إشكاليات التقنين في البلدان الإسلامية

Last Updated: 2024/04/01By

إشكاليات التقنين في البلدان الإسلامية

د. علي المؤمن

خلقت حركة التقنين في البلدان الإسلامية منذ بدايتها خلال القرن التاسع عشر الميلادي؛ إشكاليات وجداليات متشابهة تقريباً؛ لأنّها في الأعم الأغلب لم تكن فعلاً تأصيلاً محلياً مستجيباً لمتطلبات العصر، بل ردّ فعلٍ على ضغوطات حركة التقنين وخلفياتها في أُوروبا، وتشبّهاً بها، أو خضوعاً لضغوطات سلطات الاحتلال، ولا سيّما الاحتلالين الإنجليزي والفرنسي، والتي كانت تهدف إلى توحيد النظام القانوني والمسار التشريعي في البلدان الخاضعة لاحتلالها؛ ليسهل السيطرة عليها وحكمها بقوة القانون والتشريع، إلى جانب قوة السلاح والإمساك بالأرض.

واشتملت الإشكاليات التي رافقت حركة التقنين في البلدان الإسلامية على ما يلي:

1 ـ الجوانب الشرعية (الفقهية).

2 ـ القانونية (الموضوعية).

3 ـ التقنية (الفنية ـ المادية).

4 ـ السياسية (سلطة المحتل).

5 ـ الفكرية (نتاج الغزو الثقافي).

6 ـ النفسية (صورة المحتل الأجنبي).

ولعلّ الإشكاليات في الجانب الفني التقنيني هي أقل شأناً؛ قياساً بالإشكاليات الأُخر؛ لأنّ تقنيات التقنين يمكن وصفها بالمشترك العام أو الآليات المحايدة التي يمكن الاستفادة منها؛ بصرف النظر عن الدين والمذهب والمدرسة الفكرية والمذهب السياسي.

أمّا الإشكاليات النفسية التي زرعتها سلطة المحتل وصورة الأجنبي المتفوق المغرور في العقل الباطن للنخب الوطنية المسلمة المتدينة، فضلاً عن علماء الدين، فقد خلقت حواجز صلبة أمام الاستفادة الموضوعية المحايدة المناسبة من تقنيات ومناهج التقنين الغربية. وكانت انعكاسات الغزو الفكري وإشكالياته الثقافية على مجتمعات المسلمين؛ تعزز الحواجز النفسية بقوة من جانب، وتجعل شرائح أُخر من المثقفين المسلمين ورجال السياسة المحليين تتشبه بالغرب ونظمه وأفكاره وقوانينه دون أية كوابح دينية ووطنية. وبذلك خلق الحاجز النفسي تياراً محلياً ممانعاً غير موضوعي، ويعدّ التشبه بالغرب حتى في المجالات الفنية المحايدة غير جائزٍ شرعاً وعرفاً. بينما خلق الغزو الثقافي تياراً محلياً منسحقاً عميلاً فكرياً. بيد أنّ كلا التيارين المتعارضين لم يخدما الواقع الإسلامي المتراجع على كل الصعد.

وعلى مستوى الإشكاليات القانونية الموضوعية؛ فإنّ المسلمين تفاجؤوا بنوعية النظم القانونية الغربية، وحجم الآثار الإيجابية لصياغاتها المادية وتنظيمها الفني على واقع الدولة والمجتمع؛ كما اكتشفوا حجم تخلفهم التقني والموضوعي. فبرغم ثراء الفقه الإسلامي وشموله واستيعابه لمعظم مجالات الحياة، ومرونته؛ إلّا أنّ هذا الثراء كان مدفوناً في موسوعات ومدوّنات فقهية مورّثة؛ عظيمةً كماً ونوعاً، ولا يوجد مثيلٌ لها في كل الأديان والمذاهب والمدارس الفكرية إطلاقاً. وكانت هذه المدوّنات بحاجة إلى جهود كبيرة لتتحول إلى أحكام تراكمية موحدة وشبه ثابتة، ولا تخضع لاجتهادات متعددة، ومنظمةً تنظيماً موضوعياً في مدوّنات مبوبة، ولتمثل عقداً اجتماعياً ملزماً للمواطن والمجتمع والدولة، ويضم آليات تطبيق مؤسسية عامة. وواحدة من هذه المؤسسات هي المؤسسة أو السلطة التي تقوم بعملية تقنين الأحكام الشرعية.

وكل هذا لم يكن موجوداً في البلدان الإسلامية، بل وفي حواضرها العلمية الدينية؛ كالزيتونة والأزهر واسطنبول والنجف الأشرف وقم. ولذلك كان المد الفكري والقانوني الأُوروبي يستغل هذا الفراغ الكبير في الواقع الإسلامي ليكرس هيمنته على معظم الصعد، وأخطرها الصعيد التشريعي والفكري.

وكما مرّ، فإنّ أيّ بلد إسلامي لم يكن بمعزل عن هذه الإشكاليات ولم يعايشها بتفاصيلها؛ بما في ذلك البلدان الإسلاميان المستقلان والممتدان جغرافياً وفكرياً: تركيا وإيران؛ واللذان انقلبا على الشريعة الإسلامية فيما بعد، واقتبسا المنظومات القانونية الغربية؛ بأشكالها ومضامينها وموضوعاتها؛ بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية؛ وهو ما حصل بعد تأسيس الجمهورية في تركيا في العام 1923، واستيلاء رضا بهلوي على السلطة في إيران في العام 1926.

إلّا أنّ التحول المصيري في حركة تقنين الشريعة على مستوى الواقع الإسلامي برمته؛ بالمضمون الذي حافظ على أصالة الحكم الشرعي، وموضوعية المقصد الشرعي للقانون، وتصالح فيه مع القانون الحديث، واستخدم أحدث مناهج التقنين، والتصق بروح العصر ومتطلباته؛ هو التحول الذي حدث في إيران بعد العام 1979، والذي أغلق باب التماهي اللا موضوعي مع القوانين الغربية وباب الممانعة اللا موضوعية تجاه التقنيات البشرية والمناهج والمعايير العامة المشتركة في تنظيم سلطات التقنين والتشريع والقضاء وإدارة الدولة وما يصدر عنها.

وذهبت آراء بعض المفكرين الإسلامين المصريين إلى عدم جدوى عملية تقنين الشريعة الإسلامية في حال عدم وجود مجتمع مسلم؛ لأنّ قيام المجتمع الإسلامي يجب أن يسبق وضع القوانين الإسلامية أو تطوير الفقه. وظل هذا الرأي المهم الذي تبنته قطاعات واسعة من الجماعات الإسلامية؛ كالإخوان المسلمين؛ محور خلاف أساس بين التيار الإسلامي السلفي والتيار الإسلامي التنويري.

والحقيقة أنّ هذه الجدلية تستلزم الدور؛ فمن الذي يسبق الآخر في الوجود؛ المجتمع الإسلامي أو القانون الإسلامي؟ كما أنّها تحمل تعارضاً في داخلها؛ فالمجتمع الإسلامي المعاصر لا بدّ أن يقوم على أُسس واضحة ومقبولة بالدرجة ذاتها لدى جميع مكونات المجتمع، ومن أهم هذه الأُسس والمقومات هو القانون؛ إذ إنّ أحكام الشريعة الإسلامية بصيغتها القانونية العصرية المدوّنة الملزمة للجميع هي مقوم أساس لإنشاء المجتمع الإسلامي.

وقد تنبهت جماعات إسلامية أُخر وعدد كبير من الفقهاء إلى هذه الإشكالية، وبادروا إلى وضع منظومات شرعية شبه قانونية كممهّد لإقامة الحكم الإسلامي، والذي من شأنه توفير مقومات بناء المجتمع الإسلامي وتطبيق القانون الشرعي. وكان حزب التحرير ممن بادر إلى هذا السبق؛ من خلال مؤلفات الشيخ محمد تقي النبهاني وغيره من قيادات الحزب؛ كـ «الخلافة» و«الدستور الإسلامي».

وكذلك كانت مبادرة حزب الدعوة الإسلامية من خلال (أُسسه) الشرعية شبه القانونية التي كتبها فقيهه السيد محمد باقر الصدر، وكذلك كثير من المؤلفات التي دوّنها مفكرو الحزب. كما مهّد الإمام الخميني لقيام المجتمع الإسلامي بالتنظير للحكومة الإسلامية. وبالتالي بقيت فكرة قيام المجتمع الإسلامي الذي يسبق تدوين القوانين الإسلامية مجرد رأي نظري لا يصمد أمام الواقع ومتطلباته.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment