تقديم كتاب موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية من أزمة الكويت

Last Updated: 2024/06/18By

تقديم كتاب “موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية من أزمة الكويت”

بقلم: علي المؤمن

الدولة التي تلتزم في إدارة نظامها السياسي بجملة من المبادئ والثوابت (الدينية والإستراتيجية)، تنظر إلى الأحداث والأزمات انطلاقاً من ذلك الالتزام، وتعطي لمواقفها العملية ـ على مختلف الصعد ـ بُعداً مبدئياً، لتحقق الانسجام بين المواقف العملية والمواقف النظرية التي تقررها الثوابت، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجود منطقة فراغ مرنة في دائرة استنباط المواقف. وهذه المرونة تسمح للدولة بالتحرك في ساحة الواقع بمقدار من الحرية، يضمن لها الحفاظ على مصالحها ومقدّراتها السياسية والاقتصادية والإستراتيجية، بشكل متوازٍ مع التزامها الكامل بالثوابت.

وأزمة الكويت التي هزّت العالم عدة أشهر معتمة وطويلة، وما زالت آثارها تتفاعل في الواقع السياسي الدولي، قسّمت مواقف دول العالم أجمع إلى عدة أقسام، حسب التزام أو عدم التزام كل دولة بثوابتها الفكرية والإستراتيجية: قسم مع النظام العراقي، وآخر مع التحالف المضاد، وثالث على الحياد (السلبي).

أما موقف الجمهورية الإسلامية؛ فلعله فريد من نوعه، ويختص بها فقط، وذلك بالنظر لموقعها الإستراتيجي وقربها الجغرافي من الأحداث، وثقلها المعنوي والمادي على مستوى المنطقة الإسلامية، والمبادئ الإسلامية الأصيلة التي تلتزم وتبني مواقفها في ضوئها. كل هذه الأسس والخصائص فرضت على الجمهورية الإسلامية موقفاً واحداً فقط، وهو موقف الحياد الإيجابي من الأزمة، أي التدخل فيها، ولكن ليس لحساب أحد طرفيها، بل لحساب مصلحة المنطقة وشعوبها المسلمة، والحؤول دون وقوع كارثة الحرب المدمرة. انطلاقاً من فهمها الحقيقي للأزمة وخلفياتها وأسبابها وأطرافها ودوافع كل منهم.

إنّ أزمة الكويت كان ولا بُدّ أن تقع، لأنها تمثل مطلباً أمريكياً في طريق تطبيق واشنطن لنظامها العالمي الجديد. فلو لم تحدث هذه الأزمة لافتعلت أمريكا أزمة أخرى شبيهة، تحقق لها الأهداف والنتائج نفسها. وقد كان متوقعاً أن تتحول منطقتها الإسلامية إلى مسرح للتغييرات اللاحقة في الخارطة السياسية الدولية، بعد الانهيار الكبير في الكتلة الشرقية، وإقرار مشروع الوحدة الأوروبية ووحدة ألمانيا وغيرها، وذلك كخطوة مهمة أخرى في طريق تثبيت «النظام العالمي الجديد»، وهو النظام الذي لا زالت تبشّر به أمريكا، ولا سيما أن مرحلته الانتقالية أفرزت الولايات المتحدة الأمريكية كمركز استقطاب وحيد في العالم. وفي هذا الإطار يدخل اهتمام واشنطن المتزايد بقضايا الشرق الأوسط، وخاصة المنطقة الخليجية، التي تكتنز أراضيها ما يقرب من 60 بالمائة من الاحتياطي النفطي العالمي، بهدف تحويلها إلى منطقة نفوذ أمريكي خاص.

وقد بقيت أمريكا ـ منذ بداية التحولات العالمية ـ تبحث عن فرصة أو مسوّغ للتواجد في منطقتنا الإسلامية وفرض النظام الإقليمي الذي يتلاءم ومصالحها في المستقبل. ولعل تصريح «مكفارلين» (مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق) يشكّل أوضح تعبير في هذا الاتجاه، حين قال في عام 1988، أي قبل سنتين تقريباً من أزمة الكويت: «إنّ الذي يستولي على الخليج الفارسي في أواخر القرن العشرين يمكن أن يركّع الاقتصاد العالمي». وهكذا جاء غزو النظام العراقي للكويت ليعطي أمريكا خير مسوّغ للبدء بتنفيذ مخططها الاستكباري في المنطقة، بغض النظر عن حقيقة دوافع الغزو وأهدافه، وبعيداً عن الآراء المتباينة حول علاقة حكومة واشنطن بقرار الغزو، أي هل انه تم بضوء أخضر منها لبغداد، أم أن القرار كان صدّامياً خالصاً؟!. والإجابة على هذا السؤال متروكة لأحد فصول الكتاب.

وبحصر الحديث عن النتائج التي تمخضت عن الغزو، سنرى أنها سوّغت لأمريكا العمل على تحقيق ما تصبو إليه تحت شعار «تحرير الكويت»، وهو الشعار الذي كانت تقف وراءه أهداف إستراتيجية بعيدة المدى، تبدأ بالتواجد الاستكباري العسكري في المنطقة، ثم تدمير البنى التحتية للعراق وترسانته العسكرية، والتصدي للمد الإسلامي الثوري المنطلق من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، واستهداف أي دور خارجي لها. وفي النهاية، فرض النظام الإقليمي الجديد في المنطقة، كهدف استراتيجي. ويؤكد هذا الاتجاه التصريحات العديدة التي أطلقها قادة الغرب، ومن أبرزها تصريح الرئيس الأمريكي السابق «جورج بوش» قبل البدء بحرب استرجاع الكويت، والذي تحدّث فيها عن نظام أمن إقليمي جديد للمنطقة، في إطار النظام العالمي الجديد.

ومن هنا؛ فإن أهداف أمريكا ـ على المدة البعيد ـ في المنطقة الإسلامية تشتمل على إيجاد تغييرات في العديد من المجالات الجغرافية والسياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، على النحو التالي:

1 ـ إحداث تغييرات في الجغرافية السياسية للمنطقة، من خلال افتعال أزمات حدودية بين بلدان المنطقة، والمطالبة بأراضٍ متنازع عليها.

2 ـ ربط اقتصاديات دول المنطقة بأمريكا ربطاً مباشراً، والسيطرة على مصادر الطاقة، والتحكم بأسعار النفط وتصديره، من خلال احتكار قسم أساسي من نفط المنطقة، ثم إيجاد مشروع شبيه بـ«مشروع مارشال»، لإعادة بناء اقتصاديات بلدانها، وتحويلها إلى سوق اقتصادية مغلقة لأمريكا تقريباً، سواء ما يتعلق بالبضائع المدنية أو العسكرية.

3 ـ إيجاد نظام أمني خاص بالمنطقة الخليجية، يكون مرتبطاً بالولايات المتحدة الأمريكية مباشرة، من خلال العديد من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية، تُستبعد فيه الجمهورية الإسلامية، للحيلولة دون اشتراكها في أية ترتيبات أمنية في المنطقة، بسبب مواقفها المعروفة من الاستكبار العالمي وتواجده العسكري والسياسي والاقتصادي في المنطقة.

4 ـ تصعيد الغزو الثقافي والتخريب الاجتماعي، في محاولة لفرض الثقافة الأمريكية والغربية على الشعوب المسلمة، من خلال مختلف الوسائل، ومنها الإعلام الموجّه المباشر.

5 ـ إخماد بؤر التوتر التقليدية في المنطقة، وخصوصاً القضية الفلسطينية وتشعباتها، والتي يسعى الغرب ـ اليوم أكثر من أي وقت آخر ـ لتسويتها بالكامل لصالح الكيان الصهيوني.

إذن؛ فإن أبرز نتيجة تمخضت عن غزو النظام العراقي لدولة الكويت، هو تمكين الولايات المتحدة من تحقيق أقصى درجات طموحها في المنطقة. وإذا وضعنا هذه النتيجة المهمة جانباً، فإن النتائج الميدانية التي أفرزتها الحرب، تعبّر عن المأساة بكل معانيها وجوانبها. فالغزو عرّض العراق وشعبه لأبشع ألوان الدمار، بصورة يندر مثيلها. وهذا الدمار امتداد نوعي للمأساة المستمرة التي يعيشها الشعب العراقي طيلة سنوات حكم النظام البعثي، ومنها سنوات الحرب الداخلية مع سكان شمال العراق، والحرب الطويلة ضد الجمهورية الإسلامية، والقمع المستمر لحركة الأمة، وحملات الاعتقال والإعدام والتشريد، الفريدة من نوعها على المستويين التاريخي والجغرافي. وحينئذ لا يبقى مجال للشك بأن الخاسر الأكبر في جميع المغامرات والأزمات التي يختلقها نظام بغداد في الداخل ومع دول الجوار، هو الشعب العراقي. ولا سيما في أزمة الكويت، التي لا يزال الشعب العراقي يدفع بسببها ضريبة تجبّر النظام وغروره وعدم شعوره بأدنى مسؤولية، بعد أن ظل ـ الشعب العراقي ـ مرتهناً بين مطرقة أمريكا وحلفائها، وسندان النظام العراقي.

هذه النتائج الرهيبة دليل آخر على عدم قداسة الحرب، وإنها حرب الجبابرة الصغار والكبار، وحرب التسلط والنفط والأهداف اللا مشروعة لكلا الطرفين المتحاربين، برغم أن كلاً منهما حاول أن يسبغ طابعاً شرعياً على أهدافه ومدعياته.

* * *

وكان الموقف يحتّم على جميع المسلمين عدم الاندفاع وراء الشعارات البائسة الزائفة التي يرددها الطرفان، وعدم الاعتقاد بأن لهذا الصراع هوية إسلامية أو ثورية أو تحررية، وانه صراع الحق والباطل. ولكن المؤسف، إن بعض الإسلاميين انطلقت عليهم مواقف وشعارات النظام العراقي الخادعة، وأصبح يمارس دورين سلبيين:

الأول: يتمثل بدعم النظام العراقي إعلامياً على المستوى الشعبي، وتبنّي أهدافه وشعاراته.

الثاني: محاولة دفع الجمهورية الإسلامية الإيرانية لدعم النظام العراقي أيضاً، وإلقاء اللوم عليها، لعدم دخولها الحرب إلى جانب صدام!.

وبالتأكيد؛ فإن قليلاً من الفهم الموضوعي لحقيقة النظام العراقي ورئيسه، يكفي للتثبت من صدق شعاراته. ولكن أساليب التفكير القاصرة، دفعت ذلك البعض لاتخاذ مواقف ركيكة وسلبية ـ كما ذكرنا ـ في حين أن موقف الجمهورية الإسلامية المتمثل بالحياد الإيجابي، كان تعبيراً عن الشرعية والشعور بالمسؤولية، ومثالاً للحكمة والتعقل. فقد بذلت إيران قصارى جهدها ـ من خلال العديد من المبادرات ـ لإخماد نار الفتنة، والحيلولة دون وقوع الكارثة، حيث دعت النظام العراقي مراراً للانسحاب من الكويت، وعودة القوات الأجنبية إلى حيث أتت، والدعوة لنظام أمني (إقليمي) تشترك فيه بلدان المنطقة، بعيداً عن تدخل قوى الاستكبار العالمي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في محاولة لتفويت الفرصة عليها، وإسقاط ذريعتها بالتواجد في المنطقة وشن الحرب لتدمير العراق. ولكنها كانت تصطدم بعقبة الرفض العراقي، الذي لم يكن يمثل أي نوع من الثبات والتحدي، بل انه جلب الويلات على العراق والمنطقة، خاصة إذا وضعنا التنازلات المذّلة المتلاحقة التي قدمها النظام للولايات المتحدة بنظر الاعتبار، والتي سهّلت عليها مهمتها الاستكبارية اللاحقة.

من جانب آخر، فإن الجمهورية الإسلامية لو أرادت نقض حيادها؛ فستجد أمامها خيارين: إما دخول الحرب لصالح النظام العراقي، أو دخول الحرب لصالح أمريكا وحلفائها. في حين لا تجد الجمهورية الإسلامية أي مسوّغ يسمح لها بقبول أحد الخيارين، سيما أنها ترفض طرفي الحرب جملة وتفصيلاً، وترفض الأزمة والحرب من الأصل، والأسباب التي أدّت إليهما، والنتائج التي تمخضت عنهما، انطلاقاً من التزامها بمبادئها وثوابتها الإسلامية والإستراتيجية، كما سيتبيّن ذلك في فصول الكتاب. وخلال الفترة الماضية التي أعقبت انتهاء الأزمة، أخذت الدلائل العملية تشير إلى عمق الفهم الإسلامي الإيراني للأزمة، والذي يتأكد يوماً بعد آخر. كما تتأكد سذاجة فهم الآخرين الذين حاولوا دفع الجمهورية الإسلامية للوقوف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك.

على صعيد النظام العراقي؛ فقد أخذ فور هزيمته، يتنكر شيئاً فشيئاً لكل ادعاءاته وشعاراته التي أطلقها خلال الأزمة، فقمع انتفاضة 15 شعبان 1411هـ (1991م) ـ التي فجّرها الشعب العراقي المسلم للتخلص من حكامه ـ بأساليب وحشية لا يقرها أي مبدأ إنساني، فضلاً عن المبادئ الإسلامية، كما انه اعتدى ـ بشكل صارخ ـ على المقدسات الإسلامية، ووظّف أبواقه الإعلامية لمهاجمة الجمهورية الإسلامية ـ مرة أخرى ـ متهماً إيّاها بمختلف التهم، ومتناسباً ما قدمته من مساعدات ودعم كبيرين للشعب العراقي خلال محنته، حيث كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الرئة الوحيدة التي يتنفس من خلالها الشعب العراقي، وكذلك النظام، خلال الحصار والحرب. والنتيجة؛ أن عاد النظام العراقي إلى سابق عهده وحقيقته، بمجرد انتهاء الحاجة لتلك الشعارات والادعاءات، ومنها (توبته!) المزعومة. وتكشّفت بوضوح حقيقة الخديعة التي استطاع النظام إمرارها على بعض الإسلاميين.

أما أمريكا وحلفاؤها، فإنهم كانوا يرقبون الموقف الإيراني بدقة وحذر، لعلّ الجمهورية الإسلامية ترتكب أي خطأ في لعبة المشي على حد السيف، بهدف الانقضاض عليها وضربها بقوة. وبعد انتهاء الأزمة، أخذت حدّة التكالب الاستكباري ضد الجمهورية الإسلامية تتصاعد، حتى وصلت ـ اليوم ـ إلى ذروتها. فحكومة الولايات المتحدة ـ تماشياً مع أهدافها ـ تختلق شتى المبررات والذرائع، بهدف ممارسة العدوان المباشر ضد الجمهورية الإسلامية، وذلك من خلال افتعال الأزمات في المنطقة الإسلامية واستغلالها، وتهويل خطر الجمهورية الإسلامية (العسكري والسياسي والثقافي)، والتأكيد على انه لا يقتصر على المستوى الإقليمي، بل انه خطر دولي، لتحريض دول العالم المتحالفة مع أمريكا للتصدي لهذا الخطر المزعوم!.

ومن أبرز تلك الذرائع: حصول إيران على التكنولوجيا المتطورة في مجال التسليح، وتنامي قوتها العسكرية إلى المستوى غير المسموح به دولياً، ونفوذها المعنوي والثقافي في المجتمعات المسلمة في شتى بلدان العالم، وهو ما يعتبره الاستكبار جزءاً من عملية (تصدير الثورة)، إضافة إلى حركتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية الفاعلة على الصعيد الإقليمي، وغيرها من الذرائع والاتهامات.

إن الدافع الرئيس الذي كان وراء إصدار هذه الدراسة، هو اعتقاد البعض بوجود حالة من الغموض والضبابية في موقف الجمهورية الإسلامية إزاء أزمة الكويت، ذلك الموقف الذي لم ينسجم مع الثوابت التي تستند إليها الجمهورية الإسلامية أو المبادئ التي تدعو لها. فتأتي هذه الدراسة لتوضح الحقائق كما هي.. الحقائق التي ربما غابت عن أذهان البعض، أو شُوّهت لدى آخرين، بفعل بعض العوامل. ولا تنطلق الدراسة في عرضها للحقائق من منطلق الدفاع عن موقف الجمهورية الإسلامية أو تسويغه، بل من منطلق تحليل الموقف والكشف عن تفاصيله، والأسس العقائدية والفقهية والقانونية والسياسية والإستراتيجية التي يستند إليها.

وقد كان مؤملاً أن تصدر هذه الدراسة في أعقاب نهاية الحرب مباشرة، ولكن جملة من الأسباب أدّت إلى تأخر صدورها طيلة الفترة الماضية، وأبرزها الحقائق والأرقام التي أخذت تتكشف بالتدريج، والصور الجديدة التي تفرض نفسها على فهم الأحداث. وفي الوقت الحاضر، تبرز أهمية الدراسة وضرورتها أكثر من أي وقت آخر.

وختاماً.. نتقدم بالشكر الجزيل لكل الزملاء الذين ساهموا في إعداد هذه الدراسة وتحريرها، أو دعموا فكرتها وأثروها بملاحظاتهم وآرائهم، فهي ـ قبل كل شيء ـ ثمرة جهد جماعي، اشترك فيه عشرة من المتخصصين والباحثين، من أسرة مجلة التوحيد والكتّاب المشاركين فيها.

ومن الله التوفيق.

في 15 شباط/ فبراير 1993

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment