مواقف الفقهاء والجماعات الإسلامية السنية من ظاهرة الدستور

Last Updated: 2024/06/10By

مواقف الفقهاء والجماعات الإسلامية السنية من ظاهرة الدستور

د. علي المؤمن

يمكن القول بأن مواقف النخب الإسلامية السنية من موضوع الدستور، وخاصة النخب العربية منها، قد ظهرت بالتدريج في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، رداً على استبداد السلطة العثمانية التركية، وانعدام وجود الناظم القانوني الذي يحدد حقوق الرعية وحرياتها. وهي توازي مواقف النخب الإسلامية الشيعية التي ظهرت بالتزامن، رداً على استبداد السلطة القاجارية الإيرانية. ونعرض هنا لخمسة آراء أساسية في هذا المجال:

1 ـ الشيخ عبد الرحمن الكواكبي:

عالم الدين والمفكر الإسلامي السوري الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (1854ـ 1902)؛ دعا في خطبه وكتاباته والصحف التي أصدرها في حلب والقاهرة إلى حكومة القانون ورفض الاستبداد العثماني وأخذ الشعوب حقوقها. وأهم كتاباته «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الصادر في العام 1902. وكان لآرائه تأثيرٌ أساس على الشعوب العربية الخاضعة للاحتلال العثماني، وبلغ تأثيرها العاصمة العثمانية. وقد عرّف الكواكبي الاستبداد بأنّه ((صفة للحكومة المطلقة العنان، فعلاً أو حكماً تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب محققين)). وكان ينظِّر للحكومة العادلة التي تنطلق من العقيدة الإسلامية للقضاء على الاستبداد([1]).

2- الشيخ حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين:

لم يترك الشيخ حسن البنا (1906 ـ 1949) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر نصوصاً فقهية تأصيلية في موضوع الدستور، بل كانت المعالجات الثقافية والسياسية تغلب على آرائه في هذا المجال؛ لأنّها ظلت تدور في إطار متطلبات الواقع المصري ودستوره؛ في الفترة التي أعقبت تأسيس الجماعة في العام 1928. ولذلك لم يكن هاجسه التنظير لدستور دولة إسلامية، بل التعامل مع واقع الدولة المصرية بصيغتها الوطنية، والعمل على أسلمتها من خلال دستور لا تتعارض مواده مع مقاصد الشريعة، وينص على إسلامية قوانين الدولة.

وهذا المنهج يشبه منهج الفقيهين الشيعيين الآخوند الخراساني والشيخ النائيني في التعامل مع واقع الدولة القائمة، ويتعارض مع منهج الفقهاء الشيعة: الشيخ فضل الله النوري والإمام الخميني والسيد محمد باقر الصدر، وكذا المفكرين السنيين الشيخ أبو الأعلى المودودي والشيخ تقي الدين النبهاني؛ فهؤلاء الخمسة نماذج للمنهج الداعي لدستور إسلامي محض لدولة إسلامية محضة؛ بصرف النظر عن التمايز في التفاصيل. وقد عدّ حسن البنا الحكم الدستورى منسجماً مع تعاليم الإسلام؛ ولكنه طالب الدولة المصرية بأن تكون قوانينها متفقة والمادة التي تنص على أنّ دين الدولة هو الإسلام في دستور العام 1923([2]).

وفي هذا المجال يقول في رسالته إلى المؤتمر الخامس لجماعة الإخوان المسلمين في العام 1939: ((إنّ الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأُمّة، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات؛ هذه الأُصول كلها يتجلى للباحث أنّها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم، ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أنّ نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر.

ومع أنّ النظام النيابي والدستور المصري في قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام في نظام الحكم، فإنّنا نصرّح بأنّ هناك قصوراً في عبارات الدستور وسوءاً في التطبيق، وتقصيراً في حماية القواعد الأساسية التي جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور))([3]).

ويشدد على إسلامية القوانين في رسالة له تحت عنوان «المنهاج واضح» بقوله: ((لكل أُمّة من دول الإسلام دستوراً عاماً؛ فيجب أن تستمد مواد دستورها العام من أحكام القرآن الكريم، وأنّ الدولة التي تقول في أول مادة من مواد دستورها: إنّ دينها الرسمي الإسلام؛ يجب أن تضع بقية المواد على أساس هذه القاعدة، وكل مادة لا يسيغها الإسلام ولا تجيزها أحكامه؛ يجب أن تحذف حتى لا يظهر التناقض في القانون الأساسي للدولة))([4]).

ولم يرفض الشيخ حسن البنا النظام النيابي الذي يوصل ممثلي الشعب إلى السلطة التشريعية، ووصف هؤلاء النواب بـ ((أهل الحل والعقد))؛ فيقول: ((لقد رتّب النظام النيابي الحديث طريق الوصول إلى أهل الحل والعقد بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظام الانتخابات وطرائقه المختلفة، والإسلام لا يأبى هذا التنظيم؛ ما دام يؤدي إلى اختيار أهل الحل والعقد))([5]).

وعليه، فإنّ جماعة الإخوان المسلمين تعتقد بأنّ نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم إلى الإسلام، وتدع إلى دستور دولة المواطنة التي تستند إلى الانتماء السياسي للمواطن؛ بصرف النظر عن اللون والجنس والدين. وهو ما نصّ عليه الدستور المقترح الذي طرحته جماعة الإخوان في العام 1952؛ خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت انقلاب الضباط الأحرار في العام نفسه، وسبق إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية في العام 1953، ووصفت الدستور المقترح بأنّه دستور قومي (وطني) خاص بالدولة المصرية بمرجعية إسلامية. أي أنّ المرجعية الإسلامية هي الضابط لمواد الدستور، وتعاليم الإسلام هي مواد فوق دستورية أو مواد حاكمة للدستور، ونصّت مواده على الاجتهاد التشريعي فيما لا يخالف الإسلام؛ فلا يصدر قانون يخالف الشريعة الإسلامية.

وقد بات هذا الدستور المقترح يعبر عن موقف الجماعة النظري من الدستور، ومثّلت مواده خلاصة المبادئ التي تحدد رؤية الإخوان السياسية والدستورية. وقد حرص الإخوان عبره على إيصال رسالة إلى الدولة المصرية والقوى السياسية الأُخر بأنّهم يدعون إلى دستور مدني ودولة مدنية وليس دولة دينية([6]).

وتقول الجماعة بأنّها جمعت في تدوين الدستور المقترح بين المصادر الإسلامية المتمثلة بأحكام القرآن الكريم وسنة الرسول الأكرم، وخبرات الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، وبين مصادر النظم الدستورية المعاصرة؛ كالنظام الرئاسي المعمول به في الولايات المتحدة الأمريكية والدساتير الأُوروبية والدستور التركي للعام 1924. ولذلك فإنّ كثيراً من مواده تمثل نقلة فكرية من الدولة الإسلامية إلى الدولة المدنية التعددية التي تقوم على المواطنة والولاء السياسي؛ بغض النظر عن الانتماءات العقائدية. وهو تحرر من التقسيمات المنهجية التي درج عليها التراث الفقهي الذي يقسم رعايا الدولة الإسلامية إلى أهل الملة (المسلمون) وأهل الذمة (أهل الكتاب من غير المسلمين) ([7]).

ولعلّ من أهم من كتب من مفكري جماعة الإخوان المسلمين في موضوع الدستور هو الدكتور حسن الترابي، والذي يعدّ الدستور ميثاقاً وعهداً وعقداً بين الأُمّة، وهو الاجتهاد الإسلامي الذي تجمع عليه الأُمّة من أجل تنظيم حياتها؛ في مقابل تعدد الاجتهادات؛ إذ يقول: ((الدستور هو إجماع الأُمّة والشعب في مقابل تعدد الاجتهادات، باعتبار أنّ هناك من يجعل الشريعة دستوراً، وهو خطأ في المفهوم؛ لأنّ الشريعة ليست الدستور السياسي، بل الدستور العام، وإذا تم صياغة دستور شرعي (الأحكام الشرعية السياسية السلطانية)؛ فذلك يعني أنّ الفقه السياسي الإسلامي وتنظيم أحكامه بصياغات حديثة تراعي الزمان والمكان؛ سيكون هو الدستور بعينه. من هنا فالاعتراض ووضع البديل غير وارد. الإسلام أمر بكتابة العهود والعقود والمواثيق، والدستور هو عقد بين الأُمّة))([8]).

ويؤكد على انسجام فكرة الدستور مع مقصد الشريعة الإسلامية وأحكامها: ((المسلمون لو فقهوا دينهم، ينبغي أن يكونوا أحرص الأُمّة على كتابة (إذا تبايعتم فتكاتبوا) دستور السلطان فيهم، لا اتّباعاً وحسب لسنة صحيفة المدينة خاصة عند الانتقال، بل لأنّ القرآن المتلو باللسان استكتبت عليه طائفة من سلفهم الأُمّي؛ لأنّه هو الذي يسميه الله كتاباً بنصه المخطوط… بل أوصاهم القرآن في تعاهدهم على الدَّين أن يكتبوه مهما تعسر ذلك أو قَلَّ قدره، وكانوا أُمّة أُمّية. لكنهم لم يلتزموا ذلك كسُنة في ديون المال، ولم يقيسوا عليه الالتزام بكتابة العهود الأعم والأخطر والأثبت كالدساتير، أو يتخذوه قديماً سُنة منبسطة في حياتهم، كما أصبحت اليوم عادة العالمين))([9]).

3 ـ الشيخ تقي الدين النبهاني وحزب التحرير:

القاضي الفلسطيني الشيخ تقي الدين النبهاني (1908ـ 1977) يُعدّ أول مفكر إسلامي سني معاصر يكتب دستوراً إسلامياً لدولة إسلامية، وهو دستور على مستوى النظرية لم يكتب لدولة بذاتها؛ لها اسم وموقع جغرافي وحدود إدارية، بل هو مادة أولية لدستور دولة إسلامية يمكن أن تقام في زمان ما ومكان ما. وقد أصدره في العام 1953 تحت عنوان «مشروع دستورٍ لدولة الخلافة»؛ أي بالتزامن مع مرحلة تأسيسه حزب التحرير؛ ليكون القاعدة النظرية التي يستند إليها مشروع الحزب. ويتكون الدستور من (182) مادة مستوعبة تقريباً لكل مجالات عمل الدولة في صيغتها الإسلامية التراثية.

ولم يمثل دستور النبهاني تأصيلاً للقانون الدستوري الإسلامي بمعناه الحديث، بل هو استعادة لموروث الفقه السياسي الإسلامي السني بعمومياته وكلياته الفكرية السياسية؛ فضلاً عن استعادة النظم السلطانية السنية؛ أي الخلافة بمعناها التراثي في التفاصيل. وقد كرر مقولات الشيخين الماوردي والفرّا في كتابيهما «الأحكام السلطانية»، والشيخ ابن تيمية في كتاب «السياسة الشرعية». وبالرغم من أنّ هذا الموروث ليس موروثاً عقدياً وفقهياً تأصيلياً، بل هو مما يمكن أن يوصف بالفكر السياسي العملاني؛ الذي كتبه باحثون متخصصون ليكون غطاءً لشرعنة الدول السلطانية، وخطة عملٍ في الإدارة الحكومية السلطانية.

وبالرغم من تأكيد النبهاني على المفاهيم الإسلامية من القرآن والسنة؛ ولا سيّما في موضوعات شروط الخليفة، والبيعة والشورى والمحاسبة والرقابة ودور الأُمّة؛ إلّا أنّ محصلة دستوره تصب في وعاء دولة الخلافة السلطانية نفسها؛ والتي يجمع فيها الخليفة ـ السلطان جميع سلطات الدولة في يده. ولم يأخذ النبهاني بنظر الاعتبار التحولات الهائلة في عالم السياسة والقانون والجغرافية السياسية، والتي تتراكم بمرور الزمن، وكان من أهم إفرازاتها أحكام القانون الدولي التي لا تعترف بأيّة دولة لا تنطبق عليها المعايير السائدة عالمياً، وهي معايير لا تتفق مع القواعد التي بنى عليها النبهاني دستور دولته. ولم يتنكر الشيخ النبهاني لهذه الإشكالية، بل قرر أنّ هذا الطرح التنظيمي النظري العام ينبغي أن يسبق تأسيس الدولة الإسلامية، والتي ستجد لديها مشروعاً نظرياً جاهزاً للتطبيق. وهو ما يتعارض مع فكرة المنظر الإخواني سيد قطب ـ كما ذكرنا سابقاً ـ ؛ إذ يعدّ الحديث في موضوعات الدستور الإسلامي والتقنين الفقهي والتجديد الفكري حديثاً ترفياً لا قيمة له قبل تأسيس المجتمع الإسلامي؛ فتأسيس هذا المجتمع يسبق أيّ حديث في تلك الموضوعات.

وإذا ما استثنينا النظرة الواقعية العملانية لجماعة الإخوان المسلمين في موضوع الدستور؛ كما بيَّنها الشيخ حسن البنا ودستور الجماعة المقترح في العام 1953؛ فإنّ الغالبية الساحقة للتصورات الفكرية السياسية والدستورية التي كان يطرحها المفكرون والفقهاء الإسلاميون والجماعات الإسلامية في تلك الفترة؛ لم تكن تختلف في تنظيراتها عما توصل إليه الشيخ تقي الدين النبهاني.

وبعد وفاة النبهاني كانت هناك محاولات نظرية تكميلية طرحها حزب التحرير في موضوع الدستور؛ أهمها ما ورد في كتاب «نظام الحكم في الإسلام» للشيخ عبد القديم زلوم؛ خليفة النبهاني في رئاسة حزب التحرير. والكتاب هو شرح لكتاب النبهاني الذي يحمل العنوان نفسه. وكذلك كتاب «مقدمة الدستور أو الأسباب الموجبة له» الصادر في العام 1963، ودراسة «نقض مشروع الدستور الإيراني» الصادرة في العام 1979؛ إذ وصف حزب التحرير دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنّه ليس دستوراً لدولة إسلامية خالصة عالمية، بل هو دستور لدولة وطنية محددة بعلم ولغة وجنسية، وهو تشبّه بالدساتير العلمانية المتداولة في كل دول العالم([10]).

4 ـ الشيخ أبو الأعلى المودودي والجماعة الإسلامية في باكستان:

أسس المفكر الإسلامي الهندي الشيخ أبو الأعلى المودودي (1903 ـ 1979) الجماعة الإسلامية في لاهور في العام 1941، قبل تأسيس باكستان، وتم انتخابه أميراً للجماعة، وكان يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في الولايات الهندية ذات الأكثرية المسلمة. وفي العام 1948؛ أي بعد تأسيس دولة باكستان بنحو خمسة أشهر، طالب الحكومة الباكستانية بإنشاء دستور إسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية. وبسبب إلحاحه على تلبية مطاليبه وتحريكه الشارع الباكستاني؛ فقد بادرت الحكومة إلى اعتقال المودودي وعدد من قادة الجماعة الإسلامية؛ في الوقت الذي كانت بصدد وضع مشروع لدستور باكستان، وكان مشروعاً بعيداً عن الصيغة الإسلامية التي كان يدعو إليها المودودي؛ الأمر الذي دفعه لنقد المشروع بقسوة؛ واصفاً المشروع بأنّه يمهد للدكتاتورية والابتعاد عن الإسلام.

وفي المقابل شكّل المودودي في العام 1951 لجنة خبراء من (31) عضواً من أعضاء الجماعة الإسلامية لتدوين مُسوَّدة دستور إسلامي للبلاد. وكان للمودودي مساهمة أساسية في صياغة مضامين هذا الدستور. إلّا أنّ الحكومة لم تعر اهتماماً لمشروع الجماعة الإسلامية؛ مما دفع الجماعة إلى الاعتراض بشدة؛ فقامت الحكومة باعتقال المودودي للمرة الثالثة، وأصدرت بحقه حكم الإعدام. وما لبثت أن عفت عنه في العام 1955 نتيجة الضغوط الشعبية والدولية. ولو قُدِّر للمودودي أن يُعدم بسبب رفضه الدستور الوضعي وإصراره على الدستور الإسلامي الذي يمهد لدولة الخلافة؛ لكان الضحية الثانية للتوجه الإسلامي المعاصر القائل بالمشروعة (حكم الشريعة) والرافض للمشروطة (حكم الدستور) بعد الفقيه الإيراني الشيخ فضل الله النوري.

لقد أسس الشيخ المودودي فكره الدستوري الإسلامي على عدد من القواعد النظرية التي أصّلها وبلورها، وفي مقدمتها مصدر شرعية الدولة الإسلامية ودستورها وقوانينها، وهي قاعدة (الحاكمية الإلهية) { ﮈ  ﮉ   ﮊ   ﮋ}([11])، والتي تكرِّس فكر الدولة وعقديتها، وكونها دولة العقيدة وليست الدولة الوطنية أو القومية. وعلى أساس تلك القاعدة؛ يكون دور جماعة المسلمين تحويل أحكام الشريعة بنصها إلى دستور وقوانين، ولا يحق لها التشريع ووضع القوانين؛ وإن كانت هناك أكثرية عددية موكّلة من قبل الأُمّة لتشريع القوانين.

وإذا كان المودودي لا يجد إشكالاً شرعياً في تشكيل مجلس شورى للمسلمين على أساس انتخاب أعضائه من الأُمّة، ولكنه يرفض أن يكون للأغلبية اعتبار في التصويت على القوانين، بل إنّ الرأي الأصوب هو الذي يختاره ولي الأمر (الخليفة = الحاكم)؛ وإن صدر عن الأقلية. أي أنّ العمل بمبدأ الأكثرية يعني تطبيق مبادئ الديمقراطية (الشيطانية كما يصفها)، وهو ما يراه المودودي متعارضاً مع نظرية الحاكمية الإلهية. وعليه، يقتصر التقنين على أهل الاختصاص؛ أي الفقهاء، وليس لنواب الشعب أيّ حق في وضع التشريعات؛ بصفتهم الانتخابية. ويعتقد المودودي أنّ نظرية الإسلام في السياسة هي ما أُطلق عليه اصطلاح (الثيوقراطية الإسلامية)، وهي ليست (الثيوقراطية الأُوروبية) التي تعطي للحاكم صفة الأُلوهية أو نيابة الإله؛ ليفعل ما يشاء، بل هي (الثيوقراطية) التي تسير على هدي القرآن الكريم والسنة النبوية([12]).

والحقيقة أنّ ما ذهب إليه الشيخ المودودي في وصف النظام السياسي الإسلامي بـ(الثيوقراطي) يخلو من الدقة، بل هو خطأ منهجي؛ وهو ما وقع فيه الفقيه الإيراني الشيخ حسين علي المنتظري أيضاً([13])؛ لأنّ النظرية الثيوقراطية ليست نظرية دينية، بل هي نظرية وضعية أرضية للحكم السلطاني الاستبدادي المطلق؛ أسس لها الملوك وكهنتهم؛ لتسويغ حكمهم المطلق؛ بصفتهم آلهة أو أبناء للآلهة أو نواب لها على الأرض. صحيح أنّ مصطلح الثيوقراطية وضعه علماء السياسة والقانون في أُوروبا لوصف الأنظمة السياسية الدينية؛ ولكنه ليس نظاماً أُوروبياً، بل نشأ في الشرق، وتحديداً في العراق السومري وإيران الأخمينية واليابان والصين. ونستطيع تفهم الدوافع المنهجية للمودودي في هذا المجال؛ فهو يستحضر دائماً نظام الخلافة في الفقه السلطاني السني في نظرته للنظام السياسي الإسلامي، وهنا قد يكون مصيباً إلى حد ما في وصفه؛ فنظم الخلافة؛ ولا سيّما في أشكالها الأُموية والعباسية والعثمانية؛ هي نماذج للنظم الثيوقراطية الوضعية المتمظهرة بالمسوح الدينية، ولكنها ليست نظماً إسلامية؛ لا في مضامينها النظرية ولا في أدائها([14]).

إنّ المودودي في استحضاره الموروث الإسلامي السلطاني؛ أي دستور الخلافة الإسلامية؛ يتطابق في منهجه ومخرجاته مع الصيغة التي طرحها الشيخ تقي الدين النبهاني بعده بسنتين. وبالمقارنة بين دراسة الشيخ أبي الأعلى المودودي الموسومة «تدوين الدستور الإسلامي» في العام 1951 ودراسة الشيخ تقي الدين النبهاني «دستور دولة الخلافة» في العام 1953؛ نلاحظ مدى التشابه بين الأُطروحتين؛ رغم اعتقادي بأنّ أحدهما لم يطلع على أُطروحة الآخر؛ لأنّهما نشراها في وقت متزامن، ولأنّ المودودي نشر أُطروحته باللغة الأُوردية، والنبهاني بالعربية. ولكن سبب التشابه يعود إلى وحدة المنهج؛ إذ استند كلاهما إلى الموروث الفكري السياسي السلطاني في أُطروحته. وبالتالي فهما صيغتان نظريتان طوبائيتان لا تصمدان أمام الواقع الزماني والمكاني الذي لا يستطيع المسلمون الانفكاك منه مطلقاً؛ إلّا إذا عاشوا في جزيرة نائية معزولة تماماً عن إلزامات القانون الدولي والنظم الدولية السياسية والقانونية. وأُطروحتهما تتماثل في طوبائيتها مع أُطروحة الشيخ فضل الله النوري إذا ما نظرنا إليها بمنظار الواقع الحالي.

5 ـ مشيخة الأزهر:

في العام 1977 أوصى المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية في القاهرة بأن يقوم الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية بوضع دستور إسلامي ((ليكون تحت طلب أية دولة تريد أن تأخذ بالشريعة الإسلامية منهاجاً لحياتها)). وأن المجمع يرى ((أن تؤخذ في الاعتبار عند وضع هذا الدستور أن يعتمد على المبادئ المتفق عليها بين المذاهب الإسلامية كلما أمكن ذلك)). وفي أعقابه؛ قام شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود بتأليف لجنة عليا ولجان فرعية لهذا الغرض؛ تضم نخبة من علماء الدين والباحثين والقانونيين الدستوريين. وأكملت اللجنة عملها في العام 1978 بتدوين صيغة عامة لدستور إسلامي عصري يتألف من (94) مادة في تسعة أبواب([15]).

واعتمد الدستور المقترح قواعد القانون الدستوري الحديث، ومتطلبات الدولة الوطنية، وصيغة النظام الانتخابي، مع التأكيد على الموروث الاصطلاحي الإسلامي. وهو بذلك يعدّ دستوراً مدنياً يحاول أسلمة المضامين الحديثة، وبناء هيكلية عصرية لدولة مسلمة، وليس دستوراً لدولة إسلامية عقدية. وبالتالي فهو يختلف عن أُطروحتي النبهاني والمودودي، ويقترب من أُطروحة جماعة الإخوان المسلمين.

([1]) اُنظر: الكواكبي، الشيخ عبد الرحمن، «طبائع الاستبداد»، دار الجمل، كولونيا، 2006، ص142.

([2]) العنتبلي، أشرف عيد، «رؤية الإخوان للمرجعية الإسلامية للدولة الدستورية والقانونية»،

https://ikhwanwayonl.wordpress.com/2012/02/21ine.

([3]) البنا، حسن، «رسائل الإمام حسن البنا»، دار الفتح، القاهرة، 2012، ص74.

([4]) المصدر السابق، ص256.

([5]) المصدر السابق، ص178.

([6]) اُنظر: العنتبلي، أشرف عيد (مصدر سابق).

([7]) المصدر السابق.

([8]) الترابي، د. حسن، «السياسة والحكم» (مصدر سابق)، ص97.

([9]) المصدر السابق، ص100.

([10]) اُنظر: النبهاني، الشيخ محمد تقي، «مشروع دستور لدولة الخلافة». وحزب التحرير، «مقدمة الدستور أو الأسباب الموجبة له»، و«نقض دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية» (مصدر سابق).

([11]) الأنعام، الآية 57. ويوسف، الآية 40، 67.

([12]) اُنظر: المودودي، أبو الأعلى، «تدوين الدستور الإسلامي»، ص178، من كتاب «نظرية الإسلام وهديه». وللتعرف على آراء المودودي في الفقه السياسي، اُنظر: دراساته المجموعة في كتاب «نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون»، ترجمة: عاصم محمد الحداد، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1969.

([13]) اُنظر: الشيخ حسين علي المنتظري (مصدر سابق)، ج1 ص167.

([14]) قاربنا إشكالية التشابه بين النظم الثيوقراطية والنظام السياسي الإسلامي بمزيد التفصيل في رسالة الماجستير. اُنظر: المؤمن، علي، «النظام السياسي الإسلامي الحديث» (مصدر سابق)، ص56 ـ 78.

([15]) اُنظر: «مشروع الدستور الإسلامي الذي وضعه الأزهر عام 1977م»، مجلة الدعوة، القاهرة، العدد 41 ، أكتوبر 1979، ص22ـ 41. وهذا المشروع قريب في منهجه من أُطروحات فقهاء المشروطة الإيرانية، ومن أُطروحة دستور جماعة الإخوان المسلمين في العام 1952.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment