أتباع المذاهب الإسلامية من الخلاف الفكري إلى الصراع والاقتتال

Last Updated: 2024/03/24By

أتباع المذاهب الإسلامية من الخلاف الفكري إلى الصراع والاقتتال

د. علي المؤمن

في الفترة التي أعقبت رحيل أئمة المذاهب والفقهاء الأوائل، وتحديداً خلال القرن الرابع الهجري، اتسع الخلاف العلمي والفكري بشكل مطرد، وتحول إلى عصبيات وصراعات طائفية، شبيهة بالحرب الشاملة على مختلف المستويات، بما فيها الفتاوى والشعر والسياسة والسلاح، ولم تكن هذه الصراعات الطائفية مقتصرة على الشيعة والسنة، بل كانت أكثر قوة وفتكاً بين أتباع الفرق والمذاهب السنية نفسها.

ونشير هنا إلى نماذج من هذه الصراعات عبر الشعر، والذي كان يومئذ، بمثابة الإعلام العام والصحافة اليومية المتجولة، لما له من دور خاص في عملية الإثارة والتحريك وإلهاب المشاعر.

يقول شاعر حنفي:

((غدا مذهب النعمان خير المذاهب       كذا القمر الوضاح خير الكواكب))

فيرد عليه شاعر شافعي:

((مثل الشافعي في العلماء   مثل البدر في نجوم السماء))

أما الشاعر المالكي فيقول:

((إذا ذكروا كتب العلوم فحي هل   بكتب (الموطأ) من تصانيف مالك

فشد به كف الصيانة تهتدي         فمن حاد عنه هالك في الهوالك))

ويقول الشاعر الشيعي:

((إذا شئت أن تبغي لنفسك مذهباً        ينجيك يوم البعث من لهب النار

فدع عنك قول الشافعي ومالك     وأحمد والمروي عن كعب أحبار

ووال أناساً نقلهم وحديثهم          روى جدنا عن جبرائيل عن الباري))

ولا شك في أن اللهجة التي يتراشق بها هؤلاء الشعراء؛ إنما تعبر عن عمق الصراع بين الاتجاهات التي يمثلونها، ففي مجموع الأبيات تشكيك حاد من كل مذهب بالمذاهب الأخرى، وهو التشكيك الذي يصل إلى حد الإخراج عن ملة الإسلام. وليس عجيباً حينها أن يحرِّم بعض علماء الشافعية زواج الشافعي من حنفية، إلا بالقياس إلى الكتابية، في حين حرّم الأحناف الصلاة خلف الشافعية، لأن الإمام الشافعي أباح للرجل الزواج من ابنته التي جاء بها من الزنا.

أما حوادث العنف والاقتتال والمجازر التي كانت إفرازاً طبيعياً للتعصب الطائفي والإقصاء المذهبي، فكانت تتصاعد بشكلٍ مطرد وحاد، فيذكر ابن الأثير في حوادث سنة 324 هـ أن الحنابلة كانوا يثيرون الفتن في بغداد ويرهجونها، واستظهروا على الشافعية بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد، وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب، أغروا به العميان، فيضربونه بعصيهم، حتى يكاد يموت.

كما يقول ابن كثير في حوادث سنة 354 هـ: «في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مأتمهم وبدعتهم (عزاء الحسين)…ثم تسلطت أهل السنة على الروافض، فكسبوا مسجد براثا الذي هو عش الرافضة، وقتلوا بعض من كانوا فيه».

وفي سنة 350 هـ، استعان السنّة بالجنود الأتراك والزنوج، وكانوا يسألون المارة عن خالهم، فإن لم يقولوا معاوية ضربوهم. وكان أهل السنة في مصر إذا أرادوا قتال الشيعة يصيحون في الطرقات: «معاوية خال علي».

كما وقعت فتنة عظيمة سنة 362 هـ، حيث عمد بعض أهل السنة إلى الوقوف ضد ما يقوم به الشيعة من الاحتفال بعيد الغدير والعزاء يوم عاشوراء، وقالوا: «نقابل أصحاب علي»، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير.

وبعد الاقتتال العنيف بين الحنابلة والشافعية في بغداد سنة 469 هـ، حاول الوزير نظام الملك التوصل إلى حل للمشكلة، فجمع بين ابن القشيري (شيخ الشافعية)، وأصحابه وبين أبي جعفر الشريف (شيخ الحنابلة) في مجلسه، وطلب منهما أن يتصالحا، فقال له القشيري: «أي صلح يكون بيننا؟ إنما الصلح يكون بين مختصمين على ولاية، أو دين، أو تنازع في ملك، فأما هؤلاء القوم: فيزعمون أنّا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافراً، فأي صلح يكون بيننا».

وفي سنة (555 هـ) أدى التعصب المذهبي بين الحنفية من جهة والشافعية والشيعة من جهة أخرى، في نيسابور، إلى قتل خلق عظيم، ومنهم علماء وفقهاء، وحرق الأسواق والمدارس والبيوت. ثم وقعت فتنة أخرى مشابهة في نيسابور بين الشافعية والحنابلة، اضطرت فيها السلطة إلى التدخل بالقوة وفض النزاع. وحدث الأمر ذاته في أصفهان وبغداد. وكانت نهاية سفك الدماء وهتك الأستار اشتداد الخطب – كما يقول ابن الأثير – أن خرّب الشافعيون كل ما بقي للأحناف في نيسابور. كما كانت أصفهان مسرحاً دائماً للصراع بين الشافعية والحنفية قبل مجيء الدولة الصفوية. ويذكر المؤرخون أن الحنابلة قتلوا بالسم الفقيه أبا منصور الشافعي سنة 567 هـ في بغداد.

إلّا أن مشكلة الشيعة في الصراعات الطائفية كانت مركّبة، فأهل السنة وفقهاؤهم ومحدثوهم كانوا في مأمن من السلطة، إلّا ماندر، وكانت صراعاتهم مجتمعية غالباً، بينما كان الشيعة يعانون من الصراعات المجتمعية نفسها، ولكن يضاف إليها حملات الاجتثاث من السلاطين والولاة والحكام، فقد قتلت السلطة الأُموية والعباسية أغلب أئمة أهل البيت، كما قتلت أعداداً هائلة من الشيعة في مجازر تاريخية معروفة، أدت الى انقراضهم في كثير من البلدان، وأبرزها:

  • مجازر المعز بن باديس الصنهاجي في بلدان شمال أفريقيا، بدءاً من سنة 410 ه، بعد أن كانت الدولة الشيعية الإدريسية ثم الفاطمية تحكمان أغلب شمال أفريقيا، حتى ذكر أن حجم مجازر بن باديس تسبب في انقراض الشيعة هناك، ولذلك كان يسمى ناصر السنة وقاهر الشيعة.
  • مجازر السلاجقة في بغداد بقيادة طغرل بيك، بدءاً من سنة 450 هـ، بعد أن كانت بغداد مقراً تأسيسياً للنظام الاجتماعي الشيعي، فذبحوا الشيعة وأحرقوا دورهم ومكتباتهم، وفيها هاجر الشيخ الطوسي (زعيم الشيعة) إلى النجف الأشرف، وأسس حوزتها العلمية.
  • مجازر نور الدين زنكي ضد شيعة بلاد الشام وشمال العراق، بدءاً من العام 541 ه، بعد أن كانت الدولة الحمدانية الشيعية، بعاصمتيها الموصل العراقية وحلب السورية، تحكم المنطقة الممتدة من شمال العراق وحتى سوريا وفلسطين، وأعقبتها الدولة الفاطمية في حكم بلاد الشام إضافة الى مصر.
  • مجازر صلاح الدين الأيوبي ضد شيعة مصر وبلاد الشام، بدءاً من العام 567 ه. ولعل مجازر صلاح الدين وعمليات الاجتثاث التي قام بها ضد الشيعة، هي الأكبر في التاريخ الإسلامي، والأكثر تأثيراً في تغيير حقائق الجغرافية السكانية المذهبية، إذ لم يقضى الأيوبي على الدولة الفاطمية أو يجتث شيعة مصر عن آخرهم، وأغلب شيعة بلاد الشام، بل قضى على المذهب الشيعي في مصر والشام بالكامل.

وهكذا نلاحظ أن الخارطة الاجتماعية ــ السياسية للمذاهب الإسلامية في البلدان العربية، كانت خلال القرن الرابع الهجري تميل لمصلحة الشيعة بالكامل، حيث كانوا يشكلون المجتمع الغالب في العراق وبلاد الشام ومصر وجميع بلاد المغرب العربي، لكن هذه المعادلة تخلخلت خلال القرن الخامس الهجري، ثم تغير كل شيء في القرن السادس الهجري، بفعل ما قام به أربع شخصيات فقط: المعز بن باديس وطغرل بك ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي.

وينبغي هنا الالتفات الى أن هذه المجازر لا تدخل في إطار الصراعات السياسية السلطوية بين الأسر الحاكمة والسلاطين السنة والشيعة، فهذه الصراعات حدثت أيضاً بين السلاطين الشيعة أنفسهم، وكذلك بين الحكام السنة أنفسهم، بل داخل الأسرة الحاكمة الواحدة، بل تدخل هذه المجازر في إطار الاجتثاث المجتمعي الطائفي الذي كان يقوم بها الحكام المنتصرون ضد عموم الشيعة، حتى ممن لا علاقة لهم بالسلطة والسياسة، والعمل على اجتثاث المذهب الشيعي عقدياً وإنسانياً، وليس مجرد القضاء على الحاكم الشيعي أو الدولة الشيعية، وهو ما لم يكن يحصل عند قضاء حاكم سني على حاكم سني آخر، إذ لا يتعرض الحاكم السني المنتصر الى الناس العاديين السنة ولا الى المذهب الرسمي السني للدولة.

والملاحظة الأخرى تتعلق بالجانب القومي الإنثروبولوجي، فملايين الشيعة الذين تعرضوا للاجتثاث والانقراض في شمال أفريقيا ومصر وبلاد الشام، كانوا من العرب الأقحاح، أما الذين استعانت بهم سلطة الخلافة على اجتثاث الشيعة والتشيع، فهم من غير العرب، فابن باديس هو من الأمازيغ (البربر)، وطغرل بيك سلجوقي تركي، ونور الدين زنكي سلجوقي تركي، وصلاح الدين الأيوبي من أكراد إيران. والمفارقة أن هؤلاء الأربعة يعدون شخصيات مقدسة عند بعض السنة الطائفيين، ليس لإنجازاتهم الإنسانية والإسلامية والعلمية، بل لأنهم اجتثوا الأكثرية السكانية الشيعية في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر ولبنان وفلسطين وسوريا والأردن وشمال العراق. لكنهم فشلوا في اجتثاث الشيعة في إيران، بسبب الحضور القوي للعلويين والعرب الشيعة في إيران، وتمسك الإيرانيين باحتضان ودعم هؤلاء المهاجرين المضطهدين، وهو الحال نفسه في سط العراق وجنوبه، إذ صمد التشيع بفضل جذوره الإنسانية والاجتماعية الضاربة بجذورها.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment