مفهوم العلم من منظار الإسلام

Last Updated: 2024/06/10By

مفهوم العلم من منظار الإسلام

دراسة مشتركة بقلم: الشيخ محمد علي التسخيري وعلي المؤمن

ینزع موضوع العلم من منظار الإسلام إلى تأصیل منهجٍ إسلامي أساسٍ، محوره العلم بمفهومه الشامل؛ لیؤكد مرة أُخرى الأهمیة الكبری التي یولیها الإسلام للعلم، حتی جعله مدخلاً للهدایة والإیمان. وهذا الموضوع بحاجة إلى مزید من العنایة والبحث؛ لينبت منهجاً وفكراً إسلامیاً متجدداً یعید للمسلمین مجدهم الحضاري الذي بنته عقول واجتهادات وجهود وتدبّر آلاف العلماء الأفذاد في كل حقول المعرفة.

والحقیقة أنّ الشبهة التي ينبغي دفعها هنا، هي شبهة یثیرها أُولئك الذین یهدفون إلى فصل الأرض عن السماء، وفصل الدین عن الحیاة العامة، وتفصیل حقیقة الإله علی مقاسهم وأهوائهم وعقولهم، فیحوّلون بذلك دین الله إلى دینٍ أرضي من صنعهم، یحدّدون له شریعته وأغراضه ودوره. وهي نوع من (المنهجیة) التي تفصل بین مسارات حركة الإنسان في حیاته، وهي مسارات لا یمكن تفكیكها؛ لأنّها في الحقیقة مسار واحد یبدأ من الأرض، فیبنيها ویعمّرها بالمنهج والأُسلوب والوسیلة التي حدد الله تعالی معالمها؛ لیصل الإنسان بذلك إلى مرضاة خالقه، وینتهي إلى أهداف السماء وآفاق الآخرة. فهي ـ إذاً ـ حیاة واحدة، البدایة فیها مشدودة إلى النهایة، ولا یخرج عنها أيّ بعدٍ أو أُفق أو أدب أو سلوك {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}([1]).

مفهوم العلم بین الفكر الوضعي والفكر الإسلامي

إنّ أحد مناشئ دعوة الفصام بین الدین والعلم الطبیعیة والتجریبیة هو التمسك بمفهوم العلم في الفكر الوضعي، وتحدیداً فكر ما یسمی بعصر النهضة الأُوربیة، ویتلخص هذا المفهوم في مصطلح (Scince) الذي یعني العلم الطبیعي والتجریبي أو العلم بالقضایا المحسوسة الخاضعة للتجربة، ولكن هذا المصطلح یترجم ـ مجازاً ـ إلى العلم، وإلّا فإنّه لا یعني مفهوم العلم بمقاصده الشاملة. إذ لا یمكن ـ مثلاً ـ إطلاق هذا اللون من العلم (Scince) علی العلم الشرعي أو العلوم الدینیة؛ لأنّ كثیراً منها لا یمثل قضایا محسوسة أو خاضعة للتجربة، وبالتالي فمفهوم العلم في الفكر الوضعي محدد بحقوق معینة، وهو هنا في مقابل الدین ومعارفه، بل إنّه معیار الخطأ والصواب في أي تعارض بینه وبین الدین؛ لأنّ علوم الدین لیست علماً؛ باعتبارها تعطي تفسیرات غیبیة ـ عادة ـ في تفسیرها للظواهر الكونیة أو الطبیعية، وتربطها بالله تعالی خالق القوانین والظواهر، في حین یعطي العلم في الفكر الوضعي تفسیرات محسوسة وتجریبیة ـ عادة ـ وخاضعة لقوانین مادیة وطبیعیة (Law of  Nature) وبذلك لا یكون العلم Scince)) بحاجة إلى الله، أو أنّ الله لا مكان له في هذه التفسیرات. وبات الدین في أُوروبا ابتداءً من القرن التاسع عشر المیلادي عبارة عن تعالیم أخلاقیة عامة، لا علاقة لها بالعلم بتاتاً.

أمّا العلوم الدینیة في الغرب فهي علوم اللاهوت وحسب، والتي لا یحق لها أن تدلي بأي رأي في العلوم الطبیعیة؛ لأنّها من جنس آخر. وقد عارضت الكنیسة هذه النزعة عند ظهورها، بعد أن حاول أصحابها فصل هذا اللون عن سلطة الكنیسة التي كانت السبب في خلق ردود الأفعال السلبیة هذه، من خلال سلوكیاتها المعادیة للاكتشافات والاختراعات الجدیدة التي بدأت بالظهور في أُوروبا خلال القرن السادس عشر المیلادي. وعندها نشأت ثنائیة (العلم/الدین)، أي التضاد بین العلم بمفهومه الوضعي وبین الدین الذي تمثله الكنیسة، وهو تضاد منشؤه محاولة كل طرف إعطاء المشروعیة والحجیة لنفسه في تفسیر أيّ ظاهرة حیاتیة وطبیعیة وكونیة. وكانت هذه الإشكالیة ولا تزال إفرازاً للبیئة الغربیة وتطورها التاریخي. ولا شك أنّ دیناً من النوع الذي كانت تتبناه الكنیسة لا بدّ وأن یخالف العلم الطبیعي أو یخالفه العلم الطبیعي، نتیجة حالة الانفعال وعدم التوازن واختلاف المناهج والخطاب.

أمّا كلمة العلم من وجهة نظر الإسلام ـ كما یدل معناها اللغوي والاصطلاحي ـ تشتمل علی كل ألوان العلوم، بل ولا تفصل بینها فصلاً حقیقیاً، بل تعتبرها أجزاء لحقیقة واحدة. كما أنّ الإسلام أفرز معارف تمتلك تفسیراً علمیاً دینیاً لكل الظواهر الكونیة.

من هنا، فإنّ مهمة الشریعة تتلخص في تنظیم حركة الحیاة التي تستوعب مختلف الظواهر والمسارات ذات العلاقة بالعلوم الطبیعیة أو العلوم الأدبیة أو العلوم الإنسانیة. والحقیقة أنّ تسمیات هذه العلوم (مثل: Scince Human) هي الأُخرى إفراز لثقافة خاصة ومناخ فكري خاص، فصلتها تماماً عن الدین أو الشریعة، فالعلوم الإنسانیة والاجتماعیة في الغرب لا علاقة لها بالدین، ولیس للدین رأي فیها، وهكذا بالنسبة للفنون والآداب كالعلوم الطبیعیة تماماً، بینما یمتلك الإسلام أرضیة متكاملة لانبثاق علوم إنسانیة واجتماعیة خاضعة لتصوره ورؤیته الكونیة.

وحول ثبات العلوم وتغیرها أو تحركها؛ فهذا الأمر یحظی بقاعدة عامة یمكن أن تنطبق علی مختلف أنواع العلوم، فالقوانین الطبیعیة والكونیة ثابتة لا تتغیر، كما أنّ القوانین الدینیة والاجتماعیة ثابتة؛ لأنّها جمیعاً من صنع الله تعالی، وهي سنته التي لا تتبدل ولا تتحول، وبكلمة أُخرى فهي ثابتة في علم الله تعالی ولا تتغیر إلّا بأمره.

أمّا المتغیّر فهو علم الإنسان بهذه القوانین، أي قابلیته علی اكتشاف جزء منها أو التعمق في هذا الاكتشاف، فاكتشاف الإنسان لقوانین جدیدة أو قوانین أكثر دقة تدخل تحوّلاً جدیداً في مسار العلوم الطبیعیة؛ لأنّ هذه العلوم غیر مجرّدة وغیر قائمة بذاتها، بل إنها منسوبة إلى الإنسان وقدراته العقلیة، وبذلك فهي متغیرة. وفهم الإنسان المتغیر لمجمل القوانین الإلهیة الطبیعیة والاجتماعیة، یجعل اعتماد هذه القوانین في فهم موضوعات بعض العلوم الشرعیة ذات العلاقة بها، یجعله مرناً، علی اعتبار أنّ كثیراً من معطیات العلوم الطبیعیة والاجتماعیة غیر ثابتة ـ كما ذكرنا ـ وتبقی قوانین هذه العلوم آفاقاً مفتوحة لیكتشفها الإنسان كما دعاه الله تعالی إلى ذلك، ولكن في الحدود التي تسمح بها مشیئته {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء}([2]).

الترابط بین العلوم الشرعیة والعلوم الطبیعیة

یمكن تقسیم العلوم بحسب موضوعاتها إلى: علوم دینیة وشرعیة، وهي ذات مدخلیة بقضایا الشریعة، سواء بصورة مباشرة أو غیر مباشرة، كعلوم القرآن والحدیث والكلام والفقه وغیرها، وعلوم إنسانیة واجتماعیة، والتي دعا الإسلام إلى اكتشاف قوانینها وإخضاع مناهجها لعلوم الشریعة، إذ تشكل الأخیرة قاعدة لها، كعلوم السیاسة والاقتصاد والقانون والنفس والاجتماع والتاریخ وغیرها، وعلوم عقلیة ونظریة، كالفلسفة والمنطق والریاضیات وغیرها، وهي علوم أو أدوات یمكن أن تكون لصیقة بقنوات الإيمان والهدایة، وعلوم طبیعیة، وهي ذات علاقة بالخلق المادي أو المحسوس، كعلوم الفیزیاء والكیمیاء والطب وغیرها.

وكما ذكرنا فإنّ هذه العلوم هي أجزاء لحقیقة واحدة؛ لأنّ العلم من منظار الإسلام هو كلٌّ متكامل في تفاصیله ومكوناته، وتتداخل مجالاته وأجزاؤه مع بعضها، برغم تنوع قوانین وآلیات حركة كل مجال؛ لأنّ العلم أیاً كان حقله فإنّ مصدره واحد هو علم الله تعالی، وهو علم واحد لا یقبل التجزئة. وهكذا فالعلوم الطبیعیة، بل وحتی الفنون والآداب، هي جمیعاً في خدمة الإنسان وتساعده علی أداء دوره وتكلیفه علی الأرض. وبما أنّ الإنسان یتعرف علی تكلیفه في الأرض وعلی أسالیب ارتباطه بالسماء من خلال الشریعة، فإنّ الأخیرة تعبير عن مسار محددات أيّ نوع من أنواع العلوم، وبالتالي فإنّ كل العلوم التي یمتلكها الإنسان تسیر باتجاه واحد یوصل إلى الله سبحانه وتعالی.

والواقع أنّ كتابة هذا البحث كان دافعاً لي لمراجعة معظم الآیات التي تدخل فیها مفردات العلم والمعرفة والعقل والفكر والتدبر والنبأ، فوجدت أنّ معظمها ـ من خلال المعنی والسیاق والقرائن وأسباب النزول ـ یدل علی أنّ المقصود بالعلم هنا هو العلم الشرعي، مثل: {لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ… }([3])، و{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}([4])، و{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ}([5])، وغیرها. ولكن هناك أیضاً آیات واضحة الدلالة علی إطلاق مفهوم العلم، واشتماله أیضاً علی العلوم الطبیعیة والتجربیة.

وكذا الأمر بالنسبة للأحادیث الشریفة، مثل حدیث: ((العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة))([6]). أي أنّ العلم في معظم الآیات والأحادیث مرادف لمعرفة الله تعالی والعلم بأحكام الشریعة أو علوم الشریعة، وتحدیداً علوم القرآن ودرایة الحدیث والفقه، كما أنّ العلم في هذا النبوي الشريف المراد به التعرف علی آثار الخالق والإیمان به، وتعلم الأحكام المأخوذة من القرآن والحدیث، أي أنّ التعلیم غالباً ما یأتي مرادفاً للتفقه. ومع هذا فهناك آیات وأحادیث ـ رغم قلتها ـ یتسع صدر مفهوم العلم فیها إلى العلوم الطبیعیة والاجتماعیة أیضاً، مثل الآیة الكریمة: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ}([7])، التي تشیر إلى الترابط بین العلوم الشرعیة والعلوم الطبیعیة، فالعلم الطبیعي یؤدي إلى الإیمان وإلی معرفة الله تعالی، وبالتالي فطریق ذلك أیضاً هي العلوم الشرعیة.

هذا فضلاً عن علاقة العلوم الشرعیة بالعلوم الاجتماعیة وبفلسفة التاریخ، كما في عشرات الآیات، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}([8])، وقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ…}([9])، وقوله سبحانه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}([10])، وأخيراً وليس آخراً قوله تعالى أيضاً: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}([11]).

وجاء في الحدیث الشریف قول رسول الله: ((العلم علمان: علم الأديان؛ وعلم الأبدان))([12])، وهو ذو دلالات واضحة جداً علی اتساع نطاق معنی العلم. وهناك أیضاً قول للإمام علي یفسّر قول النبي: ((العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنحو للّسان، والنجوم لمعرفة الزمان))([13]).

وهناك أحادیث تؤكد سیاقاتها علی اشتمال مفهوم العلم علی كل الحقول المعرفیة، مثل قول الرسول: ((إنّ الله يطاع بالعلم، ويعبد بالعلم، وخير الدنيا والآخرة مع العلم))([14])، وقوله أیضاً: ((من سلك طريقاً يطلب علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة))، أي أنّ كل علم یقصد به وجه الله تعالی ومرضاته سواء كان علماً دینیاً أم تجریبیاً، فهو طریق إلى الجنة ویتأكد المفهوم مع حدیث: ((اطلبوا العلم ولو كان في الصين، فإنّ العلم فريضة علی كل مسلم ومسلمة))([15])، ولم يكن في الصین حینها علومٌ شرعیة. والقاعدة في هذه الأحادیث هي أنّ إثبات الشيء لا ینفي ما عداه.

ویبقی أنّ الهدف في كل هذه العلوم، علی اختلاف أسمائها أو حقولها هو معرفة الله وأداء الإنسان تكلیفه الحقیقي علی الأرض. یقول الرسول: ((من عرف نفسه فقد عرف ربه))([16])، وهو ما یعیدنا إلى الحدیث عن الترابط بین أجزاء العلم، فوفقاً لهذه المنهجیة التي یبینها الله تعالی في كتابه المجید، ویفسّرها الرسول في سنته الخالدة، فإنّ علوم الإیمان والهدایة، أي علوم الدین هي التي تحدّد الأُطر والقواعد الإیمانیة والعقیدیة والأخلاقیة للعلوم الطبیعیة والإنسانیة والاجتماعیة وسائر العلوم؛ لكي لا تطلق لنفسها العنان ویشط بها المسیر، فتكون هدفاً بذاتها، بدل أن تكون في خدمة أداء الإنسان لتكالیفه وفرائضه، فتخرج عن المسارات التي یریدها الله تعالی، وبذلك تكون فتنة للإنسان وتدمیراً لإنسانیته وأخلاقه. وأقرب مثال علی ذلك العلوم الحدیثة التي خدمت الإنسان من جهة وباتت من جهة أُخرى وبالاً علیه، كعلوم الاتصالات والمعلوماتیة والفضاء والفیزیاء والهندسة الوراثیة وغیرها.

وقد یستغرب العلمانیون أو یتصنّعون الاستغراب حین تكون لعلوم الشریعة علاقة بهذه العلوم، من خلال تغذیتها بالقواعد والأحكام العقیدیة والفقهیة والأخلاقیة. وهكذا فللدین رأي في كل شيء؛ لأنّه القانون العام الذي یحدّد طریقة حیاة الإنسان، ویمنعه من تجاوزها في أيّ مجال كان.

نظرة القرآن الكریم إلى العلم الطبیعي

لقد وضع القرآن الكریم أُسس الحضارة الإسلامیة، وراح یرعاها علی مرّ العصور، مما یحقّق بوضوح مقولة الإمام علي فیه: ((ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يُضلّ نهجه، وشعاعاً لا يظلمُ ضوؤه… جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء))([17]).

ودفع القرآن الأُمّة الأُميّة لخوض لجج العلم بأسالیب مختلفة، نعرض هنا بعضها:

  1. ربّی القرآن المجيد في الأُمّة عنصر التأمل والتعقل والنظر والتفكر، وكان مرشد العقل لكشف المجاهیل واستكناه الحقائق. وتلك أُولی الخطوات لتنمیة المعارف الفلسفیة والعقائدیة بمختلف مجالاتها.
  2. علّم الإنسان أسالیب التفكیر والاستدلال والبرهنة، ونبّه فیه الجوانب الفطریة، لیستخدمها في منهج فكري سلیمٍ من شأنه كشف الحقائق.
  3. عرض أمام الأُمّة أروع آفاق النظام والتوازن، بل أوصله إلى فكرة كلیة تؤمن بعدم وجود شيء یخلّ بهذا التوازن الرائع.
  4. دفع الأُمّة لكشف الحقائق، ووعدها بأن یقرّبها من الحقیقة بمقدار ما تبذله من جهد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}([18]).
  5. أكد إمكانیة نفوذ الإنسان في عمق الظواهر الكونیة بسلطان العلم: {… لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}([19]).
  6. حصر الخشیة من الله تعالی بالعلماء مطلقاً، وهذا الحصر لا یتمّ إلّا بالتوسع في مفهوم العلم، لا سيّما وأنّ الآیة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}([20])، وردت في سیاق تعداد بعض نعم الله تعالی في الطبیعة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ… }([21]).
  7. أمر القرآن الأُمّة بأن تعدّ للعدو ما استطاعت من قوّة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}([22]).
  8. طرح القرآن للأُمّة حقائق علمیة كانت غامضة آنذاك، وحفّز العقول لاكتشاف المزید منها، من قبیل حركة الجبال، وتنوع الثمار، وتعدّد المشارق والمغارب، والزوجیة الكونیة.
  9. أوضح حقیقة أنّ الله تعالی وهب الإنسانیة كل ما تحتاجه في حیاتها. وعبّأ الطبیعة لهذا الغرض. ولكنه من جانب آخر كشف عن أنّ كفر الإنسان بنعم الله وظلمه في توزیعها هما مكمن مشكلة الإنسان.

ومن خلال مجمل هذه الأسالیب، نجد أنّ القرآن الكریم مليء بالآیات الكونیة التي تدعو الإنسان إلى التفكر والتعقل في خلق الله، والتي تؤكد علی أنّ المعرفة بخلق الله (الطبیعة) هو نوع من أنواع العلم، ومن ذلك ما یرتبط بخلق الإنسان وكیفیة عمل جسمه: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}([23])، أو ما یرتبط بالتدبر في الطبیعة واكتشاف سننها وقوانینها والتعرّف علیها بأدوات علمیة: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ}([24])، والآیة الكریمة: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}([25])، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}([26])، وهذه واضحة الدلالة علی علم الفلك، والآیة: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ… إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}([27])، وهذه یمكن إدخالها في اهتمامات علم الزراعة.

ومن كل هذه الآیات التي تربط اكتشاف قوانین الطبیعة ومواهبها بالتفكر والتدبر والعلم ثم بالهدایة والإیمان بالله، یتأكد الترابط بین قوانین الطبیعة وقوانین الإیمان، وبین العلوم الطبیعیة والعلوم الشرعیة، وبالتالي استیعاب مفهوم العلم في الإسلام للعلم التجریبي والطبیعي أیضاً.

العلم الطبیعي في الحدیث الشریف

ذكرنا فیما سبق تأكید الأحادیث علی وظیفة الدین الأساسیة فیما یرتبط برؤیته للعلم، أي التأكید علی طلب العلوم الدینیة والتفقه في الشریعة وفي الوقت نفسه نجد أحادیث أُخر تحث علی التعرّف علی أحوال الزمان، وهو باب واسع ینفتح علی كثیر من العلوم التجربیة والتطبیقیة، فممّا جاء من روایات أهل البیت نذكر جملة منها: ((العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس))([28])، و((من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد))([29])، وقول الإمام علي: ((وفي التجارب علم مستأنف))([30])، وفیه دلالة واضحة علی أهمیة العلم التجریبي وكونه علماً، وكذا حثّ الإمام علي علی طرق: ((أبواب العلماء الذين يستفاد منهم علوم الدين والدنيا))([31])، وهناك أحادیث ترغّب المسلمین لتعلّم اللغات السریانیة والعبریة([32]).

ومن المرویات المهمة جداً في هذا المجال ما ورد عن الإمام جعفر الصادق قوله: ((فيما اُعطي الإنسان علمه وما منع، فإنّه اُعطي علم جميع ما فيه صلاح دينه ودنياه، فما فيه صلاح دينه معرفة الخالق…، وكذلك اُعطي علم ما فيه صلاح دنياه، كالزراعة والغراس واستخراج الأرضين واقتناء الأغنام والأنعام واستنباط المياه ومعرفة العقاقير… والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر، وركوب السفن والغوص في البحر… والتصرف في الصناعات ووجوه المتاجر والمكاسب وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده))([33])، وأهمیة هذه الروایة تنبع من تفصیلها لأقسام العلم، وكونها تنضوي تحت قسمین رئیسین، هما: العلم الدیني، والعلم الطبیعي.

إلى جانب ذلك قرنت الأحادیث دائماً العلم بالعمل، والنظریة بالتطبیق، والفكر بالحركة والتدبر بالواقع، فلا خیر في علم دون عمل، ولا خیر في عمل دون معرفة ـ كما تقول الأحادیث الشریفة ـ ومنها الحدیث المروي عن أهل البیت: ((تعلّموا ما شئتم أن تعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم حتی تعملوا به؛ لأنّ العلماء همتهم الرعاية، والسفهاء همتهم الرواية))([34]). وهذا ما یذكر بكتاب كتبه الإمام علي إلى محمد بن أبي بكر حین قلّده مصر، یقول فيه: ((واعلموا عباد الله أنّ المتقين ذهبوا بأجل الدنيا وأجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما اُكلت))([35]).

موقع العلم في مسیرة الحضارة الإسلامیة

لم یختلف العلماء المسلمون في حثّ الأُمّة علی طلب العلوم بأنواعها وتعلّم الصناعات بأشكالها كافة، حتی قال الفیلسوف ابن رشد (القرن الثاني عشر المیلادي) ما نصّه: «ولذلك وجب علی من أراد أن یعرف الله تعالی المعرفة التامة، أن یفحص عن منافع جمیع الموجودات»([36])، بل یؤكدون علی أنّ تعلّم العلوم والصناعات التي یحتاجها المجتمع هي من الواجبات الكفائیة التي یعاقب المجتمع علی تركها، أي في حالة عدم قیام بعضهم ممن فیهم الكفایة بهذا الدور.

والحضارة الإسلامیة ـ في حقیقتها ـ هي ثمرة جهود علماء وخبراء في اختصاصات مختلفة، ابتداءً بعلماء الشریعة ومروراً بعلماء الطبیعیات والاجتماعیات وانتهاءً بالصناعیین والفنانین. وفي كتب المستشرقین والباحثین الغربیین شهادات أساسیة علی السبق العلمي الكبیر الذي حققه علماء الطبیعة المسلمون، من تلك الكتب كتاب: «المدخل في تاریخ العلوم» لمؤلفه جورج سارتون، و«شمس العرب تشرق علی الغرب» لزنغرید، و«قصة الحضارة» لدیورانت، وغیرها من الكتب المهمة في هذا المجال.

وعموماً یمكن أن نستعرض جملة من جهود العلماء المسلمین في مختلف الحقول العلمیة، كالطب والكیمیاء والجبر والهندسة والفلك والجغرافیا والتاریخ والحكمة، وتبرز هنا أسماء جابر بن حیّان الكوفي الذي علّمه أُستاذه الإمام الصادق كیفیة استخدام المنهج التجریبي في الكیمیاء، والخوارزمي في الریاضیات والفیزیاء، والفرغاني في الفلك، والمقدسي في الجغرافیا، والبیروني في كثیر من العلوم النظریة والإنسانیة، وابن خلدون في التاریخ وعلم الاجتماع، وابن سینا في الطب وغیره من العلوم، والطوسي في الفلك والحكمة وغیرها، والفارابي في كثیر من العلوم العقلیة والطبیعیة والاجتماعیة، والدینوري في الأحیاء، وعلي بن عیسی في طب العیون، والرازي في كثیر من العلوم الطبیعیة ولا سیّما الصیدلة، والكندي في كثیر من العلوم العقلیة والطبیعیة، وموسی بن میمون في الطب النفسي، وغیرهم([37])، وكان معظم هؤلاء یجمعون بین العلوم الطبیعیة والعلوم الشرعیة والعلوم العقلیة والعلوم الإنسانیة، ویعدّونها امتدادات لبعضها، حتی أطلقوا علیها وصف: (العلوم والفنون الإسلامیة) وسمي علماؤها بـ (العلماء المسلمین)، وكان المتخصص بالكیمیاء یسمّی عالماً كیمیائیاً، وفي الفلك عالماً فلكیاً، وفي الفقه عالماً فقیهاً، وفي الحدیث عالماً محدّثاً، ولم یكن لهذا التألق العلمي لیتحقق بدون الأجواء والمناهج التي وفّرتها تعالیم القرآن والسنة. ولم یحدث هذا الفصام بین أجزاء العلم إلّا في مراحل التراجع الإسلامي حين دخلت أُوروبا فيما عرف بـ (عصر النهضة).

وفي الختام؛ لا یزال الأمل منعقداً علی استعادة العلم موقعه لدی المسلمین، فهو رهان الحاضر والمستقبل، بل هو رهان القدرة علی البقاء والاستمرار، ولا یقتصر هذا العلم علی حقل دون آخر، بل علی كل أجزاء العلوم، ولا سيّما تلك التي تشكل البنیة التحتیة العلمیة لكل نهضة. ولكي نكون واقعیین، فإنّ التجربة البشریة التي قطعت أشواطاً واسعة، ماثلةٌ إمام المسلمین لیأخذوا منها في حدود ما لا یتقاطع مع الشریعة. ویبقی أنّ علینا استخدام المناهج والآلیات التي تشدّ كل حقل علمي إلى أغراض الدین وأهدافه ومحدداته الشرعیة، كالأسلمة والتأصیل والتجدید والعصرنة والاكتشاف والتأسیس.. {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}([38]).

 

 

([1]) الانشقاق: 6.

([2])  البقرة: 255.

([3]) النساء: 16.

([4]) آل عمران: 7.

([5]) البقرة: 120.

([6]) «كنزالعمال»، الحدیث 28659.

([7]) فصلت: 53.

([8]) الرعد: 11.

([9]) الاعراف: 96.

([10]) الحج، الآیة 40.

([11]) الروم، الآیة 9.

([12]) «الفوائد»، للكراجكي: ج78، ص45.

([13]) «روضة الواعظین»، الفتال النيسابوري: ص12.

([14]) «كنزالعمال»، الحدیث28697.

([15]) «بحار الأنوار»: ج2، ص32.

([16]) «بحار الأنوار»: ج2، ص32.

([17]) «نهج البلاغة»، الخطبة 198.

([18]) العنكبوت: 69.

([19]) الرحمن: 33.

([20]) فاطر: 28.

([21]) فاطر: 27.

([22]) الانفال: 60.

([23]) الطارق: 5.

([24]) الملك: 3.

([25]) الغاشیة: 17 ـ 20.

([26]) الانعام: 97.

([27]) النحل: 10ـ 11.

([28]) عن الإمام الصادق %، «تحف العقول»: ص261.

([29]) عن الإمام علي %، «الكافي»، الكليني: ج8، ص38.

([30]) «الكافي»، الكليني: ج8، ص22. «وسائل الشيعة»، الحر العاملي: ج15، ص281، ح20517.

([31]) «بحار الانوار»: ج1، ص197.

([32]) «سنن الترمذي»، محمد بن عيسى: ج4، ص365، ح2715. «مسند أحمد»: ج5، ص186.

([33]) «بحار الأنوار»: ج3، ص83 ـ 84.

([34]) المصدر السابق: ج2، ص37.

([35]) «نهج البلاغة»، الكتاب 27، ص523.

([36]) «مناهج الأدلة»، ابن رشد.

([37]) أُنظر: «قصة الحضارة»: ج13، ص167ـ 36، و«دائرة المعارف الإسلامیة»، مادة (علم).

([38]) الحشر: 18.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment