حماية حقوق الأقليات المسلمة في أُوروبا

Last Updated: 2024/06/09By

حماية حقوق الأقليات المسلمة في أُوروبا

دراسة مشتركة بقلم: الشيخ محمد علي التسخيري وعلي المؤمن

مفهوم الأقلية

لا شك أنّ موضوع الأقليات المسلمة من الموضوعات المهمة والأساسية في واقعنا الإسلامي. ورغم ما يثيره هذا الموضوع من قضايا معقدة ترتبط بالتحدّيات المتجذرة التي تواجه الوجودات المسلمة التي تعيش في وسط غير مسلم، إلّا أنّ ما يخفف نسبياً من المعاناة النفسية والواقعية الضاغطة على هذه الأقليات، هو الاهتمام المتزايد الذي أخذ هذا الموضوع يحظى به ـ في السنوات الأخيرة ـ من قبل الرساليين من أصحاب المسؤولية في البلدان الإسلامية والمنظمات الدولية والإقليمية الإسلامية الرسمية وغير الرسمية. وكمدخل للبحث نشير إلى مقدمتين:

الأُولى: ترتبط بتعريف الأقلية من الناحية الاصطلاحية القانونية؛ بهدف طرح فهم عام لمصطلحي الأقلية والأقلية المسلمة، رغم التعاريف الكثيرة المختلفة في هذا المجال. فالأقلية السكانية تقابل الأكثرية التي تعيش في حدودها الجغرافية أو الزمنية. والمحددات الرئيسية التي تقسِّم المجموعات السكانية إلى أكثرية وأقلية، هي في الغالب عرقية أو قومية أو لغوية أو دينية أو مذهبية أو سياسية، في إطار المعيار العددي النسبي، ففي كل بعد من هذه الأبعاد تكون هناك أكثرية غالبة تهيمن ـ عادة ـ على النظام العام، ويحدد سلوكها الفكري والعملي طبيعة وضع الأقلية وواقعها. أمّا بخصوص الأقلية المسلمة، فإنّ ما يفرِّقها عن الأكثرية السكانية التي تشترك معها في الدولة الواحدة هو محدّد الدين.

وغالباً ما تكون الأقلية المسلمة أقلية عددية قياساً لباقي سكان الدولة الذين ينتمون إلى ديانة أو ديانات أُخر. وقد شكّل المسلمون في بعض الدول نسباً متساوية عددياً مع أتباع الديانات الأُخر. أو ربما كانوا أكثرية عددية نادراً، إلّا أنّ النظام السياسي في هذه الدول يبقى خاضعاً لهيمنة غير المسلمين، وبذلك يعدّ المسلمون أقلية. ومن هنا، فإنّ المعيار الرسمي المعتمد لدى منظمة المؤتمر الإسلامي هو معيار العضوية في المنظمة نفسها، ويعني ذلك أنّ الأقليات المسلمة هي التي تعيش في دول لا تنتمي إلى منظمة المؤتمر الإسلامي. ويربو عدد هذه الأقليات على 500 مليون مسلم، أي ما يقرب من ثلث عدد المسلمين الذي وصل إلى ما يقرب من مليار و350 مليون نسمة.

والمقدمة الثانية: تتعلق بميدان البحث؛ فنتطرق ـ ابتداءً ـ الى بعض الإحصاءات المتعلقة بالأقليات المسلمة في القارة الأُوروبية. إنّ العدد الإجمالي للمسلمين في أُوروبا يصل إلى ما يقرب من (42) مليون نسمة، وفقاً لتقديرات عام 2000م، والتي أوردتها معلومات منظمة المؤتمر الإسلامي، وقد اعتمدناها نحن هنا في إيراد النسب.

ووفقاً لهذه الإحصاءات، فإنّ مسلمي أُوروبا يشكلون نسبة 3% من مجموع مسلمي العالم، و9% من عدد نفوس الأقليات المسلمة في العالم، ورغم أنّ هذه النسبة بسيطة كماً، إلّا أنّها من الناحية النوعية تحظى بخصوصيات متميزة، كموقع أُوروبا وتأثيره على المستويات العالمية كافة، وتتعرض هذه الأقليات باستمرار إلى ألوان بشعة من الاغتيال الثقافي ومحاولات سلب الحقوق.

وبناءً على جملة من المعايير الموضوعية يمكن تقسيم مسلمي أُوروبا إلى ثلاث مجموعات رئيسة:

الأُولى: المسلمون في الجمهوريات الأُوروبية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي المنحل، وهي الجزء الأُوروبي من روسيا، روسيا البيضاء، أُوكرانيا، مولدافيا.

الثانية: المسلمون في الدول الأُوروبية ذات الأكثرية النسبية المسلمة، وهي: ألبانيا والبوسنة والهرسك.

الثالثة: المسلمون في الدول الأُوروبية ذات الأكثرية السكانية غير المسلمة، وهي: إسبانيا، ألمانيا، إيطاليا، البرتغال، بريطانيا، بلجيكا، بلغاريا، بولندا، تشيكيا، الدنمارك، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، السويد، فرنسا، فنلندا، كرواتيا، مالطا، المجر، مقدونيا، النرويج، النمسا، هولندا، اليونان، يوغسلافيا.

ونرى أنّ كل مجموعة من هذه المجموعات الثلاث لا بدّ أن تدرس أوضاعها بصورة منفصلة، بالنظر للخصائص المشتركة، التي تشد عناصر كل مجموعة، سواء على المستوى البشري والجغرافي والتاريخي والمناخ السياسي والبيئة الاجتماعية ونوعية التحدّيات والمشاكل التي تواجهها. وبالتالي، فإنّ ميدان بحثنا هي المجموعة الثالثة من المسلمين، أي الأقليات المسلمة في الدول الأُوروبية ذات الأكثرية السكانية غير المسلمة.

التحديات الحقوقية التي تواجه مسلمي أوروبا

لا ريب أنّ دراسة القضايا الحقوقية لمجتمع الأقليات المسلمة في أُوروبا (ميدان البحث) يعدّ أمراً شائكاً ومعقداً، وتتداخل فيه أبعاد مركبة أُخر غير البعد القانوني، تشتمل على التاريخ والثقافة والتربية والسياسة والاقتصاد.

ومن هنا، فإنّ التحدّيات الحقوقية التي تواجهها هذه الأقليات ليست قضايا قانونية وحسب، وإنّما هي تحدّيات ومشاكل تستوعب مختلف مجالات الحياة، ويمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع رئيسة: ثقافية واجتماعية، تربوية وتعليمية، وسياسية وإعلامية، وإن كان هناك تداخل وتشابك فيما بينها، فضلاً عن وجود مجالات أُخر أقل أهمية. ونحاول هنا إلقاء الضوء على تلك التحدّيات على نحو الاختصار، تمهيداً للحديث عن المعالجات.

1 ـ الهوية الثقافية والاجتماعية:

في بحث سابق حول موضوع الأقليات المسلمة في الغرب، أكدتُ على أنّ مؤامرة (الاغتيال الثقافي) هي أكبر تحدٍّ يواجه هذه الأقليات؛ لأنّها مؤامرة معقدة وغير معلنة في الغالب، وهي تستهدف سلب هوية الأقليات المسلمة وتذويبها في البيئة العامة من خلال محاولات دمجها في مجتمع الأكثرية. وفي ذلك البحث اعتمدتُ مصطلح (الاغتيال الثقافي) لاعتبارات منهجية، إذ إنّ الغزو يتم ـ عادة ـ من قبل مجتمع ضد آخر، أي أنّه عبارة عن هجوم وزحف خارجي، أمّا الاغتيال فيتم ـ عادة ـ من عناصر داخل المجتمع ضد عناصر أُخر في المجتمع نفسه. وبما أنّ الأقليات المسلمة تعيش في دائرة المجتمعات الأُوروبية وتتعايش معها بمستويات معينة، فهي تشكل مفردة غير قوية بالمستوى الكافي وتقف على أرضية رخوة، مما يعني سهولة اغتيالها من قبل مجتمع الأكثرية بالنظر لمساحة تأثير مجتمع الأكثرية والأدوات الفاعلة التي يمتلكها. وتكمن الخطورة هنا ـ كما أشرنا ـ في أنّ الجزء الأكبر من أدوات الاغتيال غير منظورة، ولا يترك الفاعل وراءه ـ غالباً ـ ثغرات قانونية أو آثاراً للجريمة.

ولعلّ المشكلة الأساس التي تواجه الأقليات المسلمة في المجال الثقافي والاجتماعي تتمثل في نوعية البيئة العامة التي يعيشون فيها، والتي تتميز إيديولوجياً بسيادة العلمانية ومختلف الأفكار الوضعية والإلحادية، مما يؤثر بشكل وآخر على البنية الفكرية لأبناء الأقليات وعلى رؤيتهم للدين ودوره ووظيفته، ويأتي الجانب السلوكي والعملي للبيئة الغربية الذي يتميز أيضاً بسيادة أصالة المنفعة والمادة واللذة؛ ليكمل الجانب النظري ويفرز أشكالاً مختلفة من السلوكيات اللا أخلاقية واللا إنسانية، ويعطي لمفاهيم الصلاح والفساد، السعادة والشقاء، الخير والشر، الحب والبغض، الاستقامة والانحراف، الحق والباطل، الحرية والاستبداد، العدالة والظلم، مضامين أُخر تتناقض والمفاهيم الإسلامية. وهذا الأمر يخلق بمجمله ألواناً معقدة من المنهجية الفكرية المتضاربة والسلوكيات المزدوجة لدى المسلمين، ينتج عنه ـ بالتدريج ـ انهيار للحصون الذاتية للفرد والأُسرة والمجتمع المسلم، وهو ما يمكن أن نطلق عليه (القابلية لاغتيال الهوية). وهذا الوضع يحتاج إلى جهد كبير لتحويله إلى قضايا ذات صياغات قانونية، ومن ثم التثبت من حيثيات كل قضية بهدف التصدي لمحاولات الاغتيال الثقافي وطمس الهوية الاجتماعية.

والواقع أنّ مساحة هذا التحدي تتسع لكل ما له علاقة بطبيعة حياة الأُسرة المسلمة في أُوروبا، وحياة مجتمع الأقلية المسلمة ككل، وقدرة هذا المجتمع قانونياً على امتلاك واقع اجتماعي مستقل يحظى بالحقوق المدنية والدينية والسياسية التي تصون هويته من مصادرة مجتمع الأكثرية، وبكلمة أُخرى إمكانية مجتمع الأقلية المسلمة على خلق وحدة اجتماعية وثقافية ودينية تستفيد من القوانين نفسها التي يقر بها ويستفيد منها مجتمع الأكثرية، سواء القوانين المحلية أو الإقليمية أو الدولية.

ومن المشاكل التي يفرزها هذا الوضع أيضاً، صعوبة إيجاد مراكز دينية واجتماعية تكون محاور لحركة الأقليات المسلمة، ولا سيّما على الصعد العامة، كالمراسيم العبادية أو إحياء المناسبات الدينية والاجتماعية والثقافية، وإذا أضفنا هذه المشكلة إلى ما تسببه التقاليد الاجتماعية والثقافية لمجتمع الأكثرية من سلوكيات تتناقض مع الشريعة الإسلامية التي يفترض أن يتّبعها مجتمع الأقلية، فإنّ حالة المحاكاة والتماهي الواعية واللا واعية التي تنجر وراءها الأقليات الإسلامية، ستصل ـ أحياناً ـ إلى مستوى تسويغ هذا الواقع المنحرف. وتبرز هذه الظواهر بصورة أوضح لدى الجيل الثاني، والثالث من أبناء المسلمين المهاجرين كما تبرز أيضاً لدى أبناء المسلمين من أهل البلد الأصليين من الذين يبتعدون جغرافياً أو اجتماعياً عن مراكز تجمع المسلمين.

وفي الجانب الحقوقي ـ الاجتماعي البحت، فإنّ أول ما يبرز هنا هو ما يرتبط بالقوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية، ولا سيّما قضايا الزواج (الشرعي) والإرث والقيمومة على الأولاد وغيرها. فالدول الأُوروبية تفرض ـ عادة ـ على مواطنيها، ومنهم المسلمون، القوانين المدنية الوضعية التي يتعارض كثير منها مع الشرع الإسلامي، الأمر الذي يؤدي إلى مشاكل اجتماعية وحقوقية كبيرة للمسلمين؛ لأنّ الانتماء بالجنسية للبلد الأُوربي أو الإقامة القانونية فيه سيترتب عليه الالتزام بقوانين الدولة بمختلف أشكالها ومضامينها، مما يخلق عملية تجاذب شديد بين الانتماء بالقانون للدولة والانتماء بالعقيدة للإسلام.

2 ـ التحدي التربوي والتعليمي:

أوّل قضية تقفز إلى السطح في هذا المجال قضية اللغة، فاللغة الأجنبية ـ ولا سيّما بالنسبة للمسلمين المهاجرين ـ تخلق نمطاً جديداً من التفكير بعيداً بمستويات معينة عن روح الإسلام. على العكس من اللغة العربية التي يعمق تعلمها الارتباط بروح الإسلام وتعاليمه، وإن كان ارتباطاً عاطفياً وشكلياً. ولهذا نجد أنّ بعض دول أُوروبا الشرقية ظلت تسعى لمنع استخدام الأسماء العربية؛ لأنّ الشخص الذي اسمه محمد أو مصطفى ـ مثلاً ـ سيبقى على الحد الأدنى من الانتماء الثقافي للإسلام، ومن خلال ارتباطه بالرمز الإسلامي الذي يمثله الاسم. وفي حالات أفضل فإنّها تفرض على المسلمين وضع لاحقة (سلافية) لأسمائهم العربية، مثل: أحمدوف أو علييف.

كما أنّ النظام التعليمي الوطني للدول الأُوروبية يربط الإنسان المسلم بفكر وواقع ومظاهر وتاريخ لا تمتّ إلى هويته بصلة، ولا سيّما من خلال مناهج التربية الوطنية وعلم الاجتماع والجغرافية والتاريخ والأديان. وتتضاعف هذه المشكلة إذا ما أُضيف إليها الجانب التربوي؛ لأنّ دراسة المسلمين في المدارس غير الإسلامية وتحت إشراف معلمين غير مسلمين، واختلاطهم اليومي بزملائهم التلاميذ من غير المسلمين سيؤثر بشدة على بناء شخصياتهم ورؤاهم.

وعموماً فإنّ المحاكاة التربوية للمسلمين مع مجتمع الأكثرية غير المسلمة، يعني نمو ونشوء مجتمع الأقلية المسلمة في رحم مجتمع الأكثرية غير المسلمة، أي في رحم غير إسلامي الأمر الذي يحبط مفعول التربية الإسلامية، بل وحتى العادات والتقاليد الموروثة، ويعرّض أبناء المسلمين إلى تجاذب من قبل نمطين من التربية: أحدهما يريده منه دينهم، والثاني ما يفرضه عليهم الواقع التربوي الذي تتبناه الأكثرية غير المسلمة وتتحكم باتجاهاته.

3 ـ التحدي السياسي والإعلامي:

تتعرض كثير من الأقليات المسلمة في أُوروبا إلى أنواع التمييز السياسي، يصل أحياناً إلى حد الطرد من العمل الوظيفي والمطاردة والنفي والاعتقال وربما النفي، وهو ما يشاهد بوضوح في دول أُوروبا الشرقية. وتدخل في هذا المجال إشكالية انخراط المسلمين الأُوربيين في العمل السياسي والحزبي والحكومي الوطني، وهي إشكالية ذات أوجه متعددة، منها ما يرتبط بالشرعية الدينية لممارسة المسلمين هذا اللون من العمل السياسي وما يترتب على ذلك، ومنها كذلك ما يرتبط بنظرة الفعاليات السياسية والمؤسسات الحكومية في الدول الأُوروبية لمشاركة المسلمين في العمل السياسي الوطني.

وتتوافق وطأة التمييز السياسي مع وطأة الحرب الإعلامية الغربية التي تعيشها الأقليات المسلمة، ويتلاعب بمضامين وعي الأقليات ومساراته، بل ويواجهها الرأي العام الذي تمثله الأكثرية غير المسلمة بالاتجاه الذي يخدم مصالح سدنة السياسة والمال والإعلام في الدولة.

وكنتاج لهذا الواقع ظهرت اتجاهات ثقافية وسياسية وسط الأقليات المسلمة، تتناغم أفكارها وممارساتها مع أهداف الإعلام الغربي المضادة، بل وتتشبه به، وهي اتجاهات مستلبة تعمل على المساهمة في اغتيال الهوية الإسلامية للأقليات المسلمة في أُوروبا.

حقوق الأقليات المسلمة في التشريعات الأوروبية والدولية

من الناحية التاريخية، ربطت الاتفاقيات الدولية قضية الأقليات بموضوعي الدين والقومية، وإن كان للخصوصية الدينية الحضور الأقوى في مجال حقوق الأقليات. ولعلّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقرته الأُمم المتحدة عام 1948، يحتوي على أُولى النصوص الحقوقية الرسمية المعترف بها دولياً بشأن الحقوق العامة التي تشمل الأقليات أيضاً.

ومن ذلك ما جاء في المادة الثانية: «لكل إنسان حق التمتع بكل الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أيّ تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أيّ رأي آخر، أو الأصل الوطني والاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أيّ وضع آخر».

وكذا المادة السابعة التي نصت على أنّ: «كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة منه دون أية تفرقة، كما أنّ لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أيّ تمييز».

والمادة الثامنة عشرة أيضاً: «لكل شخص الحق في حرية التفكير، والضمير، والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر، ومراعاتها، سواء كان ذلك سراً أم مع الجماعة». وفي الإعلان المذكور كذلك ما يمكن الاستفادة منه لدعم حقوق الأقليات، كالمواد التاسعة عشرة إلى الثالثة والعشرين.

وأيضاً المادة السادسة والعشرون، ولا سيّما بندها الثالث الذي ينص على أنّ: «للآباء الحق الأول في اختيار نوع تربية أولادهم».

وبرغم ما يحتويه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من مواد راقية لحماية حقوق الإنسان، من المجتمعات وبضمنهم الأقليات الدينية والقومية والسياسية، إلّا أنّ هناك ملاحظتين أساسيتين تسجلان عليه:

الأُولى: إنّه لم يحدد ضمانة أو آلية تلزم الدول الموقعة عليه بتطبيقه.

والثانية: إنّه يحتوي على مادة تخوّل الدول انتهاك مبادئه. بحجة تطبيق القانون الوطني وحفظ النظام العام أو أمن الدولة أو مصلحة المجتمع، إذ جاء في البند الثاني من المادة التاسعة والعشرين: «يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط لضمان الاعتراف بحقوق الآخرين وحرياتهم واحترامهم، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة».

وهناك أيضاً العديد من الاتفاقيات بين دولتين أو أكثر، وكذلك المواثيق الدولية الخاصة لحماية الأقليات أو بعض الأحكام أو القرارات التي تصدرها المحاكم الدولية كمحكمة العدل الدولية، ومن أبرزها إعلان القضاء على التعصب والتمييز الديني، والمنصوص عليه في القانون الدولي العام، فقد نصت المادة الخاصة من الإعلان على «حق كل طفل في تعلم الدين والعقيدة وفقاً لرغبة عائلته، فضلاً عن حق الاعتقاد والتعبد والتفكير، وإنشاء الأماكن الخاصة بالعبادة، وفق ما تقتضيه العقيدة الدينية، وكذلك ممارسة التقاليد النابعة عن الدين والعقيدة، وكتابة ونشر النصوص الدينية الخاصة، وتعليمها لأتباع الدين في أماكن يمكن إنشاؤها لهذا الغرض، والتمتع بالعطل الأُسبوعية الخاصة بكل دين، والاحتفال بالمناسبات الدينية، وأخيراً إنشاء الهياكل المؤسسة التي يتطلبها توحيد أتباع الدين والعقيدة وتحفظ لهم خصوصياتهم وهويتهم الدينية والاجتماعية».

ولا شك أنّ التزام الدول الأُوروبية بهذه المواثيق باعتبارها من أُولى الدول التي وقعت عليها، كفيل بضمان حقوق أقلياتها المسلمة. كما أنّ دستور كل دولة من هذه الدول يمثل عقداً وطنياً يحمي كل أفراد المجتمع (المواطنين) على مختلف انتماءاتهم العرقية والدينية والسياسية، ويؤكد على المساواة بينهم، ويكون الدستور بذلك ضمانة أُخرى تكفل حقوق مسلمي هذه الدول، باعتبارهم مواطنين أو مقيمين، بيد أنّ التحدّيات والانتهاكات الجارية لحقوق المسلمين في أُوروبا تؤكد الازدواجية في الممارسة الاجتماعية والسياسية والقانونية لسلطة الأكثرية، كما تكشف عن الهوة الخطيرة بين النظرية التي تعبر عنها المواثيق الدولية وبيانات حقوق الإنسان العالمية والدساتير الوطنية، وبين التطبيق الذي تجسده الممارسات اليومية للسلطات.

ولا بدّ في هذا المجال من الإشارة إلى نموذج متميز من الدول الأُوروبية التي تعاملت مع قضية مسلميها بمضامين وصور متوازنة قانونياً وواقعياً، وهو نموذج الدولة الإسبانية، إذ نرى أهمية دراسته بعناية والاستفادة منه في قضايا حقوق الأقليات المسلمة في الدول الأُوروبية الأُخر. فقد جاء في تقرير أمين عام اللجنة الإسلامية في إسبانيا: إنّ بانهيار حكم فرانكو في إسبانيا عام 1975 تم تدوين الدستور الإسباني عام 1978، وأدى إلى تحول إسبانيا من دولة مركزية مسيحية يمينية إلى دولة اتحادية ديمقراطية متعددة الثقافات والديانات، وأقرّت بذلك حق المساواة والحرية الدينية كحقوق أساسية لمواطنيها. وفي عام 1980 اعترفت الدولة الإسبانية بالقومية الأندلسية الإسلامية وبمنطقة الأندلس مقاطعة ذات حكم ذاتي، عاصمتها إشبيلية، ولها حكومتها المحلية وبرلمانها وعلمها ونشيدها الوطني الذي يمجد تاريخ الأندلس الإسلامي، الأمر الذي دفع إلى تأسيس (الجماعة الإسلامية في الأندلس) في العام نفسه، ثم فتحت لها فروعاً في عدة مدن أندلسية. وفي عام 1989 اعترفت الدولة الإسبانية بالإسلام، كإحدى الديانات الإسبانية التاريخية، وأقرّت للمسلمين حقوقهم كافة، أُسوة بالأكثرية المسيحية. ثم تم في عام 1992 التوقيع على اتفاقية (سانتافي) التاريخية بين ممثلي القوى السياسية الإسلامية في إسبانيا والحكومة الإسبانية، أقرّت فيها الأخيرة أصالة الإسلام المستمرة والبارزة في إسبانيا، وأهميته في تكوين الهوية الإسبانية. وقد أسدلت هذه الاتفاقية الستار على مرحلة دامت خمسة قرون، تعرض خلالها المسلمون إلى ألوان الاضطهاد. وعلى أساس من هذه الاتفاقية أصبحت (اللجنة الإسلامية في إسبانيا) ممثلة للمسلمين الأسبان أمام الدولة الاتحادية. وبعد أربع سنوات على التوقيع عليها، أي في عام 1996 قررت الحكومة الإسبانية تعليم الدين الإسلامي لأبناء المسلمين في المدارس الحكومية. وبذلك نرى أنّ التجربة الإسبانية جديرة بالتطبيق في الدول الأُوروبية الأُخر التي تبدي استعدادها لإحقاق حقوق سياسية للمواطنين المقيمين، وكذلك في الدول التي يمكن للمسلمين استثمار قوانينها بالأساليب المشروعة لإحقاق حقوقهم.

تطبيق الحقوق المشروعة أوروبيا ودوليا على واقع الأقليات المسلمة

المواد الحقوقية المثبتة في القوانين الوطنية والأُوروبية والدولية، وبعض التجارب العملية الناجحة، والتي أُشير إلى جزء منها، يمكن استثمارها بشتى الصور المشروعة لحماية حقوق الأقليات المسلمة في أُوروبا.

إنّ صيانة الهوية الثقافية والاجتماعية للأقليات من الانحراف والاستلاب والتشويه هو الهدف الأساس الذي تسعى إليه المعالجات هنا. ولا شك أنّ معاناة الأقليات المسلمة في أُوروبا من سطوة ثقافة الأكثرية غير المسلمة، تجعل مهمة المعالجة الحقوقية لهذا الهدف في غاية الصعوبة. ولكن بالتخطيط العلمي، وزيادة القدرة على المواجهة سيفتت جزءاً كبيراً من هذه الصعوبة. وبمراجعة للقرار 47/8 س الصادر عن القمة الإسلامية في طهران، سنرى أنّه يضع الإطار العام للمعالجات في هذا المجال، من خلال تأكيده على بذل المساعي لكي تتمتع الأقليات المسلمة بمعاملة متكافئة من حيث الحقوق والالتزامات والواجبات مع الأخذ بالاعتبار أنّ الحقوق الثقافية والاجتماعية هي الإطار الذي يشتمل على مجمل الحقوق الأُخر، الدينية والمدنية والسياسية وغيرها. ولا شك أنّ صيانة الهوية الثقافية والاجتماعية للأقليات المسلمة تقع مسؤولية القسم الأكبر منها على عاتق الأقليات نفسها، وتبدأ بإشاعة روح التكافل والتكامل والتضامن الاجتماعي وصولاً إلى وحدة الجماعة وتماسكها الاجتماعي والثقافي، وهو مستوى لا يتحقق إلّا بآليات فاعلة، كإقامة الشعائر الدينية والاحتفالات والمراسم في المساجد والجمعيات الإسلامية وغيرها وإنشاء صناديق للمساعدات والخيرات والقروض، وجمعيات للبر والإحسان لرعاية الأيتام والمسنين والفقراء، وإقامة نوادٍ للشباب تقوم بمختلف النشاطات التثقيفية والاجتماعية والفنية، كالمخيمات والدورات والاحتفالات وغيرها. ومن خلال هذه الآليات يمكن تذويب الاختلافات بين المسلمين، على مختلف أشكالها ومضامينها المذهبية والقومية والوطنية والسياسية وغيرها.

كما أنّ المشاريع الخاصة بالأُسرة تعدّ هي الأُخرى على جانب كبير من الأهمية؛ لأنّها قاعدة تقوية البنية التحتية للمجتمع الإسلامي الأُوربي الملتزم، والركيزة التي يمكنها حماية جزء أساس من الهوية الإسلامية من الاغتيال والسلب والعبث. وتعمد هذه المشاريع إلى تيسير شؤون الزواج وفقاً للأُصول الشرعية، وحل مشاكل الأُسرة المسلمة، وتشجيع النشاطات الأُسرية العامة التي تغرز الترابط فيما بين المسلمين.

ومن خلال المشاركة الفاعلة للأقليات المسلمة في الوسط الاجتماعي العام، والتحول من حالة العزلة إلى التأثير الاجتماعي والثقافي، فإنّها قد تتمكن من كسب جانب كبير من الرأي العام لدعم حقوقها القانونية في البعد الاجتماعي، ولا سيّما ما يرتبط ببعض قوانين الأحوال الشخصية والقوانين المدنية، وحماية أدائها لشعائرها والتزاماتها الدينية والعبادية.

ولعلّ من النشاطات الأساسية التي قد تمكن الأقليات المسلمة من إحقاق حقوقها السياسية وغيرها من الحقوق القريبة منها، كالحقوق الاجتماعية، هو مشاركتها الفاعلة في الحياة السياسية الوطنية، الأمر الذي يتطلب ـ ابتداءً ـ إزالة العوائق السياسية والإدارية والحقوقية التي من شأنها إعاقة دخول المسلمين هذا الحقل، ثم إعادة النظر في طبيعة تحرك المسلمين في أُوروبا على هذا الصعيد، ثم بناء الهياكل السياسية اللازمة، سواء على شكل مجموعات ضغط داخل الأحزاب الوطنية القائمة، أو من خلال مؤسسات سياسية جديدة يقوم المسلمون بتشكيلها. ونعتقد أنّ فكرة البرلمان الإسلامي بإمكانها تحقيق الشكلين معاً، ونلخص الفكرة هنا بقيام برلمان إسلامي في كل دولة أُوروبية يستوعب كل الشخصيات والفعاليات المسلمة العاملة في المجال السياسي أو التي تريد اقتحامه، وكذلك قيام برلمان إسلامي أُوربي تتمثل فيه البرلمانات الإسلامية القائمة في كل دولة أُوروبية. ومن خلال مختلف هذه الألوان من المشاركة السياسية سيدافع المسلمون ـ دفاعاً مباشراً أو غير مباشر ـ عن كياناتهم، وحقوقهم الخاصة، وكذا الدفاع عن قضايا المسلمين الكبرى في العالم، وفقاً لما تسمح به إمكاناتهم وقدراتهم.

وبالنظر للحساسية الشرعية الفائقة لمثل هذا النشاط، ولا سيّما ذلك الذي يرتبط بانتماء المسلمين إلى الفعاليات السياسية الوطنية، أي التابعة للأكثرية غير المسلمة، فإنّه بحاجة إلى معالجة شرعية وتأصيل فقهي، يحدد أُطروحات المصلحة الإسلامية والعناوين الثانوية والمرونة والثوابت الشرعية فيه، لكي يسيّر المسلم فيه عمله السياسي وفقاً لنظرية شرعية تبرئ ذمته أمام الله تعالى.

ولا شك أنّ منظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمات الإسلامية الدولية والإقليمية الأُخر، وكذلك الدول المسلمة يمكنها بشكل وآخر دعم مشروعات الأقليات هذه، سواء بشكل مباشر أو من خلال التحرك الدبلوماسي والسياسي على حكومات الدول الأُوروبية، مع مراعاة القواعد القانونية الدولية ومبدأ سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

وفي الجانب الإعلامي والدعوي نشير إلى الإطار العام الذي وضعه القرار 47/8 س الصادر عن قمة طهران الإسلامية، والذي حثّ الدول الإسلامية على تنسيق جهودها لإعداد كوادر مؤهلة للقيام بالنشاط الإعلامي والدعوي في صفوف الأقليات المسلمة. ولعلّ من المقترحات التي نعتقد أنّها مفيدة في هذا المجال، تكثيف إرسال المواد الثقافية والإعلامية المخصصة للأقليات المسلمة في أُوروبا، فضلاً عن إنشاء مشاريع إعلامية إسلامية في دول أُوروبا نفسها تقوم بمهمة الإنتاج الثقافي والإعلامي، وصولاً إلى إنشاء إذاعات ومحطات تلفزيونية ووكالات أنباء ومؤسسات فنية وسينمائية خاصة بالأقليات، على أن تتم هذه النشاطات على أساس نظرية شرعية، كما هو الحال مع الجانب السياسي.

وفي المجال التربوي والتعليمي؛ يقف التعليم الديني في مقدمة المجالات التعليمية التي تفرض عملية حماية الهوية الإسلامية الاهتمام بها، وأهم محاوره: القرآن الكريم، اللغة العربية، وأحكام الشريعة، وهو على مستويين: عام وتخصصي، فالتعليم العام يستوعب كل المسلمين صغاراً وكباراً، والخاص هو الذي يدخله من يريد التعمق في التعاليم الدينية، ولكل منهما مناهجه التي ينبغي إعدادها خصيصاً للأقليات المسلمة. وهناك أساليب نافعة في هذا المجال، كالحلقات التقليدية والدورات والمدارس والمعاهد الدينية، فضلاً عن محاولة إدخال نوع من التعليم الديني للمدارس الرسمية الحكومية خاص بالتلاميذ المسلمين، كما حدث في إسبانيا، وهي محاولة بحاجة إلى معركة قانونية، وخاصة في الدول التي تضم أقليات مسلمة كبيرة، كألمانيا وبريطانيا وبلغاريا وفرنسا ويوغسلافيا.

وتؤدي الاتحادات الطلابية والجمعيات الإسلامية دوراً أساسياً في هذا المجال، ومن الضروري دعمها ورفدها بما تحتاجه بالصورة التي تمكنها من ممارسة نشاطاتها التربوية والتعليمية المطلوبة، كإنشاء المكتبات العامة وإقامة الدروس والدورات والندوات والمؤتمرات الطلابية الدورية، وبناء الأقسام الداخلية (السكنية) ومساعدة الطلبة المسلمين المعوزين. كما أنّ هذه الاتحادات ـ ولا سيّما الرسمية والمسجلة منها ـ هي الممثل الأنسب للمسلمين أمام الأجهزة التعليمية والإدارية الحكومية للدفاع عن حقوق المسلمين في المجالات التربوية والتعليمية.

وهناك أفكار طموحة جديرة بالدراسة، ترتبط بمشاريع إنشاء مجمعات تربوية وتعليمية للمسلمين، في كل بلد أُوربي، تستوعب المراحل كافة، ابتداءً من رياض الأطفال وحتى التعليم الجامعي. ولعلّ بعض التجارب النافعة والقريبة من هذه الفكرة في بريطانيا وإسبانيا جديرة كذلك بالدراسة والتطوير والتطبيق في دول أُوروبية أُخر.

ويمكن للأجهزة المختصة في البلدان الإسلامية والمنظمات الإسلامية الدولية ـ في حدود مبدأ احترام سيادة الدول ـ الإسهام في مجمل الجهد التعليمي المخصص للأقليات، من خلال دعم برامج الأقليات ومشاريعها، وزيادة المنح الدراسية الأكاديمية والشرعية المخصصة لأبناء الأقليات وبأعداد مناسبة لسد النقص في الكوادر التدريبية المتخصصة الكفؤة في الساحة الأُوروبية، ولا سيّما في حقول التعليم الديني.

ويمكن في هذا المجال الاستفادة من بعض التجارب الناجحة في الجمهورية الإسـلامية الإيرانية والعـربية السعـودية، وكذا تجارب أُخر في مصر وماليزيا وباكستان والأُردن والسودان.

لجنة إسلامية حقوقية متخصصة

تنوع الموضوعات الحقوقية التي تمليها التحدّيات والمشاكل التي تمر بها الأقليات المسلمة. وحجم هذه الموضوعات والعقد المركبة التي تكتنفها ومعالجتها. ومن هنا، فإنّنا نقترح تشكيل لجنة إسلامية متخصصة تضم نخبة من رجال القانون والفكر والسياسة من العاملين في الساحة الأُوروبية، سواء كانوا مهاجرين أو سكان أصليين، عددهم بين 15 و20 عضواً.

وتتلخص مهمة اللجنة فيما يلي:

1 ـ دراسة القوانين ذات العلاقة بشكل وآخر بموضوع الأقليات سواء القوانين الخاصة بكل بلد أُوربي أو القوانين الأُوروبية أو الدولية.

2 ـ دراسة المشاكل والتحدّيات والانتهاكات التي تتعرض لها الأقليات المسلمة في أُوروبا، دراسة حقوقية معمقة وتفصيلية.

3 ـ البحث عن حلول حقوقية للمشاكل والانتهاكات موضوع الفقرة (2)، في ضوء القوانين ذات العلاقة موضوع الفقرة (1).

4 ـ اقتراح لوائح قانونية أو إدارية مكملة ذات علاقة بالجانب الحقوقي للأقليات المسلمة تقدم إلى الجهات الرسمية في الدول الأُوروبية بهدف ملء الفراغات القانونية التي تنتج مشاكل المسلمين.

5 ـ متابعة الجهات الرسمية المتخصصة في الدول الأُوروبية والتقاضي أمام المحاكم بشأن قضايا المسلمين.

ومن الضروري أن تكون هذه اللجنة دائمة وشبه متفرغة بالنظر لحجم وحساسية مهمتها. كما ستكون اللجنة ـ في قضايا محددة أو مجمل القضايا ـ بحاجة إلى استشارة رجال قانون أُوربيين متخصصين من غير المسلمين، فضلاً عن الاستعانة بحقوقيين من البلدان الإسلامية، وكذا بالأجهزة ذات العلاقة في منظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من المنظمات الإسلامية التي تمتلك باعاً في شؤون الأقليات المسلمة في أُوروبا. ولعلّ من المفيد أن تكون هذه اللجنة مركزية لكل الساحة الأُوروبية، وتبادر لتشكيل لجان فرعية تقوم بالمهمة ذاتها في كل دولة أُوروبية.

وفي الختام، نسجل ملاحظتين أخيرتين:

الأُولى: تتعلق بتوصيات وقرارات المؤتمرات التي عقدت لدراسة أوضاع الأقليات المسلمة، إذ نرى أهمية مراجعتها، ولا سيّما توصيات وقرارات المؤتمرات الأخيرة، ابتداءً من القرار رقم 47/8 س (ق10) الصادر عن مؤتمر القمة الإسلامية الثامن بطهران عام 1997م، وتوصيات مؤتمر لجنة الخبراء بمدريد عام 1998م، والقرار رقم 51/26 ـ س الصادر عن مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية نحو عام 1999م، وتوصيات مؤتمر لجنة الخبراء الثاني في ساوباولو عام 2000م، بالنظر لما في هذه التوصيات والقرارات من معالجات مدروسة ومفيدة، ولكن ـ مما يؤسف له ـ أنّ كثيراً منها لم يدخل مسار التطبيق.

والملاحظة الثانية: ترتبط بتطور قضية الأقليات المسلمة، فأيّ معني بشؤون الأقليات المسلمة في أُوروبا يلمس بوضوح التطور المطّرد، بل اليومي، الذي تشهده هذه القضية، الأمر الذي يزيدها تعقيداً وحساسية، ولا سيّما في أبعادها الثقافية والحقوقية والسياسية.

ويعود هذا التطور إلى جملة من العوامل، أهمها: ازدياد عدد المسلمين في أُوروبا، سواء عبر موجات الهجرة الكمية والنوعية للمسلمين إلى أُوروبا، أو عبر دخول الأُوربيين إلى دين الله تعالى أفواجاً، إضافة إلى ازدياد محاولات سلب هوية المسلمين من خلال مختلف الأساليب، وهي أساليب لا تنبع خطورتها من حجم التأثير الذي تتركه ثقافة الأكثرية غير المسلمة على المسلمين بفعل الإمكانات المادية والمنهجية التي تمتلكها هذه الأكثرية وحسب، ولكن أيضاً من نوعية التأثر اللاواعي للمسلمين بثقافة الأكثرية، والناتج عن خلل عميق في الذات المسلمة بسبب تصدع الحصون الذاتية للفرد والأُسرة والمجتمع المسلم، وهو ما نصفه بـ(القابلية لاغتيال الهوية).

ومن هنا، فإنّ هذا التطور المطّرد يستدعي من الدول والفعاليات الإسلامية اهتماماً أكبر حجماً وأكثر تركيزاً ومنهجية؛ لأنّ الوجود الإسلامي في أُوروبا إذا ما خططنا لأعوامه الثلاثين القادمة في إطار النتائج التي تفرزها الدراسات المستقبلية الحديثة التي سنخضعه لها، فإنّه سيتحول ـ بإذن الله ـ إلى فاعل مهم ليس على مستوى أُوروبا وحسب، بل على مستوى العالم أجمع. {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ}.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment