أربعينية الإمام الحسين مظهر إحياء أمر آل البيت

Last Updated: 2024/05/11By

أربعينية الإمام الحسين: مظهر إحياء أمر آل البيت

د. علي المؤمن

إحياء نهضة الإمام الحسين أحد أهم عناصر قوة الشيعة

يحظى الاجتماع الديني الشيعي بعناصر قوة وثبات واستمرار، لا يحظى بها أي نظام اجتماعي ديني آخر، إسلامي وغير إسلامي، وهي ليست وليدة العصر الحاضر، بل إنّ بداياتها وقواعدها قديمةٌ قِدم النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي. هذه العناصر الواقعية تشكل ضمانة بقاء المذهب الشيعي والنظام الاجتماعي العالمي المتماسك الذي أفرزه، وقوة هذا النظام ومناعته، وتمدده واستمرار عنفوانه، بصرف النظر عن العناصر العقدية والفقهية الأساسية التي تمثل قاعدة نشوء مدرسة آل البيت وأسس وجودها، والمتمثلة بكتاب الله وسنة رسوله والأئمة من ولده؛ لأنّ منهجنا في المقاربة هنا يتناول العناصر الواقعية وليست العقدية والنظرية.

ومهما كان الدين والمذهب والعقيدة والإيديولوجيا والجماعة، تحظى بعناصر القوة النظرية الذاتية؛ إلّا أنّها ستتقهقر وتتراجع وتتعرض لمظاهر الانهيار، في حال تعرضت لمحاولات الإقصاء والاستئصال، وفيما لو لم تكن تتمتع بعناصر القوة الواقعية والحماية الميدانية، وهي ما يمكن التعبير عنها بالسلطة الداعمة، سواء كانت سلطة الحكم أو سلطة الفتوى أو سلطة المال المستقل أو سلطة السلاح أو سلطة الطقس الاجتماعي المتجذر وغيرها. وكلما اجتمعت هذه السلطات وتكاملت في منظومة واحدة؛ ازداد المذهب والجماعة قوة ومناعة وضمانات على الاستمرار والتمدد. وعناصر القوة هذه، تشكل الحماية الواقعية الأساسية لمدرسة آل البيت وأبنائها وللنظام الاجتماعي الديني الشيعي.

تمثل مظاهر إحياء أمر أل البيت، وخاصة إحياء نهضة الإمام الحسين وذكرى استشهاده، وشعائرها والطقوس الاجتماعية المنسوبة إليها؛ أحد أهم عناصر الشد العقدي والوجداني والنفسي والمجتمعي المحورية للمذهب الشيعي ونظامه الاجتماعي الديني، وهي تلعب أدواراً نوعية ومتعددة في تقوية هذا النظام وتمييز هويته. ولعل المراقد والشعائر هما العنصران الأكثر التصاقاً بالوجدان الشعبي الشيعي، والأكثر إلهاباً لمشاعر الشيعة من بين عناصر قوة نظامهم الاجتماعي الديني الأُخر، ولا فرق في ذلك بين متدين مقلِّد للمراجع وبين غير متدين لا يقلد، أو بين إسلامي متزمت وبين علماني منفلت فكرياً، أو بين مؤمن وبين مقارب للإلحاد.

ومن أهم مخرجات الشعائر الحسينية وطقوسها أنّها تخلق طاقة محركة هائلة من الحماس المجتمعي الشامل لمواجهة أيّ تحدٍّ وتهديد للنظام الاجتماعي الديني الشيعي ومكوناته؛ الأمر الذي حوّلها إلى هاجسٍ وجودي للنظم السياسية الطائفية المتعاقبة، منذ واقعة استشهاد الإمام الحسين وحتى الآن، وظلت تعدّها تهديداً تلقائياً لها. ولذلك؛ عملت هذه الأنظمة بكل ما تمتلك من وسائل قوة قانونية وسياسية وأمنية وعسكرية، من أجل القضاء على هذه الشعائر وطقوسها.

أهمية دراسة ظاهرة مراسيم الأربعينية الحسينية

تعد المراسيم السنوية التي تقام في ذكرى مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين بن علي؛ ظاهرة إنسانية واجتماعية ودينية فريدة في شكلها ومضمونها، وحجمها ونوعها، وتشد انتباه المتخصص قبل المراقب العادي. ومسيرة المشاة السنوية الى مرقد الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) في ذكرى أربعينية؛ هي ممارسة شرعية، ومنتجة في آثارها ومخرجاتها، وعظيمة في تأثيرها وشكلها ومضمونها. وهذه المراسيم هي ظاهرة اجتماعية إسلامية شيعية بامتياز، وتعد مادة مهمة ونوعية للدراسات التنموية التطبيقية؛ سيما في مجالات التنمية البشرية والمجتمعية والدينية، وكذلك الدراسات الأكاديمية النظرية؛ في كثير من الفروع الإنسانية والاجتماعية. وأعتقد أن مراكز البحوث العالمية وعلماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي وعلماء الاجتماع الديني وعلماء الإنثروبولوجيا؛ ولاسيما الغربيين والمستشرقين؛ لو درسوها بعمق؛ لخرجوا بنتائج علمية غاية في الأهمية؛ تشكل إضافة نوعية لقواعد علم الاجتماع الديني.

ودراسة مثل هذه الظاهرة بحاجة الى تجرد وموضوعية تجاه مادة البحث؛ وهذا ما لا تعرفه الساحة العلمية والثقافية العربية غالبا؛ لأنها تجاه هكذا ظواهر؛ تكون الأحكام الجاهزة المؤدلجة والمسيسة التي تفرضها الانتماءات المذهبية والطائفية السياسية، هي قاعدة البحث وعماد نتائجه.

هذه المراسيم التي تختتم في مدينة كربلاء، يوم العشرين من صفر من كل عام هجري؛ تعود جذورها الى أول مراسيم أقامها في كربلاء آل البيت المفجوعين، بعد مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين في العام 61 للهجرة، وقد أحياها حينها الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) والسيدة زينب بنت علي بن أبي طالب ومن معهما من أرامل وأيتام آل البيت الذين وصلوا في مثل هذا اليوم الى كربلاء قادمين من عاصمة يزيد بن معاوية (دمشق الشام) ومعهم رأس الإمام الحسين ليدفنوه مع جثمانه الطاهر. وقد التقى بهم صحابة وتابعين وبعض القاطنين قرب كربلاء؛ أهمهم جابر بن عبد الله الأنصاري؛ ليحيوا جميعاً المناسبة.

ولم تنقطع مراسيم ذكرى أربعينية الإمام الحسين حتى سنة واحدة، منذ العام 16 ه، بالرغم مما تعرضت له من قمع، يتراوح بين التهديد والوعيد لمن يشارك فيها وصولا الى المنع المطلق واعتقال وتعذيب وقتل من يشارك فيها. ولم تشهد استقراراً حتى بعد سقوط نظام البعث الطائفي في العام 2003، وما أعقبه من مشاركة الشيعة في الحكم، إذ ظلت هذه المراسم تتعرض الى أنواع قاسية من حالات العنف من قبل الجماعات التكفيرية الوهابية وبقايا نظام البعث.

توصيف ظاهرة مراسيم الأربعينية الحسينية

نقدم هنا توصيفاً إحصائياً عاماً تقريباً لهذه الظاهرة؛ على وفق معطيات هذه المراسيم في العام 2024؛ لتكون مدخلاً لدراسة إمكانية استثمارها إنسانياً ودينياً واجتماعياً وأخلاقياً وتعبوياً:

1- اشترك في المراسيم ما يقرب من (24) مليون إنسان، بينهم (19) مليون عراقي من داخل العراق؛ أي ما يقرب من 40 بالمائة من سكان العراق، أو حوالي 75 بالمائة من شيعة العراق، وهي بذلك أضخم وأكبر مشاركة بشرية في تاريخ العالم وحاضره.

2- اشترك في المراسيم ما يقرب من نصف مليون عراقي مغترب؛ وفدوا من حوالي (50) بلداً.

3- اشترك في هذه المراسيم بضعة آلاف من العراقيين السنة، وكذلك من غير المسلمين، وتحديداً المسيحيين والصابئة.

4- اشترك في المراسيم ما يقرب من أربعة ملايين غير عراقي، ينتمون الى أكثر من (70) جنسية. بينهم حوالي (4) ملايين إيراني، ونصف مليون هندي وباكستاني وأفغاني ولبناني وكويتي وبحريني وسعودي وعماني وسوري، ومن بلدان أخرى، أي أنه أكبر تجمع أجنبي يجتمع في بلد واحد خلال أيام محددة.

5- انطلق المشاركون من أكثر من (500) مدينة وناحية وقرية عراقية؛ من جنوب العراق وشرقه وشماله؛ في مسيرات راجلة، أي مشياً على الأقدام باتجاه مدينة كربلاء، حيث مرقد الإمام الحسين.

6- مجموع طول الطرق التي قطعتها المسيرات الراجلة أكثر (2000) كم، أي أنها أطول مسيرة راجلة عرفتها البشرية.

7- سار المشاة لمدد متفاوتة؛ تبدأ بيوم واحد وتنتهي بخمسة عشر يوماً متواصلاً.

8- على مدى الأيام الخمسة عشر التي استغرقتها المسيرة، وعلى طول طرق الألفي كيلومتر التي يقطعها المشاة؛ تم نصب أكثر من (100) ألف سرادق وخيمة ومضيف وحسينية وجامع؛ متراصة ـ غالباً ـ جنباً الى جنب؛ يحمل معظمها اسم (موكب)، وكلها للخدمة، أي أنها قدمت مختلف أنواع الخدمات على مدار الأربع وعشرين ساعة يومياً؛ كالطعام والشراب والمرافق الصحية والمبيت والاستراحة والصلاة والعبادة والعلاج والإسعاف والاتصالات والنقل والنظافة والأمن وغيرها، وهي بذلك أضخم وأكبر مجموعة مرافق خدمية تعمل في وقت واحد وفي أماكن متصلة، على مستوى العالم.

9- قامت المرافق الخدمية بتأمين الطعام والماء والفاكهة والعصير والشاي وغيرها، بما مجموعه (500) مليون وجبة طعام تقريباً، و(500) مليون لتر من مياه الشرب، و(100) مليون قنينة عصير، وحوالي (500) ألف طن من أنواع الفواكه، أي ما معدله (33) مليون وجبة طعام يومياً تقريباً، أي أنها أطول وأضخم مائدة طعام وشراب عرفتها البشرية حتى الآن.

10- قامت المرافق الخدمية أيضاً بتأمين حوالي (100) مليون خدمة مبيت للمشاة؛ على طول الطرق التي يقطعونها، أي أنها على مستوى العالم؛ أكبر استضافة مبيت في مساحة جغرافية متصلة وأوقات محددة.

11- اشترك في العمل في مجمل المرافق الخدمية أكثر من (500) ألف متطوع، من مختلف الاختصاصات: طباخين، بنائين، تقنيين، عمال، علماء دين، مهندسين، أطباء، صيادلة، سائقين، مترجمين، مرشدين؛ لم يستلموا طيلة عملهم فلساً واحداً، بل كان كثير منهم يساهم في الإنفاق على المراسيم، أي أنها أكبر كتلة متطوعين عرفتها البشرية حتى الآن.

12- رفعت في هذه المراسيم أكثر من ثلاثة ملايين راية وعلم صغير ومتوسط وكبير، يحمل معظمها الألوان السوداء والخضراء والحمراء، وكل لون يعبر عن معنى معين له دلالة تاريخية ودينية. وانتشرت أيضاً عشرات آلاف النسخ من العلم العراقي، وبضع مئات من أعلام الدول التي يفد منها المشاركون، خاصة البحرين وإيران ولبنان، وبذلك فهي أكبر كمية رايات وأعلام ثابتة ومتحركة ترفع في مناسبة واحدة وفي أماكن متصلة، وبأعداد لم تعرفها البشرية من قبل.

13- الملايين الذين اشتركوا في المراسيم ينتمون الى كل فئات المجتمع وطبقاته وشرائحه: متدينين وغير متدينين، بالرغم من الطابع الديني للمراسيم، فيهم أميون ومفكرون ومثقفون وحملة أعلى الشهادات الجامعية، وفيهم أناس عاديون وكبار قادة الدولة، وكذا فقراء وأكثر الأفراد ثراء، وجهلة بالدين وكبار الفقهاء والمجتهدين. ولم يظهر أي فرق بين هؤلاء في تقديم كل أنواع الخدمة والبذل والعطاء المادي والمعنوي، بل وحتى في الزي؛ إذ ذابت جميع الفوارق في إطار الملابس السوداء ـ غالبا ـ التي يرتديها المشاركون.

14- لم تحدث طيلة أيام المراسيم، وفي كل المدن والطرق التي تواجد فيها المشاركون، أية حوادث أدت الى إصابات، أو مشاجرات أو أعمال عنف أو حوادث مرورية، وهي حالة فريدة تاريخياً وجغرافياً على مستوى العالم.

15- تتحمل مدينة كربلاء العبء الأكبر في المراسيم؛ ككل عام؛ فهي المركز التي تتوجه إليها مسيرات المشاة المليونية، وفيها تختتم المراسيم بمشاركة ما لا يقل عن (15) مليون إنسان في يوم العشرين من صفر، وهي أكبر كتلة بشرية؛ على مستوى العالم؛ تشارك بمناسبة واحدة، في مكان واحد وفي يوم واحد.

16- تتحمل مدينة النجف الأشرف العبء الأكبر في المراسيم بعد كربلاء، كونها المدينة المؤسِسة لمراسيم مسيرة المشاة الأربعينية في التاريخ الحديث، وأن هذه المراسيم حتى قبل (100) عام، كان يقتصر إقامتها على سكان النجف فقط، وكذلك بحكم موقعها الجغرافي، وطبيعة مجتمعها، ووجود مرقد الإمام علي، وبذلك تمثل النجف الركيزة الأساس في إحياء هذه الذكرى، وتتحمل المسؤولية التاريخية في حمايتها معنوياً ومادياً، فضلاً عن العبء. وقدر حجم إنفاق أهالي النجف على هذه المراسيم لهذا العام ما يقرب من (100) مليون دولار؛ أي حوالي 20 بالمائة من مجموع ما يتم إنفاقه على جميع المراسيم، وكلها تبرعات من الأهالي، فضلاً عن أنّ أغلب سكان مدينة النجف يتفرغ لإحياء هذه المراسيم لمدة تتراوح من 5 الى 15 يوماً متواصلة، وتكان تخلو المدينة من سكانها خلال الأيام الأربعة الأخيرة من المراسيم.

17- مجموع ما أنفقه العراقيون الأهالي على جميع المراسيم هذا العام، وبدوافع ذاتية محضة؛ بلغ حوالي (600) مليون دولار؛ إذ تراوح حجم تبرعات الأفراد بين (1000) دينار عراقي (75 سنت أمريكي) و (100) مليون دينار عراقي (75) ألف دولار أمريكي.

18- هؤلاء الملايين المشاركين في المراسيم، وكذا المتطوعين للخدمة، والمتبرعين بأموالهم ووقتهم وممتلكاتهم؛ إنما يتحركون بدوافع ذاتية، لا دخل فيها لدولة أو حكومة أو تنظيم أو مرجعية سياسية أو دينية، ولا علاقة لها بقرارات سياسية أو اجتماعية أو فتاوى؛ بل ترتكز هذه الدوافع على قاسم مشترك؛ هو الإيمان بقضية الإمام الحسين وذكراه، وأنها جديرة بأن تُحيى وتستمر.

النجف الأشرف: قاعدة مراسيم أربعينية الإمام الحسين

بدأت مسيرة مشاة ذكرى الأربعينية الحسينية، بشكلها المنتظم الحديث، في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، بأفراد ينطلقون من مدينة النجف الأشرف الى مدينة كربلاء المقدسة مشياً على الأقدام لمدة أربعة أيام، بمعدل (20) كيلومتراً في اليوم. وتبدأ المسيرة في يوم 16 صفر، حيث ينطلق الزوار المشاة في صباحه من النجف الأشرف الى خان المصلى (خان الربع)، ويبيتون الليلة هناك. وفي يوم 17 صفر ينطلقون من خان المصلى الى خان الحماد (خان النص في ناحية الحيدرية حالياً)، ويبيتون ليلتهم فيه. وفي يوم 18 صفر ينطلقون من خان الحماد الى خان النخيلة (خان الثلاثة أرباع)، ويبيتون ليلتهم فيه. وفي يوم 19 صفر ينطلقون من خان النخيلة باتجاه مدينة كربلاء، ويبيتون الليلة في كربلاء بجوار مرقد الإمام الحسين. وفي صبيحة الـ 20 من صفر يقوم النجفيون بالاشتراك مع مواكب المدن العراقية وغير العراقية الأخرى بإحياء المراسيم النهائية لذكرى أربعينية الإمام الحسين.

جدير بالإشارة الى أن الخانات هي ثلاثة مباني قديمة تعود الى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين؛ وتقع في الطريق بين مدينتي النجف الأشرف وكربلاء، وتفصل بينهما مسافات غير متساوية؛ ولكن معدل المسافة بين كل خان وآخر هو (15- 20) كيلومتراً؛ إذ تبلغ المسافة من مرقد أمير المؤمنين في النجف الى مرقد الإمام الحسين في كربلاء حوالي 75 كيلومتراً. وهذه الخانات بنيت خصيصا كأماكن لاستراحة الزائرين القادمين من النجف الى كربلاء وبالعكس. كما كانت تستخدم أحيانا كمقرات عسكرية لحماية الزوار والمنطقة من قطاع الطرق والعابثين بالأمن. وبقيت هذه الخانات تستخدم للغرض نفسه حتى العام 1979، حين أقدم النظام البعثي على منع مسيرة المشاة من النجف الى كربلاء نهائياً؛ فتعرضت الخانات الى الإهمال والتخريب بمرور الزمن. ولاتزال اليوم شبه مهجورات؛ بعد أن أخذت مئات المباني الحديثة والحسينيات والمخيمات المتراصة من النجف الى كربلاء محلها في خدمة الزوار.

وقد وصل عدد هيئات الخدمة ومواكبها في الطريق بين النجف وكربلاء وحدها الى حوالي سبعة آلاف هيئة وموكب. وربما يبلغ حجم إنفاق أهالي النجف الأشرف على مراسم الأربعينية الحسينية خلال خمسة يوماً، ما يقرب (50) مليون دولار، أي حوالي 10 بالمائة مما ينفق على المراسم في كل العراق.

وقد انتفض النجفيون ضد نظام البعث الحاكم مرتين حين منعهم من أداء مراسيم المسيرة الراجلة؛ الأولى في العام 1976، وكانت انتفاضة صغيرة ومحدودة، والثانية في العام 1977، وهي الانتفاضة النجفية الصفرية الكبرى، وفي كلا الانتفاضتين كان النجفيون عزّل من السلاح، وكانوا يعلمون إن الخروج في مسيرتهم السلمية الدينية الصرفة؛ يساوي الموت؛ ولكنهم لم يأبهوا للموت، وخرجوا بعشرات الآلاف لإقامة المراسم. وكانت نتيجة انتفاضتهم الكبرى في العام 1977 تعرّض حوالي (30) ألف شخص الى الاعتقال. كما أعدم النظام البعثي عشرة من قادة الانتفاضة، وحكم على العشرات من المشاركين في الانتفاضة بالسجن المؤبد أو السجن لمدد مختلفة.

ويعبِّر النجفيون عن انتفاضتهم التاريخية الصفرية الكبرى بأنها نموذج مشرق لتطبيق مفهوم هوان الدنيا من أجل خط آل البيت (عليهم السلام). ويعتقدون أن من عاش لذة هذا العشق والتحدي والفداء في أيام النظام البعثي، ولا سيما الفترة من صفر عام 1976 وما بعدها، هو الذي يعي ما يعنيه مفهوم هوان كل شيء من أجل آل البيت.

عراقيو الأربعينية: أمة عظيمة في دولة ناجحة

بلغة الأرقام الواقعية التي تترشح عن مراسيم الأربعينية الحسينية؛ تفوقت الأمة العراقية تفوقاً كمياً موسمياً على كل أمم الأرض، وأثبتت الدولة العراقية إنها خلال خمسة عشر يوماً (5 الى 20 من شهر صفر) على رأس الدول الناجحة عالمياً؛ برغم كل الإخفاقات والصعوبات والمحن والإشكاليات في المجالات الأخرى؛ كسوء الخدمات، وتزايد البطالة، والخلل الأمني، والفساد الإداري والمالي، وسقوط معدلات التنمية…الخ من القائمة التي تطالعنا صباح مساء؛ حقاً أو باطلاً، وتزيد العراقيين يأساً وإحباطاً، وجلداً للذات وتقريعاً للنفس. ولكن؛ مراسيم أربعين الإمام الحسين؛ أكدت؛ ككل عام؛ أن العراق شعباً ودولةً يحملان قدرة ذاتية هائلة على إدارة الأزمات، وعلى إنتاج الصمود والصبر، وعلى التكافل والتعاضد والتعاون، وعلى حسن الإدارة والتدبير؛ بشكل يندر مثيله في التاريخ والجغرافيا.

أمةٌ مجروحة ودولةٌ محارَبة؛ يحققان سنوياً أعظم إنجاز تنظيمي ومالي وإداري، وأروع تكافل وتعاضد بين الشعب والجيش والشرطة والحشد الشعبي والإدارات المحلية ومؤسسات الحكومة المركزية. الجميع متكافل مادياً واجتماعياً وتنظيمياً، ومتعاون بمنهجية متفردة إنسانياً ووطنياً؛ كأنهم لوحة متناسقة تتكامل في مضامينها وألوانها؛ لينتجوا نجاحاً ساحقاً في مجالات التنظيم والإدارة الأمنية والمالية والغذائية والخدمية واللوجستية.

في هذه المراسيم السنوية تقوم الدولة العراقية من خلال الجيش والشرطة والإدارات المحلية والمؤسسات الصحية والخدمية؛ الى جانب قوات الحشد الشعبي ومنظمات المجتمع المدني؛ بتأمين الجانب الأمني للمراسيم، وجزء من الجانب الخدمي، وتنظيم حركة المرور والنقل. كما كانت السفارات والقنصليات العراقية في كل أنحاء العلم تقوم بمنح ما يقرب من ثلاثة ملايين تأشيرة دخول خلال شهر واحد تقريباً؛ أي ما معدله (130) ألف فيزة يومياً، وذلك قبل إلغاء التأشيرة لمواطني بعض الدول، ومنها إيران، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الدبلوماسية العالمية، حيث كانت تتحمل سفارة العراق وقنصلياته الخمس في إيران العبء الأكبر في هذا المجال، وتعقبها في العدد سفارات وقنصليات العراق في لبنان والكويت وعمان والإمارات وتركيا وباكستان والهند وآذربيجان.

وكما أسلفنا في فقرة سابقة؛ فإن الشعب والدولة يحولان خلال هذه المراسيم المليونية دون حدوث أية مشاجرات أو أعمال عنف أو خروقات أمنية أو حوادث مرورية أو انتشار للأمراض والأوبئة. بل لا ينجم عن هذه المراسيم سوى عدد قليل جداً من الضحايا؛ نتيجة خرق أو اثنين تقوم به الجماعات الإرهابية؛ قياساً بما يجري في كل دول العالم، وقياساً بالوضع الأمني غير المستقر للعراق الذي تستهدفه الجماعات الإرهابية التكفيرية وبقايا النظام البعثي التي تناصب مراسيم الأربعينية العداء، وتحضر نفسها سنوياُ لهذه المناسبة للقيام بعمليات التفجير والقتل الجماعي ونشر الأوبئة وتسميم المياه والأطعمة؛ ولكنها تفشل فشلاً ذريعاً؛ نتيجة قبضة القوات الأمنية العراقية الحكومية والشعبية، والتي تتمكن بنجاح من تأمين حياة (24) مليون إنسان؛ منتشرين على طرق طولها (2000) كم، خلال (15) يوماً.

 

استثمار مراسيم الأربعينية لخدمة أهداف نهضة الحسين

مراسيم الأربعينية الحسينية المتفردة تاريخياً وجغرافياً؛ دليل ميداني واضح على قدرة العراقيين الفائقة على التنظيم والإدارة والتدبير والعطاء والتضحية والبذل من أجل إنجاح أضخم مراسيم كمية في العالم. ولعل بالإمكان استثمار هذه القدرة وتعميمها؛ لتتحول المراسيم من ظاهرة موسمية كمية الى ظاهرة نوعية مثمرة على مدار السنة؛ عبر توظيف معطيات الظاهرة في الجانب الاجتماعي التكافلي، والديني التوعوي، والجهادي، والتنموي المستدام؛ لتكون قاعدة للنهوض الوطني الشامل؛ لأن شعباً بهذا التألق والإشراق والنجومية، ودولة بهذا الحجم من قبول التحدي والإصرار على النجاح؛ جديران بأن يكونا في مصاف الشعوب والدول المتقدمة الكبيرة في نموهما الداخلي وحضورهما الدولي وإنجازاتهما على كل الصعد وتحقيق طموحاتها المستقبلية. وبالتالي؛ فإن هذه المراسيم الأضخم عالمياً هي أعظم مولد لطاقة الأمة، وأعظم دافع نحو البناء والتخطيط السليم، وأروع مظهر لتلاحم جماعات الأمة وأفرادها، وتعاونهم وتكافلهم وتوادهم وتحاببهم.

العراق بكله؛ بحاجة الى استثمار نوعي لهذا الحدث السنوي العالمي؛ باتجاه مزيد من التمسك بأهداف آل البيت الإنسانية والأخلاقية والدينية وبقضية الإمام الحسين وغاياتها، وصولاً تحقيق أهداف الدين والوطن؛ ليعود العراقي الى مدينته وقريته وبيته ومحل عمله؛ وهو مشحون بطاقة الصلاح والإصلاح والبناء والتنمية الشخصية والمجتمعية، ومندفع نحو خدمة المجتمع والبلد، وملتزم بالعبادات وأحكام الشريعة في كل مجالات الحياة.

لو قامت الدولة العراقية والمرجعية الدينية والحوزة العلمية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والهيئات الحسينية ووسائل الإعلام والجماعات الإسلامية وقطاعات السوق والتجار ورجال الأعمال؛ باستثمار الطاقة الكبرى التي تولدها مراسيم الأربعينية في نفوس العراقيين وعقولهم؛ لتغيرت معادلة العراق قطعاً، ولا نسحب هذا النجاح الموسمي السنوي الى نجاحات باهرة مستدامة.

الى جانب المراسيم الموسمية السنوية نفسها؛ يمكن تخصيص جزء من التبرعات أو مضاعفتها، وبعض المنشآت والمباني، وأعداد من المتطوعين؛ لتأسيس مؤسسات لمهمات محددة؛ تعمل على مدار السنة، ويمكن أن تحمل اسم “الأربعينية الحسينية”؛ لكيلا يخرج العطاء عن هذه المناسبة كما يرغب بذلك أهل العطاء. مثالاً:

1- جمعيات وطنية ومحلية كبرى للتكافل الاجتماعي؛ تهتم بمساعدة المحتاجين والأيتام والعجزة والمرضى، ودعم زواج الفقراء، ومشاريع إسكان المعوزين.

2- مشاريع وقفية اقتصادية تنموية لتشغيل العاطلين، ولمساعدة العاطلين أيضاً في إقامة مشاريع عمل صغيرة.

3- مؤسسات فنية وإعلامية لإنتاج أفلام وثائقية وروائية ومسلسلات تلفزيونية وكليبات وغيرها من الأعمال الفنية، وبمختلف لغات العالم، حول حياة أهل البيت والقضية الحسينية وتاريخها وجهاد الحسنيين على مر التاريخ ومحاربة الطغاة لشعائر أهل البيت، واستنهاض الأمة للدفاع عن مقدراتها ضد الإرهاب والجماعات الإرهابية والتكفيرية.

4- جمعيات ومؤسسات دينية إرشادية دعوية ثقافية؛ تعمل على تقوية الجانب الإيماني والعبادي والعقائدي لدى المشاركين بالمراسيم.

5- لجان للتحرك على العراقيين غير الشيعة وغير المسلمين؛ من أهل السنة أو المسيحيين؛ للمشاركة بكثافة عددية وحضور نوعي وعناوين واضحة في مراسيم الأربعينية؛ لتحويلها الى نطاق داعمة لمشروع التلاحم الوطني.

وهناك أفكار عملية كثيرة أخرى يمكن تنفيذها بتعاضد علماء الدين والمثقفين والمسؤولين والتجار وأصحاب الهيئات الحسينية.

هل يمكن كسر نظام ديني اجتماعي بهذا الاقتدار؟

تخيّل أن نظاماً اجتماعياً دينياً، يستطيع سنوياً تحشيد ما يقرب من (24) مليون إنسان من أتباعه، من (75) دولة، تحشيداً ذاتياّ، في منطقة واحدة، ويسيرون مشياً على الأقدام باتجاه مدينة واحدة، على طرق مجموع طولها (10) آلاف كم، لمدة (2- 15) يوماّ، بدرجة حرارة (50) مئوية، وينصبون (100) ألف محطة خدمة مؤقتة على هذه الطرق، ممولة ذاتياّ، تقدم بالمجان الطعام والشراب والإسكان والعلاج ومحلات العبادة وغيرها من الخدمات، وبواقع (500) مليون وجبة طعام، و(500) مليون لتر مياه، و(مليار) قدح شاي، و(100) مليون قنينة عصير، و(500) ألف طن فواكه. ويرفع هؤلاء المشاة (3) ملايين علم وراية ويافطة، ويطلقون الشعارات والهتافات نفسها، ويمارسون المراسيم نفسها، كلّ بلغته، ثم يجتمعون في المدينة المقصودة في آخر يوم من هذه المراسيم؛ ليجددوا عهد الارتباط والانتماء والولاء لأحد أهم رموز نظامهم الاجتماعي الديني.

تخيّل أنّ هذه المراسيم، الفريدة في حجمها ونوعها على مستوى التاريخ والجغرافيا؛ تقام ذاتياً بتنظيم عالي المستوى، دون وجود جهة داعية أو منظِّمة، أو حتى مشرفة، ودون أن تحصل خلالها أية مشاكل اجتماعية واقتصادية وأمنية، وهي أسرار لا يحتويها سوى نظام اجتماعي ديني واحد في هذا العالم.

تخيّل أنّ هذا النظام الاجتماعي الديني المتفرد، الذي يعيش عصره الذهبي، بعد أن بلغ هذا المستوى من الفاعلية والعالمية والتماسك والمركزية والتمويل الذاتي، وينتج هكذا ظواهر عالمية فريدة؛ هل يمكن كسره وإركاعه؟!، وهل يمكن إعادته الى عصور التهميش والعزل والظلام والقمع والتشريد؟!

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment