مناهج الفهم الأحادي للإسلام

Last Updated: 2024/06/10By

مناهج الفهم الأحادي للإسلام

د. علي المؤمن

هناك مناهج كثيرة تعبر عن فهم ناقص وغير تخصصي للإسلام، وقراءة أحادية مبتسرة لثواتبه، وهي تعبير عن مناهج الفهم الأحادي للإسلام، والتي يحاول بعضها أن يقدم قراءة تجديدية إصلاحية من داخل الإسلام كما يزعم، بينما يعترف بعض آخر بأن فهمه وقراءاته غير دينية أساساً، وأهمها: منهج الفهم المبتور للإسلام، منهج الفهم غير التخصصي، منهج الفهم الأكاديمي، منهج الفهم اللاهوتي، منهج الفهم الإسقاطي العلماني. ونلقي ــ فيما يلي ــ الضوء على كل واحد من المناهج الخمسة المذكورة:

    1- منهج الفهم المبتور للإسلام:

يعمل منهج الفهم المبتور على تفكيك الإسلام وتجزئة عناصره العقدية والشرعية والروحية والأخلاقية، في حين أن الإسلام بوصفه ديناً إلهياً خاتماً، يمثل منظومة متكاملة لا تتجزأ: غيبية، روحية، عبادية، اجتماعية، ثقافية، سياسية، اقتصادية؛ إذ لا يمكن اقتطاع جانب من الإسلام ونقول هذا هو الإسلام ولا غير. فنقتطع مثلا جانب العدالة الاجتماعية في الإسلام ليصبح الدين اشتراكياً، أو نأخذ الجانب المقاوم في الإسلام، أي رفض الظلم ومواجهة الطغيان، فيصبح الدين ثورة يسارية، أو نستل الجانب الروحي فيستحيل الإسلام تصوفاً وعرفاناً وفلسفة وحكمة وأخلاقاً، أو نركز فقط على الجانب العبادي فيكون الإسلام مجرد طقوس وشعائر وارتباط شخصي بين المخلوق وخالقه، أو نحصر الإسلام في الجانب السياسي فيصبح مجرد سلطة وحكم ودولة، أو نكتفي بالجانب الأخلاقي فيتحول الإسلام ضوابط لحسن التعامل بين البشر، أو نأخذ الشورى والمشورة واحترام الرأي الآخر فقط فيكون الإسلام هو الديمقراطية، أو نقول إن الإسلام هو عقود وإيقاعات فيصبح الإسلام مجرد قوانين أحوال شخصية.

لا شك أن الجوانب المذكورة كلها موجودة في الإسلام: العدالة الاجتماعية، العلاقة الروحية بالله، رفض الظلم، العبادات والشعائر والطقوس، المعاملات والعقود والإيقاعات، القوة والسلطة والدولة، الديمقراطية، الأخلاق، الإنسانية، الرحمة وغيرها. كل هذه تمثل عناصر مكونة للعقيدة والشريعة الإسلامية، لكنها مترابطة ترابطاً عضوياً ولا تتجزأ، وأن إلغاء أي عنصر أو فصله، سيؤدي الى خلل في المنظومة برمتها.

بالتالي؛ فإن الإسلام وحدة واحدة، تكمل مكوناته بعضها الآخر.. كمكونات جسم الإنسان تماماً: الماء، الدم، الشبكة العصبية، الدورة الدموية، الجهاز الهضمي، الجهاز التنفسي، العظام، العضلات، القلب، الدماغ، وقبلها الروح المحركة لها جميعاً. فلكل عضو وظيفة، وأي خلل وعطل في عضو ما، أو إلغاء لوظيفة أحد الأعضاء، سيؤدي الى خلل شامل في جسم الإنسان. أي أن كمال خلقة الإنسان هي انعكاس لكمال الدين؛ لأن خالقهما كامل، ولا يصدر عن الكامل إلّا الكامل؛ لأن النقص يستحيل على الخالق، ويستحيل في خلقه، فكيف إذا كانت الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع؟؛ ما يعني أن الله أكمل دينه، ولم يتركه أعرجاً أو أعمى أو أصماً، أو ينقصه جانب من جوانب الحياة، ولا يستوعب كل شؤون وحاجات الإنسان ومنظومة عيشه.

والحديث هنا عن كمال الدين وليس كمال التدين، سواء تعلّق موضع التدين بالفرد أو الجماعة أو المجتمع أو نظم الدولة. وتفصيل ذلك في مقال آخر.

نعم؛ هناك موضوعات وحاجات مستحدثة ومستجدة، تظهر باستمرار بمرور الزمن، وبتطور المنظومة الحياتية، وأساليب العيش، وهي تمثل مساحات تفويض تشريعي أو تكييف كلامي وعقدي، يملأها الإنسان المتخصص من خلال الفهم العقدي المتجدد، الذي يعبر عنه بـ “علم الكلام الجديد”، أو النظريات والنظم الفقهية الموضوعية والأحكام الشرعية الجديدة من خلال “الاجتهاد الجديد”.

وبالتالي، لا يمكن أن نفصل الدين على مقاسات فهمنا وأهدافنا الخاصة وأمزجتنا وأهوائنا وأنماط حياتنا، بل أن غايات الدين وأهدافه ومقاصده تُعرف ـ حصراً ـ من الجهة التي أنزلت الدين وشرّعت أحكامه ((أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب)). إذ يبين القرآن هنا أن نزعة تفكيك الدين وتجزئته ليست جديدة؛ بل هو منهج قديم عرفه أهل الكتاب قبل الإسلام، وجاء القرآن ليوبخهم لاتباعهم هذا المنهج التحريفي. وبعد البعثة النبوية أيضاً كانت هناك مقترحات على النبي محمد من زعماء قريش وبعض الملوك بهذا الخصوص، وتتلخص بتوزيع النظم والقدرة بين الإسلام وبينهم، أي تفكيك مقومات الإسلام ومخرجات شريعته، وإلغاء بعضها، والإبقاء على جزء منها لرسول الله، وفي الوقت نفسه الإبقاء على عبادة الأوثان وحضور الأصنام، وعلى سلطات زعماء قريش، وعلى النظام الاجتماعي الجاهلي نفسه، في مقابل الاعتراف بنبوة محمد وزعامته لقريش والسماح لاتباعه بالتعبد وفق تعاليم الإسلام.

وفي النتيجة؛ فإن المسلم مكلف بالإيمان والأخذ بكل ما في القرآن الموجود بين الدفتين، وليس انتقاء ما يحلو له وينسجم مع فهمه الخاص ونمط حياته ورغباته. أما المقولات والتوصيفات التي يفصّلها أصحاب الفهم المبتور على مقاساتهم ومزاجاتهم وأنماط حياتهم، مثل: الإسلام أخلاق وحسب، الإسلام معاملة فقط، الإسلام ليس إلّا قناة تربط الفرد بربه، الإسلام عبادات لا أكثر، الإسلام هو ثورة على الظلم، الإسلام عدالة اجتماعية، أو توصيفات مثل: أنسنة الدين، الإسلام السياسي، الإسلام العربي، الإسلام الشرق آسيوي؛ إنما هي مقولات وتوصيفات متهافتة لا تصمد أمام حقائق الإسلام وكمال أصوله.

2- منهج الفهم غير التخصصي للإسلام:

أشرنا الى أن فهم الدين لا يتم وفق المزاج والميول والرغبات ونمط الحياة؛ بل يجب فهم الإسلام من خلال نصوص مصدره وقصد مصدره، ومصدر الإسلام ومنزِّله هو الله (تعالى)، أي أن فهم الإسلام محصور بقصد الله فقط، وهو المعيار حصراً، ولا مدخلية لقصد الإنسان وأهدافه وتمنياته وميوله واستحساناته في ذلك. وينتج عن هذه الحقيقة أن معرفة قصد الله وقراءة شريعته، تحتاجان الى تخصص عميق في فهم قصد الشارع ونصه المقدس والصحيح من سنة نبيه وأهل بيته.

وتزداد أهمية التخصص كلما تراكمت المعرفة الدينية وازدادت الحاجة الى علوم وأدوات جديدة في الفهم الديني، وهو ما يتناسب طردياً مع الابتعاد عن عصر النص. وكما لا يجوز الاستهانة بأي تخصص علمي إنساني، فلا يجوز الاستهانة بعلوم فهم الدين، فيأتي أي شخص؛ أيا كان عمله وتخصصه المعرفي ومستواه التعليمي، ويفسر القرآن والحديث، ويلغي وينفي ويثبت وينسخ ما يعجبه من الآيات والأحاديث، ثم يغير الأحكام، ويجتهد، ويقدم نظريات وطروحات، دون أن يكون متخصصاً.

صحيح أن هناك قراءات وتفسيرات واجتهادات وأفهام بشرية، وهو حق كفله الله للإنسان، ليجتهد ويؤول ويفسر؛ لكنها قراءات المتخصصين حصراً، لأن قراءة الدين (نصوصه وأدوات قراءاتها) عمل تخصصي عميق، ولا يمكن أن يخرج عن المنهج الديني ومقصد الدين وفلسفته الإلهية.

والاختلاف في الاجتهادات والقراءات بين المتخصصين لا يعد مثلبة في الدين أو المتدينين، بل هو أمر طبيعي، خاصة مع عدم وجود النص في الواقعة والموضوع، وهو كأي اختلاف بين المتخصصين في العلوم والمعارف الأخرى. فضلاً عن أن اختلاف القراءات بين المتخصصين لا يصل الى كليات العقيدة والشريعة وأحكامها العامة، بل في الموضوعات التفصيلية. وهذه القراءة تعبر عن بذل الفقيه أو المتكلم جهده ووسعه للتوصل الى قصد الشارع أو ما يعرف بالحكم الظاهري. ولا يعني ذلك القطع أو الجزم بالتوصل إليه، لا سيما مع عدم وجود نص، لكنه في الحد الأدنى يمثل مقاربة تخصصية عميقة، وليست عشوائية أو ارتجالية أو مزاجية. أما القطع أو الحكم الحقيقي فلا يتوافران إلّا للمعصوم.

وحيال هذا الجهد العميق الذي يبذله المتخصص، يهدف الى براءة الذمة الشرعية، يمكن تفسير المأثور: ((إن الفقيه إذا أخطأ كان له حسنة، وإذا أصاب فله عشر))، أي أن الخطأ والصواب مقيدان بالفقاهة والاجتهاد، أي القدرة على استنباط حكم الشرع من مصادره وعبر أدواته التخصصية، وليس الباب الفتيا أو البت في المسائل العقدية والفقهية مفتوحاً دون ضوابط، وهو ما أكد عليه المأثور: ((من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه)).

ولذلك؛ لا خيار إلّا بالأخذ بالقطع النسبي الذي ينتجه المتخصص (عالم الكلام والفقيه). وهذا اللون من القطع يتوافر عند المتخصص حصراً، لأنه بذل الوسع والجهد عبر استخدام أدوات التخصص المنتزعة من جنس الموضوع، للتوصل الى قصد الشارع والحكم الحقيقي، سواء في الموضوعات العقدية أو الفقهية، فكان فهمه مبرأً لذمته وذمة المكلف الذي يرجع إليه.

أما قراءة الدين دون تخصص، أو من خلال منهج لاديني، والاعتماد على فهم هذا المنهج في تحديد فهم المسألة العقدية أو الفقهية، فهو عبث بالمعايير العقلية قبل النقلية. وهو شبيه بفهم الطبيب وغير الطبيب للحالات المرضية، فالطبيب (المختص) الذي يبذل جهده لتشخيص المرض (معرفة الموضوع)، ثم يشخص علاج المرض (حكم الموضوع)، ويصف الدواء وطريقة استخدامه (يشرح مضمون التكليف وشكله)، ربما يخطىء في التشخيص والوصف، ولكن لا خيار غير الاتكال على فهم الطبيب، لأنه مختص، وضرره خطئه غير المقصود أقل بكثير من ضرر ما يتسبب به غير الطبيب الذي يقحم نفسه في تشخيص المرض والعلاج. وهذا ما يتفق في مضمونه مع خطورة اعتماد الجماعات الدينية التكفيرية المسلحة على فتاوى غير الفقهاء، ولاسيما في قضايا الدماء والأعراض والأموال.

والقناعة بالحكم الشرعي أو الموقف العقدي الذي يكشف عنه الفقيه وعالم العقيدة؛ يشبه قناعة صاحب المبنى أو المقاول بحجم الإنشاءات التي يصفها المهندس الاختصاص وفق الخارطة التي يضعها؛ فربما لا يقتنع صاحب المبنى أو المقاول، بالموقف الذي يكشف عنه المهندس، لكن؛ بما أنهما غير مختصين؛ فإن عليهما الأخذ بما يقوله المختص حصراً. وحين يعمد أصحاب الأعمال أو المقاولين مجادلة المهندس وعدم الإذعان للمواصفات التي يضعها المهندس؛ فإن النتيجة ستكون انهيار المبنى.

لقد بات العالم يدعو الى مزيد التخصص بمرور الأيام، كلما ازدادت وتيرة الاكتشافات العلمية سرعة، وإلى احترام منهج التخصص الدقيق والتخصص الأدق، فلا يتدخل المتخصص في شؤون تخصص آخر. فجراح الدماغ ـ مثلاً ـ هو صاحب الرأي الأول والأخير في الفحص والتشخيص والعلاج في أمراض الدماغ. بل أن الطبيب الاختصاص في جراحة الجملة العصبية، لا يعطي رأياً في مشاكل الدماغ، فكيف بمهندس البناء الذي يريد أن يكون له رأي في جراحة الدماغ؟.

بينما نرى في علوم فهم الدين، أن الصحافي والسياسي والمهندس والعامل والفلاح والضابط والشاعر والحقوقي والفيزيائي؛ لا يترددون في تقديم فهم شخصي للدين ومعارفه وأحكام الشريعة، ويقول هذا رأيي، وهذا ما أعتقده. بل أن بعض هؤلاء يحملون ايديولوجية تتعارض مع الدين، كأن يكون صاحب الرأي الاجتهادي في الدين شيوعياً أو عنصرياً أو علمانياً، ولكنه يمتلك الجرأة ليفتي في الشأن الديني التخصصي.

وحتى المسلم المتدين غير المتخصص؛ فإنه لا يمتلك القدرة على تقديم فهم شخصي في الموضوعات الدينية التخصصية، طالما أنه غير متخصص، سواء كانت الموضوعات عقدية أو فقهية. فبعض المتدينين يجتهد ويفتي ـ مثلاً ـ بعدم وجود نظرية اقتصادية في الإسلام، وآخر يعتقد أن أحكام الإرث لا تتوافق مع العصر، وثالث يبدو له أن هذا الحديث النبوي كذب، وبعضهم يسخر من مبدأ التقليد في أحكام الفقه. في حين أن القراءة الدينية التخصصية بحاجة الى متخصص في جملة من العلوم، بدءاً بعلوم القرآن وعلوم الحديث والرجال وعلوم اللغة العربية والكلام، وانتهاءً بعلمي الفقه وأصوله.

وبصرف النظر عن تفاصيل الاختلاف في مقولة حرمة التقليد في الأصول، أو ما يعرف بحرمة الأخذ برأي الغير في المسائل العقدية دون معرفة الدليل، وضرورة نظر المكلّف في الموضوعات العقدية للوصول الى المعرفة اليقينية، فإن التطور الهائل للموضوعات الكلامية وتوسعها عمودياً وأفقياً، واتساع دائرة المعارف الإنسانية، وتراكم الأسئلة العقدية المركّبة، جعل الرجوع الى المختص في القضايا العقدية أيضاً أمر لا مهرب منه، وليس الفقهية وحسب، فضلاً عن أن هذا الرجوع بات قائماً عملياً، وبخلافه ستتوسع دائرة الفوضى الفكرية والإرباك العقدي لدى عموم الناس، لأن عموم المكلفين عاجزين ـ بفعل مختلف الظروف والأسباب والمعوقات ـ عن التوصل من خلال البحث والنظر المعمقين الى المعرفة اليقينية بالقضايا العقدية الكبرى، كالألوهية والوحدانية، والعدالة الإلهية والجبر والتفويض، والولاية التكوينية والولاية التشريعية، والخلق والنشوء، والوحي والتنزيل، والنبوات، والعصمة، والإمامة و غيرها من الموضوعات التي بات كل واحد منها بحاجة الى تخصص دقيق، ولا سيما مع ظهور المناهج المضادة والمعارِضة الحديثة.

ويدخل ضمن إطار الفهم غير التخصصي للدين أيضاً:

  • استخدام بعض علماء الدين مناهج تجعلهم يجتهدون مقابل النص؛ الذي هو ثابت ديني؛ فيخلطون بين الثوابت والمتغيرات، ويخالفون النصوص التعبدية، ويجنحون نحو الانفلات في فهم مقتضيات العصر، أو ما بات معروفاً بتطبيق مدخلية الزمان والمكان والظروف في تغيير موضوعات الأحكام الشرعية.
  • الجمود على فهم السلف للدين، وما نقلوه من أحاديث وأخبار، بل اعتماد سلوكياتهم كمصدر تشريعي، فيكون الناتج إسلامات متعارضة بعدد الصحابة والسلف.
  • اعتماد بعض الجماعات المنتسبة للإسلام على أشخاص غير متخصصين في الشريعة، لإصدار فتاوى في أخطر الموضوعات، كالدماء والأموال والأعراض، الأمر الذي أباح لكثير من هذه الجماعات ممارسة كل ما يتعارض مع الدين من أعمال إرهابية وجرائم.

    3- منهج الفهم الأكاديمي للإسلام:

يرى أصحاب الاختصاصات الأكاديمية، كالمناهج الفلسفية الغربية، والعلوم التجريبية والإنسانية والاجتماعية، بدأ بالانثربولوجيا وفيزياء الكون والهندسة الوراثية والاحياء، وانتهاء بعلوم النفس والاجتماع والقانون واللسانيات والتاريخ؛ بأن فهمهم للدين هو فهم علمي ناجز، لأنهم يستندون الى اختصاصاتهم الأكاديمية والمنهجية. والأنكى أن أصحاب هذه المناهج يحاولون حصر الفهم العلمي بمناهجهم ونظرياتهم ورؤاهم الفلسفية والأكاديمية التجريبية؛ لكي تكون مخرجاتها ونتائجها ملزِمة.

ولكن؛ ليس بالإمكان طرح نظريات فهم ديني بأدوات بشرية غير مقبولة دينياً، وليس بالإمكان منهجياً ومنطقياً فهم الدين، والإسلام ونصوصه تحديداً، فهماً حقيقياً لصيقاً بغاياته وأهدافه وكينونته وبنيته، وفق مناهج وفلسفات غير مقبولة دينياً أوعلوم غير دينية، بدءاً بالهرمينوطيقيا (فلسفة التأويل) والفينومينولوجيا (فلسفة الظاهر) والانطولوجيا (فلسفة الوجود)، وانتهاء بالابستمولوجيا (فلسفة المعرفة) والبلوراليسم (التعددية).

وبالتالي فإن الإتكاء على نظريات “ستيفن هاوكينغ” في الفيزياء الكونية مثالاً، أو الأخذ بنظريات “هوسلر” و “سارتر” و “ماركس” و “دارون”؛ لتقديم فهم للتكوين والخلق والوجود والأبدية والأزلية والمعرفة الدينية؛ سيكون مآله تهافت الغيب، والتشكيك بالله، ونفي الوحي، والنبوات، وإلهية النص المنزل، وآخره النص القرآني، وأبدية التشريعات الثابتة.

صحيح؛ أن مناهج الفلسفة والعلوم التجريبية والإنسانية والاجتماعية وأدواتها ومعارفها، كالعلوم القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلم النفس الاجتماعي والانثروبولوجيا والمثيولوجيا واللسانيات والهرمونيطيقيا، تساهم مساهمة مهمة في توسيع آفاق الفقيه والمتكلم، وقدرتهما على معالجة الإشكاليات، والإجابة على الأسئلة، وتشخيص الموضوعات والأحكام، وتحويل حُزم الأحكام الى نظريات، والنظريات الى نظم، ولكن هذه المناهج تمثل مناهج ساندة يستثمرها المتخصص الديني، وليست مناهج مستقلة لفهم حقيقة الدين.

ولا شك، أن فهم الفيلسوف والمفكر الغربي وفهم الفقيه والمتكلم الإسلامي، هما فهمان بشريان، إلّا أن أدوات الفقيه في فهم الدين منتزعة من الدين نفسه، أو أنها قواعد لا تتعارض معه. أما أدوات الفيلسوف الغربي لفهم الدين، فهي أدوات وقواعد بشرية محضة، وغالباً ما تتعارض مع مقاصد الدين وجوهره اللصيق بالغيب. لذلك؛ يستحيل أن تكون الأدواتُ المتعارضة مع الدين مرجعيةً في فهمه. مثلاً: هل يمكن أن نفهم الغيب والوحي والتنزيل والنبوات والنص القرآني وحجية السنة بمنهج يتعارض مع هذه المفاهيم أساساً؟

وإذا كان المتلقي وصاحب الحاجة لفهم الدين ومخرجاته متديناً، ويهدف الى فهم منظومته العقدية أو الحكم الشرعي الذي يريد العمل به، فإن الفقيه والمتكلم هما مرجعيته وحجته في هذا الفهم لا شك. أما إذا كان المتلقي يتبنى ايديولوجيا غير دينية أو معارضة للدين، وإن كان مسلماً بالوراثة؛ فإنه من الطبيعي أن يلجأ الى المناهج والفلسفات الغربية غير الدينية في فهم الدين.

    4- منهج الفهم اللاهوتي للإسلام:

ولد فكر عصر النهضة الأوربية، ومناهجه الفلسفية في التفكير، وعلومه التجريبية والإنسانية الحديثة، في إطار حراك تاريخي طويل، شامل وحاد، ولصيق بهوية البيئة الأوربية وعناصر تكوينها، وبجوهر الصراع التراكمي الخاص بها. ويستند تأسيس هذه المناهج الى ثلاث خلفيات:

  • الفراغات الفكرية والمنهجية والتشريعية الحادة في الديانة المسيحية.
  • الصراع بين سلطات الكهنوت الكنيسي والسلطات السياسية المتحالفة معه (التحالف الثيوقراطي السلطوي المستبد والمتخلف) من جهة، وبين تيارات التحرر السياسي والفكري التنويري من جهة أخرى.
  • اتهامات التنويريين للتحالف الثيوقراطي السلطوي (الكهنوت وأنظمة الحكم المطلق) بأنه وراء كل مضامين وأشكال التخلف العلمي والفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في أوربا.

وقد حقق فكر عصر النهضة الأوربية وفهمه العلماني للدين ثلاثة نجاحات واقعية أساسية:

الأول: التطور العلمي التجريبي والعمراني والإنساني للغرب.

الثاني: التطور في النظم السياسية والقانونية في الغرب.

الثالث: انطلاق الحركات الاستعمارية العالمية الغربية وسيطرتها على معظم الكرة الأرضية.

هذه النجاحات، المصاحبة لتصاعد موجات الاستعمار العسكري الغربي ضد شعوب العالم؛ فتحت الأبواب لتعميم معادلات فكر عصر النهضة الأُوروبية العلماني على الأديان والايديولوجيات والوجودات الإنسانية الأخرى، ومنها الإسلام؛ فأخذ بعض المفكرين والباحثين والمستشرقين والمهتمين (الغربيين أو من أبناء البيئة المسلمة) الى إعادة فهم الإسلام عبر إسقاط اللاهوت المسيحي وتعاليم الديانة المسيحية وفراغاتها على الإسلام ونصوصه وعقيدته وشريعته ومفاهيمه ومنظوماته، والى استخدام أدوات فهم اللاهوت المسيحي ومناهجه، وما يتضمنه من تعارضات داخلية، في فهم الدين الإسلامي، وتطبيق معادلات الصراع بين الكنيسة والتنويرين وفلسفات عصر النهضة الأُوروبية على المنظومة الدينية الإسلامية.

فنجد يعض هؤلاء المفكرين والباحثين يعتمد اللوثرية، وتحديداً منهج “فلاسيوس”؛ لينتهي الى تشبيه الواقع الإسلامي بالواقع المسيحي قبل ظهور لوثر، أو بالانشقاقات البروتستانتية والأرذوكسية واللوثرية، أو بالعصور المسيحية الوسطى الأوروبية. وراح آخرون يخططون لثورة تنويرية مسلمة على الموروث الديني الإسلامي، وتعميم مصطلح الموروث على النص القرآني والسنة، بالتزامن مع ثورة أخرى على المنظومة الدينية الإسلامية ومتكلميها وفقهائها.

ولوقعنة هذه الثورات المضادة للدين؛ عمدت موجات الغزو الفكري والمنهجي العلماني إلى توصيف المفكرين والباحثين المسلمين الليبراليين والعلمانيين، بالمجددين والمصلحين، وبأن بعضهم هو “مارتن لوثر” الإسلام، وإلى نحت مصطلحات عائمة كـ (اللوثرية الإسلامية) أو (الإسلام الأرثذوكسي) أو (الإسلام البروتستانتي) كمناهج في فهم الاسلام. وهذا المقاربة تساوق في خطئها وخطورتها فهم الإسلام بمنهج الفسلفة المادية الديالكتيكية (الماركسية الإلحادية).

5- منهج الفهم الإسقاطي العلماني للإسلام:

تماهياً مع وسائل التوجيه الغربية؛ يستحضر العلمانيون العرب والمسلمون ممارسات الدول السلطانية المسلمة وسلوكياتها، ونظمها الثيوقراطية الشمولية المستبدة، بدءاً بالدولتين الأموية والعباسية وانتهاءً بالدولتين الصفوية والعثمانية؛ ليتهموا الإسلام بالفشل إنسانياً، وبانطوائه على عناصر الظلم والاستبداد والتخلف.

وفي الخطوة التالية؛ يشبِّه العلمانيون المنظومة الدينية الإسلامية بالمنظومة الدينية المسيحية الكنيسية في مرحلة ما قبل عصر النهضة الأوربية. ثم ينتهوا إلى نتيجة قسرية مفادها أن تحرر أوربا من التحالف الكنسي السلطوي المتخلف المستبد، ودخولها عصر التنوير، لم يحصل إلّا بالقضاء على هذا التحالف أولاً، ثم إقصاء المنظومة الدينية الكنسية عن الشأن العام والتشريع والسياسة والدولة ثانياً. وعليه، فإن سر تطور أوربا وتقدمها الشامل يستند إلى البديل العلماني حصراً. وهو المسار الذي ينبغي على المسلمين الأخذ به، لينطلقوا في رحاب النهضة الحضارية، والتحرر الفكري والثقافي، والبناء القانوني المؤسسي، والاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني، والنماء الاقتصادي والعمراني، والتطور العلمي والتكنولوجي.

هذه المعادلات الوهمية ليست سوى شعارات تصلح للاستغفال النفسي والعقلي، والهيمنة السياسية والاقتصادية، والغزو الفكري والثقافي، والتخريب الاجتماعي، لأن إسقاط الواقع الأُوروبي في عصور ما قبل النهضة على واقع المسلمين، والمنظومة الدينية الكنيسية على المنظومة الدينية الإسلامية، والديانة المسيحية على الديانة الإسلامية، هو إسقاط لا يمت إلى أي معيار علمي ومنهجي، بالنظر للاختلاف الماهوي بين الديانتين والواقعين. ويشبه هذا الإسقاط، اتهام الإسلام بالمسؤولية عن إرهاب الجماعات الدينية التكفيرية المسلحة، كالقاعدة وداعش، وسلوكياتها، وبأنّ النص الديني الإسلامي المتمثل بالقرآن والسنة، يدفعان الى هذه السلوكيات جزماً.

ولا شك أن هذا الأسلوب في تحميل الإسلام المسؤولية، تقف وراءه أهدافاً ايديولوجية وسياسية مناهضة للدين أساساً، لأن معظم أصحاب هذه الأهداف يدركون جيداً أن معيار فهم الإسلام، ليس سلوك المنتسبين إليه وتفسيراتهم المصلحية ونظرياتهم المبتسرة التجزيئية التي يطبقونها وفق أهوائهم، لتحقيق مصالح سلطوية وسياسية واقتصادية واجتماعية، بل المعيار هو الفهم التخصصي الدقيق للدين.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment