تجارب تقنين الشريعة في البلدان الإسلامية

Last Updated: 2024/06/08By

تجارب تقنين الشريعة في البلدان الإسلامية

د. علي المؤمن

تعد تجارب تقنين الشريعة الإسلامية في تركيا وإيران ومصر والجزائر وشبه القارة الهندية، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، أهم تجارب حركة التقنين في البلدان الإسلامية أو ذات الكثافة السكانية المسلمة:

1 ـ تركيا:

تبلورت حركة تقنين الشريعة الإسلامية في تركيا العثمانية في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وتوّجت الحركة بالعمل على إصدار «مجلة الأحكام العدلية» في العام 1868، والتي اعتمدت المذهب السني الحنفي مصدراً لقوانينها المدنية والتجارية وقوانين المرافعات، ومستندة إلى التقنيات الحديثة في عملية التقنين، والمقتبسة من أُوروبا؛ ولا سيّما من القانون الفرنسي. واكتملت جهود تحرير المجلة في العام 1876 بصدور (1851) مادة قانونية في مقدمة وستة عشر كتاباً([1]). ثم استمرت حركة تقنين الشريعة حتى العام 1917؛ إلّا أنّ كثيراً من القوانين كان ترجمة حرفية أو اقتباساً من القوانين الفرنسية([2])؛ بما لا يتعارض وأحكام المذهب الحنفي؛ كما كانت تقول المؤسسات الدينية والتشريعية في الدولة العثمانية.

ويمكن إجمال نتائج حركة التقنين في الدولة العثمانية في الفترة من العام 1839 وحتى العام 1917 بما يلي:

أ ـ القانون الجزائي العثماني في العام 1839/1840.

ب ـ القانون التجاري في العام 1850.

ت ـ قانون الأراضي في العام 1858.

ث ـ قانون أُصول المحاكمات التجارية في العام 1861.

ج ـ قانون التجارة البحرية في العام 1863.

ح ـ قانون التصرف بالأموال غير المنقولة في العام 1915.

خ ـ قانون حقوق الأُسرة في العام 1917.

وبالتدريج؛ استطاعت حركة التقنين في الدولة العثمانية استيعاب كثير من مجالات الحياة المدنية. وكان من أبرز ثمراتها التأسيس لمرافق سياسية وتشريعية وقضائية مدنية تتشبه بالمؤسسات الأُوروبية؛ كالمحاكم المدنية في مقابل المحاكم الشرعية، والتي يترأسها قضاة مدنيون وحقوقيون وليس فقهاء ورجال دين([3])، وكذلك مجلس النواب (مجلس مبعوثان) وغيرهما.

ويمكن القول بأنّ أهم مراحل حركة التقنين في تركيا العثمانية تمثلت بمرحلة السلطان سليمان القانوني، ومرحلة السلطان عبد العزيز خان، ومرحلة السلطان عبد الحميد الثاني، والمرحلة الانتقالية من السلطنة إلى الجمهورية. وكان السلطان عبد العزيز خان بن محمود الثاني قد أصدر في العام 1876 فرماناً (أمراً سلطانياً) بوجوب العمل بقوانين مجلة الأحكام العدلية؛ بصفتها القوانين المدنية المنتسبة إلى الفقه الحنفي.

وبالعودة إلى موضوع المحاكم المدنية، والتي عرفت حينها بـ (المحاكم النظامية)، وهو من الموضوعات المهمة التي أثارت جدلاً في الدولة العثمانية؛ فإنّ اختصاص هذه المحاكم شمل النظر في القضايا المدنية كافة؛ باستثناء قضايا الأحوال الشخصية. وقد كان هدف وضع قانون المحاكم المدنية (النظامية) تسهيل الأمر على القضاة والحقوقيين العاملين فيها؛ إذ ((كان من العسير عليهم مراجعة الكتب الفقهية؛ التقليدية الأُسلوب، واستخلاص الحكم الشرعي منها عند الحاجة إلى ذلك على نحو سليم. وكذلك قصد التقنين بطبيعة الحال إلى تحقيق الوحدة للتطبيق القانوني، وهو أمر له أهمية مقابل اختلافات الرأي الواسعة التي تضمّها الكتب الفقهية))([4]).

وقد واجه أتباع المذاهب الإسلامية الأُخر ـ غير المذهب الحنفي ـ من رعايا الدولة العثمانية مشاكل كثيرة؛ حين وجدوا أنفسهم مضطرون للاحتكام إلى أحكام الفقه الحنفي أو القوانين المدنية المترجمة عن القانون الفرنسي. وكان علماء الشيعة الإمامية سبّاقون في طرح الإشكاليات والملاحظات العلمية والفقهية على حركة التقنين في الدولة العثمانية؛ ولا سيّما في البلدان العربية المحتلة من العثمانيين، ومنها العراق. وكان المرجع الديني العراقي الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1876 ـ 1954) ممن كتب تفصيلاً في هذا المجال، وقد جمع إشكالياته وملاحظاته في كتاب «تحرير المجلة»، والذي ذكر فيه مقارنات فقهية بين القوانين المدوّنة في «مجلة الاحكام العدلية» العثمانية وأحكام فقه الإمامية([5]).

2 ـ إيران:

لم تكن حركة التقنين في إيران القاجارية تختلف في مساراتها الزمانية والفكرية والتقنية عن نظيرتها في تركيا العثمانية؛ باستثناء موضوع المذهب؛ فقد كان مصدر التقنين في تركيا العثمانية هو الفقه السني الحنفي؛ بينما استندت القوانين القاجارية إلى الفقه الإمامي الشيعي. وكانت مرحلة حكم ناصر الدين شاه (1831 ـ 1896) هي المرحلة الأساس التي شهدت دعوات التقنين، وكان كثير منها يستند إلى محاولات التخلص من الحكم الاستبدادي المطلق. وتوّجت هذه الدعوات باندلاع ثورة المشروطة في العام 1905، والتي انتهت إلى حصر معظم التشريعات
والقوانين بمجلس الشورى الوطني (مجلس شوراي ملي)، وصدور أول دستور دائم للبلاد.

وعلى الرغم من وجود كوابح فقهية داخل مجلس الشورى ممثلة بلجنة من خمسة فقهاء يحولون دون صدور تشريعات وقوانين تتعارض مع أحكام الفقه الإسلامي؛ إلّا أنّ التحولات السياسية وتدخل حكومة الشاه محمد علي القاجاري، ثم قيام الحكومة بقصف مجلس الشورى بالمدفعية، وأعقبه تعطيل الدستور؛ كان يؤدي إلى مسارات مختلفة، وإلى صدور قوانين مقتبسة أو مترجمة من القوانين الغربية، ولا سيّما القانون الفرنسي، ومنها:

أ ـ قانون أُصول النظام العدلي في العام 1909.

ب ـ قانون أُصول المحاكمات الحقوقية (المدنية) في العام 1909.

ت ـ قانون أُصول المحاكمات الجزائية في العام 1910.

ث ـ قانون الجزاء العرفي في العام 1915.

ج ـ قانون التجارة في العام 1923.

ح ـ قانون العقوبات العام في العام 1924([6]).

ويذكر الباحث الإيراني علي باشا صالح في كتابه «تاريخ القانون» الإشكالات الفقهية والتقنية التي رافقت تقنين أول قانون مدني في مجلس الشورى الوطني الإيراني في العام 1927؛ أي خلال حكم الشاه رضا بهلوي: ((تم تشكيل لجنة من الخبراء وعلماء الدين في وزارة العدل، وهي استمرار للجان كثيرة تشكلت في العهود السابقة، وانتهت اللجنة إلى إقرار الجزء الأول من القانون المدني الذي يضم 955 مادة في مجلس الشورى في العام 1927. ثم تمت المصادقة على الجزء الثاني والثالث المؤلفين من 380 مادة قانونية حتى العام 1934. وكان مصدر القانون المدني بصورته المذكورة هذه؛ هو الفقه الإسلامي؛ بصرف النظر عن وجود جزء من القوانين الأُوروبية. وقد كان الخبراء الذين وضعوا القانون قد استندوا إلى المدوّنات الفقهية المكتوبة باللغة العربية؛ مثل «شرائع الإسلام» للمحقق الحلي، و«اللمعة الدمشقية» وشرحها للشيخين العامليين، و«المكاسب» للشيخ مرتضى الأنصاري، وترجموا الآراء المشهورة للفقهاء إلى اللغة الفارسية، وأخضعوها للتبويب الموضوعي، واعتمدوا على الباحثين القانونيين ممن يتقنون اللغة الفرنسية؛ في الرجوع إلى القوانين المدنية الحديثة؛ ولا سيّما الفرنسية والبلجيكية والسويسرية. وقد طرح هذا الموضوع وزير العدل في جلسة مجلس الشورى بكل وضوح؛ حين قال بأننا استندنا في تدوين قانون حقوق الزوجين وحقوق الأُسرة والأحوال الشخصية إلى القوانين الأجنبية؛ وخاصة القانون السويسري الموسع))([7]).

وبذلك، يُعدّ القانون المدني في إيران؛ أول تجربة لتقنين الفقه في الوسط الشيعي؛ فقد كان واضعوه على دراية كاملة بأحكام الفقه الإمامي الشيعي، مع الأخذ بالاعتبار متطلبات الزمان، وعملوا على تحويل أحكام الفقه الشيعي في مجال المعاملات والعقود والمال والوصية والإرث والنكاح والطلاق والنسب وأدلة إثبات الدعوى؛ إلى مواد قانونية مدوّنة؛ يمكن للمحاكم الاستناد إليها. وبالمقارنة مع القوانين التركية المدوّنة في «مجلة الأحكام العدلية»؛ فإنّ القانون المدني الإيراني كان أكثر قوة وتكاملاً. ويُرجع الباحث الإيراني شفيعي سروستاني ذلك إلى قوة الفقه الشيعي الإمامي وغناه بالمقارنة بالفقه الحنفي([8]).

وفي الوقت نفسه؛ ظل كثير من الفقهاء الشيعة يعارضون هذا اللون من التقنين؛ سواء ما يتعلق بالتقنين الدستوري أو التقنين العادي. وكان معظم هؤلاء الفقهاء يستند إلى الأدلة المعارضة التي كان يسوقها الشيخ فضل الله النوري خلال ثورة المشروطة([9]). فقد ذكر الشيخ النوري في كتابه «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل» ما نصه: ((إنّ جعل القانون (التقنين) كلّاً أم بعضاً؛ يتنافى مع الإسلام. والله لم أكن أتصور أنّ أحداً يصادق على جعل القانون، وأن يختار للدولة قانوناً غير القانون الالهي، ويرى أنّ متطلبات العصر تغير بعض مواد القانون الإلهي؛ برغم أنّه يعتقد بختم النبوة وكمال دين محمد(ص).))([10]).

وظلت مرحلة الشاهنشاهية البهلوية مطبوعة بطابع قوانين المشروطة وما شهدته بعدها من تحولات ابتعد فيها التقنين تدريجياً عن مصادره الفقهية الشيعية، واقترب من القوانين الوضعية بمضامينها المدنية ومقاييسها الغربية. وبتأسيس الجمهورية الإسلامية في العام 1979؛ بدأت ثورة التقنين التأصيلي؛ بصيغ لم يسبق لها مثيل في العصور الإسلامية السابقة؛ ولا سيّما بعد أن وضع دستور الجمهورية الإسلامية ضابطة تشريعية ملزِمة حددتها المادة الرابعة من الدستور، والتي نصت على أن تكون جميع قوانين الدولة على أساس المعايير الإسلامية([11]). وقَرَنَ الدستور هذه الضابطة بآلية تنفيذية ممثلة بمجلس صيانة الدستور؛ الذي يضم في عضويته ستة فقهاء يدققون في تشريعات مجلس الشورى، ومدى تطابقها شكلاً ومضموناً مع معايير الفقه الإسلامي وروح الشريعة([12]).

وبذلك أخذت التشريعات الإسلامية تحل محل التشريعات الوضعية الموروثة؛ فضلاً عن ملء التشريعات الجديدة لجميع مناطق الفراغ في المنظومة القانونية للدولة. ويرى الباحث الإيراني المعارض أصغر شيرازي بأنّ الفقه الشيعي كان ينبغي منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية أن يتحول من قانون فقهاء إلى قانون دولة، وأنّ استنباط الأحكام بصفته المهمة العلمية لفقهاء الشريعة؛ لا بد أن يحل التقنين محله، ويكون ذلك مترافقاً مع ضرورة توسيع الفقه الشيعي ليغطي جميع فروع القانون، ولتنفذ أحكامه المتوقفة منذ أكثر من ألف عام. ومن ناحية الآليات؛ كان لزاماً وضع آليات حديثة لفرض القانون والأحكام القضائية الموروثة؛ وإن كانت شبيهة بآليات النظم القانونية المدنية الغربية. ولذلك فإنّ ما جرى حتى الآن هو سماح المثالية الأخلاقية للفقه الشيعي بفسح المجال؛ ولو جزئياً؛ للواقعية العملية، وتخلية الطريق أمام نظام محاكم رسمية معقلنة وبيروقراطية، وتنحي الشخصانية غير الرسمية غالباً لمصلحة نظمٍ أكثر كفاءة وبعيدة عن الشخصانية، وتستند إلى مدوّنات قانونية موحدة لا تقبل التأويل. ويمكن النظر إلى التحولات في المنظومة القانونية الإسلامية المطبقة في إيران منذ العام 1979؛ للوقوف على حقيقة التأصيل الفقهي إلى جانب الطابع الإصلاحي الواضح الذي يُعدّ من مستلزمات الحكم الحديث([13]).

وقد حفّز هذا الإنجاز الذي يعبِّر عن حاجات الدولة الإسلامية العصرية؛ حفّز الفقهاء لمزيد من الانفتاح على الأبواب الجديدة، والإنتاج الفقهي في الحوزات العلمية في مختلف مجالات الحياة؛ بما يسد حاجة الدولة ومجتمعها ومواطنيها؛ ثم ليتحول هذا النتاج بفعل حركة التقنين ومؤسساتها؛ إلى قوانين رسمية مدوّنة موحّدة ملزِمة للجميع.

3 ـ مصر:

ظلت مصر ـ الدولة العربية الأكبر والأهم ـ مستلبةً سياسياً وفكرياً قرون طويلة؛ بسبب سياسة الهيمنة العثمانية من جانب، وحكم المماليك الأجانب من جانب آخر، كما كانت الأكثر تأثراً بالحراك السياسي النهضوي الأُوروبي وما رافقه من دعوات ومحاولات لبناء الدولة الحديثة ونظمها القانونية. ويعود هذا التأثر إلى مخلفات الاحتلال الفرنسي المبكر بقيادة “نابليون بونابرت” في العام 1798 ثم حكم محمد علي باشا (1805ـ 1848)؛ وهو أُوروبي من ألبانيا العثمانية. وكان العامل الثالث هو البعثات التعليمية المصرية إلى فرنسا.

وتمخض التأثر المصري بحركة التقنين في أُوروبا؛ عن ولادة أول منظومة تقنين مدنية في العام 1875، وتمثلت بقانون الأحوال الشخصية والمواريث، ثم صدور القوانين الجنائية والتجارية والبحرية. وأسست الدولة المصرية محاكم نظامية (رسمية) في مقابل المحاكم الشرعية؛ لتطبيق تلك القوانين. وكان القانون المدني المصري الأكثر تمثّلاً بالقانون الفرنسي وترجمة له. إلّا أنّ الاحتلال البريطاني قرّب مصر والسودان من القانون الإنجليزي ومنظومته القضائية؛ ولا سيّما بعد فشل ثورة أحمد عرابي في العام 1881.

وكما حدث في البلدين المسلمين المستقلين: تركيا وإيران؛ فإنّ مصر المحتلة شهدت أيضاً معارضة كبيرة لحركة التقنين بصيغتها الغربية؛ الأمر الذي اضطر اللجان التي تضع القوانين برئاسة الفقيه القانوني المصري الدكتور عبد الرزاق السنهوري (1895 ـ 1971) إلى الاستجابة للأصوات المعارضة، وعملت على التوفيق جزئياً بين القوانين الوضعية وأحكام الفقه الإسلامي.

ويذهب المستشرق الإنجليزي “هانز كولسون” بأنّ الدكتور عبد الرزاق السنهوري بلور عملية تقنين أحكام الشريعة الإسلامية بالتزامن مع الأخذ بالقوانين الأُوروبية، وحاول التوفيق بين الموروث الفقهي والقوانين المصرية الصادرة في العامين 1875 و1883، والتي كان ثلاثة أرباعها مترجماً عن القانون الفرنسي([14]). وفي هذا الصدد يقول السنهوري نفسه بأنّ من الوهم البحث عن الشريعة الإسلامية في ((بطون كتب الفقهاء؛ مع أنّ تقنينها أمر ليس بالصعب، بل هو قد تم بالفعل، وقد قام به الأتراك رسمياً في مجلتهم المشهورة «مجلة الاحكام العدلية»، كما قام به فذ من المصريين هو المرحوم محمد قدري باشا؛ فوضع كتباً قيمة يقنن فيها أحكام الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية وفي المعاملات وفي العقود. فلتقنين الشريعة ـ إذاً ـ سوابق معروفة. ولا نذهب بعيداً؛ فإنّ المشرّع المصري قد قنن بالفعل بعض أحكامها في شكل تشريعات خاصة))([15]).

ورأى السنهوري بأنّ النقل الذي قام به واضعو القوانين المصرية القديمة (خلال القرن التاسع عشر الميلادي) عن القانون الفرنسي؛ كان تجسيداً للاستعمار العسكري والتبعية الفكرية. بينما اعتمد القانون المدني الذي وضعه هو في ثلاثينات القرن العشرين الميلادي؛ على الشريعة الإسلامية أكثر من قبل؛ تعبيراً عن الاستقلال السياسي الذي يقتضي الاستقلال الفقهي والقانوني. ويؤكد الدكتور عبد الرزاق السنهوري بأنّ الاستقاء من نبع الشريعة الإسلامية ليس مبعثه ـ أيضاً ـ الاعتبارات العلمية النابعة من رقي الشريعة الإسلامية وتقدمها على ما سواها من المنظومات القانونية؛ وإنّما اعتماد قانوننا المدني الجديد على الشريعة الإسلامية فيه تحقيق لاستقلالنا الفقهي؛ الذي هو شرط لتحقيق جوهر وحقيقة استقلالنا السياسي. وكيف أنّ الشريعة الإسلامية ـ وتلك خصوصية أُمتنا التي تجلّت عبقرية فقهائنا في وضع فقه معاملاتنا ـ هي الصناعة الوطنية، والبضاعة القومية، والإسهام الحضاري الإسلامي؛ الذي نستطيع أن نسهم به في نهضة وتقدم رقي الفقه العالمي([16]).

4 ـ الجزائر:

كانت عملية التقنين في الجزائر انعكاساً للواقع الذي خلقه الاحتلال الفرنسي. وقد بادرت سلطة الاحتلال إلى تشكيل لجنة من الفقهاء المسلمين والحقوقيين لتقنين أحكام الفقهين الحنفي والمالكي في موضوعات الأحوال الشخصية والمواثيق وجزء يسير من العقود والعقوبات. وقد انجزت اللجنة مهامها في العام 1889. وجاء في نظام اللجنة بأنّ عملها ليس تجديداً للفقه، أو اجتهاداً جديداً؛ وإنّما مجرد تقنين الفقه القديم؛ وإن كان ذلك يستتبع الإختبار في حالة اختلاف آراء الفقهاء بما يتناسب والحالة الاجتماعية والمصالح الاقتصادية للمواطن، وبما يتفق مع الأخلاق والعدالة. وقد أعطى هذه الضوابط المرنة للجنة الحرية في تفضيل بعض آراء المذهب الحنفي على المذهب المالكي، وبعض آراء فقهاء المالكية على فقهاء مالكيين آخرين([17]).

5 ـ شبه القارة الهندية:

في مرحلة الاحتلال البريطاني، حاول المحتل تقريب شعب شبه القارة الهندية إلى النظم السياسية والقانونية الإنجليزية، فأصدرت المحاكم الإنجليزية التابعة لسلطات الاحتلال؛ في أعقاب الثورة الهندية ضد الاحتلال في العام 1875؛ ما عُرف بـ «القانون الإنجلو ـ إسلامي» أو ما ترجمته «القانون الإنجلو ـ محمدي» (anglo mohammadan law)، وهي عبارة عن تشريعات تجمع بين أحكام الفقه الإسلامي الموروث وقواعد القانون البريطاني. وقد فرضت سلطات الاحتلال هذا القانون على المسلمين بالقوة في جميع المناطق التي تحتلها؛ بينما بقي المسلمون في المناطق الهندية ـ التي لم تكن بريطانيا قد احتلتها بعد ـ يرجعون لأحكام الفقه الإسلامي الموروثة، ويحتكمون إلى المحاكم الشرعية وعلماء الدين. وفي المقابل أسست سلطة الاحتلال محاكم إنجليزية تطبق على المسلمين القانون الإنجلو ـ إسلامي، وهي تابعة مباشرة لسلطة المجلس السامي (the privy council)، وهي سلطة الاحتلال الإنجليزي الرسمية.

وعدّ “كولسون” القانون الإنجلو ـ إسلامي بأنّه صورة فريدة للقانون الإسلامي؛ لا تتميز عنه فحسب ـ من الناحية الشكلية ـ من حيث إنّه نظام قانوني قام في أساسه على السوابق القضائية، واعتمد في تطبيقه على نسق هرمي من المحاكم التي تلتزم بتلك السوابق، بل يتميز من الناحية الموضوعية أيضاً من حيث إنّه تأثر إلى حد كبير بالقانون الإنجليزي، ولا سيّما فيما يتصل بمراعاة العدالة، وذلك على نحو عفوي يشبه تأثر التشريع الإسلامي بالقانون الروماني في بداية نشأته([18]). ويقصد “كولسون” بهذا التأثر عملية التشريع وتنظيم الدواوين في عهد السلطتين الأُموية والعباسية، والتي تشبّه فيها الأُمويون بالنظم الرومانية، فيما تشبّه العباسيون بالنظم الفارسية.

 

([1]) اُنظر: البغا، د. محمد، «التقنين كما يبدو في مجلة الأحكام العدلية»:

http://www.taddart.org/?p=12736.

([2]) صابان، سهيل، «تطور الأوضاع الثقافية في تركيا من عهد التنظيمات العثمانية إلى عهد الجمهورية»، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، 2010، ص187.

([3]) كولسون، هانز، «في تاريخ التشريع الإسلامي» (مصدر سابق)، ص206.

([4]) السنهوري، د. عبد الرزاق، «فقه الخلافة» (مصدر سابق) ، ص7.

([5]) صدر كتاب «تحرير المجلة» في خمسة مجلدات في النجف الأشرف، في العام 1939.

([6]) باشا صالح، علي، «سركذشت قانون: مباحث تاريخ حقوق» (تاريخ القانون: دراسات في تاريخ الحقوق»، ط3، جامعة طهران، 2001، ص227.

([7]) المصدر السابق، ص 227 ـ 228.

([8]) اُنظر: سروستاني، د. شفيعي، «فقه وقانون كذاري» (الفقه والتقنين)، ص86.

([9]) باشا صالح، علي (مصدر سابق)، ص176.

([10]) نوري، فضل الله، «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل»، إعداد: محمد تركمان (مصدر سابق)، ضمن كتاب «رسائل شيخ فضل الله نوري»، (بالفارسية)، ص29.

([11]) دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المادة الرابعة، ص5.

([12]) المصدر السابق، المواد 91 ـ 99، ص42 ـ 44.

([13]) شيرازي، د. أصغر، «إيران: السياسة والدولة» (مصدر سابق)، ص85.

([14])كولسون، هانز (مصدر سابق)، ص228.

([15]) السنهوري، د. عبد الرزاق، من محاضرة ألقاها في العام 1942 في القاهرة،

archive.islamonline.net/?p=20587

([16]) المصدر السابق.

([17]) عطية، د.جمال الدين، «التظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص126.

([18]) كولسون، هانز (مصدر سابق)، ص228.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment