراطية المالية.

ت ـ الوجيه: ابن الطرف (المحلة)، وهو المنتمي إلى الأُسر (البيوتات) الاجتماعية، أو ما يسمى بالأرستقراطية الاجتماعية.

وقد ظل الوجيه (ابن الطرف)، والغني (ابن السوق) يحميان الرمز الديني (ابن الحوزة)، ويحافظان على وجود الحوزة ومنتسبيها؛ سواء بدافع المصلحة الدنيوية أو دافع العاطفة الدينية أو دافع مشاعر حماية الجار، ولا يسمحان بالتجاوز على الحوزويين القادمين من خارج العراق أو من خارج النجف (المهاجرين). ولكن هذه الحالة العامة لم تكن تمنع بروز حالات خاصة محدودة؛ ركز عليها الشيوعيون والبعثيون، ولا يزالون منذ أربعينات القرن الميلادي العشـرين، والمتمثلة بالاعتداء والتجاوز على الحوزة العلمية ومنتسبيها، بدوافع إيديولوجية وسياسية. ولذلك، ينبغي هنا الإشارة إلى حقيقة مفصلية تتمثل في مخاضات الاستحالة الاجتماعية التي لا يزال النجف يعاني منها منذ العام 1958، بفعل سياسات الحزبين الشيوعي والبعثي في فرض وقائع اجتماعية قسرية جديدة عليه؛ بهدف ضرب المجتمع النجفي في صميم تركيبته التاريخية الموروثة، والتي ظلت تشكل الحماية الاجتماعية للمنظومة الدينية الشيعية طوال عشرة قرون.

ومن المناسب ـ أيضاً ـ أن نعيد هنا ذكر مفارقة تاريخية، وهي أنّ حاضرة النجف الأشرف وحوزتها قد أسسهما الشيخ الطوسي المشهدي الإيراني في العام(449 هـ/ 1057م)، وكان سدنة الروضة الحيدرية (مرقد الإمام علي بن أبي طالب) ورؤساؤها آل شهريار القمّيين الإيرانيين؛ فإنّ حاضرة قم وحوزتها أسسهما آل الأشعري الكوفيين العراقيين في العام (73 هـ/693 م)، وحوّلوها من قرية فارسية سنية إلى حاضرة عربية شيعية، وكان جميع علمائها الأوائل من الكوفيين العراقيين، وأبرزهم: الشيخ أحمد بن إسحاق الأشعري الكوفي، الذي كان يسمى «شيخ القمّيين»([14]).

3ـ المجتمع الشيعي الإيراني:

يُعدّ المجتمع الشيعي الإيراني تاريخياً، ثالث مجتمع يعتنق التشيع، بعد مجتمعي الحجاز والعراق، وهو في الحال الحاضر الكتلة السكانية الشيعية المنظمة والنوعية الأكبر، وهو حلقة الوصل الفاعلة بين شيعة شرق وشمال آسيا، وخاصة شيعة الهند وباكستان وأفغانستان وآذربيجان والقوقاز، والشيعة العرب، وخاصة شيعة العراق والخليج ولبنان، وبكلمة أُخرى؛ فإنّ المجتمع الشيعي الإيراني هو الجامع المشترك بين الشيعة الفرس والشيعة العرب؛ بالنظر لما يضمه من مشتركات إنسانية واجتماعية وثقافية مع الطرفين.

ويتداخل المجتمع الشيعي الإيراني مع المجتمع الشيعي العراقي تداخلاً كبيراً، على المستويات الإنسانية والاجتماعية والثقافية. وينطوي هذا التداخل، المتفرد ربما على مستوى العالم، على مفارقة متعارفة في معادلات علم الاجتماع الديني؛ فالمجتمعان الشيعيان العراقي والإيراني هما الأكثر قرباً من بعضهما، والأكثر تكاملاً وتكافلاً وتبادلاً للحماية والدعم، في المجالات الدينية والسياسية والمالية وغيرها([15])، ولكن، في الوقت ذاته، هما الأكثر تنافساً في المجالات نفسها. ويعود هذا التنافس إلى كونهما المجتمعين الأكثر أهمية وفاعلية وإنتاجاً على المستوى المذهبي، ويتمتعان بالمؤهلات العلمية الدينية والاجتماعية الدينية المتشابهة التي لا تتوافر في غيرهما من المجتمعات الشيعية. وهذا التنافس ظل ـ دائماً ـ دافعاً للفاعلية والإنتاج الكمي والنوعي من المجتمعين، كما ظل أيضاً عرضة للاستغلال من الخصوم، من أجل ضرب المجتمعين.

ويتميز المجتمع الشيعي الإيراني، منذ العصـر البويهي وحتى الآن، بأنّه مجتمع الدولة، وقوام الاجتماع السياسي للبلاد، وهو ما لا يتوافر في أي مجتمع شيعي معاصر آخر([16]). كما تتميز جغرافيا المجتمع الشيعي الإيراني بأنّها ـ منذ العصر الأُموي ـ مأوى للشيعة العرب، وخاصة ذرية رسول الله وأئمة آل البيت، المهاجرين إليها تخلصاً من قمع السلطات الأُموية والعباسية والعثمانية وما تلاها من حكومات محلية طائفية، ولذلك؛ يشكل الإيرانيون من أصل عربي، بمن فيهم العلويون (السادة)، نسبة كبيرة جداً من عدد سكان إيران، وفق تجارب فحص الـ DNA([17]).

ولم يشكل المجتمع الإيراني حماية اجتماعية شاملة للشيعة العرب الفارين وحسب، بل كان يدعو البارزين من العلويين (السادة) ـ أعني المنتمين نسبياً إلى الإمام علي بن أبي طالب ـ المهاجرين إلى التصدّي لقيادته الدينية والسياسية. ولذلك، كانت الدولة العلوية في طبرستان في القرنين الثالث والرابع الهجريين، والتي أسسها الإيرانيون بقيادة العلويين المهاجرين، أول دولة شيعية في التاريخ (بعد دولة المختار في العراق)، وتلتها دول أُخر كثيرة. وظلت الدولة الإيرانية منذ العصـر البويهي، دولة شيعية بكل تفاصيلها العقدية والسياسية، وبكل ممارستها ومظاهرها. وتكرس ذلك بعد بدء العصـر الصفوي، ولا يزال، وهو ما جعل المجتمع الإيراني يعيش حالة المواطنة بشكل طبيعي، دون أي تمييز مذهبي، ولا يعاني من الفصام الاجتماعي السياسي مع الدولة.

کما يتميز المجتمع الشيعي الإيراني بقدرته على الإدارة الحكومية وعلى التخطيط والنفوذ، وهو يستحضر خبرته التراكمية التي تعود إلى العصر الذي كان فيه الفرس والرومان يتقاسمان النفوذ في العالم، كما تتغلب فيه صفات الصبر والنفس الطويل والعمق والحكمة والدقة في العمل، والتريث في رد الفعل. وتتمازج هذه الصفات، الخاصة بالمناخ الاجتماعي الإيراني، مع الصفات العامة التي ينزع إليها عموم الشيعة، وفي مقدمتها النزعات العاطفية الشديدة والوجدانية. وهذه السمات الخاصة والعامة بمجموعها، تجعل المتخصصين يعتقدون بأنّ المجتمع الشيعي الإيراني هو بمثابة العقل المركزي للشيعة. وقد أصبح التشيع بالنسبة للفرد والمجتمع الإيراني، بمرور الزمن، هويةً متكاملة على كل الصعد الاجتماعية والثقافية والعبادية والعقدية والسياسية، وليس مجرد هوية مظهرية وعقدية وعبادية، على العكس من المجتمعات الشيعية التي تعاني القمع، والسبب يعود الى الوحدة التكاملية بين السلطة الشيعية التراكمية والأكثرية السكانية الشيعية الساحقة، وهي ثنائية لا يحظى بها أي مجتمع شيعي آخر، وإن باتت المجتمعات العراقية بعد العام 2003، واللبنانية بعد العام 2006، واليمنية بعد العام 2012، تقترب من هذه الظاهرة، لكنها لاتزال بحاجة الى مزيد الوقت.

ويُعدّ المجتمع الشيعي الإيراني ـ منذ قرون ـ المصدر الرئيس لتمويل المرجعية والمؤسسة الدينية الشيعية وإعمار المراقد والمزارات، ودعم عموم النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وتلعب أسواق (بازارات) طهران وتبريز ومشهد وإصفهان وتجارها دوراً رئيساً في هذا المجال، ويساعد على ذلك تشجيع السلطة السياسية في إيران، منذ العصـر البويهي، للتجار الإيرانيين، بدعم مؤسسات النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

4ـ المجتمع الشيعي اللبناني:

يُعدّ المجتمع الشيعي اللبناني من المجتمعات العريقة في تشيعها، فهو يعود تاريخياً إلى عصر صدر الإسلام، وظلت تسمية سكان «جبل عامل» هي التعبير التاريخي عن جغرافيا المجتمع الشيعي اللبناني، رغم انتشارهم في أغلب أراضي لبنان. وقد تسنى لشيعة لبنان إقامة أكثر من إمارة شيعية، أقدمها إمارة «بني عمار» في طرابلس([18]). ولكن بعد سقوط الدولتين الفاطمية في مصر والحمدانية في سورية، واللتين شكلتا حماية سياسية لشيعة لبنان؛ فإنّ المجتمع الشيعي اللبناني تعرض لحملات اجتثاث وتدمير وقتل رهيبة خلال حكم الدول: الزنكية، والأيوبية، والعثمانية، حتى إنّ كثيراً من الأُسر الشيعية اللبنانية تحولوا إلى التسنن أو المسيحية هرباً من القتل؛ لأنّ الدولة العثمانية كانت تعدُّ شيعة لبنان كفاراً مهدوري الدم، بينما كان المسيحيون أهل ذمة ويعيشون بأمان.

هذا الواقع حوّل شيعة لبنان إلى مجتمع مهمّش سياسياً وفقير اقتصادياً ومتخلف تعليمياً. وتراكمت هذه الحالة بشكل كبير، حتى ظهور مرحلة التغيير التاريخي الحاسم للمجتمع الشيعي اللبناني، والتي جرت فصولها خلال عقود الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وصولاً إلى تحول شيعة لبنان إلى الرقم السياسي الأول في لبنان بعد العام 2000، وتحديداً بعد النجاحات الستراتيجية التي حققوها في المعركة المتواصلة مع إسرائيل، والتي ظلت الأنظمة العربية وجيوشها وإعلامها تفشل فيها منذ العام 1948، حتى بات المجتمع الشيعي اللبناني عنواناً رئيساً لعنفوان الشيعة العرب وفخرهم، بل إنّ المجتمع الشيعي اللبناني حقق لكل اللبنانيين انتصارات تاريخية لم يكن أي منهم يجرؤ حتى على التفكير فيها، ومنها أنّه فرض تغييراً جذرياً على نظرة العرب إلى لبنان، من مجرد بلد للسياحة واللهو والترفيه والتحرر من القيود الاجتماعية والدينية، إلى حاضنة للانتصارات الستراتيجية على إسرائيل وجيشها، وبعقول وأيدي إسلامية عقدية. وهنا تكمن المفارقة الكبرى التي خلقتها مرحلة الصعود الشيعي خلال الأربعين عاماً الأخيرة([19]).

ويتميز المجتمع الشيعي اللبناني بمرونته الاجتماعية وانفتاحه الثقافي، وكونه مجتمعاً متماسكاً. وقد لعب النظام السياسي المؤسَّس بعد العام 1934، والذي يكفل حرية التعبير والتمذهب، بما لا يتوافر في أية دولة عربية أُخرى (باستثناء العراق بعد العام 2003)، إضافة إلى نهضتهم التعليمية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والسياسية المتسارعة خلال الستين عاماً الأخيرة، في جعل شيعة لبنان قناةً فاعلة للتواصل مع الضفة السنية في العالم العربي، والصوت الشيعي العربي الأعلى في مجالات الإعلام والطباعة والنشر؛ إذ ظل المجتمع الشيعي اللبناني، النافذة التي يطل عبرها الإنتاج المعرفي والفكري والثقافي الشيعي، على البلدان العربية، ولا سيما الإنتاج العراقي والإيراني، من خلال الصحف وطباعة الكتب والدوريات الشيعية ونشرها.

5ـ المجتمع الشيعي الآذربيجاني:

المجتمع الشيعي في جمهورية آذربيجان هو امتداد إنساني ووطني ومذهبي للمجتمع الشيعي الإيراني عموماً، والمجتمع الآذربيجاني الإيراني خصوصاً، على اعتبار أن جمهورية آذربيجان وغيرها من أراضي القوقاز الجنوبي، كانت حتى العام 1828جزءاً من أراضي إيران، قبل احتلالها من روسيا القيصـرية، إثر هزيمة إيران في حربين كبيرتين مع روسيا([20]). وقد أدى ذلك إلى تمزق اجتماعي وإنساني كبير في المجتمع الشيعي الآذربيجاني؛ إذ بقيت الأكثرية القومية «الآذرية» (الآذربيجانية) تعيش في مناطقها ضمن الدولة الإيرانية، بينما انفصلت الأقلية الآذرية التي اقتطعت روسيا أراضيها من إيران، وبقيت في آذربيجان الشمالية ومناطق قره باغ ونخجوان ولنكران، وهي مناطق ذات حضور قومي آذربيجاني كثيف.

وبعد تأسيس الاتحاد السوفيتي وضم آذربيجان إليه، منعت السلطات الشيوعية استمرار تواصل الشيعة الآذريين في الجمهوريات السوفيتية، مع مؤسساتهم الدينية الشيعية في إيران والعراق، وهو التواصل الطبيعي الذي ظل قائماً طوال قرون مديدة، شأنهم شأن كل المجتمعات الشيعية الأُخر. وحينها استمر نزوح الآذربيجانيين إلى الداخل الإيراني والى العراق، هرباً من القتل أو من عمليات السلخ الديني المذهبي الاجتماعي، وذلك استمراراً لنزوحهم الكبير بعد الاحتلال الروسي القيصـري. وتسبب ذلك في موجة جديدة من تمزق المجتمع الشيعي الآذري، والتي جعلت أبناء الأُسرة الواحدة موزعين بين آذربيجان وروسيا وأرمينيا وجورجيا وإيران والعراق، وهو تمزق اجتماعي سياسي قانوني لا نظير له في أي مجتمع شيعي آخر، الأمر الذي كانت له انعكاسات كارثية على وحدة المجتمع الشيعي الآذربيجاني وتماسكه وعلاقته بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي.

ويمكن القول بأنّ شيعة جمهورية آذربيجان المستقلة، حديثو عهد بحقائق التشيع والنظام الاجتماعي الذي يفرزه، إذ بدأت عودتهم إليهما مع سقوط الاتحاد السوفيتي في العام 1992، بعد (100) عام من الاحتلال القيصـري الروسي، ثم (70) عاماً من الحكم الشيوعي السوفيتي، الذي قمع أي مظهر ديني شخصي واجتماعي ومؤسَّسي. ولذلك، لم يتسن لشيعة آذربيجان خلال العقود الأربعة التي أعقبت الاستقلال، التحول إلى مجتمع ديني شيعي متماسك، رغم أنّ نسبتهم تبلغ 80 % من سكان آذربيجان. ويعود سبب عدم استقرار عملية إعادة تأسيس المجتمع الشيعي الآذربيجاني إلى سياسات النظام العلماني الإقصائية المعادية للدين والمذهب، وهو نظام يحكمه المسؤولون الشيوعيون السابقون أنفسهم، والذين استمروا في الإمساك بالسلطة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال آذربيجان، رغم كونهم من أُسر شيعية.

وقد عمل النظام الآذربيجاني العلماني الجديد، وبكل أساليب القمع والدعاية، على منع المظاهر الدينية الشيعية ونموها، وسد الطريق أمام أي تأثير إيديولوجي شيعي قادم من إيران ومؤسساتها الدينية، إلى جانب انخراطه في المنظومة القومية للدولة التركية، وتشجيع التبشير السني التركي بصيغته القومية العلمانية، بدعوى الأُصول التركية للقومية الآذرية، والسماح للنشاط التبشيري الوهابي السعودي، وكذلك فتح الأبواب أمام إسرائيل للاستثمار السياسي والاقتصادي والمخابراتي الواسع في آذربيجان. وهذه هي المخاطر الواقعية الأربعة الأساسية التي تواجه المجتمع الشيعي الآذربيجاني في صميم عملية إعادة تكوينه الديني المذهبي. وهو ما يعني أن المجتمع الشيعي الآذربيجاني يتعرض الى عملية سلب مركبة للهوية الشيعية، شبيهة بما كان يتعرض له الشعب العراقي في ظل الدولة العنصرية الطائفية؛ فمن جهة تركز الحكومة  (الشيوعية سابقاً) على الانتماء القومي التركي للآذريين، بوصفهم جزء من الأمة التركية التي تقودها تركيا الطائفية، وهذه الأمة عبارة عن بحر سني عملاق، يحيط بآذربيجان الصغيرة مساحة، وبشعبها القليل عدداً، ومن جهة أخرى، تفرض الحكومة ايديولوجيتها العلمانية المعادية للدين على المجتمع الآذربيجاني، وهي خليط ايديولوجي من الشيوعية الإلحادية والعلمانية الأتاتوركية، فضلاً عن فرض كل ألوان الانفلات الثقافي الاجتماعي.

ولعل من الأُمور التي تدعم مساعي إعادة تكوين المجتمع الديني المذهبي الآذربيجاني، وتنسجم مع المزاج القومي الآذري، هو أنّ عدداً نوعياً كبيراً من القادة والمراجع الشيعة المعاصرين هم من القومية الآذرية، كالسيد أبو القاسم الخوئي، والسيد محمد كاظم شريعتمداري، والشيخ جواد التبريزي، والشيخ محمد الفاضل اللنكراني، والشيخ جعفر السبحاني، والشيخ باقر الإيرواني، والسيد علي الخامنئي. وهذا الأمر يذكِّر بما يتميز به الآذريون من ناحية كثرة ما أنجبوه من المراجع والفقهاء والمفكرين والمثقفين الشيعة. فكل علماء الدين الذين يحملون ألقاب: إيرواني، لنكراني، نخجواني، بادكوبي، زنجاني، همداني، شبستري، أردبيلي، خلخالي، تبريزي، خوئي، خامنئي؛ هم من القومية الآذرية، رغم أن كثيراً منهم من السادة ذوي الأُصول العربية.

ولعل أهم إنجاز تاريخي شيعي يحسب للآذريين هو قيامهم بتأسيس الدولة الصفوية، إذ كان الآذريون ملوك الدولة وحكامها وحاضنتها الاجتماعية وعماد قواتها المسلحة. فالصفويون ليسوا فرساً، بل آذريين من أُصول عربية عراقية، ومن السادة الموسويين. ولذلك، ظلت لغة البلاط الإيراني والدولة والجيش هي اللغة الآذرية قرون طويلة من حكم الدول الصفوية والأفشارية والزندية والقاجارية. وبالتالي، فإنّ إنجاز تثبيت المذهب الجعفري مذهباً رسمياً في الدولة الإيرانية هو إنجاز آذري في جانبه السياسي والقانوني، وعربي (عراقي ولبناني وبحراني) في جانبه العلمي والتبليغي.

ويتميز المجتمع الشيعي الآذربيجاني ـ تاريخياً ـ بأنّه مصدر أغلب طقوس العزاء الحسيني التي تتميز بالقوة والعنف، والتي راجت في إيران والعراق، بسبب زيارات الآذربيجانيين إلى المدن الشيعية المقدسة في إيران والعراق وإقامتهم فيها. ولعل بعض هذه الطقوس انتقل إلى الآذريين من شيعة القوقاز الآخرين؛ لأنّ الشيعة الآذريين كانوا ولا يزالون حلقة الوصل بين شيعة إيران والعراق وتركيا من جهة، وشيعة روسيا وتتارستان وداغستان والشيشان وجورجيا وأرمينيا من جهة أُخرى، وهم أقوام يتميزون ـ غالباً ـ ببنيتهم البدنية القوية ومزاجهم الحاد.

6ـ المجتمع الشيعي الهندي:

يشتمل المجتمع الشيعي الهندي على شيعة بلدان شبه القارة الهندية وأقاليمها، وهي: الهند وباكستان وبنغلادش وإقليم كشمير، ويشكل الشيعة فيها شبه وحدة اجتماعية وإنثروبولوجية؛ لأنّهم من أُصول قومية مشتركة، وتعايشوا تاريخياً ضمن وضع سياسي مشترك، ووحدة إدارية سياسية واحدة حتى العام 1948. وهذه المشتركات تشبه ـ إلى حد كبير ـ الوحدة الاجتماعية والإنثروبولوجية لشيعة الخليج والجزيرة العربية.

وشيعة شبه القارة الهندية هم خزين بشري هائل، فهم أكبر كتلة سكانية شيعية في العالم، إذ يبلغ عددهم أكثر من (100) مليون نسمة، غالبيتهم من الشيعة الاثني عشرية (أكثر من 90 مليون نسمة تقريباً)، والباقون من المذاهب والمدارس الشيعية الأُخر، ولا سيما الإسماعيلية، فضلاً عن وجود مجتمعات شيعية مصغرة متماسكة ومميزة داخل المجتمع الشيعي الهندي الكبير، مثل مجتمع «الخوجة الإثني عشـرية» وبعض المجتمعات الشيعية الصوفية المغلقة. بيد أنّ تأثير الكتلة السكانية الشيعية الهندية، العملاقة عدداً، في مسارات النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، هو تأثير محدود، رغم ما تحظى به من كم كبير من علماء الدين والأكاديميين والمثقفين والسياسيين، وبينهم رؤساء جمهورية ورؤساء وزراء معاصرين، حكموا الهند وباكستان، والسبب يعود إلى البعد الجغرافي للمجتمع الشيعي الهندي عن بؤر الفعل والانفعال الإسلامية السياسية الأساسية، وتحديداً منطقة غرب آسيا والمشـرق العربي، وهم بذلك يشبهون شيعة تركيا والمغرب العربي وأفريقيا من ناحية التأثير الميداني، بينما نجد أنّ عدد شيعة لبنان يبلغ تقريباً 2 % فقط من عدد شيعة الهند، لكن تأثيرهم السياسي الإقليمي وحضورهم الإعلامي العالمي يفوق تأثير شيعة شبه القارة الهندية.

ولا شك أنّ طبيعة الاجتماع الديني في شبه القارة الهندية، والذي يتميز بالحرية الدينية والمذهبية المفتوحة، والاحتكاك العقدي السلبي بين الأديان والمذاهب؛ تجعل اهتمامات المجتمع الشيعي فيها، مذهبية وطقسية وخيرية غالباً، وبصورة أقل سياسية، على العكس من المجتمعات الشيعية في غرب آسيا والمشـرق العربي، وخاصة العراقية والإيرانية واللبنانية. أي أنّ الهم الأساس لشيعة الهند هو الحفاظ على الكيانية المذهبية الاجتماعية لهم، وهم يعيشون في بحرٍ عظيمٍ من الأديان والمذاهب السماوية والأرضية، واللغات واللهجات والعادات والتقاليد والثقافات.

ورغم هذا الانكماش السياسي المعاصر؛ فإنّ شيعة الهند، كانوا تاريخياً الأنشط سياسياً وحكومياً، بعد شيعة إيران؛ فبدءاً من القرن الخامس عشـر الميلادي، تأسس كثير من الدول والممالك والإمارات والنوّابات الشيعية القوية المستقلة في شبه القارة الهندية، والتي استمر بعضها حتى الاحتلال الإنجليزي للهند في القرن التاسع عشر الميلادي، كالدولة البهمنية والدولة العادل شاهية والدولة القطب شاهية والدولة النظام شاهية ومملكة أوده([21])، وكانت صلوات الجمعة والجماعة في بعضها تدعو للشاه الصفوي، بوصفه إمام المسلمين، أي أنّ الشاه الصفوي كان بالنسبة للدول الشيعية في الهند، يشبه السلطان العثماني بالنسبة للولايات السنية العربية. كما كان بعض الأُمراء والملوك المغول الذين حكموا الهند، من الشيعة أيضاً. إلّا أنّ الاحتلال البريطاني للهند، ثم هيمنة الهندوس على حكمها هيمنة مطلقة بعد استقلالها، وما أعقبه من انفصال باكستان ثم بنغلادش، وهيمنة السنة على المشهد السياسي فيهما، كانت من أسباب انكفاء شيعة الهند سياسياً.

ولعل نشاط الجماعات الوهابية التكفيرية هو من أبرز التحديات التي تواجه شيعة شبه القارة الهندية، وخاصة في باكستان، فإذا كانت الهند قد لجمت هذه الجماعات إلى حد كبير، فإنّ وجودها في باكستان ونشاطاتها الإعلامية وتحالفاتها السياسية في إطار الائتلافات الحكومية ونفوذها في الأجهزة الأمنية، والدعم المالي والتدريبي المفتوح الذي تتلقاه من السعودية وغيرها من البلدان الخليجية، جعلها تتحرك بسهولة وحرية ضد المجتمع الشيعي الباكستاني، وتهدد حياة أبنائه باستمرار، من خلال العمليات الإرهابية المسلحة التي تستهدف المساجد ومراسيم العزاء والأسواق واغتيال الشخصيات الشيعية.

خيار اندماج الشيعة بمجتمع الدولة

التمايز الإنثروبولوجي والثقافي الاجتماعي بين المجتمعات الشيعية، يشكل في وقت واحد تهديدات وفرص، فالتهديدات مصدرها استغلال هذا التمايز الطبيعي من خصوم الشيعة وتحويلها إلى خلافات قومية وصراع هويات محلية. أما الفرص فتتمثل في استثمار هذا التنوع لمصلحة عملية التكامل الاجتماعي الديني المذهبي بين المجتمعات الشيعية، عبر التعامل معه تعاملاً معتدلاً متوازناً، أي القبول بالتمايز، وعدم تصنيف الاعتزاز الموضوعي بالوطن والقومية والقبيلة واللغة والثقافة المحلية في خانة المحرمات والأُمور السلبية المقوضة لعملية التكامل؛ لأنّه جزء من التكوين الإنساني والاجتماعي الطبيعي. وبالتالي، فإنّ التمايز الاجتماعي والأنثروبولوجي بين المجتمعات الشيعية لا يتعارض مع تكاملها في إطار الجسد الاجتماعي الديني الشيعي الواحد.

وعلى الضفة الأُخرى، تترشح عن التمايز المذكور أيضاً، تهديدات وفرصاً لعملية اندماج المجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الأكثرية المذهبية وبمجتمع الدولة؛ لأنّ هذا التمايز يعني وجود تباينات مذهبية واجتماعية دينية مع مجتمع الأكثرية المذهبية من جهة، ومشتركات قومية وقبلية ولغوية وثقافية محلية معه من جهة أُخرى. وحين يتم التعامل مع هذه التباينات والمشتركات تعاملاً متوازناً وعادلاً، وفي إطار معادلات الحقوق والحريات والمساواة، فإنّه يُنتج اندماجاً تلقائياً طبيعياً للمجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الأكثرية المذهبية وبمجتمع الدولة، أمّا إذا كان تعامل الدولة ومجتمع الأكثرية المذهبية مع هذه التباينات الاجتماعية المذهبية تعاملاً طائفياً ظالماً، فإنّه سيؤدي إلى شعور المجتمع الشيعي بأنّه مقموع ومظلوم ومهمّش، وأنّ الشيعي مواطن من الدرجة الثانية والثالثة؛ الأمر الذي يؤدي تلقائياً أيضاً إلى صراع هويات مذهبية مدمرة، وتهديد ، وهو ما لا تريد أن تفهمه الأنظمة الطائفية، وهي تعرّض الأمن السياسي والمجتمعي للبلد إلى مختلف ألوان التهديد، بسبب سياساتها الطائفية وانحيازها ضد جزء من المجتمع؛ بجريرة انتمائه إلى مذهب إسلامي يختلف عن مذهب الحاكم أو الأُسرة الحاكمة أو النظام السياسي.

لذلك، فإنّ موضوع اندماج المجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الأكثرية المذهبية وبمجتمع الدولة، ليس موضوعاً بسيطاً للاستهلاك الإعلامي والكسب السياسي، بل هو موضوع معقد وعميق ومتعدد الجوانب. صحيح أنّه يحمل عنواناً إيجابياً عاماً، يتلخص في اندماج المجتمعات الشيعية بمجتمعات بلدانها، وهو هدف مشروع ومطلوب؛ لكنه في تفاصيله ينطوي على عقد واشتراطات وملابسات كثيرة، في مقدمتها تحديد دلالات الاندماج وأطرافه ومداخله وممهداته ومخرجاته وتبعاته، والحقوق والواجبات الملقاة على عاتق كل طرف. فالأنظمة الطائفية تريد من هذا الاندماج أن يذوب المجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الدولة وبمجتمع الأكثرية المذهبية، وأن يرضى بمنظومة الحقوق والحريات والسياقات السياسية المذهبية التمييزية في الدولة كما هي، أي أنّ يقبل الشيعة بواقع التهميش والقمع ومصادرة الحقوق والحريات المذهبية والسياسية للدولة، دون أي اعتراض ومطالبات بالتعديل، وأن يقدموا للحاكم وللنظام السياسي فروض الولاء والطاعة بالمطلق؛ لأنّ الحاكم هو الأب وولي الأمر المطاع، وإن كان ظالماً وقاتلاً ومستبداً، ويميز بين مذاهب مواطنيه، ويتعامل معهم على أساس الهوية الاجتماعية المذهبية. والحال أنّ هذا اللون من الاندماج هو الوجه الآخر للاستعباد والانقياد الفرعوني.

وقد أثبت هذا اللون من الاندماج بمجتمع الدولة فشله الذريع عملياً، في ظل الأنظمة الطائفية القمعية، كما في تجربتي السعودية والبحرين في تسعينات القرن الماضي، رغم مكابرة بعض من مارس التجربة وعاشها، ولا يزال يراهن على نجاحها، وهو رهان يخلو من أية مقومات موضوعية حقيقية، اللهم إلّا إذا كان الرهان على مجرد العيش في البلد والسلامة الشخصية، وكف شر الدولة عن دائرة الجماعة الخاصة، وهو رهان مشروع كما يبدو، لكنه رهان خاص ولا يمكن أن يكون رهاناً عاماً للمجتمع([22]). أمّا في ظل الأنظمة المعتدلة نسبياً، فإنّ الاندماج حاصل وناجح نسبياً قبل ظهور دعوات الاندماج، وهو ما نجده في تجربتي عُمان والكويت.

تجدر الإشارة إلى أنّ هناك ثلاثة مستويات تنطوي على مفهوم الاندماج الملتبس:

الأول: الاندماج بمجتمع الدولة، والمقصود به ذوبان المجتمع الشيعي في الاجتماع السياسي والنظام السياسي للدولة، وإعلان الولاء والطاعة بالمطلق. هذا اللون من الاندماج هو المشكلة الحقيقية؛ لأنّه ينطوي على عقبات أساسية تضعها الأنظمة السياسية للحيلولة دون حصوله، وفي مقدمتها التمييز والتهميش السياسي والمذهبي الطائفي، بهدف تقييد تأثير الشيعة على الاجتماع السياسي للدولة، ومنعهم من الحصول على المناصب في الحكومة والقضاء والبرلمان (إن وجد) والقوات المسلحة بما ينسجم ونسبتهم العددية. وبالتالي، تعمل الأنظمة الطائفية في هذا الإطار على استحصال واجب الطاعة والتسليم المطلق من المجتمع الشيعي، وعدم منحه أياً من حقوقه المذهبية والسياسية والثقافية البديهية.

الثاني: الاندماج بالمجتمع الديني للدولة، أي الانخراط في النظام الديني للدولة ومؤسساته المذهبية الأحادية، وتحول عالم الدين الشيعي إلى موظف لدى الدولة، أسوة بنظيره السني، وتحول المؤسسة الدينية الشيعية إلى جزء من المؤسسة المذهبية السنية للدولة. ورغم أنّ هدف هذا الاندماج تدجين الواقع الديني المذهبي والاجتماعي الشيعي، وسلخ عالم الدين من استقلاليته المالية والعملية، ويصب غالباً في مصلحة الدولة، إلّا أنّ المؤسسة الدينية الرسمية السنية تعيقه بشدة؛ لأنّه سيشكل اعترافاً من الدولة ومؤسستها الدينية بأنّ يكون المذهب الشيعي مذهباً مشاركاً في الدولة ونظامها وأعرافها وتقاليدها الدينية، وأن يكون الفقه الجعفري جزءاً من التشريعات والأحكام القضائية، إلى جانب المذاهب السنية الرسمية وفقهها، كما سيسمح لعلماء الدين الشيعة بأنّ يكونوا في المناصب الرسمية الدينية والإفتائية المحتكرة من الطبقة الدينية السنية الرسمية. وبالتالي، فإنّ هذا اللون من الاندماج ليس له حظوظ عملية؛ لأنّه غير مقبول من الطرفين الرسمي والشيعي.

الثالث: الاندماج بالمجتمع العادي، وهو مجتمع الأكثرية المذهبية. هذا الاندماج لم يكن يوماً مشكلة حقيقية؛ لأنّ الشيعة والسنة، على المستوى الفردي والاجتماعي العادي، لم يكونوا خصوماً يوماً، ولم تنشب بينهم مشاكل طائفية، إلّا بمحركات سياسية أو دينية رسمية وخارجية، سواء من النظام الحاكم أو مؤسسته الدينية الطائفية أو الجماعات التكفيرية أو المحتل الأجنبي، أمّا العلائق الاجتماعية والعشائرية والمصاهرات والشـراكات المتنوعة بين الشيعة والسنة، في البلد الواحد؛ فإنّها تحول دون بروز مشاكل حقيقية شخصية ومجتمعية بينهم. وبالتالي؛ فإنّ هذا الاندماج لا ينطوي على مشكلة، وهو متحقق إلى حد كبير، قبل صدور دعوات الاندماج كما ذكرنا.

وعليه، نخلص إلى أنّ عملية الاندماج ليست مهمة أحادية تقع على عاتق المجتمع الشيعي أو الفرد الشيعي وحسب، بل إنها ـ بالدرجة الأساس ـ مهمة أنظمة الحكم السنية ومؤسساتها الدينية الرسمية وشبه الرسمية، والجماعات السياسية والدينية والمدنية السنية، لكي تبادر إلى توفير الظروف الموضوعية الواقعية لهذا الاندماج، وإلّا كيف يُطلب من الشيعي أن يندمج في الاجتماع السياسي والديني والثقافي لبلده، وهو يتعرض لكل أشكال ومضامين التمييز الطائفي السياسي، والنظرة المذهبية الدونية، واتهامات التكفير والخروج على الدولة؟! فلطالما بقي الآخر المذهبي ينظر إلى شيعة البحرين والسعودية والإمارات وسورية وفلسطين ومصر والسودان والجزائر والمغرب ونيجيريا وأفغانستان وماليزيا وغيرها من بلدان الحضور الشيعي، نظرة الخروج على مذهب الدولة، وأنهم جيوب اجتماعية معزولة، كما تصفهم الأنظمة الطائفية ومؤسساتها الدينية، وبذلك لن فلن يحدث الاندماج الإيجابي الحقيقي المطلوب.

في حين يحدث الاندماج بمجتمع الدولة، حين تؤمن الأنظمة السياسية السنية ومؤسساتها الدينية بأنّ الشيعة مواطنون كاملي المواطنة، ولهم حق المشاركة السياسية والثقافية والفكرية والإعلامية والدينية الكاملة في دولة المواطنة والعدالة والمساواة والقانون، شأنهم شأن السنة، وأنّ من حق الشيعي أن يكون في أي موقع في الدولة دون أي تمييز طائفي.

وبالتالي، فإنّ مدخل الاندماج الحقيقي يكمن في تغيير القوانين والأعراف والسياسات الطائفية الحاكمة في هذه البلدان، قبل الطلب إلى الشيعي أن يندمج في مجتمعٍ ونظامٍ يرفضانه ضمناً، ويميزان بينه وبين المواطن السني والمسيحي. وقد أثبتت التجارب التاريخية والمعاصرة، بأنّ الشيعي كلما تعرض لمزيد الضغوط والتهميش والإرهاب من الدولة، فإنّه يبتعد تلقائياً عن مجتمع الدولة وعن الحاضنة الاجتماعية للحكم، والعكس صحيح. ولذلك، من الإجحاف انتقاد المواطن الشيعي الذي يبحث عن الحماية والحياة والحرية والمواطنة الحقيقية، بسبب تعامل دولته معه بوصفه مواطناً من الدرجة الثالثة، كونه يتبع مذهباً غير مذهب الدولة.

 

 

([1]) وذلك بسبب التداخل الذي حصل بين المسارات الشيعية في بلدان الصعود الشيعي منذ العام 1980.

([2]) أُنظر: الشيخ جعفر المهاجر، «الهجرة العالمية إلى إيران في العصر الصفوي». الدكتور جودت القزويني، «تاريخ المؤسسة الدينية الشيعية من العصر البويهي إلى نهاية العصر الصفوي الأول». كمال السيد، «نشوء وسقوط الدولة الصفوية».

([3]) أُنظر: إجازة تفويض الشيخ جعفر الجناجي النجفي المعروف بـ «كاشف الغطاء» إلى شاه إيران فتح علي القاجاري، والتي يمنح فيها مرجع النجف شاه إيران حق التصرف في الشأن السياسي العام والخراج والزكاة، وجاء فيها: «ولما كان الاستيذان من المجتهدين أوفق بالاحتياط، وأقرب إلى رضا رب العالمين، وأقرب إلى الرقي، والتذلل والخضوع لرب البرية، فقد أذِنتُ… للسلطان… فتح علي شاه… في أخذ ما يتوقف عليه تدبير العساكر والجنود، ورد أهل الكفر والطغيان والجحود، من خراج أرض مفتوحة بغلبة الإسلام، وما يجري مجراها، وزكاة». ثم يأمره بتنفيذ عدد من القضايا ذات العلاقة بالجوانب السياسية والمالية والدعوية. وهذه الإجازة منشورة في كتابه «كشف الغطاء»، باب الجهاد.

أُنظر: علي المؤمن، «الفقه والسياسة»، ص62.

([4]) الأُسر الحاكمة في الكويت (آل الصباح) والبحرين (آل خليفة) وقطر (آل ثاني) وفي أبو ظبي (آل نهيان) ودبي (آل مكتوم) والشارجة (القواسم) هي أُسر مهاجرة من نجد في شرق الجزيرة العربية، وكانت ضمن تحالف قبلي يسمى (العتوب).

([5]) كانت نسبة شيعة البحرين تبلغ حوالي 75 % من إجمالي عدد سكان البلاد، وذلك حتى عقد الستينات من القرن العشرين، ولكن بسبب عملية التجنيس الواسعة والسريعة للأجانب السنة، وخاصة العرب والهنود والباكستانيين، فقد انخفضت النسبة إلى أقل من 65 %. وكان هذا التغيير الديموغرافي الطائفي الذي يتبعه النظام بشكل ممنهج، أحد أسباب مقاومة السكان الأصليين (الشيعة) للأُسرة الحاكمة.

([6]) أُنظر: السيد محمد الصدر، «تاريخ ما بعد الظهور».

([7]) راجع الفصل الثاني من هذا الکتاب.

([8]) أُنظر: علي المؤمن، «سنوات الجمر»، ص187 ـ 192.

([9]) لعل الدكتور علي الوردي في كتابه: «طبيعة المجتمع العراقي»، هو أحد أهم الباحثين الذين تحدثوا بإسهاب عن الطابع البدوي للشعب العراقي.

([10]) أُنظر تقرير الصحيفة: www. facebook. com/alialmomen644/posts/2453291418043796

([11]) أُنظر: علي المؤمن، «جدليات الدعوة»، ص23 ـ 45.

([12]) أُنظر: جعفر الخليلي، «موسوعة العتبات المقدسة»، ج7، قسم النجف، ص158.

([13]) أُنظر: علي المؤمن، «جدليات الدعوة»، ص23 ـ 45.

([14]) أُنظر: الشيخ عدنان آل قاسم، «الحوزات العلمية والمدارس الدينية عند الشيعة الإمامية »، ج6، (الحوزة العلمية في قم).

([15]) أُنظر: علي المؤمن، «سنوات الجمر»، ص169 ـ 172.

([16]) بات المجتمع الشيعي العراقي بعد العام 2003 جزءاً من مجتمع الدولة وليس كله، وهو ما جعله يشبه المجتمع الشيعي اللبناني. وبالتالي، فإنّ المجتمعات الشيعية الإيرانية والعراقية واللبنانية هي الوحيدة التي تنتمي إلى مجتمع الدولة في الوقت الحاضر.

([17]) على سبيل المثال: النسب التي ذكرها مشروع «جينوغرافيك» الذي أطلقته مؤسسة «ناشيونال جيوغرافيك» في العام 2005، وأظهرت النتائج أنّ نسبة العرب في إيران تبلغ 56 % من عدد السكان، بينما لا تتجاوز نسبة العرب في العراق 28 %، وفي مصر 17 %، وفي تونس 4 % من عدد سكان هذه البلدان.

([18]) أُنظر: سعدون حمادة، «تاريخ الشيعة في لبنان». يحيى فرحات، «الشيعة في طرابلس». الدكتور رامز رزق، «التاريخ الحضاري والسياسي للشيعة في لبنان».

([19]) أُنظر: مجموعة باحثين، «الشيعة في لبنان من التهميش إلى المشاركة الفاعلة».

([20]) أُنظر: الدكتور سعيد النفيسي، «تاريخ اجتماعي وسياسي إيران در دوره معاصر» (تاريخ إيران الاجتماعي والسياسي المعاصر)، ص57 ـ 84.

([21]) محمد سعيد الطّريحي، «ملوك حيدر آباد تاريخ المملكة القطب شاهية في الهند 918هـ – 1099هـ / 1512م – 1687م». السيد حسن الأمين، «دائرة المعارف الشيعية»، ج6 و21 و24، ط6، دار التعارف ـ بيروت، 2001م.

([22]) كان الشيخ محمد مهدي شمس الدين أحد الداعين لمشروع الاندماج والمصالحة الوطنية مع الأنظمة في أوائل عقد التسعينات من القرن الماضي، وقد تمت ـ برعايته ـ عودة بعض المعارضين الإسلاميين الشيعة إلى بلدانهم، وخاصة إلى السعودية والبحرين. بيد أنّ أحداث العقود الثلاثة اللاحقة أثبتت أنّ مشروع الاندماج لا يمكن أن ينجح مع إصرار الأنظمة على سياساتها الطائفية التمييزية.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment