حرية الفكر والتعبير

Last Updated: 2024/06/08By

حرية الفكر والتعبير في الرؤية الإسلامية

د. علي المؤمن

    ينطوي موضوع حرية الفكر من منظور الإسلام على أهمية خاصة؛ لارتباطه بالكثير من القضايا الحساسة التي تعيشها الأمة في حركة الفكر والواقع، وفي مقدمتها: حقوق الإنسان والحريات الخاصة والعامة، إضافة إلى الموضوعات الأخرى، التي تشكل مداخل أو نتائج له، كمصادر الحقوق ومناشئها، ومفهوم الحرية، والحرية في الإسلام، والعلاقة بالأديان والعقائد والأفكار الأخرى. وقضايا التجديد في الفكر الإسلامي، والارتداد والانحراف وغيرها.

سنطرح هيكلاً عاماً للإشكاليات والتساؤلات التي يثيرها موضوع الحرية الفكرية وفق التصور الإسلامي، وخاصة ما يتعلق بحدود هذه الحرية وضوابطها. وتزداد إشكاليات الموضوع وتتراكم؛ تبعاً لاختلاف زوايا النظر حياله، وما ينتج عنها من آراء فكرية وقانونية وسياسية متعارضة، وخضوعه للمزايدات السياسية ولدعاوى فرض الحريات والحقوق وفق الأنماط الغربية، وهي دعاوى مسيسة غالباً، وذات أهداف سلطوية، الى جانب تشعب إفرازات الموضوع بمرور الزمن، وقلة المعالجات الفقهية والفكرية الإسلامية التأصيلية الواقعية؛ الأمر الذي يتسبب في تعدد غير صحي في الرؤى النظرية والتطبيقية المستندة الى التصور الإسلامي، وتبدأ بأقصى اليمين، وتنتهي بأقصى اليسار.

ورغم أن الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء المسلمين قد بحثوا هذا الموضوع في أطره العامة منذ قرون طويلة، ولا سيما في باب «الجبر والتفويض في علم الكلام»، و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» و«الجهاد» و«الارتداد»، و«حفظ كتب الضلال»، و«العلاقة بأهل الذمة» وغيرها من الموضوعات الكلامية والفقه؛ إلا أن الأفكار والموجات الثقافية الجديدة التي اجتاحت المجتمعات الإسلامية، منذ نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، سواء التي تعبّر عن صدى للأفكار الوليدة في الغرب، أو أنها أفكار مستوردة جاهزة أو توفيقية، أو أفكار تعبّر عن إفرازات واقعية من داخل المجتمع الإسلامي، كلّها تفرض بحث هذا الموضوع تحت عناوين جديدة، ووفق أسس أكثر استيعاباً وثباتاً وواقعية. ولا نقصد بالعناوين الجديدة، إصدار فتاوى وأحكام فقهية حيال المسائل المطروحة، بل مقاربات بحثية تأصيلية تتعامل بعمق وصبر مع تفاصيل الموضوع، وتفكك إشكالياته العقدية والفقهية والقانونية والسياسية والتنظيمية والتطبيقية، وتراعي الواقع ومتطلباته ومتغيراته وتطوراته على الصعد كافة، إضافة الى بسط قضية المناخات الفكرية السياسية، فيتم بحث الحرية الفكرية ــ مرة ـــ في إطار نظام سياسي إسلامي شرعي، وأخرى في إطار مجتمع المسلمين الذي يحكمه نظام سياسي وضعي.

وقبل الدخول في صلب الموضوع؛ ينبغي التوقف عند مجالات حرية الفكر في إطار مجتمع المسلمين، والاتجاهات الفكرية التي تشكل مادة بحث الحرية الفكرية، ويمكن حصرها بثلاثة اتجاهات:

  • الحرية الفكرية للاتجاهات الإسلامية.
  • الحرية الفكرية للاتجاهات الخارجة على الدين (ومنها المنحرفة والمرتدة والكافرة).
  • الحرية الفكرية للاتجاهات الدينية غير المسلمة (أهل الكتاب).

ولا شك أن كل واحد من هذه الاتجاهات بحاجة إلى مقاربة خاصة، تقوم بتثبيت أطره العامة والخاصة وحدوده ومظاهره وأنواعه، لأن المعالجات العامة غالباً ماتؤدي إلى حدوث خلط واضح بين تلك المجالات.

ومن خلال قراءة تخصصية للنص الإسلامي (القرأن والصحيح من السنة)، وكذلك بعض البحوث الكلامية والفقهية التفاعلية؛ نرى أن الإسلام يمنح الإنسان الحرية، على أساس العبودية للَّه والإيمان به وتوحيد، وأنه الحق المطلق ومصدر كل الحقوق ومشرّعها، وأن حرية الفكر تبدأ به لتنتهي إليه، لأنه الهدف النهائي لحركة الحرية. وبكلمة أخرى؛ فإن التصور الإسلامي يذهب الى أن إطلاق حركة العقل الإنساني، تقوم على تحريره من قيد العبودية للنفس والشهوات والأفكار المعلبة والأنماط المستوردة من مناخات اجتماعية اخرى؛ لتتحول الى أصنام فكرية(1). أما إطلاق حرية السلوك والفكر دون ضوابط دينية وعرفية؛ فهو تركيز لحالة العبودية للنفس والآخر الفكري والسياسي، ولحالة العبث الاجتماعي. فالحرية الفكرية الهادفة المرشّدة، التي يدعو لها العقل، وتمنح الجميع حقوقهم في العيش بأمان وتكافؤ، هي الحرية التي شرعها الإسلام، سواء عبر نصوصه الثابتة أو حركة الاجتهاد التفاعلي المستمرة؛ على خلاف الحرية الفكرية والسلوكية غير الهادفة والفوضوية، التي تعني الحرية لمجرد الحرية، والتي تؤدي – قبل كل شيء – إلى العديد من المفاسد الاجتماعية، وأبسطها نقض الحرية نفسها. وهذا يقود إلى نتيجة واحدة، وهي أن الإسلام يضع ضوابط عقلانية للحرية، ومعايير فطرية للحقوق، أي أنه يطلقها من جانب، وينظمها ويرشِّدها من جانب آخر.

وهذا النوع من حرية الفكر هو نتاج المناخات الغربية، والتي أصبحت قاعدة للصنمية والعبث الفكريين منذ انطلاق ما عُرف بعصر «التنوير» (Enlightenment) في أوروبا خلال القرون 17 و18 و19 للميلاد، والذي استهدف الفكر الديني قبل كل شيء؛ إذ استهدف حراك التفكير الحر (Free Thinking) الذي كان يقوده المفكرون (الأحرار)، أمثال: «فولتير» و«جان جاك روسو» و«مونتسكيو» ومن جاء بعدهم؛ التحرر من التعاليم المسيحية والالزامات الدينية وقيود الكنيسة على وجه التحديد، وكان ترى أن الدين هو شريك السلطة السياسية المستبدة في قهر الفكر ومصادرة إرادة الناس. وإذا كان هذا الحراك المفصل على مقاس المناخات الأوروبية والديانة المسيحية والنظام الديني الكنسي؛ فإنه استعبد عقول بعض المثقفين في مجتمعاتنا الإسلامية فيما بعد، وبات يعتقد أن النهضة والحرية والحقوق رهينة بفصل الدين عن الشان العام والدولة والتشريعات، وهو بذلك يعيش وهم قياس الإسلام بالمسيحية، ومناخات المسلمين بمناخات الأوربيين، وهو قياس باطل في مقدماته ومعالجاته ومخرجاته؛ لأن الإسلام أسس لمنظومة الحقوق والحريات، وشرع أحكامها وتطبيقاتها وادوات تنفيذها، وهو ما تفتقد اليه الديانة المسيحية، في تعاليمها الأخلاقية العيسوية، أو لاهوتها البطرسي، أو نظمها الثيوقراطية القسطنطينية. فإذا كان مفكروا عصر النهضة الأوروبية استدلوا في صحة حراكهم التحرري من النظام الديني المسيحي الى مظاهر الظلم والاستبداد والتخلف التي ظل هذا النظام يفرزها منذ عهد قسطنطين الأول؛ فإن المتأثرين بهذه الحراك في المنطقة العربية والإسلامية يفتقدون الى مثل هذه الحجة، وهو يواجهون دين محمد بن عبد الله.

ولابد هنا من توضيح الفرق بين حرية التفكير والاعتقاد وحرية التعبير عن الفكر والمعتقد. فالمراد من حرية التفكير والاعتقاد، أن يطلق الإنسان لعقلة حرية الحركة، للتأمّل والتفكير، ثم الاستنباط والاستنتاج، وأخيراً التبني والاعتقاد، سواء بشكل فردي أو جماعي، وما يتخلل ذلك من شكوك واهتزازات أو ثبات. أما حرة التعبير عن الفكر والمعتقد، فيعني أن يعلن الإنسان عن أفكاره ومعتقداته، ويعبر عنها بالوسائل المختلفة، وفي مقدمتها الإعلام العام والخاص والسلوك الفردي والجماعي، سواء كان الإعلان بهدف الكسب والتبشير أو بهدف الدفاع.

وحيال هذا الكم النوعي المهم من الإشكاليات؛ تتبادر إلى الذهن أسئلة كثيرة: ما هي طبيعة حدود الحرية الفكرية في الإسلام وضوابطها العقدية والفقهية؟ وما هي آليات تنظيم تلك الحرية؟ وما هي مظاهرها؟ وما علاقتها بالمعايير العرفية؟ وما هي المواقف التي يجب أن يتخذها النظام الإسلامي أو النظام الاجتماعي الديني أو مجتمع المسلمين أو الفرد المسلم، انطلاقاً من مواقع المسؤولية الشرعية والفكرية والاجتماعية والسياسية؟ وهل أن تحديد الحرية، بمستوى تنظيمها وترشيدها، يتعارض مع طبيعة الحرية الإنسانية؟ وفي أي مجال يطلق الإسلام للفكر حريته في الحركة؟

ولا نهدف من خلال هذه المقاربة تقديم إجابات نمطية على الأسئلة، بل الهدف يتلخص في محاولة تفكيك إشكالياتها ومقاربتها، في إطار دعوة للحوار الفكري المنهجي حول الموضوع، بعيداً عن الكلام التعبوي والشعارات الايديولوجية التي يطلقها المتطرفون من كل الإتجاهات، سواء المتطرفون العلمانيون أو المتطرفون الإسلاميون.

حرية التفكير وحرية التعبير 

ينقسم موضوع حرية الفكر والاعتقاد الى شقين:

الأول يتمثل في إرادة الفكر والمقدرة الذاتية على اختيار الفكرة والمعتقد.

والثاني هو التعبير عما يعتقد به أو يبشر بما يعتقد به بالوسائل العامة والخاصة.

1- حرية التفكير:  

إرادة التفكير هي إرادة حرة مطلقة تعبر عن إمكانية حركة العقل التي  لا تقف عند حدود، إلا فيما يتعلق بأسرار الغيب ((ولا تقفُ ما ليس لك به علم))(2)، لأنها أسرار مغيبة ــ أساساً ــ عن عقل الإنسان، وعند محاولة فك هذه الاسرار ستحصل للانسان شبهات يعجز عن حلها، بسبب افتقاده أدوات المعرفة الموصلة لها، باستثناء آثارها المحسوسة. وهذه الإرادة المطلقة على التفكير، تصاحبها ضوابط تتعلق بالمسؤولية والجزاء الأُخروي ((إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً))(3) .

وهناك قيد آخر يتعلق بعدم إمكانية التحرر والتجرد من كل الأفكار والضوابط على النحو المطلق، ومنها – مثلاً – القواعد المنطقية التي تقود الى «التفكير الصحيح» أو « التفكير المنطقي» بدل «التفكير الحر المطلق». والتفكير الصحيح هو نتاج الحرية الفكرية الإيجابية، بينما تؤدي الحرية الفكرية السلبية الى أن يضع الإنسان لنفسه نماذج فكرية معينة، يخيِّر نفسه بينها، أو يفرض على نفسه أنموذجاً خاصاً. وهذا جزء من الإرهاب الفكري الذي يمارسه الإنسان ضد نفسه وضد الآخرين، كما في الأفكار (الصنمية) النمطية التي بلورت وأنتجت العقلية الغربية عبر الزمن وكبّلتها بهذه القيود، سواء فيما يتعلق بالذات أو الآخر أو باقي موضوعات الحياة.

ويؤكد القرآن الكريم في الكثير من الآيات على إرادة الإنسان الحرة في اختيار الفكرة والعقيدة التي ينسجم معها، والتي يتحمل مسؤوليتها – وحده – في الدنيا والآخرة: ((لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي)) (4)، وفي آيات أخرى: ((أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) (5)، ((فذكّر إنما أنت مذّكر * لست عليهم بمصيطر)) (6)، ((من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) (7). ويُستفاد من هذه الآيات في مجال التعايش والتفاهم مع أتباع الديانات الأخرى، وعدم إلغاء العقائد الأخرى، وعدم التعرّض لحرية أتباعها، لكنها تحملهم مسؤولية عدم ممارسة أي خطاب أو سلوك من شأنهما المساس بوحدة مجتمع المسلمين وأمنه.

ويبقى أن إرادة الإنسان وحريته الذاتية المطلقة في الاختيار، وفي اتباع ما يختار من أفكار ومعتقدات، لا تعني – وفق التصور الإسلامي – أن هذه المعتقدات مجزية أمام الله، وإن كان المسلمون (أفراداً وجماعات ونظم) لا يحاسبون معتنقيها على ما يعتقدون به، إلا إذا أدّت إلى مَفسَدة اجتماعية، أي أن الله هو الذي يحاسب الإنسان على معتقداته حصراً، بعد أن أعطاه العقل وجعله حجة عليه، وبعث الأنبياء والرسل ليتبعهم الناس ((ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً)) (8)، بل أن الله لا يحاسب ولا يعذب قبل أن يلقي الحجة على الإنسان ويذكره وينذره ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)) (9).

2- حرية التعبير:

إذا كانت حرية التفكير والاعتقاد فطرية كما أسلفنا؛ فإن التعبير عن الفكر والمعتقد ليس أمراً فطرياً، وهما بذلك يشبهان الحب والبغض، فهما فطريان بذاتهما، ولكن التعبير والإعلان عنهما يرتبطان بالعلاقة مع الآخرين والتأثير عليهم سلباً أو إيجاباً. وعند هذه النقطة نصل إلى الشق الثاني من موضوع الحرية الفكرية، والمتمثل في حرية التعبير عن الفكر.

إن مديات حركة التفكير وحدودها تتوقف على طبيعة الأساليب المستخدمة فيها؛ فهناك ثوابت عقلية في هذا المجال، يمكن أن تشكّل قاسماً مشتركاً ((كلمة سواء)) بين المدارس الفكرية التي تدعو لحرية الرأي والكلمة، بما فيها المدرسة الإسلامية. ومن أبرز هذه الثوابت، أن تكون أساليب التعبير عن الفكر أو الشك أو الرأي، أساليب موضوعية، وسليمة، وغير عدوانية، ولا تهدف أو تنتهي إلى إثارة فتنة أو بلبلة اجتماعية. وما تختص به المدرسة الإسلامية، هو الانطلاق في ممارسة حرية التعبير وفي تحديد الموقف منه، من موقع المسؤولية المناطة بالإنسان على الأرض. أي موقع الخلافة الربانية، ومسؤولية الكلمة في الحياة الدنيا أمام الأمة والنظام الاجتماعي وفي الآخرة أمام الله ((وقفوهم إنهم مسؤولون))(10).

أما وسائل التعبير فتشتمل على الإعلان العام والخاص والحوار عبر وسائل الاتصال المباشر وغير المباشر. وللتعبير أيضاً مرتبتان، الأولى تتمثل في توضيح الفكر والمعتقد والدفاع عن الموقف الفكري والعقدي، والثانية في التبشير بالفكر ودعوة الآخرين اليها بالوسائل العامة والخاصة. ويحدثنا القرآن الكريم عن مستوى الحرية الذي كان رسول الله يمنحه لمحاوريه خلال الحوارات العقيدية التي كانت تدور بينه وبين المشركين والنصارى واليهود: ((يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)) (11)، وكذلك الحوارات الفكرية والسياسية بين الإمام علي وخصومه من الناكثين والخوارج وغيرهم، والحوارات العقائدية والفقهية الحرة التي كانت تعقد بين الإمام الصادق وأصحاب مختلف المدارس الكلامية والفقهية السائدة في بدايات العصر العباسي، وحتى رموز الزندقة. (12)

وفي العصر الحاضر، حيث بلغت وسائل الاتصال غير المباشر (الإعلام المقروء والمسموع والمرئي) إحدى أرقى درجات سلّم التقدم التكنولوجي، أصبحت حرية التعبير مساوقة – غالباً – لحرية الدعوة للفكر، ومنه الفكر غير المسؤول أو المنحرف أو الكافر، وما يترتب على ذلك من سلبيات ومفاسد فكرية واجتماعية لا حصر لها. والنتيجة: الضلال، بمختلف أنواعه ومراتبه. وربما هناك ثمة ضرورة في إعطاء الفكر الآخر (الوضعي والمنحرف) فرصته وحريته في تأكيد طروحاته، كما يقول أحد الفقهاء(13)، وذلك لسببين:

الأول: سيكتشف الناس، من خلال المقارنة بين الفكر الآخر والفكر الإسلامي، نقاط الضعف التي يختزنها الفكر الآخر، مما يمكن أن نطلق عليه الباطل، في مقابل نقاط القوة التي يمتلكها الفكر الإسلامي. وبذلك فإن حرية الفكر لن تؤدي هنا إلى الضلال، بل إلى نصرة الحق.

الثاني: الحيلولة دون حصول الفكر الآخر على العطف في الوسط الفكري والثقافي الشعبي، فقمع الفكر الآخر سيوحي للناس بأنه فكر مضطهد، وأنه يملك القوة الذاتية التي يضطر الفكر الإسلامي وسلطته لقمعها، لحماية نفسيهما.

والمؤكد أن خيار منح الفكر الآخر فرصته وحريته في التعبير عن طروحاته سيكون منتجاً على النحو المطلوب، فيما لو تحققت فيه الثوابت التالية:

  • أن يمتلك الفكر الإسلامي وسائل تعبير متكافئة من الناحيتين الكمية والنوعية، مع ما يمتلكه الفكر الآخر؛ بغية تحقيق التوازن في إمكانات الطرح والإعلام والاعلان. أما وجود الفارق النوعي والكمي في إمكانات التعبير لدى الطرفين؛ سيؤدي الى غياب الحقيقة وإثارة الشكوك والبلبلة المجتمعية.
  • أن يعبّر الفكر الآخر عن نفسه، ضمن الثوابت الأسلوبية الموضوعية التي تحول دون تهديد الأمن الاجتماعي.
  • أن لا يمثّل الفكر الآخر في نفسه ارتداداً صريحاً عن الإسلام أو دعوة للارتداد والالحاد.

حدود حرية فكر الآخر

لا تعني حرية التعبير عن الفكر والمعتقد؛ أن يمارس الإنسان حريته في الترويج والدعوة لفكره بالوسائل والأساليب التي يحلو له استخدامها، دون الأخذ بالاعتبار تأثيراتها في سلب حرية الأفراد الآخرين والمجتمع. ففي إطار الدعوة والتبشير؛ يمنح الإسلام الديانات التي يعترف بها؛ حرية الدعوة لفكرها الديني، لتركيز إيمان أتباعها، وتعريف أتباع الديانات الأخرى بأفكارها، وليس لكسب المسلمين لهذه الأديان، أي أن حرية التعبير الدينية لأتباع الديانات الأخرى مكفولة بالكامل في الرؤية الإسلامية، لطالما أنها لا تساهم في زعزعة الأمن العقدي والديني في مجتمع المسلمين، ولا تبشر بأفكارها في أوساط المسلمين بهدف كسبهم، وتحويلهم الى خصوم للإسلام.

أما الأفكار الدينية غير السماوية، وفق توصيفاتها الفقهية، وكذا الأفكار الوضعية الأخرى على اختلافها، فإن أساليبها وسلوكياتها في الدعوة تخضع للثوابت نفسها الخاصة بالديانات السماوية، إضافة إلى ثوابت سلوكية أخرى، أهمها: عدم الدعوة للالحاد واللا دين، وعدم التسبب في ضرر نفسي وأمني ومادي للأفراد والمجتمع والنظام العام، أي أن حرية التعبير عن الأفكار والوسائل والسلوكيات مقيّدة بعدم إلحاق الضرر بالآخرين، وحياتهم وأمنهم المعيشي والاجتماعي والعقدي. وهذه القاعدة تعتمدها جميع النظريات والأفكار التي تدعو لحرية التعبير عن الفكر؛ فقد جاء في إحدى مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأن «التمتع بالحريات لا يحده إلا الحدود التي يضعها القانون لتأمين حريات الآخرين والاعتراف بها، وبالتالي رعاية المقتضيات الأخلاقية الصحيحة، والنظام العام، والرفاه الاجتماعي الشامل»(14).

وبالتالي؛ فإن حدود حرية التعبير تقف عند حدود انتهاك حريات الآخرين، فإذا قارب التعبير الاعتداء على حريات الآخرين؛ فإنه سيكون تجاوزاً وعدواناً، وليس حرية تعبير، وهو ما ينطبق على الحراكات العامة التي تنادي بالحقوق والحريات، لكنها في الوقت نفسه؛ تمارس انتهاكاً لحقوق الآخرين وحرياتهم، وتخريباً وعدواناً على الدين ومشاعر الآخرين وكرامتهم وأرواحهم وممتلكاتهم ووسائل عيشهم وأمنهم الأخلاقي والمجتمعي، أي أن المطالبة بالحقوق والحريات لا يمكن أن تكون ذريعة لضرب حريات الآخرين وحقوقهم؛ وهو ما ترفضه جميع الشرائع الأرضية والسماوية وتقف بوجهه وتردعه بكل الوسائل المشروعة، بما فيها أكثر النظريات والنظم تطرفاً في الدعوة لمنح الحريات والحقوق، ومنها الليبرالية، وقد وضعت لمنع ذلك قوانين ونظماً كابحة ورادعة قوية.

ولا يقتصر موضوع كوابح الحرية في الرؤية الإسلامية على المجالات الدينية والفكرية والاخلاقية والسياسية، بل تستوعب كل نواحي الحياة، ومنها ــ مثلاً ـــ الجانب الاقتصادي؛ إذ يضع التشريع الإسلامي حداً فاصلاً حاسماً بين حرية الكسب المالي والادخار والاستثمار، على قاعدة ((الناس مسلطون على أموالهم)) (15)، وبين الأمن المعيشي والصحي والاخلاقي والديني للناس، على قاعدة ((لا ضرر ولا ضرار)) (16). أي أن التشريع الإسلامي يمنع التكسب الحرام والاحتكار واستثمار الأموال فيما يضر بدين الناس وأخلاقهم وصحتهم وحركة سيرهم، فضلاً عن هضم حقوق الأجراء والعمال. وهكذا الأمر بالنسبة للجانب الاخلاقي، وصولاً الى ما يأكله الناس ويلبسونه(17). وفي كل ذلك يضع التشريع الإسلامي مقاصد الدين العليا، وفي مقدمتها حفظ الدين والنظام والأرواح والأموال، كمعايير لحدود الحقوق والحريات.

وتدخل في هذا المجال؛ وسائل ردع من ينتهك حقوق الآخرين وحرياتهم، بذريعة المطالبة بالحقوق والحريات، ومنها «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» باليد واللسان، ففي هذا المجال يتدخل الفرد والمجتمع والدولة لردع الأفكار والسلوكيات التي تنتهك حقوق الآخرين وحرياتهم، بذريعة حرية الفكر وحرية السلوك، كون هذه الذريعة تعبير عن المنكر الذي يجب النهي عنه. وتربط الشريعة الإسلامية حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من القواعد التي تقيد حرية الفكر الآخر، بموضوع المصلحة الإسلامية العليا أحياناً، وأمن المجتمع المسلم أحياناً أخرى؛ إذ أن تعيين الحكم الشرعي في مجال تنظيم عمل حرية الأفكار والسلوكيات؛ يعتمد – في جانب كبير منه – على طبيعة المصالح والمفاسد المترتبة على ذلك، وتدخل في ذلك مجموعة من القواعد الفقهية والأصولية(18).

وبناءً على ذلك؛ ستتقسم أحكام تقييد حرية الفكر الآخر في التعبير عن نفسه والترويج له، على النحو التالي:

  • سيكون تقييد حرية الفكر الآخر في التعبير والترويج؛ حرام بالعنوان الأوّلي، إذا لم يؤد إلى أية مفسدة، وكان في وجوده قوة للفكر الإسلامي.
  • سيكون تقييده جائزاً بأحد العنوانين الأولي والثانوي، بوجود مصلحة يحددها الحاكم الشرعي.
  • سيكون منعه واجباً بالعنوان الأولي، إذا أدّى إلى مفاسد أساسية، أبرزها:
  • تهديد النظام العام أو محاولة إسقاط الحكم الإسلامي.
  • حرف المجتمع الإسلامي فكرياً أو سلوكياً.
  • تركيز ظواهر الانحراف والضلال في المجتمع.

إشكالية الارتداد وعلاقتها بحرية الفكر

إن الأرتداد المعلن، أي إشهار الكفر بعد الإيمان، وفق التعريف الفقهي، والمتضمن الدعوة الى فكر وسلوك معاديين للإسلام، هو مثال الفكر والسلوك اللذين يجب على المجتمع والنظام الاجتماعي الديني والدولة منعهما تحت قواعد (( النهي عن المنكر)) و((لاضرر)) و((حفظ النظام العام)). أي أن إشكالية الارتداد عن الإسلام، تدخل في صلب موضوع حرية الفكر من وجهة نظر الإسلام، وهو يعني ــ باختصار ــ ترك المسلم بالأصالة (المسلم الفطري) أو المسلم بالاكتساب (المسلم الملي) الدين الإسلامي أو إنكار أحد أصول الإسلام، سواء اعتنق ديناً آخر وعقيدة أخرى أو لم يعتنق عقيدة أخرى، وسواء أعلن عن ارتداده ودعا اليه أو لم يعلن، وهو ما تسميه الشريعة الإسلامية بموجبات الارتداد. ويدخل الإلحاد في إطار هذا التقسيم أيضاً، بوصفه أحد أنواع الارتداد؛ فالمسلم الذي ألحد؛ أما أن يكون قد أخفى ارتداده، سواء اعتنق عقيدة إلحادية معينة، كالوجودية والماركسية، أو لم يعتنق، وأما أنه أعلن عن إلحاده ودعا إليه، أو روج لعقيدته الإلحادية الجديدة.

وبالتالي؛ يكون للارتداد ثلاثة أنماط وفق الرؤوية الإسلامية، ولكل نمط أحكامه في الشريعة، مع يعض الفروقات التفصيلية بين المرتد الفطري والمرتد الملي، وقرن بكل حكم عقوبة، وأدوات للتنفيذ:

1- الارتداد القلبي، وهو أن يحتفظ المرتد بارتداده لنفسه، ويمارسه فكراً وسلوكاً معارضاً للإسلام دون إعلان، وهذا المظهر يرتبط بالنوع الأول من الحرية، أي حرية التفكير والاعتقاد. وهذا النوع من الارتداد لايمكن لأي مخلوق المحاسبة عليه، وحسابه موكول الى الله.

2- الارتداد المظهري، ويتمثل بإعلان المرتد عن ارتداده بشكل صريح، من خلال إنكار الإسلام أو أحد أصوله، أو إعلان اعتناقه ديانة وعقيدة أخرى. وقد حسمت الشريعة الإسلامية الموقف من مُعلن الارتداد؛ إذ سلبته حرية الإعلان عن ارتداده، ومنعته من التعبير عن ردته؛ ذلك أن المرتد، مع إعلانه الارتداد؛ يستهدف وحدة المجتمع المسلم وتماسكه وأمنه، لأنه يضرب العقيدة التي تحقق الاستقرار والتوازن المجتمعي.

3- الارتداد المحارب، وهو الارتداد المركب، والذي لايكتفي فيه المرتد باعلان ارتداده، بل يتحول الى محارب للاسلام، وداعية للقضاء عليه، وينتقل خلال ذلك الى المعسكر الذي يحارب الإسلام والمسلمين، سواء تمثل هذا المعسكر في جماعة منظمة أو دولة. وتقف الشريعة الإسلامية موقفاً حاسماً من هذا اللون من الارتداد، يتمثل في اقتلاعه، لأنه يمثل أعلى مراتب الإفساد في الأرض، وفق التعبير الفقهي.

وهناك تفاصيل كثيرة في موضوع العقوبات المترتبة على الارتداد وأنواعه ومراتبه، يمكن مراجعتها في الكتب الفقهية. وهنا ينبغي التأكيد على أن مدخلية المصلحة الإسلامية العليا، وفق ما تراه مرجعية النظام الاجتماعي الديني أو الدولة التي تحكم بالشريعة؛ تنقل الحكم الأولي الى عناوين أخرى، تعمل على تغيير الأحكام.

وبعد هذه الجدولة السريعة لإشكاليات حدود الحرية الفكرية والسلوكية وفق الرؤية الإسلامية، نرى أن سعة الموضوع وتشعّبه، وتشابكه مع مواضيع أخرى كثيرة، تفرض تظافر جهود الفقهاء والمفكرين والمثقفين الإسلاميين لمعالجته ووضع ثوابت وأسس لأحكامه، وخاصة مع سرعة التطورات الهائلة لحركة الحياة، والتحول في الموضوعات والمفاهيم، وتغير وسائل التفكير والتعبير، في ظل واقع دولي، سياسي ودبلوماسي وثقافي وقانوني ضاغط.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) انظر: د. علي محمد النقوي، الاتجاه الغربي من منظار اجتماعي، ترجمة عبد الكريم محمود.

(2) سورة الإسراء، الآية 36.

(3) الآية السابقة نفسها.

(4) سورة البقرة، الآية 256.

(5) سورة يونس، الآية 99.

(6) سورة الغاشية، الآية 21.

(7) سورة الكهف، الآية 29.

(8) سورة الكهف، الآية 106.

(9) سورة الإسراء، الآية 15.

(10) سورة الصافات، الآية 24.

(11) سورة آل عمران، الآية 64.

(12) انظر في هذا المجال: أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، ج 1 و2.

(13) السيد محمد حسين فضل الله، تأملات في الفكر السياسي الإسلامي، ص 25 – 27.

(14) المادة 29، الفقرة ب من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. انظر: الشيخ محمد علي التسخيري، حقوق الإنسان بين الاعلانين الإسلامي والعالمي، ص 37.

(15) الحديث رواه محمد بن يعقوب الكليني في الأصول من الكافي، ج 1 ص 292 و294، بطريقين: أحدهما ينتهي إلى الإمام محمد الباقر(ع) والآخر إلى الإمام جعفر الصادق(ع) عن رسول الله(ص).

(16) تدخل هذه القاعدة في إطار علم أصول الفقه. للمزيد انظر: الشيخ علي المشكيني، اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها، ص 203 – 205.

(17) السيد محمد حسين فضل الله (مصدر سابق) ص 30 – 31.

(18) وأبرزها قاعدة التزاحم بأقسامها الخمسة. للمزيد انظر: الشيخ علي المشكيني (مصدر سابق)، ص 108 – 110.

 

 

 

 

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment