إشكاليات التقنين الدستوري الإسلامي

Last Updated: 2024/05/11By

إشكاليات التقنين الدستوري الإسلامي

د. علي المؤمن

 

تنبع أهمية موضوع التقنين الدستوري الإسلامي من طبيعة الأهداف العلمية التي سيجتهد الباحث للوصول إليها، ومن ندرة ما تحتويه المكتبة العربية من بحوث علمية في الموضوع، والمشكلات المعرفية الأساسية والفرعية التي سيساهم في معالجتها، ومما يمثله هذا المجال من إضافات نوعية إلى الفقه السياسي الإسلامي والقانون الدستوري الإسلامي وأدوات التقنين وأساليبه، وبالحجم الذي يجعلها مفصلاً علمياً وفكرياً تاريخياً. وهذا المجال يعبِّر في أحد أهم أوجهه عن الأزمة المتراكمة الذي ظل الفقه السياسي لمدرسة الإمامة في عصر الغيبة (غيبة الإمام الثاني عشر) يعاني منها، والتي تفجرت بوجه فقهاء المدرسة ورجال القانون المنتسبين إليها؛ بصورة إشكالات متوالدة متوالية، حالما بدؤا في وضع أسس دستور الدولة الإسلامية الحديثة عام 1979. وظلت هذه الإشكالات محل سجال علمي وايديولوجي وسياسي بين مختلف الأطراف الفكرية والسياسية.

وتتمثل هذه الأزمة في طبيعة الفقه السياسي المطروح في المدوّنات والكتب الفقهية([1])، فكثير من موضوعات الفقه السياسي الإسلامي لم تكن تُبحث أو يكتب فيها؛ لأنّها خارج دائرة الاهتمام؛ بالنظر لإبعادها عن الواقع، وخاصة واقع التغييب السياسي الذي ظلت تعيشه مدرسة الإمامة قرون طويلة.

أما الموضوعات التي كان الفقهاء يتطرقون إليها؛ فكانت – غالباً – تبحث بصورة نظرية بعيدة إلى حد ما عن إشكاليات الواقع الاجتماعي وأسئلته، وبدون الأخذ بنظر الاعتبار موضوعة الدولة؛ أي أنها لم تنظر إلى الدولة الإسلامية كوعاء لتطبيق الأحكام، والحكومة كأداة لها([2])، بل إمكانية تطبيق بعضها في ظل الإدارة الاجتماعية – الدينية المحدودة للحاكم الشرعي الديني([3]).(الفقيه أو من ينوب عنه) الذي يرجع إليه المجتمع الشيعي في شؤونه.

وبقيت الموضوعات ذات الصلة بالسياسة والحكم والسلطة والولاية متناثرة في أكثر من باب فقهي أو مدخل علمي، ولم تكن موحّدة موضوعياً، أي أنّها لم تكن تبحث أو تجمع في باب واحد، بالصورة التي تؤهلها لصياغة نظرية في الفقه السياسي. ومن أهم هذه الأبواب: الجهاد، الخراج، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الوصية، القضاء، صلاة الجمعة، الحسبة، البيع وغيرها([4]). وكما هو الحال مع أبواب الفقه الأُخر التي تدخل في نطاق فقه العبادات أو العقود أو الإيقاعات، ومجمل الفقه المدني والأحوال الشخصية؛ فإنّ الأبواب المذكورة أُشبعت بحثاً ومعالجة، وأتقن الفقهاء تبويبها وتجميعها. وهو ما يمكن مقارنته بالفقه السياسي أو الفقه السلطاني لمدرسة الخلافة (المذاهب السنية)، الذي يشكل تراثاً ضخماً مبوباً موضوعياً.

ولا شك أنّ وراء الناتج المتباين الذي خلّفته مدرستا الخلافة والإمامة؛ أسباباً موضوعية عميقة، لصيقة بالواقع التاريخي الذي عاشه أتباع المدرستين خلال 1350 عاماً أعقبت ما عُرف بعصر الخلافة الراشدة. ولسنا هنا بصدد دراسة هذا الواقع وأسبابه([5])، ولكن الذي يهمنا هو الوصول إلى نوعية الإشكالية المعرفية التي يخلقها هذا الواقع. وإذا كان الحال هو هذا بالنسبة لمدوّنات الفقه السياسي في مدرسة الإمامة، فكيف ـ إذاً ـ بموضوعات مثل التقنين الفقهي، والنظام السياسي، ونظم الدولة الأُخر، والدستور والنظم الحقوقية. صحيح أنّ المصادر الإسلامية (القرآن الكريم والسنة الشريفة) تضم أُسساً ونظماً قيّمة، بل كثيراً من التفاصيل حول هذه الموضوعات، إلّا أنّ جهود المتكلمين والفقهاء المتقدمين، ثم المفكرين ورجال القانون المسلمين في العصر الحديث، لم تتظافر من أجل معالجتها؛ الأمر الذي دفع المستشرق الألماني “جوزيف شاخت” (ت 1969م) إلى القول بأنّ: ((التشريع الإسلامي لم يطور المفهوم القانوني المقابل لهذا اللقب (لقب السلطان)، ولهذا السبب نفسه فإنّ النظم الأساسية للدولة الإسلامية لم توضع على أنّها تؤدي وظائف لجمهور المؤمنين من حيث هم كذلك، وإنّما اعتبرت فروض كفاية إذا قام بها عدد كاف من الأشخاص، فإنّ ذلك يعفي الباقين من القيام بها، فالواقع أنّه لا يوجد مفهوم لما يسمى نظاماً أو مؤسسة (Institution). وفكرة الشخصية القانونية (Juristic person) كانت على وشك الظهور، غير أنّها لم تتحقق في التشريع الإسلامي))([6]).

وهكذا يلخص “شاخت” التجربة التاريخية للحكومات السلطانية التي صادرت الشريعة وقواعدها وأحكامها وحقوق المسلمين وحرياتهم، وانفردت بالقرار السياسي والإداري، بل وجيّرت جهود الفقهاء والمتكلمين والمحدّثين في مجال معالجة قضايا الحكم والسلطة لمصالحها الخاصة، متجاوزين بذلك عشرات القواعد الشرعية الحقوقية التي بيّنها القرآن الكريم وكشفت عنها السنة الشريفة.

ومن هنا فحين استهل الإيرانيون عملية التقنين بكتابة دستور دولتهم الجديدة، واجهتهم هذه التركة الثقيلة، ولم يكن بين أيديهم من قواعد تقنين ومبادىء قانونية دستورية ونصوص دستورية، سوى محاولات صدرت خلال ثورة المشروطة (الدستور) في إيران في الأعوام (1906ـ 1909)، ثم مرحلة إقرار دستور الدولة العثمانية في العام 1908، وجهود فردية وجماعية محدودة لبعض الشخصيات والحركات الإسلامية (سنية وشيعية)، في مقابل كم هائل من تجارب القانون الدستوري المتكاملة في أُوروبا، والتي تعبِّر عن خبرة تراكمية بدأت قبل عصر النهضة الأُوروبية بقرنين تقريباً. ولم تكن محاولات المسلمين السابقة بذات فائدة كبيرة، كما هو الحال مع التجربة الأُوروبية؛ لأنّ الأُولى لم تكن تنطوي على قيمة نظرية وعملية كفيلة ببناء منظومة قانونية لدولة إسلامية حديثة مقيدة بأحكام القانون الدولي والقانون الدستوري الوضعي، وصياغة دستور إسلامي؛ في حين أنّ الثانية كانت بعيدة في غاياتها وأهدافها أو رؤيتها الكونية عن التشريع الإسلامي وروحه. ويُرجع الفقيه الدستوري المصري عبد الرزاق السنهوري هذا الوضع إلى الحكومات المستبدة التي تعاقبت على حكم المسلمين، وأخمدت كل المحاولات الفقهية التي تؤصل للحكم الإسلامي على أساس الحقوق العامة والحريات السياسية. ويخلص السنهوري إلى أنّ الفقه الإسلامي في مجال القانون العام وفقه الدولة ((لا يزال في دور الطفولة))([7]).

وإذا دخلنا في بعض تفاصيل هذه التركة الفقهية والفكرية؛ فسنواجه – ابتداءً – بمحاولات الدسترة والتقنين في عهد ثورة المشروطة الإيرانية، وما تخللها من خطاب ورؤى متنوعة لعلماء الدين ورجال القانون والمثقفين الإسلاميين والعلمانيين، وما قدمته من فوائد نظرية وعملية في التأسيس للقانون الدستوري للجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ بعدها بحوالي ثلاثة وسبعين عاماً.

والحقيقة ان ثورة الدستور في إيران لم تكن ثورة إسلامية محضة تهدف إلى بناء نظام ديني؛ برغم أن رعاتها وقادتها كانوا من كبار علماء الدين؛ بل كانت غاياتها تنحصر في مواجهة الاستبداد الملكي والحكم المطلق عبر دستور يحد من صلاحيات الشاه، وبرلمان يمثل الشعب؛ أي أن غاية ما كانت تطمح إليه الثورة وقادتها من علماء دين ومفكرين هو التأسيس لملكية دستورية وراثية لا تتعارض قوانينها مع أحكام الشريعة الإسلامية. وقد عبّرت أدبيات الثورة بوضوح عن هذا الهدف. والكتب والدراسات والرسائل والخطابات التي صدرت لتحريك الثورة ومناصرتها وتقوية بنيتها الفكرية، ومنحها غطاءً فقهياً؛ كان همّها الأساس هو الدستور وتقييد صلاحيات الشاه به؛ فأضفت مختلف أنواع المسوغات الفكرية والفقهية والسياسية على الدستور؛ للحصول عليه وإقراره – أولاً – وضمان تطبيقه – ثانياً. ولذلك أطلقت على النظام السياسي الذي تهدف إلى تطبيقه: «الحكومة المشروطة»؛ أي الخاضعة للشروط، وهو تعبير عن تقييد الصلاحيات كما يحددها الدستور. وبالتالي فتأييد مرجع النجف الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني (ت 1911م)، وتوجيهات قائد الثورة السيد عبدالله البهبهاني الغريفي (ت 1910م)، وتنظير الشيخ الميرزا محمـد حسين النائيني (ت 1936م)؛ بل وحتى معارضة الشيخ فضـل الله النوري (أعدم 1909م)، لم تكن تهدف إلى تأصيل فقهي للنظام السياسي الإسلامي أو التأسيس لفقه سياسي إسلامي أو تدوين دستور لدولة إسلامية؛ لأنها كانت تتعامل مع الواقع الذي يحكم إيران ومع العقل الذي يتحكم بها.

وواقعية هذا اللون من الفكر السياسي الإسلامي المرحلي؛ له علاقة بمستوى وعي الأمة، ومستوى جرأة الفقهاء وانفتاحهم على موضوعات الفقه السياسي، ورؤيتهم لموضوعة الدولة الإسلامية، وهو نتاج لعملية تفاعلية بين العقل المتحكم بالشعب وفقهائه ومثقفيه، والواقع الحاكم منذ مئات السنين. ومثلما لم يكن علمانيو الثورة يفكرون تفكيراً حقيقياً بالتأسيس لنظام جمهوري؛ فإن إسلامييها أيضاً لم يكن وارداً لديهم التأصيل لنظام إسلامي.

وإذا دخلنا في بعض تفاصيل التركة الفقهية والفكرية الدستورية الإسلامية؛ سنرى أنّ محاولتي ثورة المشروطة الإيرانية وحركة الإصلاح الدستوري العثماني، كانتا تؤسسان لحكم دستوري سلطاني. ولعلهما لا يختلفان في ملامستهما لسطوح الفقه السياسي الإسلامي عن التجربة الباكستانية التي انتجت الجمهورية الإسلامية الباكستانية. بينما تراوحت رؤى بعـض الفقهاء والباحثين والجماعات الإسلامية، بين إعادة نظام الخلافة (حزب التحرير وجماعة النور) ([8])، وإقامة دولة المسلمين بالاعتماد على التراث الفقهي والفكري الموروث والحديث (جماعة الإخوان المسلمين) ([9])، أو الدولة السلطانية (التيار السلفي) ([10])، أو دولة الشورى (حزب الدعوة الإسلامية) ([11]). وقد كان الفقه السياسي للحركة السلفية وجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير؛ امتداداً للفقه السني الموروث، مع بعض الإضافات الإصلاحية في الشكل والأساليب، بهدف عصرنة دولة الخلافة أو تغيير اسمها.

أمّا الفكر السياسـي والدستوري الذي طرحه حزب الدعوة الإسلامية([12])؛ فكان جديداً في الوسط الإسلامي الشيعي، ومثّل نقلة في مسار الفقه السياسي لمدرسة الإمامة؛ لأنّه أول من دعا إلى الدولة الإسلامية وأصّل لشرعية إقامتها في عصر الغيبة، وتلخصت نظريته في دولة الشورى التي تبادر فيها الجماعةُ المؤمنة لقيادة الأُمّة وتأسيس الدولة الإسلامية([13]). ثم عاد مؤسس الحزب السيد محمد باقر الصدر ليطرح بعد عشرين عاماً فقهاً إسلامياً دستورياً عصرياً، مثّل خطوة نوعية أُخرى في مسار الفقه السياسي الشيعي([14]) وفقه الدولة الإسلامية([15]). ولعلّ هذا التأسيس هو من البحوث الفقهية الدستورية النادرة التي أفاد منها بناة القانون الدستوري الإسلامي الإيراني، والتي سبقت تدوين دستور الجمهورية الإسلامية الإسلامية.

أمّا الطفرة النوعية التحديثية في مسار القانون الدستوري الإسلامي؛ فهي التي جرت فصولها في إيران خلال العام 1979 والأعوام التي تلته، والتي أسست لقانون دستوري إسلامي تأصيلي مستند إلى الفقه السياسي الإسلامي. وأعقبتها محاولات في السودان وأفغانستان، لم تخرج عن الموروث الفقهي السياسي لجماعة الإخوان المسلمين.

وقد ظلت اتجاهات الفقه الإسلامي والتيارات الفكرية والسياسية الإسلامية؛ مختلفة حول كثير من أُسس وتفاصيل الفقه السياسي الإسلامي والتقنين الفقهي والفقه الدستوري، بل إنّ بعض هذه الاتجاهات لم تقترب بعد من فقه الدولة، وأُخرى تعتقد أنّ (الدسترة) غريبة في قواعدها وتطبيقاتها عن فقه الدولة الإسلامية. هذا فضلاً عن أنّ بحوث الفقه الدستوري الإسلامي أو التقنين الدستوري للفقه من البحوث الجديدة في الفقه السياسي الإسلامي؛ إذ لم يستخدم مصطلح (القانون الدستوري الإسلامي) استخداماً علمياً محدداً قبل العام 1979، بالرغم من استخدام مصطلح (الدستـور) و(القانون الأساسـي) في بعـض الدراسات والأدبيات السياسية الإسلامية التي صدرت منذ نهايات القرن التاسع عشر الميلادي مع ظهور الحركات الإصلاحية في الدولتين العثمانية والإيرانية. واشتهر مصطلح الدستور أو القانون الأساسي (حسب الاصطلاح التركي والفارسي) في الأدبيات الإسلامية مع بدايات حركة المشروطة في إيران القاجارية وإقرار الدستور في تركيا العثمانية.

وبذلك؛ فإنّ مصطلحات ومفاهيم كالتقنين الدستوري الوضعي للفه والفقه الدستوري الإسلامي، والقانون الدستوري الإسلامي، والدستور، تختلف من ناحية حداثة استخدامها زمنياً عن أغلب مصطلحات الفقه السياسي الإسلامي التي يعود استخدامها إلى زمن بعيد؛ إذ دخلت هذه المصطلحات مجال الفقه السياسي الإسلامي يرافقها جدل فقهي وعلمي وفكري وسياسي واسع. ولكن ـ مما لا شك فيه ـ أنّ عدم استخدام مثل هذه المصطلحات من قبل الفقهاء المسلمين، لا يعني أنّ قواعدها وأحكامها العامة غير موجودة في المدوّنات الحديثية والفقهية والكلامية الإسلامية([16]).

والحقيقة أنّ إخضاع أحكام الفقه السياسي الإسلامي وقواعده لقواعد القانون الدستوري وتقنياته الفنية؛ سيؤدي إلى تحديث النظرة الإسلامية إلى علاقة السلطة بالأُمّة، ووظائف الدولة والسلطة، وموضوعات الحقوق والحريات العامة والسياسية. وقد يكون في جزء من عملية التحديث هذه تعارض مع الفقه الموروث أو الفهم الشرعي الموروث لموضوع الدولة، وفي ذلك ـ كما يعبِّر بعض الفقهاء ـ تعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية. بيد أنّ مدخلية الزمان والمكان في تغيير موضوعات الأحكام الشرعية، وضغوطات الواقع بالانتقال إلى العناوين الثانوية، وتجاوز الجمود على بعض الأحكام التفصيلية في المجال السياسي، ونظم الدولة (ومعظمه مساحة متغيرات) بالاستناد إلى مقاصد الشريعة وأحكام ولي الأمر؛ يجعل عملية التحديث منسجمة مع أهداف الدين في إقامة الدولة وغاياتها ووظائفها؛ فيكون الأساس تحقيق الدولة لوظائفها الثابتة في الإسلام عبر آليات مرنة تتفق مع جوهر الشريعة ومقاصدها.

أمّا في الجانب الشكلي، أي هيكل النظام السياسي والتقنيات المتعلقة بتقنين الأحكام والقواعد الفقهية وصياغات القوانين ومسميات سلطات الدولة ومؤسساتها الدستورية؛ فهي قضايا تدخل في دائرة المتغيرات، ويمكن فيها اعتماد الصيغ والأدوات العصرية الأكثر فاعلية وفائدة وخدمة لأهداف الدولة وتطلعات الأُمّة.

وهنا نصل إلى أصل المشكلة، وهي مرتبطة بتنظيم العلاقة بين الفقه السياسي الشرعي بما يتضمنه من اجتهادات غير ملزِمة إلّا في حدود التقليد، والقانون الدستوري الوضعي الذي لا يقبل الاجتهادات والملزِم للجميع. وبكلمة أدق: تحويل أحكام وقواعد الفقه السياسي الإسلامي ـ على اختلاف فقهائها وتنوع اجتهاداتهم وتعدد مناهجهم ومستويات وعيهم ـ إلى صياغات قانونية وضعية وقواعد قانونية عامة آمرة وملزِمة للجميع، ومن شأنها ضبط السلوك الإنساني والعلاقات الاجتماعية السائدة في الدولة، وتعمل على تطوير هذه العلاقات باتجاه الأهداف المشتركة لفئات الشعب. ولا شك أنّ هذه العملية ليست عملية تقنية أو فنية وحسب، بل لها مداخل واسعة ومعمقة على الصعد الكلامية والفقهية والفكرية والقانونية؛ لأنّها ستكشف في النهاية عن مستوى قابلية النظام السياسي الديني على إدارة الدولة والمجتمع إدارةً عصرية تعمل على وحدتهما وتنميتهما وتلبية حاجاتهما، وتحقيق غايات الإسلام ومقاصد الشريعة في الدنيا وصولاً إلى الآخرة. وإذا عجزت عملية التقنين عن بلوغ هذه الأهداف؛ فإنّ النزوع نحو إطلاق يد التشريع الوضعي أو التقنين الوضعي سيتسع ويتعمق في الواقع الإسلامي، حتى وإن عمد المشرِّعون (Legistatots) إلى إضفاء مسوح إسلامية على التشريعات.

هذه المشكلة الأساسية تتفرع عنها مجموعة إشكاليات أو أسئلة فرعية، من أهمها:

1 ـ شكل ومضمون القواعد التي تحكم العلاقة بين الفقه السياسي الإسلامي بصياغاته الشرعية من جهة، والقانون الدستوري بصياغاته الوضعية من جهة أُخرى، وما يترتب على ذلك من مقدس ولا مقدس أو ثوابت ومتغيرات في قانون الدولة الإسلامية.

2 ـ أدوات وضوابط تحويل قواعد الفقه السياسي الإسلامي وأُصوله وأحكامه إلى قواعد ومواد قانونية دستورية حديثة، مع المحافظة على مقاصد القواعد الشرعية وعدم مصادرة مضامينها.

3 ـ محاولات أسلمة القانون الدستوري أُسوة بباقي العلوم الإنسانية والاجتماعية التي جرت محاولات لأسلمتها واكتشاف نظريات إسلامية مستقلة بها. وتبرز هنا إشكاليتان ثانويتان: الأُولى ترتبط بظهور القانون والحاجة إليه وضرورته بين الفكر القانوني الوضعي والفكر الفقهي الإسلامي، والثانية بأثر الموروث الفقهي في اتجاهات الفكر القانوني الإسلامي.

4 ـ ما يترتب ـ في الجانب التطبيقي ـ على تقدّم أحكام الشريعة على قواعد القانون الدستوري؛ باعتبار أنّ الشريعة هي المصدر الأساس للقانون الدستوري الإسلامي من جهة، وكون وثيقة الدستور هي النص النهائي الذي تحتكم إليه الأُمّة من جهة أُخرى.

5 – معادلة العلاقة بين سلطة الفقيه؛ باعتباره صاحب الولاية على الفتوى وتفسير الشريعة من جهة، وسلطة الدستور وسموه وكونه العقد الذي أجمعت الأمة على مواده ونصوصه من جهة أخرى، ثم ما يترتب علـى هذه المعادلــة من علاقة فرعية بين التشريع والرقابة عليه من جهة، والسيادة الشعبية (National sovereignty) من جهة أخرى.

والحقيقة أنّ الهاجس الذي دفع ـ ولا يزال يدفع ـ بعض الفقهاء والمفكرين والجماعات الإسلامية إلى التمسك بالمصادر المقدسة دون غيرها كقوانين نهائية للدولة الإسلامية([17])؛ يكمن في الإشكاليات المترتبة على استحالة قانون الدولة الإسلامية قانوناً وضعياً، والتي تدور في إطار ثنائيات الديني والدنيوي، الشرعي والوضعي، الإلهي والبشري، الملزِم وغير الملزِم، المقدس واللا مقدس، الثابت والمتغيِّر وغيرها.

ويمكن هنا طرح فرضية ملخصها: إنّ تقنين الفقه هو التفعيل البشري للشريعة، والقوانين التي تترشح عن هذه العملية هي قوانين بشرية مصدرها إلهي، وهي غير مقدسة في صياغاتها، ولكنها في مضامينها تنهل من أحكام وقواعد مقدسة، وهذه القوانين ملزِمة؛ ليس باعتبار قدسيتها، بل باعتبار وظيفتها. وقد خصّ الله (تعالى) نفسه بالتشريع؛ فالتشريع الإلهي هو المقدس والثابت والملزِم بالمطلق، والمتمثل في النصوص المقدسة (القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة). وقد دلّت هذه النصوص على وجود جهة مختصة في تفسير النصوص والاستنباط منها واستكشاف الجديد من الإجابات الشرعية، وهم الفقهاء، الذين يمثلون القناة التي تربط بين التشريع الإلهي والتفسير البشري. وحين تتحول هذه النصوص والتفسيرات والاجتهادات ـ بتفويض من هذه القناة ـ إلى صياغات حديثة على أساس الأُصول المرعية في القوانين الوضعية، من قبل السلطات المختصة المنتخبة من الأُمّة (المجلس التأسيسي أو البرلمان أو الحكومة)؛ فإنّ هذه الصياغات تكون وضعية وبشرية. وهنا تكمن معادلة العلاقة بين حاكمية الشريعة وحاكمية الأُمّة. صحيح أنّ هذه القوانين هي قوانين إسلامية، ولكنها قوانين اعتبارية أو عقْدية، وتدخل في باب ما لا نصّ فيه، وهي مساحات تفويض تشريعي، وتحديداً هي وثيقة الدستور، والقوانين العادية، والقرارات والنظم الحكومية.

 

([1]) درسنا هذا الموضوع بشيء من التفصيل في بحث التخرج الجامعي الموسوم: «تطور الفقه السياسي الإسلامي حتى ظهور النظريات الحديثة»، والمطبوع في كتاب «الفقه والسياسة»، وفي رسالة الماجستير الموسومة: «النظام السياسي الإسلامي الحديث وخيارات الديمقراطية والثيوقراطية والشورى»، والمطبوعة كتاباً تحت العنوان نفسه.

([2]) يستثنى من ذلك ما كتبه بعض الفقهاء في مراحل من تاريخ الدولة الصفوية وبدايات الدولة القاجارية، ولا سيّما في أبواب الجهاد والخراج والقضاء والحسبة.

([3]) ويقصد به الفقيه الذي يحكم بين الشيعة بالاستناد إلى الشرع أو الشريعة الإسلامية، ويرجعون إليه في شؤونهم، وليس الحاكم السياسي؛ أي أنّ الشيعة يتقاضون لدى الفقيه، ويسلمونه حقوقهم الشرعية، ويستفتونه في أُمورهم الدينية والدنيوية.

([4]) من المدوّنات والكتب الفقهية التي عالجت هذه الموضوعات، يمكن الإشارة إلى أبواب الجهاد في «النهاية» للشيخ الطوسي، أبي جعفر (ت460 ه)، و«قواعد الأحكام» للعلّامة ابن المطهر الحلي (ت771 ه)، وباب الحسبة في «الدروس الشرعية» لمحمد بن مكي العاملي (ت786 ه) وباب القضاء في «مسالك الإفهام» لزين الدين العاملي، و«المهذب البارع» للمحقق ابن فهد الحلي (ت841 ه)، وكذلك أبواب الخراج، وباب البيع في «المكاسـب» للشيخ الأنصاري، مرتضى (ت1281ه) وكتاب «البيع» للإمام الخميني، روح الله (ت1989م) الذي بحث فيه موضوع ولاية الفقيه.

([5]) هناك بحوث كثيرة في هذا المجال، اُنظر: الباحث نفسه، «الفقه والسياسة: تطور الفقه السياسي الإسلامي حتى ظهور النظريات الحديثة»، دار الهادي، بيروت، لبنان، 2003، ص32 ـ 50.

([6]) شاخت، جوزف، وبوزورت، كليفورد، «تراث الإسلام»، ترجمة: د. حسين مونس؛ ود. إحسان صدقي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998، ص103.

([7]) اُنظر: السنهوري، د. عبد الرزاق، «الخلافة»، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1989، ص21، و«مصادر الحق»، ص46.

([8]) اُنظر: كتابات الشيخ محمد تقي النبهاني (ت 1966م) وأدبيات حزب التحرير: «دولة الخلافة»، و«مشروع دستور دولة الخلافة»، وزلوم، عبد القديم، «الديمقراطية نظام كفر» وغيرها، حزب التحرير، بيروت (د.ت).

([9]) اُنظر: كتابات الشيخ حسن البنا (ت 1949م) في أدبيات جماعة الإخوان: «رسائل الإمام الشهيد حسن البنا»، وغانم، إبراهيم البيومي، «مفهوم الدولة الإسلامية المعاصرة في فكر حسن البنا»، مجلة الاجتهاد، بيروت، العدد14، شتاء 1992، ص143.

([10]) اُنظر كتابات ورسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتابات الشيخ محمد رشيد رضا، ككتاب «الخلافة» وغيره.

([11]) اُنظر أدبيات حزب الدعوة الإسلامية حتى العام 1979، وأبرزها: «نشرة الأُسس الإسلامية» التي كتبها السيد محمد باقر الصدر، مطبوعة في الجزء الأول من «ثقافة الدعوة الإسلامية»، 1981 (د.ت).

([12]) تحديداً في الأعوام 1958 ـ 1960، وفي مقدمها «نشرة الأُسس الإسلامية» والنشرة التي تأسس وفقها حزب الدعوة الإسلامية، والتي أصَّل فيها السيد محمد باقر الصدر لشرعية إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة.

([13]) بعد التعديل الذي أدخله السيد محمد باقر الصدر على نظريته الفقهية السياسية، فإنّه انتهى إلى التأصيل لنظام سياسي يجمع بين مبدأ الشورى ومبدأ ولاية الفقيه. وقد بقي حزب الدعوة متمسكاً بمبدأ الشورى حتى العام 1979، ثم عاد لتبني نظرية السيد الصدر في الجمع بين الشورى وولاية الفقيه.

اُنظر: الصدر، السيد محمد باقر، «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية»، من كتاب «الإسلام يقود الحياة» (مصدر سابق).

([14]) المصدر السابق.

([15]) اُنظر: الدراسات الخمس الأُخر التي جمعت مع الدراسة السابقة في كتاب «الإسلام يقود الحياة» (مصدر سابق).

([16]) للمزيد اُنظر: النبهان، د. محمد فاروق، «نظام الحكم في الإسلام»، جامعة الكويت، الكويت، 1974، ص164 ـ 165. وعاليه، د. سمير، «علم القانون والفقه الإسلامي»، المؤسسة الجامعية، بيروت، 1996، ص263.

([17]) وأُنموذج ذلك ما يقوله الفقيه الإيراني الشيخ فضل الله النوري (ت 1909): ((إنّ قوانيننا الإلهية لا تختص بالعبادات، بل تستوعب أيضاً أحكام جميع الشؤون السياسية على أكمل وأوفى وجه… لذا لن نكون بحاجة إلى جعل القوانين، بل إذا اعتقد شخص ما أنّ من الممكن والصحيح أن يجتمع جماعة من العقلاء والحكماء والسياسيين ويعطوا للشورى موقعاً قانونياً يجمع هاتين الجهتين ويوافق رضا الخالق أيضاً، فلا بدّ أن يكون هذا الشخص قد خرج عن ربقة الإسلام>. ويخلص إلى القول بأنّ: ((تدوين القانون في بلاد الإسلام هو بدعة، وأنّ الالتزام به بدون ملزِم شرعي هو بدعة أُخرى، والمسؤولية عن عدم الالتزام به هو البدعة الثالثة)). اُنظر: «رسائل فضل الله نوري»، دار رسا، طهران، 1984، ص57.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment