تجارب التقنين والدسترة الحديثة في البلدان الإسلامية

Last Updated: 2024/06/08By

تجارب التقنين والدسترة الحديثة في البلدان الإسلامية

د. علي المؤمن

تجارب تقنين الشريعة في البلدان الإسلامية

تزامن نشوء الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية والسياسية مع نشوء التجمعات الإنسانية وتحولها إلى مجتمعات تسود فيها القيم البدائية. وكانت هذه القيم تعبِّر عن القوانين الأُولى في شكلها العرفي. وكلّما توسعت التجمعات البشرية ونمت عقلياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً؛ برزت الحاجة إلى بلورة الأعراف والعادات وتحويلها إلى شبه ثوابت تنظِّم الحياة الداخلية لهذه المجتمعات وعلاقاتها مع المجتمعات الأُخر.

ومع ظهور الكتابة البدائية المسمارية تحديداً، ونشوء ظاهرة (الدول ـ المدن) لأول مرة على الأرض، وذلك في جنوب العراق السومري، وهي الحضارة الإنسانية الأُولى التي عُرفت بحضارة وادي الرافدين؛ توسعت الحاجة إلى تحويل الثوابت العرفية المجتمعية إلى لوائح مدوّنة، وهو ما يمكن وصفه بتجارب التقنين الأُولى. أي أنّ محاولات التقنين الحقيقية ليست من مستحضرات الحضارة الحديثة، بل عرفتها الإنسانية منذ أقدم العصور. ومن أهم هذه المحاولات: شريعة «أورنمو» السومرية في جنوب العراق، والتي وضعت سنة 3300 ق.م (قبل حوالي ألف وخمس مئة عام على وضع شريعة الملك البابلي حمورابي)، وشريعة «أشنويا» البابلية في سنة 2200 ق.م، وشريعة «لبث عشتار» البابلية في سنة 2150 ق.م، و«شريعة حمورابي» البابلية، التي احتوت على أكثر من (282) مادة بأُسلوب علمي يقترب من القوانين الحديثة، وهي مقسمة إلى فقرات ومواد، ووُضعت ما بين السنوات 1792 ـ 1750 ق.م. وبعد ظهور الشرائع والقوانين السومرية والبابلية في جنوب العراق وفراته الأوسط؛ بمئات السنين؛ ظهرت الشرائع في دول العالم الأُخر، وأهمها: «شريعة مانو» الهندية؛ ذات الصياغة الشعرية، والمكونة من (2658) بيتاً، ووُضعت على أرجح الآراء في القرن الثالث عشر ق.م، و«دستور جوجونج» الصيني؛ الذي صدر بين سنتي 1115 ـ 1079 ق.م، ثم «قوانين دراكون» في أثينا الإغريقية في سنة 594 ق.م. ثم جاء قانون «الألواح الاثني عشر» أو قانون «الرجال العشرة» الروماني الصادر سنة 449 ق.م بأُسلوب شعري([1]).

وتخلل ذلك أيضاً ظهور محاولات التقنين في الحضارات الأُخر؛ كحضارة العيلاميين في غرب إيران، ثم الحضارة الفارسية في شمال ووسط إيران، وحضارة (المايا) في المكسيك، والحضارة اليابانية، والحضارة الصينية، وهي الحضارات التي سبقت المجتمعات البشرية الأُخر، إلى جانب الحضارات الإغريقية والرومانية والهندية والمصرية والعبرانية، وقبلها جميعاً الحضارة العراقية؛ في وضع القوانين والشرائع الأُولى، وهي ـ كما ذكرنا ـ عبارة عن تقنين للعادات والأعراف والتقاليد.

وكانت عملية التقنين تمثل إرادة السلطة؛ ولا سيّما السلطة الاجتماعية ـ السياسية؛ الممثلة برئيس التجمع البشري أو زعيم القبيلة أو الأمير أو الملك والإمبراطور والشاه والفرعون والقيصر. ولذلك جاء التقنين ليعزز ـ غالباً ـ سلطان الزعيم والملك، ويقسم المجتمع طبقياً، ويجعل الدولة والمجتمع بكل طبقاته ونشاطاته الاقتصادية والدينية والسياسية والعسكرية بخدمة السلطان المطلق. وكانت السلطة الدينية أداةً إضافية مهمة بيد الزعيم أو الملك؛ يكرس من خلالها سلطانه وجبروته واستعباده الناس، ويضفي على نفسه مسوحاً دينية ـ إلهية. ولذلك كان التقنين ـ تاريخياً ـ يصب في مصلحة الزعيم والملك، ويتعارض مع مصلحة الشعب.

بينما كان الأنبياء والمرسلون وأولياء الله يمارسون الدور المعاكس لسلطة الزعماء والملوك وقوانينهم؛ سواء من خلال نصوص الوحي أو من خلال حركتهم وسلوكهم؛ فكانت شرائع السماء الممثلة بتعاليم الأنبياء تقف إلى جانب الشعوب والأُمم، وتدافع عن حقوقها وحرياتها، وتعمل على تنظيم حياتها في إطار غايات العدالة الدنيوية والكدح نحو الغيب والحياة الأُخرى. وهو ما ظل يتعارض مع قوانين الأرض التي يشرِّعها الزعماء السياسيون والملوك. وبذلك ظلت الشرائع الدينية السماوية قواعد لتحرر الشعوب واستعادتها حقوقها وإصلاح أوضاعها، ولمجابهة سلطة الملوك المطلقة، وسلطة كهنتهم ومعابدهم وأديانهم الأرضية.

وسبق أن ذكرنا في الفصل الثاني بأنّ ظهور الإسلام في جزيرة العرب؛ مثّل تحولاً أساسياً في مسارات التقنين الإنساني؛ على المستويين الموضوعي والفني؛ فقد جاءت الشريعة التي بشَّر بها الرسول محمد(ص) لتحمي مصالح الشعوب والناس العاديين، في إطار العدالة وحقوق الإنسان والحريات العامة، وتُحررهم من جبروت الملوك وسلطات السياسة والمال والدين الوضعي، وتنظم حياتهم على كل المستويات. أمّا من الناحية التقنية (تقنيات التشريع)؛ فقد جاءت أحكام الشريعة الإسلامية في غاية التنظيم والتفصيل والشمولية والتوزيع الموضوعي. وبذلك تكون الشريعة الإسلامية ـ من الناحية التقنية ـ أهم منظومة قانونية متكاملة عرفتها الشرية، والوحيدة الصالحة لكل زمان ومكان. ولا نطرح هذا القول بدوافع عقدية وآيديولوجية، بل من خلال استقراء موضوعي للشرائع والمنظومات القانونية الأُخر، ومقارنتها مع منظومة التشريع الإسلامي([2]).

وبمرور الزمن وتغير المكان، والابتعاد عن عصر الوحي؛ ظهرت الحاجة في الوسط الإسلامي إلى عملية التقنين؛ بهدف إعادة تنظيم أحكام الشريعة الإسلامية موضوعياً وفنياً في إطار مدوّنات ظلّت الأهم تقنياً وتنظيمياً بين المدوّنات القانونية العالمية؛ حتى ظهور المدوّنات الحديثة في أُوروبا بعد عصر النهضة.

ومما ترشح عن تقنين أحكام الشريعة الإسلامية: ظهور مدوّنات تعيد ترتيب آيات القرآن الكريم موضوعياً؛ ولا سيّما آيات الأحكام؛ لتتحول إلى مدوّنات تشريعية قرآنية في كل مجال من مجالات العبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات وغيرها. ثم خضعت السنّة النبوية (وسنّة أئمة آل البيت) إلى الإجراء التقنيني نفسه؛ فأصبح للصلاة ـ مثلاً ـ منظومة تشريعية خاصة، وهكذا للحج والزكاة والخُمس والجهاد وغيرها.

وتطورت عملية التقنين في الوسط الإسلامي بظهور عملية الاجتهاد؛ والتي مارسها الفقهاء لاستنباط أحكام الشريعة في الموضوعات الجديدة التي فيها نص ظني، أو ليس فيها نص. فكان الاجتهاد مظهراً حقيقياً للتقنين بصيغته الحديثة التي تسمح للإنسان بتوظيف جهده العقلي؛ عبر إخضاع الأدوات العقلية المقبولة شرعاً؛ للحصول على حكم شرعي جديد في واقعة جديدة.

وشملت إعادة تنظيم الأحكام الشرعية وتبويبها، ونتاج العملية الاجتهادية؛ أبواب السياسة والحكم أيضاً؛ فظهر ما عُرف بمدوّنات السياسة الشرعية أو الأحكام السطانية الشرعية أو الفقه السياسي. وكانت هذه المدوّنات متفاوتة في التصاقها بأصالة الحكم الشرعي؛ فبعضها كان أكثر قرباً، وبعضها كان بعيداً نسبياً. وقد شهدت مسيرة تدوين فقه الدولة الإسلامية والفقه السياسي الإسلامي وتبلورها زمناً طويلاً؛ تحولات كثيرة حتى وصلت إلى مرحلة القرن العشرين الميلادي؛ لتظهر فيه المنظومات التقنينية العصرية بأحدث التقنيات والتنظيمات. ويمكن إجمال هذه المسيرة على وفق نشاط المدرستين الشيعية (مدرسة الإمامة) والسنية (مدرسة الخلافة):

1 – مدرسة الخلافة:

تمثلت المرحلة الأُولى من التأسيس للفقه السلطاني في المشافهات والكتابات الأُولى التي ظهرت في العهد الأُموي، وهي ـ غالباً ـ أحاديث وروايات وتفسيرات موضوعة أو محرفة؛ هدفها تسويغ الحكم القائم وسلوكه، وإضفاء الشرعية الدينية عليه من جهة، وتشويه صورة المدرسة المنافسة (مدرسة الإمامة)، والطعن في شرعية وصولها إلى السلطة من جهة أُخرى. وكان أخطر ما قررته المرحلة الأُموية ما عُرف بسيرة الصحابي؛ إذ أصبحت هذه السيرة انطلاقاً من بعض الأحاديث الموضوعة؛ كالحديث المنسوب إلى رسول الله: «مَثَلُ أصحابي مَثَلُ النجوم؛ من اقتدى بشيء منها اهتدى»([3])، أصبحت جزءاً من مصادر الفقه السياسي الإسلامي لمدرسة الخلافة. وبما أنّ سِيَر الصحابة وسلوكياتهم متعارضة ومتضاربة في كثير من جوانبها؛ فقد أصبح باب الأحكام السياسية الشرعية مفتوحاً بالكامل على كل أنواع السلوك السياسي وغير السياسي؛ الجمعي أو الفردي؛ فالوصية والشورى والتوريث والغلبة في تعيين الحاكم (تحت مسمى الخليفة) باتت كلها جائزة ومسوغة شرعاً وعرفاً؛ وإن تعارضت مع أصل ديني ثابت، أو تناقضت مع بعضها في المضمون الشرعي وشكل التنصيب. كما أصبح القتال بين الصحابة خاصة والمسلمين عامة وإراقة دمائهم؛ جائزاً أيضاً، وكذا ارتكاب الحاكم (الخليفة) والمنتسين إلى منظومة حكمه؛ كالولاة والوزراء وقادة الجيش والشرطة والجباة؛ كل أنواع الموبقات والسلوكيات المحرمة؛ لأنّ الحاكم ومنظومته يستندان إلى رواية محرفة أو موضوعة، أو يستندان إلى سيرة أحد الصحابة. وكان هذا التأسيس الوضعي للفقه السلطاني؛ العلماني في مضمونه والثيوقراطي في شكله؛ أخطر ما أفرزته السلطة الأُموية والملكيات التي أعقبتها في دول مدرسة الخلافة، وهو الفقه الذي لا يزال يستند إليه قطاع واسع من المسلمين؛ ولا سيّما ما يعرف بالمدرسة السلفية الوهابية.

وتماهت المقولات والسلوكيات التي ظهرت في العهد العباسي مع الفقه الأُموي الوضعي، ولكنها كانت أكثر تنظيماً واقتراباً من التقنين الموضوعي، وكانت مؤلفات ما عُرف بالسياسة الشرعية، والتي ظهرت في هذه الحقبة؛ مؤلفات تأسيسية في مجال تقنين أحكام السلطان والمُلك والسياسة. ويذكر الباحث المصري المعاصر الدكتور جمال الدين عطية بأنّ مسألة التقنين أُثيرت بوضوح منذ طلب أبو جعفر المنصور ثم هارون الرشيد من الإمام مالك بن أنس (إمام المالكية) وضع كتاب موحّد يلتزم به القضاة؛ ولكن الإمام مالكاً أصرّ على رأيه في عدم تقييد القضاة برأي واحد([4])؛ بينما كان ملوك العباسيين يهدفون إلى توحيد الأحكام القضائية؛ لتكون قوانين ملزِمة لكل رعايا الدولة، ولتكون أداة سطوة مقبولة في شكلها للجم المعارضة العقدية والسياسية. ويعد كتاب «الموطّأ» لمالك بن أنس أول مجموعة تقنينية جامعة في الفقه السني، وكانت المدوّنات الفقهية قبله متناثرة وغير منظمة وغير مجمّعة تجميعاً تأليفياً كاملاً([5]).

واستمرت مرحلة الفقه السياسي الأُموي ـ العباسي حتى القرن التاسع عشر الميلادي؛ أي حتى ظهور الكتابات الإصلاحية الأُولى في الوسط السني، والرافضة للاستبداد العثماني والحكومات المحلية المطلقة التي خلقها الفقه السياسي الأُموي ـ العباسي. وبسقوط الدولة العثمانية، وظهور المدوّنات الفقهية السياسية الإصلاحية في مصر على يد تلاميذ السيد جمال الدين الأفغاني (سيد جمال الدين الحسيني الأسد آبادي: 1838 ـ 1897)؛ بدأت مرحلة جديدة في مسيرة الفقه السياسي الإسلامي لمدرسة الخلافة؛ إذ شكّلت النتاجات التأصيلية للمفكرين والفقهاء السنة ثورة فكرية وفقهية اجتهادية في مجال الفقه السياسي السني.

2- مدرسة الإمامة:

تمثلت مرحلتها الأُولى في المدوّنات التي عمّقت مبدأ (الإمامة) وخصائصها من منظور العقيدة؛ باعتباره المبدأ المؤسس لمنظومة الفقه السياسي الشيعي. ثم اتسعت لتشتمل على الجانب الفقهي أيضاً. وقد استوعبت هذه المرحلة ـ زمنياً ـ عصر الأئمة الاثني عشر، وحتى بدء الغيبة الكبرى للإمام المهدي. وكان أهم مدوّنة حديثية ـ فقهية ظهرت في هذه الفترة في مدرسة الإمامة ما عُرف بـ (الأُصول الأربعمئة) التي ألفها تلامذة الإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق والإمام موسى الكاظم، وتمثل أجوبتهم العقدية والفقهية وما نقلوه من أحاديث عن آبائهم. واستمرت هذه المرحلة حتى ظهور حركة الاجتهاد والمدوّنات الفقهية الأُولى، ومعها بدأت المرحلة الثانية التي تبلورت خلال القرن الثالث الهجري، وامتدت إلى عصر الدولة الصفوية. وحينها بدأت المرحلة الثالثة التي مثلت نقلة تاريخية في مسار الفقه السياسي الشيعي. أمّا المرحلة الرابعة فقد بدأت في القرن العشرين الميلادي؛ مع ظهور بعض الكتابات الفقهية السياسية المهمة التي رافقت حركة المشروطة في إيران؛ ثم مدوّنات أُخر في العقود اللاحقة، وكان أبرزها كتابات السيد محمد باقر الصدر في نهايات الخمسينات من القرن الماضي. وبظهور بحوث الإمام الخميني في أواخر الستينات من القرن الماضي؛ انتهت المرحلة الرابعة؛ فكانت بحوث الإمام الخميني ومقولاته وخطبه مرحلةً بذاتها. بينما مثّل ظهور النتاجات التقنينية النوعية الضخمة في إيران بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية مرحلةً خامسة من مراحل جهود تقنين فقه الدولة الإسلامية والفقه السياسي الإسلامي. وقد شهدت المرحلة الأخيرة نهضة بحثية كبيرة غير مسبوقة في مدرسة الإمامة على المستويين النوعي والكمي؛ حتى بلغ مجموع ما صدر من مدوّنات ومؤلفات ودراسات عقدية وفقهية وفكرية وقانونية في موضوعات فقه الدولة الإسلامية والفقه السياسي الإسلامي الإمامي؛ خلال الفترة من 1979 وحتى الآن أضعاف ما كُتب وصدر خلال ألف عام سبقتها([6])؛ أي طيلة عصر الغيبة([7]).

وفي المراحل التي كانت فيها عملية التقنين متألقة في البلدان الإسلامية، وتتجه نحو التبلور والتكامل؛ بدءاً من القرن الميلادي السابع وحتى القرون اللاحقة؛ فإنّ أُوروبا كانت غائبة نسبياً في هذا المضمار. واستمر هذا الغياب حتى القرن الخامس عشر الميلادي. إلّا أنّ ثورة التقنين الحقيقية في أُوروبا اندلعت مع نجاح الثورة الفرنسية في العام 1789، وانهيار الحكم الاستبدادي الفرنسي المطلق. حينها ظهرت القوانين والقرارات السياسية والحقوقية والاجتماعية الأُولى في أُوروبا؛ بهدف تنظيم الحياة العامة في فرنسا. وأفضت هذه الجهود إلى صدور «قانون نابليون» في العام 1804؛ كأول قانون مدني؛ ثم القانون الجزائي في العام 1808. وامتد تأثير هذه القوانين ومنهجيتها إلى أكثر البلدان الأُوروبية، ولا سيّما النمسا التي صدر أول قانون مدني فيها في العام 1811، ثم ألمانيا وبلجيكا([8])، ومنها إلى بلدان العالم الأُخر.

ولم تمر عملية التقنين في أُوروبا بسهولة، بل شهدت نقاشات حادة بين أنصار القانون المدوّن والقانون العرفي؛ وخاصة في المانيا؛ إذ كان هناك من رجال القانون والحكم، وأبرزهم “فردريك سافيني” (1779 ـ 1861)؛ من يرفض تقنين العادات والتقاليد والنظم والأفكار بمنهجية مدوّنة، ويدعم بقاءها كما هي؛ عرفاً سائداً داخل الدولة أو بين المواطنين؛ لأنّ العادة تظل خاضعة للتطور الطبيعي؛ بينما يمثل القانون المدوّن لوناً من الثبات والجمود. وظل “سافيني” مصراً على نظريته، وعززها حين أصبح وزيراً للعدل في مملكة بروسيا؛ فلم يصدر خلالها أي قانون مدوّن، وأدى موقفه إلى تأخر المانيا في عملية التقنين ما يقارب من ثمانية عقود. إلّا أنّ نظرية “سافيني” وغيره من علماء السياسة وخبراء القانون الذين رفضوا عملية التقنين؛ سرعان ما تهاوت بفعل الحراك السياسي والاجتماعي والأكاديمي في أُوروبا، ولم تصمد أمام جموع دعاة التقنين وضغوطات الواقع([9]).

ولم تبق البلدان الإسلامية بمنأى عن تأثيرات حركة التقنين في أُوروبا. وازداد هذا التأثير بفعل ثلاثة عوامل:

1 ـ الاحتكاك الثقافي المباشر أو غير المباشر بين الغرب والبلدان الإسلامية الكبيرة المستقلة؛ كالعثمانية التركية، والقاجارية الإيرانية.

2 ـ النفود السياسي والفكري والاحتلال العسكري الأُوروبي لبعض البلدان الإسلامية الكبيرة؛ كمصر، أو البلدان ذات الكثافة السكانية المسلمة؛ كالهند.

3 ـ البعثات الطلابية والعلمية من البلدان الإسلامية إلى البلدان الأُوروبية، ولا سيّما إلى فرنسا وبريطانيا.

وانتشرت في البلدان الإسلامية المحتلة؛ القوانين المدنية الغربية المتعارضة مع أحكام الشريعة، وكذا المحاكم المدنية في مقابل المحاكم الشرعية، والمدارس التبشيرية ومناهج التعليم الغربي الحديث. ولم يختلف الاحتلال البريطاني عن الفرنسي والهولندي في هذا المضمار. وتكرّس هذا الواقع في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين. وتزامنت قوة تيار التقنين التغريبي في البلدان الإسلامية مع ضعف الدولتين العثمانية والقاجارية، وظهور بوادر انهيارهما المعنوي والاجتماعي والسياسي قبل العسكري؛ مع بداية القرن العشرين الميلادي. و((لم يمض القرن التاسع عشر الميلادي حتى كانت النظم القانونية الأُوروبية قد صارت تشريعاً لمعظم الدول الإسلامية… يحل محل الشريعة الإسلامية في حكم كل ما لا يتعلق بالأحوال الشخصية. ومع التحول إلى النظم القانونية الأُوروبية بدأ العالم الإسلامي يواجه لأول مرة انفصالاً بين عقيدته وبين النظم المطبقة فيه، وما يخلفه هذا الانفصال من مشكلات))([10]). وفي المقابل ظهرت حركة مضادة من داخل البلدان الإسلامية؛ ولا سيّما في تركيا وإيران والهند ومصر؛ قادتها النخب الدينية والوطنية لمواجهة المد التقنيني التغريبي؛ فتبلورت ثلاثة تيارات متقابلة؛ لكل منها حضوره القوي وصوته:

1 ـ التيار الذي يدعو إلى التمسك بأحكام الشريعة الإسلامية شكلاً ومضموناً؛ وإن جنح بعض رموز هذا التيار إلى القبول بتقنين هذه الأحكام على وفق المناهج التقليدية الإسلامية.

2 ـ التيار الذي قبل بالتوفيق بين أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الغربية؛ ولا سيّما في المجالات التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة؛ فضلاً عن الدعوة إلى إخضاع هذه العملية التوفيقية إلى مناهج التقنين الغربي.

3 ـ التيار الذي يدعو إلى تطبيق القوانين الغربية، وتنحية أحكام الشريعة الإسلامية جانباً، ورفض تقنينها؛ لأنّها فقدت صلاحيتها شكلاً ومضموناً.

وكان التيار الثاني يرى ـ بواقعيته ـ أنّ متطلبات العصر تستدعي خضوع الدولة والسلطة والمجتمع إلى مدوّنات عامة مشتركة واضحة؛ لتسهيل عملية تنظيم شؤون الحياة؛ بالنظر لصعوبة الاحتكام إلى المدوّنات الفقهية التراثية، وكثرة القراءات والاجتهادات، واللغة النخبوية العربية التي كتبت بها. وكان هذا التيار يعتقد أنّ من أهم عناصر إسقاط ذرائع المحتل أو النافذ الاجنبي لفرض قوانينه على البلاد المسلمة المحتلة أو الخاضعة لهيمنة الأجنبي؛ يكمن في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية وفق المناهج الغربية، وكذا القبول ببعض النظم القانونية الغربية التي لا ترفضها الشريعة؛ ولا سيّما في مجالات الحكم والإدارة. وهو ما كان يواجه بالرفض المطلق أحياناً والنسبي أُخرى من التيارين الأول والثاني.

مسار حركة التقنين في البلدان الإسلامية

نستعرض أدناه مسار حركة التقنين في بعض البلدان الإسلامية أو ذات الكثافة السكانية المسلمة:

1 ـ تركيا:

تبلورت حركة تقنين الشريعة الإسلامية في تركيا العثمانية في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وتوّجت الحركة بالعمل على إصدار «مجلة الأحكام العدلية» في العام 1868، والتي اعتمدت المذهب السني الحنفي مصدراً لقوانينها المدنية والتجارية وقوانين المرافعات، ومستندة إلى التقنيات الحديثة في عملية التقنين، والمقتبسة من أُوروبا؛ ولا سيّما من القانون الفرنسي. واكتملت جهود تحرير المجلة في العام 1876 بصدور (1851) مادة قانونية في مقدمة وستة عشر كتاباً([11]). ثم استمرت حركة تقنين الشريعة حتى العام 1917؛ إلّا أنّ كثيراً من القوانين كان ترجمة حرفية أو اقتباساً من القوانين الفرنسية([12])؛ بما لا يتعارض وأحكام المذهب الحنفي؛ كما كانت تقول المؤسسات الدينية والتشريعية في الدولة العثمانية.

ويمكن إجمال نتائج حركة التقنين في الدولة العثمانية في الفترة من العام 1839 وحتى العام 1917 بما يلي:

أ ـ القانون الجزائي العثماني في العام 1839/1840.

ب ـ القانون التجاري في العام 1850.

ت ـ قانون الأراضي في العام 1858.

ث ـ قانون أُصول المحاكمات التجارية في العام 1861.

ج ـ قانون التجارة البحرية في العام 1863.

ح ـ قانون التصرف بالأموال غير المنقولة في العام 1915.

خ ـ قانون حقوق الأُسرة في العام 1917.

وبالتدريج؛ استطاعت حركة التقنين في الدولة العثمانية استيعاب كثير من مجالات الحياة المدنية. وكان من أبرز ثمراتها التأسيس لمرافق سياسية وتشريعية وقضائية مدنية تتشبه بالمؤسسات الأُوروبية؛ كالمحاكم المدنية في مقابل المحاكم الشرعية، والتي يترأسها قضاة مدنيون وحقوقيون وليس فقهاء ورجال دين([13])، وكذلك مجلس النواب (مجلس مبعوثان) وغيرهما.

ويمكن القول بأنّ أهم مراحل حركة التقنين في تركيا العثمانية تمثلت بمرحلة السلطان سليمان القانوني، ومرحلة السلطان عبد العزيز خان، ومرحلة السلطان عبد الحميد الثاني، والمرحلة الانتقالية من السلطنة إلى الجمهورية. وكان السلطان عبد العزيز خان بن محمود الثاني قد أصدر في العام 1876 فرماناً (أمراً سلطانياً) بوجوب العمل بقوانين مجلة الأحكام العدلية؛ بصفتها القوانين المدنية المنتسبة إلى الفقه الحنفي.

وبالعودة إلى موضوع المحاكم المدنية، والتي عرفت حينها بـ (المحاكم النظامية)، وهو من الموضوعات المهمة التي أثارت جدلاً في الدولة العثمانية؛ فإنّ اختصاص هذه المحاكم شمل النظر في القضايا المدنية كافة؛ باستثناء قضايا الأحوال الشخصية. وقد كان هدف وضع قانون المحاكم المدنية (النظامية) تسهيل الأمر على القضاة والحقوقيين العاملين فيها؛ إذ ((كان من العسير عليهم مراجعة الكتب الفقهية؛ التقليدية الأُسلوب، واستخلاص الحكم الشرعي منها عند الحاجة إلى ذلك على نحو سليم. وكذلك قصد التقنين بطبيعة الحال إلى تحقيق الوحدة للتطبيق القانوني، وهو أمر له أهمية مقابل اختلافات الرأي الواسعة التي تضمّها الكتب الفقهية))([14]).

وقد واجه أتباع المذاهب الإسلامية الأُخر ـ غير المذهب الحنفي ـ من رعايا الدولة العثمانية مشاكل كثيرة؛ حين وجدوا أنفسهم مضطرون للاحتكام إلى أحكام الفقه الحنفي أو القوانين المدنية المترجمة عن القانون الفرنسي. وكان علماء الشيعة الإمامية سبّاقون في طرح الإشكاليات والملاحظات العلمية والفقهية على حركة التقنين في الدولة العثمانية؛ ولا سيّما في البلدان العربية المحتلة من العثمانيين، ومنها العراق. وكان المرجع الديني العراقي الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1876 ـ 1954) ممن كتب تفصيلاً في هذا المجال، وقد جمع إشكالياته وملاحظاته في كتاب «تحرير المجلة»، والذي ذكر فيه مقارنات فقهية بين القوانين المدوّنة في «مجلة الاحكام العدلية» العثمانية وأحكام فقه الإمامية([15]).

2 ـ إيران:

لم تكن حركة التقنين في إيران القاجارية تختلف في مساراتها الزمانية والفكرية والتقنية عن نظيرتها في تركيا العثمانية؛ باستثناء موضوع المذهب؛ فقد كان مصدر التقنين في تركيا العثمانية هو الفقه السني الحنفي؛ بينما استندت القوانين القاجارية إلى الفقه الإمامي الشيعي. وكانت مرحلة حكم ناصر الدين شاه (1831 ـ 1896) هي المرحلة الأساس التي شهدت دعوات التقنين، وكان كثير منها يستند إلى محاولات التخلص من الحكم الاستبدادي المطلق. وتوّجت هذه الدعوات باندلاع ثورة المشروطة في العام 1905، والتي انتهت إلى حصر معظم التشريعات
والقوانين بمجلس الشورى الوطني (مجلس شوراي ملي)، وصدور أول دستور دائم للبلاد.

وعلى الرغم من وجود كوابح فقهية داخل مجلس الشورى ممثلة بلجنة من خمسة فقهاء يحولون دون صدور تشريعات وقوانين تتعارض مع أحكام الفقه الإسلامي؛ إلّا أنّ التحولات السياسية وتدخل حكومة الشاه محمد علي القاجاري، ثم قيام الحكومة بقصف مجلس الشورى بالمدفعية، وأعقبه تعطيل الدستور؛ كان يؤدي إلى مسارات مختلفة، وإلى صدور قوانين مقتبسة أو مترجمة من القوانين الغربية، ولا سيّما القانون الفرنسي، ومنها:

أ ـ قانون أُصول النظام العدلي في العام 1909.

ب ـ قانون أُصول المحاكمات الحقوقية (المدنية) في العام 1909.

ت ـ قانون أُصول المحاكمات الجزائية في العام 1910.

ث ـ قانون الجزاء العرفي في العام 1915.

ج ـ قانون التجارة في العام 1923.

ح ـ قانون العقوبات العام في العام 1924([16]).

ويذكر الباحث الإيراني علي باشا صالح في كتابه «تاريخ القانون» الإشكالات الفقهية والتقنية التي رافقت تقنين أول قانون مدني في مجلس الشورى الوطني الإيراني في العام 1927؛ أي خلال حكم الشاه رضا بهلوي: ((تم تشكيل لجنة من الخبراء وعلماء الدين في وزارة العدل، وهي استمرار للجان كثيرة تشكلت في العهود السابقة، وانتهت اللجنة إلى إقرار الجزء الأول من القانون المدني الذي يضم 955 مادة في مجلس الشورى في العام 1927. ثم تمت المصادقة على الجزء الثاني والثالث المؤلفين من 380 مادة قانونية حتى العام 1934. وكان مصدر القانون المدني بصورته المذكورة هذه؛ هو الفقه الإسلامي؛ بصرف النظر عن وجود جزء من القوانين الأُوروبية. وقد كان الخبراء الذين وضعوا القانون قد استندوا إلى المدوّنات الفقهية المكتوبة باللغة العربية؛ مثل «شرائع الإسلام» للمحقق الحلي، و«اللمعة الدمشقية» وشرحها للشيخين العامليين، و«المكاسب» للشيخ مرتضى الأنصاري، وترجموا الآراء المشهورة للفقهاء إلى اللغة الفارسية، وأخضعوها للتبويب الموضوعي، واعتمدوا على الباحثين القانونيين ممن يتقنون اللغة الفرنسية؛ في الرجوع إلى القوانين المدنية الحديثة؛ ولا سيّما الفرنسية والبلجيكية والسويسرية. وقد طرح هذا الموضوع وزير العدل في جلسة مجلس الشورى بكل وضوح؛ حين قال بأننا استندنا في تدوين قانون حقوق الزوجين وحقوق الأُسرة والأحوال الشخصية إلى القوانين الأجنبية؛ وخاصة القانون السويسري الموسع))([17]).

وبذلك، يُعدّ القانون المدني في إيران؛ أول تجربة لتقنين الفقه في الوسط الشيعي؛ فقد كان واضعوه على دراية كاملة بأحكام الفقه الإمامي الشيعي، مع الأخذ بالاعتبار متطلبات الزمان، وعملوا على تحويل أحكام الفقه الشيعي في مجال المعاملات والعقود والمال والوصية والإرث والنكاح والطلاق والنسب وأدلة إثبات الدعوى؛ إلى مواد قانونية مدوّنة؛ يمكن للمحاكم الاستناد إليها. وبالمقارنة مع القوانين التركية المدوّنة في «مجلة الأحكام العدلية»؛ فإنّ القانون المدني الإيراني كان أكثر قوة وتكاملاً. ويُرجع الباحث الإيراني شفيعي سروستاني ذلك إلى قوة الفقه الشيعي الإمامي وغناه بالمقارنة بالفقه الحنفي([18]).

وفي الوقت نفسه؛ ظل كثير من الفقهاء الشيعة يعارضون هذا اللون من التقنين؛ سواء ما يتعلق بالتقنين الدستوري أو التقنين العادي. وكان معظم هؤلاء الفقهاء يستند إلى الأدلة المعارضة التي كان يسوقها الشيخ فضل الله النوري خلال ثورة المشروطة([19]). فقد ذكر الشيخ النوري في كتابه «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل» ما نصه: ((إنّ جعل القانون (التقنين) كلّاً أم بعضاً؛ يتنافى مع الإسلام. والله لم أكن أتصور أنّ أحداً يصادق على جعل القانون، وأن يختار للدولة قانوناً غير القانون الالهي، ويرى أنّ متطلبات العصر تغير بعض مواد القانون الإلهي؛ برغم أنّه يعتقد بختم النبوة وكمال دين محمد(ص).))([20]).

وظلت مرحلة الشاهنشاهية البهلوية مطبوعة بطابع قوانين المشروطة وما شهدته بعدها من تحولات ابتعد فيها التقنين تدريجياً عن مصادره الفقهية الشيعية، واقترب من القوانين الوضعية بمضامينها المدنية ومقاييسها الغربية. وبتأسيس الجمهورية الإسلامية في العام 1979؛ بدأت ثورة التقنين التأصيلي؛ بصيغ لم يسبق لها مثيل في العصور الإسلامية السابقة؛ ولا سيّما بعد أن وضع دستور الجمهورية الإسلامية ضابطة تشريعية ملزِمة حددتها المادة الرابعة من الدستور، والتي نصت على أن تكون جميع قوانين الدولة على أساس المعايير الإسلامية([21]). وقَرَنَ الدستور هذه الضابطة بآلية تنفيذية ممثلة بمجلس صيانة الدستور؛ الذي يضم في عضويته ستة فقهاء يدققون في تشريعات مجلس الشورى، ومدى تطابقها شكلاً ومضموناً مع معايير الفقه الإسلامي وروح الشريعة([22]).

وبذلك أخذت التشريعات الإسلامية تحل محل التشريعات الوضعية الموروثة؛ فضلاً عن ملء التشريعات الجديدة لجميع مناطق الفراغ في المنظومة القانونية للدولة. ويرى الباحث الإيراني المعارض أصغر شيرازي بأنّ الفقه الشيعي كان ينبغي منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية أن يتحول من قانون فقهاء إلى قانون دولة، وأنّ استنباط الأحكام بصفته المهمة العلمية لفقهاء الشريعة؛ لا بد أن يحل التقنين محله، ويكون ذلك مترافقاً مع ضرورة توسيع الفقه الشيعي ليغطي جميع فروع القانون، ولتنفذ أحكامه المتوقفة منذ أكثر من ألف عام. ومن ناحية الآليات؛ كان لزاماً وضع آليات حديثة لفرض القانون والأحكام القضائية الموروثة؛ وإن كانت شبيهة بآليات النظم القانونية المدنية الغربية. ولذلك فإنّ ما جرى حتى الآن هو سماح المثالية الأخلاقية للفقه الشيعي بفسح المجال؛ ولو جزئياً؛ للواقعية العملية، وتخلية الطريق أمام نظام محاكم رسمية معقلنة وبيروقراطية، وتنحي الشخصانية غير الرسمية غالباً لمصلحة نظمٍ أكثر كفاءة وبعيدة عن الشخصانية، وتستند إلى مدوّنات قانونية موحدة لا تقبل التأويل. ويمكن النظر إلى التحولات في المنظومة القانونية الإسلامية المطبقة في إيران منذ العام 1979؛ للوقوف على حقيقة التأصيل الفقهي إلى جانب الطابع الإصلاحي الواضح الذي يُعدّ من مستلزمات الحكم الحديث([23]).

وقد حفّز هذا الإنجاز الذي يعبِّر عن حاجات الدولة الإسلامية العصرية؛ حفّز الفقهاء لمزيد من الانفتاح على الأبواب الجديدة، والإنتاج الفقهي في الحوزات العلمية في مختلف مجالات الحياة؛ بما يسد حاجة الدولة ومجتمعها ومواطنيها؛ ثم ليتحول هذا النتاج بفعل حركة التقنين ومؤسساتها؛ إلى قوانين رسمية مدوّنة موحّدة ملزِمة للجميع.

3 ـ مصر:

ظلت مصر ـ الدولة العربية الأكبر والأهم ـ مستلبةً سياسياً وفكرياً قرون طويلة؛ بسبب سياسة الهيمنة العثمانية من جانب، وحكم المماليك الأجانب من جانب آخر، كما كانت الأكثر تأثراً بالحراك السياسي النهضوي الأُوروبي وما رافقه من دعوات ومحاولات لبناء الدولة الحديثة ونظمها القانونية. ويعود هذا التأثر إلى مخلفات الاحتلال الفرنسي المبكر بقيادة “نابليون بونابرت” في العام 1798 ثم حكم محمد علي باشا (1805ـ 1848)؛ وهو أُوروبي من ألبانيا العثمانية. وكان العامل الثالث هو البعثات التعليمية المصرية إلى فرنسا.

وتمخض التأثر المصري بحركة التقنين في أُوروبا؛ عن ولادة أول منظومة تقنين مدنية في العام 1875، وتمثلت بقانون الأحوال الشخصية والمواريث، ثم صدور القوانين الجنائية والتجارية والبحرية. وأسست الدولة المصرية محاكم نظامية (رسمية) في مقابل المحاكم الشرعية؛ لتطبيق تلك القوانين. وكان القانون المدني المصري الأكثر تمثّلاً بالقانون الفرنسي وترجمة له. إلّا أنّ الاحتلال البريطاني قرّب مصر والسودان من القانون الإنجليزي ومنظومته القضائية؛ ولا سيّما بعد فشل ثورة أحمد عرابي في العام 1881.

وكما حدث في البلدين المسلمين المستقلين: تركيا وإيران؛ فإنّ مصر المحتلة شهدت أيضاً معارضة كبيرة لحركة التقنين بصيغتها الغربية؛ الأمر الذي اضطر اللجان التي تضع القوانين برئاسة الفقيه القانوني المصري الدكتور عبد الرزاق السنهوري (1895 ـ 1971) إلى الاستجابة للأصوات المعارضة، وعملت على التوفيق جزئياً بين القوانين الوضعية وأحكام الفقه الإسلامي.

ويذهب المستشرق الإنجليزي “هانز كولسون” بأنّ الدكتور عبد الرزاق السنهوري بلور عملية تقنين أحكام الشريعة الإسلامية بالتزامن مع الأخذ بالقوانين الأُوروبية، وحاول التوفيق بين الموروث الفقهي والقوانين المصرية الصادرة في العامين 1875 و1883، والتي كان ثلاثة أرباعها مترجماً عن القانون الفرنسي([24]). وفي هذا الصدد يقول السنهوري نفسه بأنّ من الوهم البحث عن الشريعة الإسلامية في ((بطون كتب الفقهاء؛ مع أنّ تقنينها أمر ليس بالصعب، بل هو قد تم بالفعل، وقد قام به الأتراك رسمياً في مجلتهم المشهورة «مجلة الاحكام العدلية»، كما قام به فذ من المصريين هو المرحوم محمد قدري باشا؛ فوضع كتباً قيمة يقنن فيها أحكام الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية وفي المعاملات وفي العقود. فلتقنين الشريعة ـ إذاً ـ سوابق معروفة. ولا نذهب بعيداً؛ فإنّ المشرّع المصري قد قنن بالفعل بعض أحكامها في شكل تشريعات خاصة))([25]).

ورأى السنهوري بأنّ النقل الذي قام به واضعو القوانين المصرية القديمة (خلال القرن التاسع عشر الميلادي) عن القانون الفرنسي؛ كان تجسيداً للاستعمار العسكري والتبعية الفكرية. بينما اعتمد القانون المدني الذي وضعه هو في ثلاثينات القرن العشرين الميلادي؛ على الشريعة الإسلامية أكثر من قبل؛ تعبيراً عن الاستقلال السياسي الذي يقتضي الاستقلال الفقهي والقانوني. ويؤكد الدكتور عبد الرزاق السنهوري بأنّ الاستقاء من نبع الشريعة الإسلامية ليس مبعثه ـ أيضاً ـ الاعتبارات العلمية النابعة من رقي الشريعة الإسلامية وتقدمها على ما سواها من المنظومات القانونية؛ وإنّما اعتماد قانوننا المدني الجديد على الشريعة الإسلامية فيه تحقيق لاستقلالنا الفقهي؛ الذي هو شرط لتحقيق جوهر وحقيقة استقلالنا السياسي. وكيف أنّ الشريعة الإسلامية ـ وتلك خصوصية أُمتنا التي تجلّت عبقرية فقهائنا في وضع فقه معاملاتنا ـ هي الصناعة الوطنية، والبضاعة القومية، والإسهام الحضاري الإسلامي؛ الذي نستطيع أن نسهم به في نهضة وتقدم رقي الفقه العالمي([26]).

4 ـ الجزائر:

كانت عملية التقنين في الجزائر انعكاساً للواقع الذي خلقه الاحتلال الفرنسي. وقد بادرت سلطة الاحتلال إلى تشكيل لجنة من الفقهاء المسلمين والحقوقيين لتقنين أحكام الفقهين الحنفي والمالكي في موضوعات الأحوال الشخصية والمواثيق وجزء يسير من العقود والعقوبات. وقد انجزت اللجنة مهامها في العام 1889. وجاء في نظام اللجنة بأنّ عملها ليس تجديداً للفقه، أو اجتهاداً جديداً؛ وإنّما مجرد تقنين الفقه القديم؛ وإن كان ذلك يستتبع الإختبار في حالة اختلاف آراء الفقهاء بما يتناسب والحالة الاجتماعية والمصالح الاقتصادية للمواطن، وبما يتفق مع الأخلاق والعدالة. وقد أعطى هذه الضوابط المرنة للجنة الحرية في تفضيل بعض آراء المذهب الحنفي على المذهب المالكي، وبعض آراء فقهاء المالكية على فقهاء مالكيين آخرين([27]).

5 ـ شبه القارة الهندية:

في مرحلة الاحتلال البريطاني، حاول المحتل تقريب شعب شبه القارة الهندية إلى النظم السياسية والقانونية الإنجليزية، فأصدرت المحاكم الإنجليزية التابعة لسلطات الاحتلال؛ في أعقاب الثورة الهندية ضد الاحتلال في العام 1875؛ ما عُرف بـ «القانون الإنجلو ـ إسلامي» أو ما ترجمته «القانون الإنجلو ـ محمدي» (anglo mohammadan law)، وهي عبارة عن تشريعات تجمع بين أحكام الفقه الإسلامي الموروث وقواعد القانون البريطاني. وقد فرضت سلطات الاحتلال هذا القانون على المسلمين بالقوة في جميع المناطق التي تحتلها؛ بينما بقي المسلمون في المناطق الهندية ـ التي لم تكن بريطانيا قد احتلتها بعد ـ يرجعون لأحكام الفقه الإسلامي الموروثة، ويحتكمون إلى المحاكم الشرعية وعلماء الدين. وفي المقابل أسست سلطة الاحتلال محاكم إنجليزية تطبق على المسلمين القانون الإنجلو ـ إسلامي، وهي تابعة مباشرة لسلطة المجلس السامي (the privy council)، وهي سلطة الاحتلال الإنجليزي الرسمية.

وعدّ “كولسون” القانون الإنجلو ـ إسلامي بأنّه صورة فريدة للقانون الإسلامي؛ لا تتميز عنه فحسب ـ من الناحية الشكلية ـ من حيث إنّه نظام قانوني قام في أساسه على السوابق القضائية، واعتمد في تطبيقه على نسق هرمي من المحاكم التي تلتزم بتلك السوابق، بل يتميز من الناحية الموضوعية أيضاً من حيث إنّه تأثر إلى حد كبير بالقانون الإنجليزي، ولا سيّما فيما يتصل بمراعاة العدالة، وذلك على نحو عفوي يشبه تأثر التشريع الإسلامي بالقانون الروماني في بداية نشأته([28]). ويقصد “كولسون” بهذا التأثر عملية التشريع وتنظيم الدواوين في عهد السلطتين الأُموية والعباسية، والتي تشبّه فيها الأُمويون بالنظم الرومانية، فيما تشبّه العباسيون بالنظم الفارسية.

إشكاليات التقنين في البلدان الإسلامية

خلقت حركة التقنين في البلدان الإسلامية منذ بدايتها خلال القرن التاسع عشر الميلادي؛ إشكاليات وجداليات متشابهة تقريباً؛ لأنّها في الأعم الأغلب لم تكن فعلاً تأصيلاً محلياً مستجيباً لمتطلبات العصر، بل ردّ فعلٍ على ضغوطات حركة التقنين وخلفياتها في أُوروبا، وتشبّهاً بها، أو خضوعاً لضغوطات سلطات الاحتلال، ولا سيّما الاحتلالين الإنجليزي والفرنسي، والتي كانت تهدف إلى توحيد النظام القانوني والمسار التشريعي في البلدان الخاضعة لاحتلالها؛ ليسهل السيطرة عليها وحكمها بقوة القانون والتشريع، إلى جانب قوة السلاح والإمساك بالأرض.

واشتملت الإشكاليات التي رافقت حركة التقنين في البلدان الإسلامية على ما يلي:

1 ـ الجوانب الشرعية (الفقهية).

2 ـ القانونية (الموضوعية).

3 ـ التقنية (الفنية ـ المادية).

4 ـ السياسية (سلطة المحتل).

5 ـ الفكرية (نتاج الغزو الثقافي).

6 ـ النفسية (صورة المحتل الأجنبي).

ولعلّ الإشكاليات في الجانب الفني التقنيني هي أقل شأناً؛ قياساً بالإشكاليات الأُخر؛ لأنّ تقنيات التقنين يمكن وصفها بالمشترك العام أو الآليات المحايدة التي يمكن الاستفادة منها؛ بصرف النظر عن الدين والمذهب والمدرسة الفكرية والمذهب السياسي.

أمّا الإشكاليات النفسية التي زرعتها سلطة المحتل وصورة الأجنبي المتفوق المغرور في العقل الباطن للنخب الوطنية المسلمة المتدينة، فضلاً عن علماء الدين، فقد خلقت حواجز صلبة أمام الاستفادة الموضوعية المحايدة المناسبة من تقنيات ومناهج التقنين الغربية. وكانت انعكاسات الغزو الفكري وإشكالياته الثقافية على مجتمعات المسلمين؛ تعزز الحواجز النفسية بقوة من جانب، وتجعل شرائح أُخر من المثقفين المسلمين ورجال السياسة المحليين تتشبه بالغرب ونظمه وأفكاره وقوانينه دون أية كوابح دينية ووطنية. وبذلك خلق الحاجز النفسي تياراً محلياً ممانعاً غير موضوعي، ويعدّ التشبه بالغرب حتى في المجالات الفنية المحايدة غير جائزٍ شرعاً وعرفاً([29]). بينما خلق الغزو الثقافي تياراً محلياً منسحقاً عميلاً فكرياً. بيد أنّ كلا التيارين المتعارضين لم يخدما الواقع الإسلامي المتراجع على كل الصعد.

وعلى مستوى الإشكاليات القانونية الموضوعية؛ فإنّ المسلمين تفاجؤوا بنوعية النظم القانونية الغربية، وحجم الآثار الإيجابية لصياغاتها المادية وتنظيمها الفني على واقع الدولة والمجتمع؛ كما اكتشفوا حجم تخلفهم التقني والموضوعي. فبرغم ثراء الفقه الإسلامي وشموله واستيعابه لمعظم مجالات الحياة، ومرونته؛ إلّا أنّ هذا الثراء كان مدفوناً في موسوعات ومدوّنات فقهية مورّثة؛ عظيمةً كماً ونوعاً، ولا يوجد مثيلٌ لها في كل الأديان والمذاهب والمدارس الفكرية إطلاقاً. وكانت هذه المدوّنات بحاجة إلى جهود كبيرة لتتحول إلى أحكام تراكمية موحدة وشبه ثابتة، ولا تخضع لاجتهادات متعددة، ومنظمةً تنظيماً موضوعياً في مدوّنات مبوبة، ولتمثل عقداً اجتماعياً ملزماً للمواطن والمجتمع والدولة، ويضم آليات تطبيق مؤسسية عامة. وواحدة من هذه المؤسسات هي المؤسسة أو السلطة التي تقوم بعملية تقنين الأحكام الشرعية.

وكل هذا لم يكن موجوداً في البلدان الإسلامية، بل وفي حواضرها العلمية الدينية؛ كالزيتونة والأزهر واسطنبول والنجف الأشرف وقم. ولذلك كان المد الفكري والقانوني الأُوروبي يستغل هذا الفراغ الكبير في الواقع الإسلامي ليكرس هيمنته على معظم الصعد، وأخطرها الصعيد التشريعي والفكري.

وكما مرّ، فإنّ أيّ بلد إسلامي لم يكن بمعزل عن هذه الإشكاليات ولم يعايشها بتفاصيلها؛ بما في ذلك البلدان الإسلاميان المستقلان والممتدان جغرافياً وفكرياً: تركيا وإيران؛ واللذان انقلبا على الشريعة الإسلامية فيما بعد، واقتبسا المنظومات القانونية الغربية؛ بأشكالها ومضامينها وموضوعاتها؛ بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية؛ وهو ما حصل بعد تأسيس الجمهورية في تركيا في العام 1923، واستيلاء رضا بهلوي على السلطة في إيران في العام 1926.

إلّا أنّ التحول المصيري في حركة تقنين الشريعة على مستوى الواقع الإسلامي برمته؛ بالمضمون الذي حافظ على أصالة الحكم الشرعي، وموضوعية المقصد الشرعي للقانون، وتصالح فيه مع القانون الحديث، واستخدم أحدث مناهج التقنين، والتصق بروح العصر ومتطلباته؛ هو التحول الذي حدث في إيران بعد العام 1979، والذي أغلق باب التماهي اللا موضوعي مع القوانين الغربية وباب الممانعة اللا موضوعية تجاه التقنيات البشرية والمناهج والمعايير العامة المشتركة في تنظيم سلطات التقنين والتشريع والقضاء وإدارة الدولة وما يصدر عنها.

وذهبت آراء بعض المفكرين الإسلامين المصريين إلى عدم جدوى عملية تقنين الشريعة الإسلامية في حال عدم وجود مجتمع مسلم؛ لأنّ قيام المجتمع الإسلامي يجب أن يسبق وضع القوانين الإسلامية أو تطوير الفقه([30]). وظل هذا الرأي المهم الذي تبنته قطاعات واسعة من الجماعات الإسلامية؛ كالإخوان المسلمين؛ محور خلاف أساس بين التيار الإسلامي السلفي والتيار الإسلامي التنويري.

والحقيقة أنّ هذه الجدلية تستلزم الدور؛ فمن الذي يسبق الآخر في الوجود؛ المجتمع الإسلامي أو القانون الإسلامي؟ كما أنّها تحمل تعارضاً في داخلها؛ فالمجتمع الإسلامي المعاصر لا بدّ أن يقوم على أُسس واضحة ومقبولة بالدرجة ذاتها لدى جميع مكونات المجتمع، ومن أهم هذه الأُسس والمقومات هو القانون؛ إذ إنّ أحكام الشريعة الإسلامية بصيغتها القانونية العصرية المدوّنة الملزمة للجميع هي مقوم أساس لإنشاء المجتمع الإسلامي.

وقد تنبهت جماعات إسلامية أُخر وعدد كبير من الفقهاء إلى هذه الإشكالية، وبادروا إلى وضع منظومات شرعية شبه قانونية كممهّد لإقامة الحكم الإسلامي، والذي من شأنه توفير مقومات بناء المجتمع الإسلامي وتطبيق القانون الشرعي. وكان حزب التحرير ممن بادر إلى هذا السبق؛ من خلال مؤلفات الشيخ محمد تقي النبهاني وغيره من قيادات الحزب؛ كـ «الخلافة» و«الدستور الإسلامي».

وكذلك كانت مبادرة حزب الدعوة الإسلامية من خلال (أُسسه) الشرعية شبه القانونية التي كتبها فقيهه السيد محمد باقر الصدر([31])، وكذلك كثير من المؤلفات التي دوّنها مفكرو الحزب. كما مهّد الإمام الخميني لقيام المجتمع الإسلامي بالتنظير للحكومة الإسلامية([32]). وبالتالي بقيت فكرة قيام المجتمع الإسلامي الذي يسبق تدوين القوانين الإسلامية مجرد رأي نظري لا يصمد أمام الواقع ومتطلباته.

التقنين الدستوري في البلدان الإسلامية

لا تنفصل حركة الدسترة ونشوء ظاهرة الدستور في البلدان الإسلامية عن الحركة الإصلاحية والتجديدية والتحررية الإسلامية والوطنية التي اجتاحت معظم البلدان الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأُولى من القرن العشرين الميلاديين. فكانت حركة الدسترة جزءاً من الحركة العامة للشعوب المسلمة التواقة للخلاص من الاستبداد السياسي، والتخلف العلمي والفكري، والجمود الديني، والاحتلال الأجنبي، والتبعية للغرب. وكانت عناصر الحل التي تتفاعل هذه الحركة في إطارها سيفاً ذا حدين؛ فهي من جهة تعمل على التخلص من الاستبداد والتخلف والهيمنة الأجنبية والاحتلال؛ ولكنها تجد نفسها تتماهى ـ أحيانا ـ مع المستبد الأجنبي أو المحتل في أفكاره وأدواته.

وكما كان (التقنين) الحديث في البلدان الإسلامية متأثراً بالغرب؛ فإنّ (الدسترة) أو إنشاء الدساتير كان أيضاً متأثراً به، بل متشبهاً في الشكل والمضمون بالدساتير الغربية، وبمستويات من التأثر أعلى من التقنين؛ لأنّ التقنين كثيراً ما كان يراعي في مضامينه جانب أحكام الشريعة الإسلامية؛ بينما كانت دساتير البلدان الإسلامية علمانيةً ـ غالباً ـ إلّا من بعض المواد الشكلية. وكانت هناك أربعة بلدان سبّاقة في وضع دساتير لها: تونس في العام 1861، وتركيا العثمانية في العام 1876، ومصر الخديوية في العام 1882، وإيران القاجارية في العام 1907. وسبق ذلك صدور ما عُرف في تركيا بـ «التنظيمات العثمانية» في العام 1839، ثم حركة الإصلاحات في السلطة في العام 1856. وفي إيران القاجارية تأسست أول حكومة قانونية بالمعنى الحديث بفرمان سلطاني، وذلك في العام 1858، وهي تتضمن ملامح دستورية عامة.

وظل الدستور في معظم البلدان الإسلامية يسمى بـ (القانون الأساسي)؛ تبعاً لتسميته في الدولة العثمانية والدولة الإيرانية المهيمنتين ثقافياً وسياسياً ـ آنذاك ـ على معظم البلدان الإسلامية. ثم سماه المصريون خلال القرن العشرين الماضي بـ «القانون النظامي»، بينما صدر في تونس باسم «قانون الدولة». وحين استبدلت البلدان العربية مصطلح (القانون الإساسي) العربي بتسمية (الدستور) الفارسية؛ فإنّ كثيراً من البلدان الإسلامية غير العربية بقيت تستخدم اصطلاح (القانون الأساسي) العربية، وفي المقدمة إيران وتركيا.

وكان التأثر بالدساتير الغربية ليس مجرد تفاعل تلقائي وطبيعي، بل تشبّهاً قسرياً غير موضوعي بدساتير المتفوق والمحتل، والتي أفرزتها مخاضات فكرية وسياسية واجتماعية تختلف في مضامينها عن مناخات البلدان الإسلامية؛ فأصبحت هذه البلدان علمانيةً في دستورها، وإسلامية في بنيتها السياسية الاجتماعية؛ ما يعني فصاماً بنيوياً في أساس الدولة الجديدة.

وإذا كان التأثر يتم ـ غالباً ـ بدافع عقدة التخلف، والتي يخلقها ـ عند بعض النخب المحلية ـ الانبهار بالتطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والمجتمعي للغرب، وتفوقه السياسي والعسكري؛ فإنّ دافعاً آخر كان يلح على نخب أُخر؛ يتمثل في التخلص من الاستبداد السياسي والاحتلال الأجنبي؛ فقد كانت الدولتان المسلمتان المستقلتان العثمانية والإيرانية محكومتين بسلطتين وراثيتين مستبدتين مطلقتين، وكانتا مطبوعتين بسمات التخلف والتبعية وعدم الاستقرار الداخلي. أمّا البلدان المسلمة الأُخر؛ فكانت تعاني من واقع أكثر سوءاً؛ لأنّها كانت محتلة احتلالاً مباشراً من الدولة العثمانية نفسها أو من الدول الأُوروبية الكبرى؛ مما يجعل من سمات التخلف والتبعية وعدم الاستقرار سمات مركبة وأكثر عمقاً من الدولتين التركية والإيرانية.

1 ـ التجربة التركية:

بدأت تجربة تركيا العثمانية مع التقنين الدستوري في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي؛ ففي العام 1808 صادق السلطان محمود الثاني على ما عُرف بـ «سند إتفاق»، وهو ميثاق وطني بين الحكومة وأعيان البلاد؛ يتألف من مدخل وسبعة مواد وملحق. وقد تم التوقيع عليه في اجتماع لأعيان البلاد (مشورتي عامه). وجاء في أول مادة من الميثاق: ((يقبل مُبرِموا الاتفاق أنّ يكون السلطان رئيس الدولة، وأن يحافظ الجند على خزينة الدولة ومدخولها بعد بناء الدولة عسكرياً، وأن ينفذوا كل أمر يصدر من الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) على أنّه أمر صادر من السلطان، ولا يعترضوا عليه، وإذا حدثت فتنة أو فساد في العاصمة يأتوا إليها دون استدعاء، ويُغِيروا علي المتمردين))([33]). ويُعدّ ميثاق 1808 أول صيغة دستورية عثمانية رسمية مدوّنة تحدد طبيعة المسؤوليات في الدولة؛ ولا سيّما القوات المسلحة والحكومة، وتقيد صلاحيات السلطان العثماني.

وبعد تولي عبد الحميد الثاني السلطنة خلفاً لمحمود الثاني؛ أصدر في العام 1839 ما عُرف بـ «فرمان تنظيمات»، وهو أمر سلطاني نصّ على إصدار قوانين جديدة لإدارة الدولة بشكل جيد. وتضمن الفرمان أُصولاً دستورية وقانونية تتعلق بفرض الضريبة على كل فرد وفق وضعه المالي، ولا يُتبع نظام الالتزام، وشرعية نفقات الدولة، وعدم جواز معاقبة أي شخص إلّا بعد محاكمته، وتخويل المحاكمَ سلطة الجزاء العرفي، وعدم المساس بعرض وكرامة أي شخص، وحق الملكية لكل إنسان، ومنع مصادرة الإرث من الشخص صاحب الإرث إذا ارتكب جرماً، والمساواة بين أفراد الشعب في الحقوق دون تمييز ديني، وتفعيل القوانين بعد أن يُعدها مجلس الأحكام العدلية، وبعد مصادقة السلطان عليها، والتزام السلطان وعلماء الدين والوزراء بالقوانين. وقد ساعد «فرمان تنظيمات» في ظهورِ تيار دستوري أوجده جماعة من العلمانيين المتأثرين بالتطورات الدستورية الغربية؛ أطلقوا على أنفسهم (الشباب العثمانيين).

وفي عهد السلطان عبد المجيد أعلنت الدولة العثمانية عن «فرمان إصلاحات» في العام 1856؛ المؤلف من (56) مادة، والذي دوّنته لجنة مشتركة مؤلفة من مندوبي الدولة العثمانية وانجلترا وفرنسا والنمسا، وهي دول (اتفاق باريس). وبموجبه اشترطت إنجلترا وفرنسا والنمسا على الدولة العثمانية إصدار ميثاق قانوني وتطبيقه داخل جميع ولايات الدولة العثمانية؛ مقابل مساندتها في (حرب القرم) ضد روسيا. ونص الفرمان على المساواة بين رعايا الدولة العثمانية بصرف النظر عن الدين: ((لا يجوز تمييز طبقة من الطبقات الحاكِمة على طبقة أُخرى بسبب الدين،أو اللغة، أو الجنسية))، والمساواة في الامتيازات بين الأديان، وحرية العبادة وإيجاد أماكن العبادة للأديان والمستشفيات ومراكز التبشير، وعدم التدخل في أموال رهبان المسيحيين، واعتبارهم ضمن موظفي الدولة، والحد من سلطات رجال الدين الإسلامي بما يناسب العصر، وإلغاء شرط الإسلام من شروط التوظيف في الدولة.

هذه الصيغة الميثاقية الدستورية؛ كانت البوابة الكبرى التي دخلت منها القوى الأُوروبية إلى الداخل العثماني؛ لخلخلته وإسقاطه تدريجياً، وسمحت للأقليات الدينية المسيحية واليهودية بالتنسيق علانية مع الدول الأُوروبية، واستلام الدعم المالي والمعنوي منها، والنفوذ في مرافق الدولة؛ ولا سيّما القوات المسلحة.

وقد مهّد «فرمان إصلاحات» لإنشاء أول دستور للدولة العثمانية، وذلك في العام 1876 في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وسمي «قانون أساسي دولت عليه عثماني»، ويتألف من (119) مادة و(12) قسماً، واستمر العمل به حتى العام 1921. وهو نسخة معدّلة عن دستور بلجيكا للعام 1831 ودستور بروسيا (ألمانيا) للعام 1851. وقد أعدّت الدستور لجنة برئاسة رئيس الوزراء ـ فيما بعد ـ مدحت باشا، ومؤلفة من عشرين خبيراً من علماء الدين والعسكريين والموظفين؛ بينهم ثلاثة مسيحيين. وبعد إقرار مُسوَّدة الدستور من هيئة الوكلاء؛ صادق عليها السلطان. ورفع الدستور شعار الحرية والأُخوّة والمساواة والعدالة، ونص على مجموعة من الأُصول؛ أهمها: أنّ السلطنة هي ثابتة للولد الأكبر من سلالة آل عثمان، وأن السلطان يتمتع بحصانة مقدسة، ويطلق اسم (عثمانلي) (عثماني) على أفراد التبعة العثمانية كافة؛ أي الرعايا في جميع البلدان المحتلة من قبل تركيا العثمانية؛ من أي دين ومذهب كانوا، وأن العثمانيين بأجمعهم يملكون حريتهم الشخصية ولا يعتدون على حقوق وحريات الآخرين، وهم متساوون أمام القانون في الحقوق والوظائف، وأن دين الدولة العثمانية هو الإسلام؛ مع كفالة حرية جميع الأديان المعروفة في الممالك، وأن اللغة التركية هي لغة الدولة، ويشترط إجادتها في وظائف الدولة، وأن السلطة التشريعية تتألف من هيئتين: (مجلس الأعيان)(الشيوخ) الذي يعين السلطان أعضاءه، و(مجلس مبعوثان) (النواب) الذي ينتخبه رعايا الدولة في كل البلدان.

وقد تعرض القانون الأساسي (دستور العام 1876) للتعديل خمس مرات، كما عطّل السلطان عبد الحميد العمل به في العام 1888، وأغلق مجلس النواب، وألغى الحقوق والحريات، وشدد الرقابة على الصحف. وجراء ذلك بادر عدد من النشطاء السياسيين والثقافيين العلمانيين إلى تأسيس جمعية سرية أسموها (اتحادي عثمانلي) (الاتحاد العثماني). وبعد اتساع نشاطاتها وتزايد أعضائها؛ تغيّر اسمها في العام 1895 إلى (جمعيتي اتحاد وترقي) (جمعية الاتحاد والترقي). وأعلنت الجمعية العصيان العام في سنة 1907، وهددت بالقيام بأعمال تزعزع كيان الدولة؛ بهدف إعادة العمل بالدستور (إعادة إعلان الشرعية)؛ الأمر الذي اضطر السلطان عبد الحميد الثاني إلى إعادة العمل بالدستور في العام 1908؛ بكل ما يتضمنه من مؤسسات وحقوق وحريات.

وبعد انهيار الدولة العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأُولى، ووقوع البلدان التي كانت تحتلها تحت احتلال جديد (بريطاني ـ فرنسي)؛ عادت الدولة التركية إلى حدودها شبه الأصلية، وتحوّلت من دولة ثيوقراطية عابرة للحدود والقوميات تحكم باسم الدين إلى دولة قومية علمانية؛ واقعية في حدودها وطموحاتها. وأصبح دعاة جمعية الاتحاد والترقي؛ ولا سيّما كبار ضباط الجيش منهم؛ هم الحكّام الحقيقيين في الدولة، وتحوّل السلطان العثماني إلى مجرد رمزٍ للدولة. وهو ما أقره دستور دولة تركيا الجديد الذي صدر في العام 1921، والمؤلف من (23) مادة (دستور مختصر)، وقد دونته الحكومة العسكرية برئاسة الجنرال مصطفى كمال (اتاتورك)، وأقره مجلس الشعب التركي. ونص الدستور الجديد على أنّ الشعب هو مصدر السلطات دون قيد أو شرط، ويُدير الدولة بنفسه.

وأُجري تعديل أساس على الدستور في العام 1923؛ أُلغيت بموجبه الخلافة، وأُسقط حكم السلالة العثمانية، وأُعلنت الجمهورية التركية. وتم استحداث منصب رئيس الجمهورية؛ ليتحول النظام السياسي في تركيا من نظام الخلافة إلى النظام الرئاسي. واستكمالاً للتعديلات، ولإنهاء كل آثار الدولة العثمانية ونظام الخلافة ومستلزماته الدينية؛ فقد أقرّ مجلس الشعب التركي دستوراً جديداً مفصلاً من (105) مواد. وهو شبيه بدستور الجمهورية الفرنسية الثانية. وأصبحت بموجبه تركيا دولةً قومية علمانية في قوانينها وأدائها ومؤسساتها([34]).

2 ـ التجربة الإيرانية:

في العقود الأُولى من القرن التاسع عشر الميلادي؛ بدأ الحراك في إيران القاجارية باتجاه تنظيم الحياة السياسية وإنشاء دستور يكفل تنظيم الحدود والحريات، والتخفيف من حجم الاستبداد الشاهنشاهي والحكم المطلق. وكان من المدوّنات المهمة في هذا المجال كتاب «دفتر تنظيمات» الذي حرره السياسي والدبلوماسي الإيراني ملكم خان، والذي أسس لفكر دولة القانون في إيران والفصل بين السلطات. وجاء ذلك متزامناً مع باكورة إصلاحات الشاه القاجاري ناصر الدين، والتي كان من أهم افرازاتها تشكيل حكومة بصيغة حديثة في العام 1858. وكان ناصر الدين شاه قد أمر في العام 1890 بترجمة الدستور الفرنسي في عهد “نابليون بونابرت”، وأمر (شوراى دولتي) (مجلس الحكم) بتطبيق مواده. إلّا أنّ إصلاحات ناصر الدين شاه الدستورية لم تكن إلّا لإسكات صوت النخبة الدينية والثقافية الإيرانية التي كانت تتحرك بقوة لتحقيق العدالة والحرية، وتقييد صلاحيات الشاه وحكومته. وقد أدى الصدام بين الطرفين إلى اغتيال ناصرالدين شاه في العام 1896 على يد أحد أنصار السيد جمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي). وتزامن ذلك مع تشكيل الجمعيات السرية الأُولى التي كانت تدعو إلى القوننة والدسترة والحكومة المشروطة؛ أي الحكومة التي تمارس سلطتها بالشروط المدوّنة والقانون. وأول من تصدى لهذا الحراك وقاده اثنان من كبار فقهاء إيران؛ هما السيد محمد الطباطبائي والسيد عبد الله البهبهاني. ثم التحق بهما في السنوات اللاحقة عدد من الفقهاء والمثقفين الدينيين. وكان هذا التيار يستند إلى دعم حوزة النجف الأشرف ومرجعياتها له. وقد عمل دعم المرجع الأعلى الجديد في النجف الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني دوراً بالغاً في تقوية هذا التيار.

وإلى جانب التيار الدستوري الديني؛ كان هناك تيار علماني ناشط؛ يدعو إلى الحكم الدستوري أيضاً، ولكنه يرفع شعارات معادية للدين ولكل إلزامات العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية، وكان متأثراً ومدعوماً من روسيا القيصرية وبعض المؤسسات الأُوروبية. إلّا أنّ التيار الديني كان يهيمن بالكامل على الشارع الإيراني؛ بينما يحظى التيار العلماني بوسائل مهمة للتعبير؛ هي الصحف.

وكان الشاه مظفر الدين القاجاري ـ الذي أعقب الشاه ناصر الدين ـ متعاطفاً مع المشروطة ومطالب التيار الدستوري المعارض، ولكنه كان ضعيفاً وخاضعاً لسيطرة الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) القوي والمتنفذ علي أصغر خان أتابك، والذي كان يعادي المشروطة وتيارها، ويمارس القمع ضد جمعياتها السرية؛ مما يشدد من قبضة الاستبداد، ويكرّس الحكم المطلق.

وتصاعد الحراك الدستوري بعد إرسال مجموعة من علماء النجف الأشرف رسالة مهمة إلى الشاه مظفر الدين في العام 1902 يطالبونه بتأسيس مجلس لوكلاء الشعب (النواب)؛ ليقوم بدور تمثيل سلطة الشعب وبعمليتي التقنين والرقابة([35]). وفي مقابل إصرار الحكومة الإيرانية على الرفض؛ انفجر الوضع في الشارع الإيراني، واندلعت ثورة المشروطة، وسقط عدد كبير من القتلى والجرحى في التظاهرات التي اجتاحت العاصمة طهران وعدد من المدن الإيرانية؛ فقام عدد كبير من علماء الدين ومعهم جمهور كبير من سوق (بازار) طهران بالهجرة إلى قم احتجاجاً على قمع السلطة وعدم استجابتها لمطاليب الشعب في القبول بالمشروطة. واستمر الحراك بوتيرة تصاعدية تهدد أمن البلاد. فرضخت الحكومة لمطاليب الثوار، ووقع الشاه في أواسط العام 1906 على قرار تشكيل (مجلس شوراي ملي) (مجلس الشورى الوطني) وإنشاء الدستور. وكان هذا التوقيع بمثابة انتصار تمهيدي لثورة المشروطة المطالبة بالدستور.

وفي أعقاب هذا الانتصار؛ انتخب الشعب نوابه في مجلس الشورى، وافتتح المجلس في العام نفسه بحضور الشاه. وكانت المهمة العاجلة للمجلس تشكيل لجنة من علماء الدين والاختصاصيين لتدوين الدستور. وبعد إقرار المجلس للصيغة النهائية للدستور؛ صادق عليه الشاه في مطلع العام 1907؛ قبل وفاته بأيام. وسمي بـ «قانون أساسي مشروطيت» (دستور المشروطة). وهو شبيه في معظم مواده بالدستور البلجيكي للعام 1830؛ مع إلغاء أو تعديل المواد التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية([36]).

وبعد إصرار بعض الفقهاء؛ وفي مقدمهم الشيخ فضل الله النوري؛ على ضمان توافق الدستور مع الشريعة الإسلامية بشكل كامل، ومع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية الإيرانية؛ فقد أقر مجلس الشورى ملحقاً للدستور؛ صادق عليه الشاه الجديد محمد علي القاجاري؛ وأصبح الدستور الإيراني القاجاري بصيغته النهائية مؤلفاً من عشرة فصول و(107) مواد. وقد فصل الدستور بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحدد صلاحيات الشاه والحكومة، وحدد دين الدولة بالإسلام، ومذهب الدولة بالمذهب الجعفري الاثني عشري. ونصت المادة الثانية على تشكيل لجنة من خمسة مجتهدين؛ تمتلك صلاحية مطابقة تشريعات المجلس مع أحكام الشريعة الإسلامية([37])، ورفض أي قانون لا يتطابق مع الشريعة([38]).

لقد انقسمت إيران خلال ثورة المشروطة إلى أربعة تيارات رئيسة متصارعة بشدة:

1 ـ تيار المشروطة المشروعة، وهو تيار الإسلاميين الدستوريين، ويقوده عدد من الفقهاء، وفي مقدمهم السيد عبد الله البهبهاني الغريفي والسيد محمد الطباطبائي، ويدعمهم في النجف مرجع النجف الشيخ الآخوند الخراساني، وفقهاء آخرون؛ كالشيخ عبد الله المازندراني والشيخ الميرزا خليل والشيخ الميرزا النائيني. وهو تيار الأغلبية في الشارع، وفي مجلس الشورى الوطني الإيراني.

2 ـ تيار المشروطة العلمانية، ويضم الماركسيين والليبراليين التغريبيين، وهو تيار له حضوره في مجلس الشورى، وفي الصحافة، ومؤسسات الدولة.

3 ـ تيار المستبدة، ويضم الحكومة وأنصار الشاه، يقوده الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، وهو التيار الذي يهيمن على أجهزة الدولة والقرار السياسي.

4 ـ تيار المشروعة، وهو تيار الإسلاميين الرافضين للدستور الوضعي، والمطالبين بتحكيم الشريعة الإسلامية، ويقودهم عدد من الفقهاء، وفي مقدمهم الشيخ فضل الله النوري، ويدعمه في النجف المرجع السيد كاظم اليزدي.

وكان الصراع بين التيارات الأربعة على أشده في الشارع الإيراني خلال الأعوام 1907 إلى 1909. وفي الوقت الذي كان تيار (المشروطة المشروعة) بقيادة السيد البهبهاني يتهم تيار (المشروعة) بقيادة الشيخ النوري بالتحالف مع تيار (المستبدة) بقيادة الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، بدعم الحكم الشاهنشاهي المطلق، وباستلام الأموال من الصدر الأعظم، والعمالة لروسيا؛ فإنّ تيار (المشروعة) كان يتهم تيار (المشروطة المشروعة) بالتحالف مع تيار (المشروعة العلمانية)، الذي يصفه بالإلحاد والكفر، وبالعمالة لبريطانيا.

ولذلك فإنّ الانقسام الخطير في الاجتماع الديني السياسي الشيعي في تلك الفترة كان سببه أنّ كلا التيارين المتصارعين يقودهما مراجع دين وفقهاء. ولم يقتصر هذا الصراع الاجتماعي على إيران، بل كان العراق ميداناً شرساً لهذا الصراع([39]).

وأعطى انقسام التيار الديني وكبار فقهاء الشيعة في إيران والنجف؛ مسوغاً للشاه القاجاري محمد علي لضرب الثورة الدستورية، واستعان بآراء وفتاوى بعض علماء الدين الذين حرّموا المشروطة والدستور؛ ولا سيّما الشيخ فضل الله النوري؛ لإلغاء الدستور في العام 1908، وقصف مبنى مجلس الشورى الوطني بالمدفعية، وإعلان الأحكام العرفية، وإعدام بعض ناشطي المشروطة. وكان يرفع خلال ذلك شعاراً دينياً: ((الدستور بدعة تتعارض مع الإسلام))([40]).

وبذلك باتت ثورة الدستور ومنجزاتها على مشارف الانهيار. إلّا أنّ تحرك علماء النجف الأشرف أحبط جزءاً من مخططات الشاه، وأدت رسالة مرجع النجف الآخوند الخراساني إلى علماء إيران إلى إعادة تفعيل الحراك الثوري، وتشكيل الجمعيات السرية من جديد. وأفرز الحراك عملاً ثورياً مسلحاً؛ انتهى بدخول مجاميع ثوار المشروطة المسلحة إلى طهران عنوة، وسيطروا على مقاليد الأُمور في العام 1909، وأجبروا الشاه محمد علي على إعادة العمل بالقانون الأساسي. وفي أعقابها أُجريت الانتخابات البرلمانية ثانية، وتم افتتاح الدورة الثانية لمجلس الشورى الوطني.

تجدر الإشارة إلى أنّ ضريبة انتصار الحركة الدستورية في إيران كان مقتل قائدي التيارين الدينيين الأساسيين المتصارعين خلال الثورة؛ فقد قام ثوار المشروطة بعد دخولهم طهران ونجاحهم في السيطرة على العاصمة؛ بمحاكمة الفقيه الشيخ فضل الله النوري قائد تيار (المشروعة) المناهض لـ (المشروطة)، وإصدار حكم الإعدام عليه، وتنفيذ الحكم في مركز العاصمة طهران في العام 1909؛ وسط مهرجان من الفرح أقامه أنصار المشروطة. وبعد عام تقريباً (1910) قام أحد أنصار (المشروعة) بإغتيال الفقيه السيد عبد الله البهبهاني الغريفي قائد ثورة (المشروطة)، والذي كان يلقب بـ (شاه سياه) (الشاه الأسود) ([41]).

والذي نريد قوله هنا أنّ التسقيط والاتهامات القاسية المتبادلة بين فقهاء المشروطة (حكم الدستور) وفقهاء المشروعة (حكم الشريعة) لم يكن تسقيطاً شخصياً ولا اتهامات بدوافع شخصية في كثير منه، بل هي نتيجة تعارض شديد في الاجتهاد وفي منهجية التأصيل للفقه السياسي والإسلامي ومخرجاته الواقعية. وكان كلا الفريقين يرى أنّ معركته المصيرية من شأنها إحقاق الحق والعدل وإنقاذ الأُمّة ومنع انهيار الشريعة. ولكن مخرجات هذا التعارض كانت غاية في التطرف والقسوة.

وتمّ تعديل دستور المشروطة أكثر من مرة؛ كان أهمها تعديل المادة الخاصة بحكم السلسلة القاجارية وتثبيت حكم أُسرة بهلوي، وذلك بعد نجاح انقلاب قائد الجيش ورئيس الوزراء رضا خان مير بنج (بهلوي فيما بعد)، والذي نصب نفسه ملكاً على إيران في العام 1926، وقد حصر جميع السلطات بيده، وصادر الدستور عملياً، ومهّد لاستبداد أكبر بقيادة الأُسرة الحاكمة الجديدة (البهلوية). وقد استمر العمل بدستور المشروطة حتى العام 1979؛ حين أسقطته الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، وأسست لدستور جديد.

 

 

 

([1]) عطية، د. جمال الدين، «الواقع والمثال في الفكر الإسلامي المعاصر» (مصدر سابق)، ص222.

([2]) يمكن في هذا المجال مراجعة مئات الكتب والشهادات التي كتبها مسلمون وغير مسلمين، ومنها اعترافات المؤتمرات الدولية؛ من مؤتمر لاهاي في العام 1932 وحتى مؤتمر المجمع الدولي للقانون المقارن في العام 1951. اُنظر: لوبون، غوستاف، «حضارة العرب»، ترجمة: عادل زعيتر، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2000. وسيديولوت، «تاريخ العرب». ود. عبد الرزاق السنهوري، «فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أُمم شرقية»، ترجمة: د. توفيق الشاوي؛ ود. نادية السنهوري، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1989. وعطية، د.جمال الدين، «تراث الفقه الإسلامي ومنهج الاستفادة منه» (د.ن)، الكويت، 1967.

([3]) روى الحديث أبو هريرة وصحابة آخرون بصيغ متشابهة عن رسول الله(ص)، وهو ـ في رأيي ـ حديث موضوع، ويتعارض مع بديهيات الشريعة والعقل. نقله الشيخ محمد بن سلامة القضاعي في «مسند الشهابي»، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1985، ج1، ص257، الحديث 1346.

([4]) عطية، د. جمال الدين، «الواقع والمثال» (مصدر سابق)، ص238.

([5]) المصدر السابق، ص222.

([6]) وضع الباحث عبد الجبار الرفاعي (خلال تسعينات القرن الميلادي الماضي) موسوعة من عشرة مجلدات تحت عنوان «النظام الإسلامي»، إصدار: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم، 1417ه‍، وقد ضمت قوائم ببليوغرافيا (Bibliography) لما كتب عن موضوعات الدولة الإسلامية وفقهها، وخصّ المجلد الثامن بمصادر الإمامة والسياسة. وعند النظر في هذه المصادر، وتحديداً المصادر الخاصة بمدرسة الإمامة؛ سنجد أنّ معظمها صدر بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

([7]) اُنظر: المؤمن، علي، «الفقه والسياسة» (مصدر سابق)، 75 ـ 76.

([8]) اُنظر: جعفر، د.علي محمد، «نشأة القوانين» (مصدر سابق)، ص243.

([9]) اُنظر: عطية، د. جمال الدين، «الواقع والمثال» (مصدر سابق)، ص224.

([10]) الجمال، د. مصطفى، «النظرية العامة للقانون» (مصدر سابق)، ص232.

([11]) اُنظر: البغا، د. محمد، «التقنين كما يبدو في مجلة الأحكام العدلية»:

http://www.taddart.org/?p=12736.

([12]) صابان، سهيل، «تطور الأوضاع الثقافية في تركيا من عهد التنظيمات العثمانية إلى عهد الجمهورية»، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، 2010، ص187.

([13]) كولسون، هانز، «في تاريخ التشريع الإسلامي» (مصدر سابق)، ص206.

([14]) السنهوري، د. عبد الرزاق، «فقه الخلافة» (مصدر سابق) ، ص7.

([15]) صدر كتاب «تحرير المجلة» في خمسة مجلدات في النجف الأشرف، في العام 1939.

([16]) باشا صالح، علي، «سركذشت قانون: مباحث تاريخ حقوق» (تاريخ القانون: دراسات في تاريخ الحقوق»، ط3، جامعة طهران، 2001، ص227.

([17]) المصدر السابق، ص 227 ـ 228.

([18]) اُنظر: سروستاني، د. شفيعي، «فقه وقانون كذاري» (الفقه والتقنين)، ص86.

([19]) باشا صالح، علي (مصدر سابق)، ص176.

([20]) نوري، فضل الله، «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل»، إعداد: محمد تركمان (مصدر سابق)، ضمن كتاب «رسائل شيخ فضل الله نوري»، (بالفارسية)، ص29.

([21]) دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المادة الرابعة، ص5.

([22]) المصدر السابق، المواد 91 ـ 99، ص42 ـ 44.

([23]) شيرازي، د. أصغر، «إيران: السياسة والدولة» (مصدر سابق)، ص85.

([24])كولسون، هانز (مصدر سابق)، ص228.

([25]) السنهوري، د. عبد الرزاق، من محاضرة ألقاها في العام 1942 في القاهرة،

archive.islamonline.net/?p=20587

([26]) المصدر السابق.

([27]) عطية، د.جمال الدين، «التظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص126.

([28]) كولسون، هانز (مصدر سابق)، ص228.

([29]) استناداً إلى الحديث النبوي المروي عن عبد الله بن مسعود: «إياكم ومحدثات الأُمور، فإنّ شر الأُمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة». نقله ابن ماجه في سننه، تحقيق: محمود نصار، دار الكتب العلمية، بيروت، 2014، ج1، ص25.

([30]) اُنظر نموذجاً: قطب، سيد، «معالم في الطريق»، دار الشروق، القاهرة، 1973، ص37، في معرض رده على دعوات المفكر الجزائري مالك بن نبي للنهوض والتجديد.

([31]) وهي المعروفة بـ «الأُسس الإسلامية»، ثقافة حزب الدعوة الإسلامية (مصدر سابق)، ج1، ص76.

([32]) محاضراته الفقهية التي ألقاها في النجف الأشرف خلال العام 1969 والتي طبعت في كتاب «الحكومة الإسلامية» أو «ولاية الفقيه»، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1996.

([33]) بكر، عصمت عبد المجيد، «النظام القانوني في العهدين العثماني والجمهوري»، دار الكتب العلمية، بيروت، 2012، ص43.

([34]) اُنظر: صابان، سهيل، «تطور الأوضاع الثقافية في تركيا من عهد التنظيمات العثمانية إلى العهد الجمهوري» (مصدر سابق)، ص107 ـ 124. وبكر، عصمت عبد المجيد، «النظام القانوني في العهدين العثماني والجمهوري» (مصدر سابق)، ص94.

([35]) حائري، عبد الهادي، «تشيع ومشروطيت در إيران ونقش إيرانيان مقيم عراق» (التشيع والمشروطة في إيران ودور الإيرانيين المقيمين في العراق)، دار أمير كبير، طهران، 1981، ص12.

([36]) باشا صالح، علي (مصدر سابق)، ص270.

([37]) «متمم قانون اساسي مشروطة» (ملحق دستور المشروطة)، دار جمال، طهران، 2003.

([38]) المادة الثانية من ملحق دستور المشروطة، والتي تنص على حق النقض الذي يمتلكه خمسة من المجتهدين (فقهاء الشريعة) على تشريعات مجلس الشورى؛ فيما لو كانت تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ تشبه في مضمونها المادة (91) من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي تنص على وجود مجلس صيانة الدستور الذي يضم ستة فقهاء وستة حقوقيين؛ يطابقون تشريعات مجلس الشورى مع أحكام الشريعة ومواد الدستور.

اُنظر: «قانون أساسي مشروطة» (دستور المشروطة)، المادة الثانية، ص17، و«قانون أساسي جمهوري إسلامي إيران» (دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية)، ص25.

([39]) كانت نخبة المجتمع النجفي ـ مثلاً ـ منقسمة ـ غالباً ـ إلى (مشروطة) و(مستبدة)؛ فجماعة المشروطة يسيرون خلف مرجع النجف الأعلى الآخوند الخراساني (راعي المشروطة)، وتيار المستبدة يؤيد مرجع النجف الآخر السيد محمد كاظم اليزدي. وكان بين الطرفين صراعٌ محتدم.

([40]) نجفي أسفاد، د. مرتضى، «حقوق أساسي جمهوري إسلامي إيران» (القانون الدستوري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية) (مصدر سابق)، ص8.

([41]) وُصف السيد عبد الله البهبهاني بـ (الشاه)؛ لأنّه كان يهيمن على قرار الدولة ويمارس ولايته على الحكومة والبلاط بعد انتصار ثورة المشروطة في العام 1909. أمّا وصف (الأسود) فبسبب سحنته السمراء الداكنة، إذ هو من أُصول بحرانية (من الأُسرة البلادية الغريفية)، ومن مواليد النجف الأشرف بالعراق.

تجارب التقنين والدسترة الحديثة في البلدان الإسلامية

د. علي المؤمن

تجارب تقنين الشريعة في البلدان الإسلامية

تزامن نشوء الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية والسياسية مع نشوء التجمعات الإنسانية وتحولها إلى مجتمعات تسود فيها القيم البدائية. وكانت هذه القيم تعبِّر عن القوانين الأُولى في شكلها العرفي. وكلّما توسعت التجمعات البشرية ونمت عقلياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً؛ برزت الحاجة إلى بلورة الأعراف والعادات وتحويلها إلى شبه ثوابت تنظِّم الحياة الداخلية لهذه المجتمعات وعلاقاتها مع المجتمعات الأُخر.

ومع ظهور الكتابة البدائية المسمارية تحديداً، ونشوء ظاهرة (الدول ـ المدن) لأول مرة على الأرض، وذلك في جنوب العراق السومري، وهي الحضارة الإنسانية الأُولى التي عُرفت بحضارة وادي الرافدين؛ توسعت الحاجة إلى تحويل الثوابت العرفية المجتمعية إلى لوائح مدوّنة، وهو ما يمكن وصفه بتجارب التقنين الأُولى. أي أنّ محاولات التقنين الحقيقية ليست من مستحضرات الحضارة الحديثة، بل عرفتها الإنسانية منذ أقدم العصور. ومن أهم هذه المحاولات: شريعة «أورنمو» السومرية في جنوب العراق، والتي وضعت سنة 3300 ق.م (قبل حوالي ألف وخمس مئة عام على وضع شريعة الملك البابلي حمورابي)، وشريعة «أشنويا» البابلية في سنة 2200 ق.م، وشريعة «لبث عشتار» البابلية في سنة 2150 ق.م، و«شريعة حمورابي» البابلية، التي احتوت على أكثر من (282) مادة بأُسلوب علمي يقترب من القوانين الحديثة، وهي مقسمة إلى فقرات ومواد، ووُضعت ما بين السنوات 1792 ـ 1750 ق.م. وبعد ظهور الشرائع والقوانين السومرية والبابلية في جنوب العراق وفراته الأوسط؛ بمئات السنين؛ ظهرت الشرائع في دول العالم الأُخر، وأهمها: «شريعة مانو» الهندية؛ ذات الصياغة الشعرية، والمكونة من (2658) بيتاً، ووُضعت على أرجح الآراء في القرن الثالث عشر ق.م، و«دستور جوجونج» الصيني؛ الذي صدر بين سنتي 1115 ـ 1079 ق.م، ثم «قوانين دراكون» في أثينا الإغريقية في سنة 594 ق.م. ثم جاء قانون «الألواح الاثني عشر» أو قانون «الرجال العشرة» الروماني الصادر سنة 449 ق.م بأُسلوب شعري([1]).

وتخلل ذلك أيضاً ظهور محاولات التقنين في الحضارات الأُخر؛ كحضارة العيلاميين في غرب إيران، ثم الحضارة الفارسية في شمال ووسط إيران، وحضارة (المايا) في المكسيك، والحضارة اليابانية، والحضارة الصينية، وهي الحضارات التي سبقت المجتمعات البشرية الأُخر، إلى جانب الحضارات الإغريقية والرومانية والهندية والمصرية والعبرانية، وقبلها جميعاً الحضارة العراقية؛ في وضع القوانين والشرائع الأُولى، وهي ـ كما ذكرنا ـ عبارة عن تقنين للعادات والأعراف والتقاليد.

وكانت عملية التقنين تمثل إرادة السلطة؛ ولا سيّما السلطة الاجتماعية ـ السياسية؛ الممثلة برئيس التجمع البشري أو زعيم القبيلة أو الأمير أو الملك والإمبراطور والشاه والفرعون والقيصر. ولذلك جاء التقنين ليعزز ـ غالباً ـ سلطان الزعيم والملك، ويقسم المجتمع طبقياً، ويجعل الدولة والمجتمع بكل طبقاته ونشاطاته الاقتصادية والدينية والسياسية والعسكرية بخدمة السلطان المطلق. وكانت السلطة الدينية أداةً إضافية مهمة بيد الزعيم أو الملك؛ يكرس من خلالها سلطانه وجبروته واستعباده الناس، ويضفي على نفسه مسوحاً دينية ـ إلهية. ولذلك كان التقنين ـ تاريخياً ـ يصب في مصلحة الزعيم والملك، ويتعارض مع مصلحة الشعب.

بينما كان الأنبياء والمرسلون وأولياء الله يمارسون الدور المعاكس لسلطة الزعماء والملوك وقوانينهم؛ سواء من خلال نصوص الوحي أو من خلال حركتهم وسلوكهم؛ فكانت شرائع السماء الممثلة بتعاليم الأنبياء تقف إلى جانب الشعوب والأُمم، وتدافع عن حقوقها وحرياتها، وتعمل على تنظيم حياتها في إطار غايات العدالة الدنيوية والكدح نحو الغيب والحياة الأُخرى. وهو ما ظل يتعارض مع قوانين الأرض التي يشرِّعها الزعماء السياسيون والملوك. وبذلك ظلت الشرائع الدينية السماوية قواعد لتحرر الشعوب واستعادتها حقوقها وإصلاح أوضاعها، ولمجابهة سلطة الملوك المطلقة، وسلطة كهنتهم ومعابدهم وأديانهم الأرضية.

وسبق أن ذكرنا في الفصل الثاني بأنّ ظهور الإسلام في جزيرة العرب؛ مثّل تحولاً أساسياً في مسارات التقنين الإنساني؛ على المستويين الموضوعي والفني؛ فقد جاءت الشريعة التي بشَّر بها الرسول محمد(ص) لتحمي مصالح الشعوب والناس العاديين، في إطار العدالة وحقوق الإنسان والحريات العامة، وتُحررهم من جبروت الملوك وسلطات السياسة والمال والدين الوضعي، وتنظم حياتهم على كل المستويات. أمّا من الناحية التقنية (تقنيات التشريع)؛ فقد جاءت أحكام الشريعة الإسلامية في غاية التنظيم والتفصيل والشمولية والتوزيع الموضوعي. وبذلك تكون الشريعة الإسلامية ـ من الناحية التقنية ـ أهم منظومة قانونية متكاملة عرفتها الشرية، والوحيدة الصالحة لكل زمان ومكان. ولا نطرح هذا القول بدوافع عقدية وآيديولوجية، بل من خلال استقراء موضوعي للشرائع والمنظومات القانونية الأُخر، ومقارنتها مع منظومة التشريع الإسلامي([2]).

وبمرور الزمن وتغير المكان، والابتعاد عن عصر الوحي؛ ظهرت الحاجة في الوسط الإسلامي إلى عملية التقنين؛ بهدف إعادة تنظيم أحكام الشريعة الإسلامية موضوعياً وفنياً في إطار مدوّنات ظلّت الأهم تقنياً وتنظيمياً بين المدوّنات القانونية العالمية؛ حتى ظهور المدوّنات الحديثة في أُوروبا بعد عصر النهضة.

ومما ترشح عن تقنين أحكام الشريعة الإسلامية: ظهور مدوّنات تعيد ترتيب آيات القرآن الكريم موضوعياً؛ ولا سيّما آيات الأحكام؛ لتتحول إلى مدوّنات تشريعية قرآنية في كل مجال من مجالات العبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات وغيرها. ثم خضعت السنّة النبوية (وسنّة أئمة آل البيت) إلى الإجراء التقنيني نفسه؛ فأصبح للصلاة ـ مثلاً ـ منظومة تشريعية خاصة، وهكذا للحج والزكاة والخُمس والجهاد وغيرها.

وتطورت عملية التقنين في الوسط الإسلامي بظهور عملية الاجتهاد؛ والتي مارسها الفقهاء لاستنباط أحكام الشريعة في الموضوعات الجديدة التي فيها نص ظني، أو ليس فيها نص. فكان الاجتهاد مظهراً حقيقياً للتقنين بصيغته الحديثة التي تسمح للإنسان بتوظيف جهده العقلي؛ عبر إخضاع الأدوات العقلية المقبولة شرعاً؛ للحصول على حكم شرعي جديد في واقعة جديدة.

وشملت إعادة تنظيم الأحكام الشرعية وتبويبها، ونتاج العملية الاجتهادية؛ أبواب السياسة والحكم أيضاً؛ فظهر ما عُرف بمدوّنات السياسة الشرعية أو الأحكام السطانية الشرعية أو الفقه السياسي. وكانت هذه المدوّنات متفاوتة في التصاقها بأصالة الحكم الشرعي؛ فبعضها كان أكثر قرباً، وبعضها كان بعيداً نسبياً. وقد شهدت مسيرة تدوين فقه الدولة الإسلامية والفقه السياسي الإسلامي وتبلورها زمناً طويلاً؛ تحولات كثيرة حتى وصلت إلى مرحلة القرن العشرين الميلادي؛ لتظهر فيه المنظومات التقنينية العصرية بأحدث التقنيات والتنظيمات. ويمكن إجمال هذه المسيرة على وفق نشاط المدرستين الشيعية (مدرسة الإمامة) والسنية (مدرسة الخلافة):

1 – مدرسة الخلافة:

تمثلت المرحلة الأُولى من التأسيس للفقه السلطاني في المشافهات والكتابات الأُولى التي ظهرت في العهد الأُموي، وهي ـ غالباً ـ أحاديث وروايات وتفسيرات موضوعة أو محرفة؛ هدفها تسويغ الحكم القائم وسلوكه، وإضفاء الشرعية الدينية عليه من جهة، وتشويه صورة المدرسة المنافسة (مدرسة الإمامة)، والطعن في شرعية وصولها إلى السلطة من جهة أُخرى. وكان أخطر ما قررته المرحلة الأُموية ما عُرف بسيرة الصحابي؛ إذ أصبحت هذه السيرة انطلاقاً من بعض الأحاديث الموضوعة؛ كالحديث المنسوب إلى رسول الله: «مَثَلُ أصحابي مَثَلُ النجوم؛ من اقتدى بشيء منها اهتدى»([3])، أصبحت جزءاً من مصادر الفقه السياسي الإسلامي لمدرسة الخلافة. وبما أنّ سِيَر الصحابة وسلوكياتهم متعارضة ومتضاربة في كثير من جوانبها؛ فقد أصبح باب الأحكام السياسية الشرعية مفتوحاً بالكامل على كل أنواع السلوك السياسي وغير السياسي؛ الجمعي أو الفردي؛ فالوصية والشورى والتوريث والغلبة في تعيين الحاكم (تحت مسمى الخليفة) باتت كلها جائزة ومسوغة شرعاً وعرفاً؛ وإن تعارضت مع أصل ديني ثابت، أو تناقضت مع بعضها في المضمون الشرعي وشكل التنصيب. كما أصبح القتال بين الصحابة خاصة والمسلمين عامة وإراقة دمائهم؛ جائزاً أيضاً، وكذا ارتكاب الحاكم (الخليفة) والمنتسين إلى منظومة حكمه؛ كالولاة والوزراء وقادة الجيش والشرطة والجباة؛ كل أنواع الموبقات والسلوكيات المحرمة؛ لأنّ الحاكم ومنظومته يستندان إلى رواية محرفة أو موضوعة، أو يستندان إلى سيرة أحد الصحابة. وكان هذا التأسيس الوضعي للفقه السلطاني؛ العلماني في مضمونه والثيوقراطي في شكله؛ أخطر ما أفرزته السلطة الأُموية والملكيات التي أعقبتها في دول مدرسة الخلافة، وهو الفقه الذي لا يزال يستند إليه قطاع واسع من المسلمين؛ ولا سيّما ما يعرف بالمدرسة السلفية الوهابية.

وتماهت المقولات والسلوكيات التي ظهرت في العهد العباسي مع الفقه الأُموي الوضعي، ولكنها كانت أكثر تنظيماً واقتراباً من التقنين الموضوعي، وكانت مؤلفات ما عُرف بالسياسة الشرعية، والتي ظهرت في هذه الحقبة؛ مؤلفات تأسيسية في مجال تقنين أحكام السلطان والمُلك والسياسة. ويذكر الباحث المصري المعاصر الدكتور جمال الدين عطية بأنّ مسألة التقنين أُثيرت بوضوح منذ طلب أبو جعفر المنصور ثم هارون الرشيد من الإمام مالك بن أنس (إمام المالكية) وضع كتاب موحّد يلتزم به القضاة؛ ولكن الإمام مالكاً أصرّ على رأيه في عدم تقييد القضاة برأي واحد([4])؛ بينما كان ملوك العباسيين يهدفون إلى توحيد الأحكام القضائية؛ لتكون قوانين ملزِمة لكل رعايا الدولة، ولتكون أداة سطوة مقبولة في شكلها للجم المعارضة العقدية والسياسية. ويعد كتاب «الموطّأ» لمالك بن أنس أول مجموعة تقنينية جامعة في الفقه السني، وكانت المدوّنات الفقهية قبله متناثرة وغير منظمة وغير مجمّعة تجميعاً تأليفياً كاملاً([5]).

واستمرت مرحلة الفقه السياسي الأُموي ـ العباسي حتى القرن التاسع عشر الميلادي؛ أي حتى ظهور الكتابات الإصلاحية الأُولى في الوسط السني، والرافضة للاستبداد العثماني والحكومات المحلية المطلقة التي خلقها الفقه السياسي الأُموي ـ العباسي. وبسقوط الدولة العثمانية، وظهور المدوّنات الفقهية السياسية الإصلاحية في مصر على يد تلاميذ السيد جمال الدين الأفغاني (سيد جمال الدين الحسيني الأسد آبادي: 1838 ـ 1897)؛ بدأت مرحلة جديدة في مسيرة الفقه السياسي الإسلامي لمدرسة الخلافة؛ إذ شكّلت النتاجات التأصيلية للمفكرين والفقهاء السنة ثورة فكرية وفقهية اجتهادية في مجال الفقه السياسي السني.

2- مدرسة الإمامة:

تمثلت مرحلتها الأُولى في المدوّنات التي عمّقت مبدأ (الإمامة) وخصائصها من منظور العقيدة؛ باعتباره المبدأ المؤسس لمنظومة الفقه السياسي الشيعي. ثم اتسعت لتشتمل على الجانب الفقهي أيضاً. وقد استوعبت هذه المرحلة ـ زمنياً ـ عصر الأئمة الاثني عشر، وحتى بدء الغيبة الكبرى للإمام المهدي. وكان أهم مدوّنة حديثية ـ فقهية ظهرت في هذه الفترة في مدرسة الإمامة ما عُرف بـ (الأُصول الأربعمئة) التي ألفها تلامذة الإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق والإمام موسى الكاظم، وتمثل أجوبتهم العقدية والفقهية وما نقلوه من أحاديث عن آبائهم. واستمرت هذه المرحلة حتى ظهور حركة الاجتهاد والمدوّنات الفقهية الأُولى، ومعها بدأت المرحلة الثانية التي تبلورت خلال القرن الثالث الهجري، وامتدت إلى عصر الدولة الصفوية. وحينها بدأت المرحلة الثالثة التي مثلت نقلة تاريخية في مسار الفقه السياسي الشيعي. أمّا المرحلة الرابعة فقد بدأت في القرن العشرين الميلادي؛ مع ظهور بعض الكتابات الفقهية السياسية المهمة التي رافقت حركة المشروطة في إيران؛ ثم مدوّنات أُخر في العقود اللاحقة، وكان أبرزها كتابات السيد محمد باقر الصدر في نهايات الخمسينات من القرن الماضي. وبظهور بحوث الإمام الخميني في أواخر الستينات من القرن الماضي؛ انتهت المرحلة الرابعة؛ فكانت بحوث الإمام الخميني ومقولاته وخطبه مرحلةً بذاتها. بينما مثّل ظهور النتاجات التقنينية النوعية الضخمة في إيران بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية مرحلةً خامسة من مراحل جهود تقنين فقه الدولة الإسلامية والفقه السياسي الإسلامي. وقد شهدت المرحلة الأخيرة نهضة بحثية كبيرة غير مسبوقة في مدرسة الإمامة على المستويين النوعي والكمي؛ حتى بلغ مجموع ما صدر من مدوّنات ومؤلفات ودراسات عقدية وفقهية وفكرية وقانونية في موضوعات فقه الدولة الإسلامية والفقه السياسي الإسلامي الإمامي؛ خلال الفترة من 1979 وحتى الآن أضعاف ما كُتب وصدر خلال ألف عام سبقتها([6])؛ أي طيلة عصر الغيبة([7]).

وفي المراحل التي كانت فيها عملية التقنين متألقة في البلدان الإسلامية، وتتجه نحو التبلور والتكامل؛ بدءاً من القرن الميلادي السابع وحتى القرون اللاحقة؛ فإنّ أُوروبا كانت غائبة نسبياً في هذا المضمار. واستمر هذا الغياب حتى القرن الخامس عشر الميلادي. إلّا أنّ ثورة التقنين الحقيقية في أُوروبا اندلعت مع نجاح الثورة الفرنسية في العام 1789، وانهيار الحكم الاستبدادي الفرنسي المطلق. حينها ظهرت القوانين والقرارات السياسية والحقوقية والاجتماعية الأُولى في أُوروبا؛ بهدف تنظيم الحياة العامة في فرنسا. وأفضت هذه الجهود إلى صدور «قانون نابليون» في العام 1804؛ كأول قانون مدني؛ ثم القانون الجزائي في العام 1808. وامتد تأثير هذه القوانين ومنهجيتها إلى أكثر البلدان الأُوروبية، ولا سيّما النمسا التي صدر أول قانون مدني فيها في العام 1811، ثم ألمانيا وبلجيكا([8])، ومنها إلى بلدان العالم الأُخر.

ولم تمر عملية التقنين في أُوروبا بسهولة، بل شهدت نقاشات حادة بين أنصار القانون المدوّن والقانون العرفي؛ وخاصة في المانيا؛ إذ كان هناك من رجال القانون والحكم، وأبرزهم “فردريك سافيني” (1779 ـ 1861)؛ من يرفض تقنين العادات والتقاليد والنظم والأفكار بمنهجية مدوّنة، ويدعم بقاءها كما هي؛ عرفاً سائداً داخل الدولة أو بين المواطنين؛ لأنّ العادة تظل خاضعة للتطور الطبيعي؛ بينما يمثل القانون المدوّن لوناً من الثبات والجمود. وظل “سافيني” مصراً على نظريته، وعززها حين أصبح وزيراً للعدل في مملكة بروسيا؛ فلم يصدر خلالها أي قانون مدوّن، وأدى موقفه إلى تأخر المانيا في عملية التقنين ما يقارب من ثمانية عقود. إلّا أنّ نظرية “سافيني” وغيره من علماء السياسة وخبراء القانون الذين رفضوا عملية التقنين؛ سرعان ما تهاوت بفعل الحراك السياسي والاجتماعي والأكاديمي في أُوروبا، ولم تصمد أمام جموع دعاة التقنين وضغوطات الواقع([9]).

ولم تبق البلدان الإسلامية بمنأى عن تأثيرات حركة التقنين في أُوروبا. وازداد هذا التأثير بفعل ثلاثة عوامل:

1 ـ الاحتكاك الثقافي المباشر أو غير المباشر بين الغرب والبلدان الإسلامية الكبيرة المستقلة؛ كالعثمانية التركية، والقاجارية الإيرانية.

2 ـ النفود السياسي والفكري والاحتلال العسكري الأُوروبي لبعض البلدان الإسلامية الكبيرة؛ كمصر، أو البلدان ذات الكثافة السكانية المسلمة؛ كالهند.

3 ـ البعثات الطلابية والعلمية من البلدان الإسلامية إلى البلدان الأُوروبية، ولا سيّما إلى فرنسا وبريطانيا.

وانتشرت في البلدان الإسلامية المحتلة؛ القوانين المدنية الغربية المتعارضة مع أحكام الشريعة، وكذا المحاكم المدنية في مقابل المحاكم الشرعية، والمدارس التبشيرية ومناهج التعليم الغربي الحديث. ولم يختلف الاحتلال البريطاني عن الفرنسي والهولندي في هذا المضمار. وتكرّس هذا الواقع في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين. وتزامنت قوة تيار التقنين التغريبي في البلدان الإسلامية مع ضعف الدولتين العثمانية والقاجارية، وظهور بوادر انهيارهما المعنوي والاجتماعي والسياسي قبل العسكري؛ مع بداية القرن العشرين الميلادي. و((لم يمض القرن التاسع عشر الميلادي حتى كانت النظم القانونية الأُوروبية قد صارت تشريعاً لمعظم الدول الإسلامية… يحل محل الشريعة الإسلامية في حكم كل ما لا يتعلق بالأحوال الشخصية. ومع التحول إلى النظم القانونية الأُوروبية بدأ العالم الإسلامي يواجه لأول مرة انفصالاً بين عقيدته وبين النظم المطبقة فيه، وما يخلفه هذا الانفصال من مشكلات))([10]). وفي المقابل ظهرت حركة مضادة من داخل البلدان الإسلامية؛ ولا سيّما في تركيا وإيران والهند ومصر؛ قادتها النخب الدينية والوطنية لمواجهة المد التقنيني التغريبي؛ فتبلورت ثلاثة تيارات متقابلة؛ لكل منها حضوره القوي وصوته:

1 ـ التيار الذي يدعو إلى التمسك بأحكام الشريعة الإسلامية شكلاً ومضموناً؛ وإن جنح بعض رموز هذا التيار إلى القبول بتقنين هذه الأحكام على وفق المناهج التقليدية الإسلامية.

2 ـ التيار الذي قبل بالتوفيق بين أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الغربية؛ ولا سيّما في المجالات التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة؛ فضلاً عن الدعوة إلى إخضاع هذه العملية التوفيقية إلى مناهج التقنين الغربي.

3 ـ التيار الذي يدعو إلى تطبيق القوانين الغربية، وتنحية أحكام الشريعة الإسلامية جانباً، ورفض تقنينها؛ لأنّها فقدت صلاحيتها شكلاً ومضموناً.

وكان التيار الثاني يرى ـ بواقعيته ـ أنّ متطلبات العصر تستدعي خضوع الدولة والسلطة والمجتمع إلى مدوّنات عامة مشتركة واضحة؛ لتسهيل عملية تنظيم شؤون الحياة؛ بالنظر لصعوبة الاحتكام إلى المدوّنات الفقهية التراثية، وكثرة القراءات والاجتهادات، واللغة النخبوية العربية التي كتبت بها. وكان هذا التيار يعتقد أنّ من أهم عناصر إسقاط ذرائع المحتل أو النافذ الاجنبي لفرض قوانينه على البلاد المسلمة المحتلة أو الخاضعة لهيمنة الأجنبي؛ يكمن في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية وفق المناهج الغربية، وكذا القبول ببعض النظم القانونية الغربية التي لا ترفضها الشريعة؛ ولا سيّما في مجالات الحكم والإدارة. وهو ما كان يواجه بالرفض المطلق أحياناً والنسبي أُخرى من التيارين الأول والثاني.

مسار حركة التقنين في البلدان الإسلامية

نستعرض أدناه مسار حركة التقنين في بعض البلدان الإسلامية أو ذات الكثافة السكانية المسلمة:

1 ـ تركيا:

تبلورت حركة تقنين الشريعة الإسلامية في تركيا العثمانية في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وتوّجت الحركة بالعمل على إصدار «مجلة الأحكام العدلية» في العام 1868، والتي اعتمدت المذهب السني الحنفي مصدراً لقوانينها المدنية والتجارية وقوانين المرافعات، ومستندة إلى التقنيات الحديثة في عملية التقنين، والمقتبسة من أُوروبا؛ ولا سيّما من القانون الفرنسي. واكتملت جهود تحرير المجلة في العام 1876 بصدور (1851) مادة قانونية في مقدمة وستة عشر كتاباً([11]). ثم استمرت حركة تقنين الشريعة حتى العام 1917؛ إلّا أنّ كثيراً من القوانين كان ترجمة حرفية أو اقتباساً من القوانين الفرنسية([12])؛ بما لا يتعارض وأحكام المذهب الحنفي؛ كما كانت تقول المؤسسات الدينية والتشريعية في الدولة العثمانية.

ويمكن إجمال نتائج حركة التقنين في الدولة العثمانية في الفترة من العام 1839 وحتى العام 1917 بما يلي:

أ ـ القانون الجزائي العثماني في العام 1839/1840.

ب ـ القانون التجاري في العام 1850.

ت ـ قانون الأراضي في العام 1858.

ث ـ قانون أُصول المحاكمات التجارية في العام 1861.

ج ـ قانون التجارة البحرية في العام 1863.

ح ـ قانون التصرف بالأموال غير المنقولة في العام 1915.

خ ـ قانون حقوق الأُسرة في العام 1917.

وبالتدريج؛ استطاعت حركة التقنين في الدولة العثمانية استيعاب كثير من مجالات الحياة المدنية. وكان من أبرز ثمراتها التأسيس لمرافق سياسية وتشريعية وقضائية مدنية تتشبه بالمؤسسات الأُوروبية؛ كالمحاكم المدنية في مقابل المحاكم الشرعية، والتي يترأسها قضاة مدنيون وحقوقيون وليس فقهاء ورجال دين([13])، وكذلك مجلس النواب (مجلس مبعوثان) وغيرهما.

ويمكن القول بأنّ أهم مراحل حركة التقنين في تركيا العثمانية تمثلت بمرحلة السلطان سليمان القانوني، ومرحلة السلطان عبد العزيز خان، ومرحلة السلطان عبد الحميد الثاني، والمرحلة الانتقالية من السلطنة إلى الجمهورية. وكان السلطان عبد العزيز خان بن محمود الثاني قد أصدر في العام 1876 فرماناً (أمراً سلطانياً) بوجوب العمل بقوانين مجلة الأحكام العدلية؛ بصفتها القوانين المدنية المنتسبة إلى الفقه الحنفي.

وبالعودة إلى موضوع المحاكم المدنية، والتي عرفت حينها بـ (المحاكم النظامية)، وهو من الموضوعات المهمة التي أثارت جدلاً في الدولة العثمانية؛ فإنّ اختصاص هذه المحاكم شمل النظر في القضايا المدنية كافة؛ باستثناء قضايا الأحوال الشخصية. وقد كان هدف وضع قانون المحاكم المدنية (النظامية) تسهيل الأمر على القضاة والحقوقيين العاملين فيها؛ إذ ((كان من العسير عليهم مراجعة الكتب الفقهية؛ التقليدية الأُسلوب، واستخلاص الحكم الشرعي منها عند الحاجة إلى ذلك على نحو سليم. وكذلك قصد التقنين بطبيعة الحال إلى تحقيق الوحدة للتطبيق القانوني، وهو أمر له أهمية مقابل اختلافات الرأي الواسعة التي تضمّها الكتب الفقهية))([14]).

وقد واجه أتباع المذاهب الإسلامية الأُخر ـ غير المذهب الحنفي ـ من رعايا الدولة العثمانية مشاكل كثيرة؛ حين وجدوا أنفسهم مضطرون للاحتكام إلى أحكام الفقه الحنفي أو القوانين المدنية المترجمة عن القانون الفرنسي. وكان علماء الشيعة الإمامية سبّاقون في طرح الإشكاليات والملاحظات العلمية والفقهية على حركة التقنين في الدولة العثمانية؛ ولا سيّما في البلدان العربية المحتلة من العثمانيين، ومنها العراق. وكان المرجع الديني العراقي الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1876 ـ 1954) ممن كتب تفصيلاً في هذا المجال، وقد جمع إشكالياته وملاحظاته في كتاب «تحرير المجلة»، والذي ذكر فيه مقارنات فقهية بين القوانين المدوّنة في «مجلة الاحكام العدلية» العثمانية وأحكام فقه الإمامية([15]).

2 ـ إيران:

لم تكن حركة التقنين في إيران القاجارية تختلف في مساراتها الزمانية والفكرية والتقنية عن نظيرتها في تركيا العثمانية؛ باستثناء موضوع المذهب؛ فقد كان مصدر التقنين في تركيا العثمانية هو الفقه السني الحنفي؛ بينما استندت القوانين القاجارية إلى الفقه الإمامي الشيعي. وكانت مرحلة حكم ناصر الدين شاه (1831 ـ 1896) هي المرحلة الأساس التي شهدت دعوات التقنين، وكان كثير منها يستند إلى محاولات التخلص من الحكم الاستبدادي المطلق. وتوّجت هذه الدعوات باندلاع ثورة المشروطة في العام 1905، والتي انتهت إلى حصر معظم التشريعات
والقوانين بمجلس الشورى الوطني (مجلس شوراي ملي)، وصدور أول دستور دائم للبلاد.

وعلى الرغم من وجود كوابح فقهية داخل مجلس الشورى ممثلة بلجنة من خمسة فقهاء يحولون دون صدور تشريعات وقوانين تتعارض مع أحكام الفقه الإسلامي؛ إلّا أنّ التحولات السياسية وتدخل حكومة الشاه محمد علي القاجاري، ثم قيام الحكومة بقصف مجلس الشورى بالمدفعية، وأعقبه تعطيل الدستور؛ كان يؤدي إلى مسارات مختلفة، وإلى صدور قوانين مقتبسة أو مترجمة من القوانين الغربية، ولا سيّما القانون الفرنسي، ومنها:

أ ـ قانون أُصول النظام العدلي في العام 1909.

ب ـ قانون أُصول المحاكمات الحقوقية (المدنية) في العام 1909.

ت ـ قانون أُصول المحاكمات الجزائية في العام 1910.

ث ـ قانون الجزاء العرفي في العام 1915.

ج ـ قانون التجارة في العام 1923.

ح ـ قانون العقوبات العام في العام 1924([16]).

ويذكر الباحث الإيراني علي باشا صالح في كتابه «تاريخ القانون» الإشكالات الفقهية والتقنية التي رافقت تقنين أول قانون مدني في مجلس الشورى الوطني الإيراني في العام 1927؛ أي خلال حكم الشاه رضا بهلوي: ((تم تشكيل لجنة من الخبراء وعلماء الدين في وزارة العدل، وهي استمرار للجان كثيرة تشكلت في العهود السابقة، وانتهت اللجنة إلى إقرار الجزء الأول من القانون المدني الذي يضم 955 مادة في مجلس الشورى في العام 1927. ثم تمت المصادقة على الجزء الثاني والثالث المؤلفين من 380 مادة قانونية حتى العام 1934. وكان مصدر القانون المدني بصورته المذكورة هذه؛ هو الفقه الإسلامي؛ بصرف النظر عن وجود جزء من القوانين الأُوروبية. وقد كان الخبراء الذين وضعوا القانون قد استندوا إلى المدوّنات الفقهية المكتوبة باللغة العربية؛ مثل «شرائع الإسلام» للمحقق الحلي، و«اللمعة الدمشقية» وشرحها للشيخين العامليين، و«المكاسب» للشيخ مرتضى الأنصاري، وترجموا الآراء المشهورة للفقهاء إلى اللغة الفارسية، وأخضعوها للتبويب الموضوعي، واعتمدوا على الباحثين القانونيين ممن يتقنون اللغة الفرنسية؛ في الرجوع إلى القوانين المدنية الحديثة؛ ولا سيّما الفرنسية والبلجيكية والسويسرية. وقد طرح هذا الموضوع وزير العدل في جلسة مجلس الشورى بكل وضوح؛ حين قال بأننا استندنا في تدوين قانون حقوق الزوجين وحقوق الأُسرة والأحوال الشخصية إلى القوانين الأجنبية؛ وخاصة القانون السويسري الموسع))([17]).

وبذلك، يُعدّ القانون المدني في إيران؛ أول تجربة لتقنين الفقه في الوسط الشيعي؛ فقد كان واضعوه على دراية كاملة بأحكام الفقه الإمامي الشيعي، مع الأخذ بالاعتبار متطلبات الزمان، وعملوا على تحويل أحكام الفقه الشيعي في مجال المعاملات والعقود والمال والوصية والإرث والنكاح والطلاق والنسب وأدلة إثبات الدعوى؛ إلى مواد قانونية مدوّنة؛ يمكن للمحاكم الاستناد إليها. وبالمقارنة مع القوانين التركية المدوّنة في «مجلة الأحكام العدلية»؛ فإنّ القانون المدني الإيراني كان أكثر قوة وتكاملاً. ويُرجع الباحث الإيراني شفيعي سروستاني ذلك إلى قوة الفقه الشيعي الإمامي وغناه بالمقارنة بالفقه الحنفي([18]).

وفي الوقت نفسه؛ ظل كثير من الفقهاء الشيعة يعارضون هذا اللون من التقنين؛ سواء ما يتعلق بالتقنين الدستوري أو التقنين العادي. وكان معظم هؤلاء الفقهاء يستند إلى الأدلة المعارضة التي كان يسوقها الشيخ فضل الله النوري خلال ثورة المشروطة([19]). فقد ذكر الشيخ النوري في كتابه «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل» ما نصه: ((إنّ جعل القانون (التقنين) كلّاً أم بعضاً؛ يتنافى مع الإسلام. والله لم أكن أتصور أنّ أحداً يصادق على جعل القانون، وأن يختار للدولة قانوناً غير القانون الالهي، ويرى أنّ متطلبات العصر تغير بعض مواد القانون الإلهي؛ برغم أنّه يعتقد بختم النبوة وكمال دين محمد(ص).))([20]).

وظلت مرحلة الشاهنشاهية البهلوية مطبوعة بطابع قوانين المشروطة وما شهدته بعدها من تحولات ابتعد فيها التقنين تدريجياً عن مصادره الفقهية الشيعية، واقترب من القوانين الوضعية بمضامينها المدنية ومقاييسها الغربية. وبتأسيس الجمهورية الإسلامية في العام 1979؛ بدأت ثورة التقنين التأصيلي؛ بصيغ لم يسبق لها مثيل في العصور الإسلامية السابقة؛ ولا سيّما بعد أن وضع دستور الجمهورية الإسلامية ضابطة تشريعية ملزِمة حددتها المادة الرابعة من الدستور، والتي نصت على أن تكون جميع قوانين الدولة على أساس المعايير الإسلامية([21]). وقَرَنَ الدستور هذه الضابطة بآلية تنفيذية ممثلة بمجلس صيانة الدستور؛ الذي يضم في عضويته ستة فقهاء يدققون في تشريعات مجلس الشورى، ومدى تطابقها شكلاً ومضموناً مع معايير الفقه الإسلامي وروح الشريعة([22]).

وبذلك أخذت التشريعات الإسلامية تحل محل التشريعات الوضعية الموروثة؛ فضلاً عن ملء التشريعات الجديدة لجميع مناطق الفراغ في المنظومة القانونية للدولة. ويرى الباحث الإيراني المعارض أصغر شيرازي بأنّ الفقه الشيعي كان ينبغي منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية أن يتحول من قانون فقهاء إلى قانون دولة، وأنّ استنباط الأحكام بصفته المهمة العلمية لفقهاء الشريعة؛ لا بد أن يحل التقنين محله، ويكون ذلك مترافقاً مع ضرورة توسيع الفقه الشيعي ليغطي جميع فروع القانون، ولتنفذ أحكامه المتوقفة منذ أكثر من ألف عام. ومن ناحية الآليات؛ كان لزاماً وضع آليات حديثة لفرض القانون والأحكام القضائية الموروثة؛ وإن كانت شبيهة بآليات النظم القانونية المدنية الغربية. ولذلك فإنّ ما جرى حتى الآن هو سماح المثالية الأخلاقية للفقه الشيعي بفسح المجال؛ ولو جزئياً؛ للواقعية العملية، وتخلية الطريق أمام نظام محاكم رسمية معقلنة وبيروقراطية، وتنحي الشخصانية غير الرسمية غالباً لمصلحة نظمٍ أكثر كفاءة وبعيدة عن الشخصانية، وتستند إلى مدوّنات قانونية موحدة لا تقبل التأويل. ويمكن النظر إلى التحولات في المنظومة القانونية الإسلامية المطبقة في إيران منذ العام 1979؛ للوقوف على حقيقة التأصيل الفقهي إلى جانب الطابع الإصلاحي الواضح الذي يُعدّ من مستلزمات الحكم الحديث([23]).

وقد حفّز هذا الإنجاز الذي يعبِّر عن حاجات الدولة الإسلامية العصرية؛ حفّز الفقهاء لمزيد من الانفتاح على الأبواب الجديدة، والإنتاج الفقهي في الحوزات العلمية في مختلف مجالات الحياة؛ بما يسد حاجة الدولة ومجتمعها ومواطنيها؛ ثم ليتحول هذا النتاج بفعل حركة التقنين ومؤسساتها؛ إلى قوانين رسمية مدوّنة موحّدة ملزِمة للجميع.

3 ـ مصر:

ظلت مصر ـ الدولة العربية الأكبر والأهم ـ مستلبةً سياسياً وفكرياً قرون طويلة؛ بسبب سياسة الهيمنة العثمانية من جانب، وحكم المماليك الأجانب من جانب آخر، كما كانت الأكثر تأثراً بالحراك السياسي النهضوي الأُوروبي وما رافقه من دعوات ومحاولات لبناء الدولة الحديثة ونظمها القانونية. ويعود هذا التأثر إلى مخلفات الاحتلال الفرنسي المبكر بقيادة “نابليون بونابرت” في العام 1798 ثم حكم محمد علي باشا (1805ـ 1848)؛ وهو أُوروبي من ألبانيا العثمانية. وكان العامل الثالث هو البعثات التعليمية المصرية إلى فرنسا.

وتمخض التأثر المصري بحركة التقنين في أُوروبا؛ عن ولادة أول منظومة تقنين مدنية في العام 1875، وتمثلت بقانون الأحوال الشخصية والمواريث، ثم صدور القوانين الجنائية والتجارية والبحرية. وأسست الدولة المصرية محاكم نظامية (رسمية) في مقابل المحاكم الشرعية؛ لتطبيق تلك القوانين. وكان القانون المدني المصري الأكثر تمثّلاً بالقانون الفرنسي وترجمة له. إلّا أنّ الاحتلال البريطاني قرّب مصر والسودان من القانون الإنجليزي ومنظومته القضائية؛ ولا سيّما بعد فشل ثورة أحمد عرابي في العام 1881.

وكما حدث في البلدين المسلمين المستقلين: تركيا وإيران؛ فإنّ مصر المحتلة شهدت أيضاً معارضة كبيرة لحركة التقنين بصيغتها الغربية؛ الأمر الذي اضطر اللجان التي تضع القوانين برئاسة الفقيه القانوني المصري الدكتور عبد الرزاق السنهوري (1895 ـ 1971) إلى الاستجابة للأصوات المعارضة، وعملت على التوفيق جزئياً بين القوانين الوضعية وأحكام الفقه الإسلامي.

ويذهب المستشرق الإنجليزي “هانز كولسون” بأنّ الدكتور عبد الرزاق السنهوري بلور عملية تقنين أحكام الشريعة الإسلامية بالتزامن مع الأخذ بالقوانين الأُوروبية، وحاول التوفيق بين الموروث الفقهي والقوانين المصرية الصادرة في العامين 1875 و1883، والتي كان ثلاثة أرباعها مترجماً عن القانون الفرنسي([24]). وفي هذا الصدد يقول السنهوري نفسه بأنّ من الوهم البحث عن الشريعة الإسلامية في ((بطون كتب الفقهاء؛ مع أنّ تقنينها أمر ليس بالصعب، بل هو قد تم بالفعل، وقد قام به الأتراك رسمياً في مجلتهم المشهورة «مجلة الاحكام العدلية»، كما قام به فذ من المصريين هو المرحوم محمد قدري باشا؛ فوضع كتباً قيمة يقنن فيها أحكام الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية وفي المعاملات وفي العقود. فلتقنين الشريعة ـ إذاً ـ سوابق معروفة. ولا نذهب بعيداً؛ فإنّ المشرّع المصري قد قنن بالفعل بعض أحكامها في شكل تشريعات خاصة))([25]).

ورأى السنهوري بأنّ النقل الذي قام به واضعو القوانين المصرية القديمة (خلال القرن التاسع عشر الميلادي) عن القانون الفرنسي؛ كان تجسيداً للاستعمار العسكري والتبعية الفكرية. بينما اعتمد القانون المدني الذي وضعه هو في ثلاثينات القرن العشرين الميلادي؛ على الشريعة الإسلامية أكثر من قبل؛ تعبيراً عن الاستقلال السياسي الذي يقتضي الاستقلال الفقهي والقانوني. ويؤكد الدكتور عبد الرزاق السنهوري بأنّ الاستقاء من نبع الشريعة الإسلامية ليس مبعثه ـ أيضاً ـ الاعتبارات العلمية النابعة من رقي الشريعة الإسلامية وتقدمها على ما سواها من المنظومات القانونية؛ وإنّما اعتماد قانوننا المدني الجديد على الشريعة الإسلامية فيه تحقيق لاستقلالنا الفقهي؛ الذي هو شرط لتحقيق جوهر وحقيقة استقلالنا السياسي. وكيف أنّ الشريعة الإسلامية ـ وتلك خصوصية أُمتنا التي تجلّت عبقرية فقهائنا في وضع فقه معاملاتنا ـ هي الصناعة الوطنية، والبضاعة القومية، والإسهام الحضاري الإسلامي؛ الذي نستطيع أن نسهم به في نهضة وتقدم رقي الفقه العالمي([26]).

4 ـ الجزائر:

كانت عملية التقنين في الجزائر انعكاساً للواقع الذي خلقه الاحتلال الفرنسي. وقد بادرت سلطة الاحتلال إلى تشكيل لجنة من الفقهاء المسلمين والحقوقيين لتقنين أحكام الفقهين الحنفي والمالكي في موضوعات الأحوال الشخصية والمواثيق وجزء يسير من العقود والعقوبات. وقد انجزت اللجنة مهامها في العام 1889. وجاء في نظام اللجنة بأنّ عملها ليس تجديداً للفقه، أو اجتهاداً جديداً؛ وإنّما مجرد تقنين الفقه القديم؛ وإن كان ذلك يستتبع الإختبار في حالة اختلاف آراء الفقهاء بما يتناسب والحالة الاجتماعية والمصالح الاقتصادية للمواطن، وبما يتفق مع الأخلاق والعدالة. وقد أعطى هذه الضوابط المرنة للجنة الحرية في تفضيل بعض آراء المذهب الحنفي على المذهب المالكي، وبعض آراء فقهاء المالكية على فقهاء مالكيين آخرين([27]).

5 ـ شبه القارة الهندية:

في مرحلة الاحتلال البريطاني، حاول المحتل تقريب شعب شبه القارة الهندية إلى النظم السياسية والقانونية الإنجليزية، فأصدرت المحاكم الإنجليزية التابعة لسلطات الاحتلال؛ في أعقاب الثورة الهندية ضد الاحتلال في العام 1875؛ ما عُرف بـ «القانون الإنجلو ـ إسلامي» أو ما ترجمته «القانون الإنجلو ـ محمدي» (anglo mohammadan law)، وهي عبارة عن تشريعات تجمع بين أحكام الفقه الإسلامي الموروث وقواعد القانون البريطاني. وقد فرضت سلطات الاحتلال هذا القانون على المسلمين بالقوة في جميع المناطق التي تحتلها؛ بينما بقي المسلمون في المناطق الهندية ـ التي لم تكن بريطانيا قد احتلتها بعد ـ يرجعون لأحكام الفقه الإسلامي الموروثة، ويحتكمون إلى المحاكم الشرعية وعلماء الدين. وفي المقابل أسست سلطة الاحتلال محاكم إنجليزية تطبق على المسلمين القانون الإنجلو ـ إسلامي، وهي تابعة مباشرة لسلطة المجلس السامي (the privy council)، وهي سلطة الاحتلال الإنجليزي الرسمية.

وعدّ “كولسون” القانون الإنجلو ـ إسلامي بأنّه صورة فريدة للقانون الإسلامي؛ لا تتميز عنه فحسب ـ من الناحية الشكلية ـ من حيث إنّه نظام قانوني قام في أساسه على السوابق القضائية، واعتمد في تطبيقه على نسق هرمي من المحاكم التي تلتزم بتلك السوابق، بل يتميز من الناحية الموضوعية أيضاً من حيث إنّه تأثر إلى حد كبير بالقانون الإنجليزي، ولا سيّما فيما يتصل بمراعاة العدالة، وذلك على نحو عفوي يشبه تأثر التشريع الإسلامي بالقانون الروماني في بداية نشأته([28]). ويقصد “كولسون” بهذا التأثر عملية التشريع وتنظيم الدواوين في عهد السلطتين الأُموية والعباسية، والتي تشبّه فيها الأُمويون بالنظم الرومانية، فيما تشبّه العباسيون بالنظم الفارسية.

إشكاليات التقنين في البلدان الإسلامية

خلقت حركة التقنين في البلدان الإسلامية منذ بدايتها خلال القرن التاسع عشر الميلادي؛ إشكاليات وجداليات متشابهة تقريباً؛ لأنّها في الأعم الأغلب لم تكن فعلاً تأصيلاً محلياً مستجيباً لمتطلبات العصر، بل ردّ فعلٍ على ضغوطات حركة التقنين وخلفياتها في أُوروبا، وتشبّهاً بها، أو خضوعاً لضغوطات سلطات الاحتلال، ولا سيّما الاحتلالين الإنجليزي والفرنسي، والتي كانت تهدف إلى توحيد النظام القانوني والمسار التشريعي في البلدان الخاضعة لاحتلالها؛ ليسهل السيطرة عليها وحكمها بقوة القانون والتشريع، إلى جانب قوة السلاح والإمساك بالأرض.

واشتملت الإشكاليات التي رافقت حركة التقنين في البلدان الإسلامية على ما يلي:

1 ـ الجوانب الشرعية (الفقهية).

2 ـ القانونية (الموضوعية).

3 ـ التقنية (الفنية ـ المادية).

4 ـ السياسية (سلطة المحتل).

5 ـ الفكرية (نتاج الغزو الثقافي).

6 ـ النفسية (صورة المحتل الأجنبي).

ولعلّ الإشكاليات في الجانب الفني التقنيني هي أقل شأناً؛ قياساً بالإشكاليات الأُخر؛ لأنّ تقنيات التقنين يمكن وصفها بالمشترك العام أو الآليات المحايدة التي يمكن الاستفادة منها؛ بصرف النظر عن الدين والمذهب والمدرسة الفكرية والمذهب السياسي.

أمّا الإشكاليات النفسية التي زرعتها سلطة المحتل وصورة الأجنبي المتفوق المغرور في العقل الباطن للنخب الوطنية المسلمة المتدينة، فضلاً عن علماء الدين، فقد خلقت حواجز صلبة أمام الاستفادة الموضوعية المحايدة المناسبة من تقنيات ومناهج التقنين الغربية. وكانت انعكاسات الغزو الفكري وإشكالياته الثقافية على مجتمعات المسلمين؛ تعزز الحواجز النفسية بقوة من جانب، وتجعل شرائح أُخر من المثقفين المسلمين ورجال السياسة المحليين تتشبه بالغرب ونظمه وأفكاره وقوانينه دون أية كوابح دينية ووطنية. وبذلك خلق الحاجز النفسي تياراً محلياً ممانعاً غير موضوعي، ويعدّ التشبه بالغرب حتى في المجالات الفنية المحايدة غير جائزٍ شرعاً وعرفاً([29]). بينما خلق الغزو الثقافي تياراً محلياً منسحقاً عميلاً فكرياً. بيد أنّ كلا التيارين المتعارضين لم يخدما الواقع الإسلامي المتراجع على كل الصعد.

وعلى مستوى الإشكاليات القانونية الموضوعية؛ فإنّ المسلمين تفاجؤوا بنوعية النظم القانونية الغربية، وحجم الآثار الإيجابية لصياغاتها المادية وتنظيمها الفني على واقع الدولة والمجتمع؛ كما اكتشفوا حجم تخلفهم التقني والموضوعي. فبرغم ثراء الفقه الإسلامي وشموله واستيعابه لمعظم مجالات الحياة، ومرونته؛ إلّا أنّ هذا الثراء كان مدفوناً في موسوعات ومدوّنات فقهية مورّثة؛ عظيمةً كماً ونوعاً، ولا يوجد مثيلٌ لها في كل الأديان والمذاهب والمدارس الفكرية إطلاقاً. وكانت هذه المدوّنات بحاجة إلى جهود كبيرة لتتحول إلى أحكام تراكمية موحدة وشبه ثابتة، ولا تخضع لاجتهادات متعددة، ومنظمةً تنظيماً موضوعياً في مدوّنات مبوبة، ولتمثل عقداً اجتماعياً ملزماً للمواطن والمجتمع والدولة، ويضم آليات تطبيق مؤسسية عامة. وواحدة من هذه المؤسسات هي المؤسسة أو السلطة التي تقوم بعملية تقنين الأحكام الشرعية.

وكل هذا لم يكن موجوداً في البلدان الإسلامية، بل وفي حواضرها العلمية الدينية؛ كالزيتونة والأزهر واسطنبول والنجف الأشرف وقم. ولذلك كان المد الفكري والقانوني الأُوروبي يستغل هذا الفراغ الكبير في الواقع الإسلامي ليكرس هيمنته على معظم الصعد، وأخطرها الصعيد التشريعي والفكري.

وكما مرّ، فإنّ أيّ بلد إسلامي لم يكن بمعزل عن هذه الإشكاليات ولم يعايشها بتفاصيلها؛ بما في ذلك البلدان الإسلاميان المستقلان والممتدان جغرافياً وفكرياً: تركيا وإيران؛ واللذان انقلبا على الشريعة الإسلامية فيما بعد، واقتبسا المنظومات القانونية الغربية؛ بأشكالها ومضامينها وموضوعاتها؛ بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية؛ وهو ما حصل بعد تأسيس الجمهورية في تركيا في العام 1923، واستيلاء رضا بهلوي على السلطة في إيران في العام 1926.

إلّا أنّ التحول المصيري في حركة تقنين الشريعة على مستوى الواقع الإسلامي برمته؛ بالمضمون الذي حافظ على أصالة الحكم الشرعي، وموضوعية المقصد الشرعي للقانون، وتصالح فيه مع القانون الحديث، واستخدم أحدث مناهج التقنين، والتصق بروح العصر ومتطلباته؛ هو التحول الذي حدث في إيران بعد العام 1979، والذي أغلق باب التماهي اللا موضوعي مع القوانين الغربية وباب الممانعة اللا موضوعية تجاه التقنيات البشرية والمناهج والمعايير العامة المشتركة في تنظيم سلطات التقنين والتشريع والقضاء وإدارة الدولة وما يصدر عنها.

وذهبت آراء بعض المفكرين الإسلامين المصريين إلى عدم جدوى عملية تقنين الشريعة الإسلامية في حال عدم وجود مجتمع مسلم؛ لأنّ قيام المجتمع الإسلامي يجب أن يسبق وضع القوانين الإسلامية أو تطوير الفقه([30]). وظل هذا الرأي المهم الذي تبنته قطاعات واسعة من الجماعات الإسلامية؛ كالإخوان المسلمين؛ محور خلاف أساس بين التيار الإسلامي السلفي والتيار الإسلامي التنويري.

والحقيقة أنّ هذه الجدلية تستلزم الدور؛ فمن الذي يسبق الآخر في الوجود؛ المجتمع الإسلامي أو القانون الإسلامي؟ كما أنّها تحمل تعارضاً في داخلها؛ فالمجتمع الإسلامي المعاصر لا بدّ أن يقوم على أُسس واضحة ومقبولة بالدرجة ذاتها لدى جميع مكونات المجتمع، ومن أهم هذه الأُسس والمقومات هو القانون؛ إذ إنّ أحكام الشريعة الإسلامية بصيغتها القانونية العصرية المدوّنة الملزمة للجميع هي مقوم أساس لإنشاء المجتمع الإسلامي.

وقد تنبهت جماعات إسلامية أُخر وعدد كبير من الفقهاء إلى هذه الإشكالية، وبادروا إلى وضع منظومات شرعية شبه قانونية كممهّد لإقامة الحكم الإسلامي، والذي من شأنه توفير مقومات بناء المجتمع الإسلامي وتطبيق القانون الشرعي. وكان حزب التحرير ممن بادر إلى هذا السبق؛ من خلال مؤلفات الشيخ محمد تقي النبهاني وغيره من قيادات الحزب؛ كـ «الخلافة» و«الدستور الإسلامي».

وكذلك كانت مبادرة حزب الدعوة الإسلامية من خلال (أُسسه) الشرعية شبه القانونية التي كتبها فقيهه السيد محمد باقر الصدر([31])، وكذلك كثير من المؤلفات التي دوّنها مفكرو الحزب. كما مهّد الإمام الخميني لقيام المجتمع الإسلامي بالتنظير للحكومة الإسلامية([32]). وبالتالي بقيت فكرة قيام المجتمع الإسلامي الذي يسبق تدوين القوانين الإسلامية مجرد رأي نظري لا يصمد أمام الواقع ومتطلباته.

التقنين الدستوري في البلدان الإسلامية

لا تنفصل حركة الدسترة ونشوء ظاهرة الدستور في البلدان الإسلامية عن الحركة الإصلاحية والتجديدية والتحررية الإسلامية والوطنية التي اجتاحت معظم البلدان الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأُولى من القرن العشرين الميلاديين. فكانت حركة الدسترة جزءاً من الحركة العامة للشعوب المسلمة التواقة للخلاص من الاستبداد السياسي، والتخلف العلمي والفكري، والجمود الديني، والاحتلال الأجنبي، والتبعية للغرب. وكانت عناصر الحل التي تتفاعل هذه الحركة في إطارها سيفاً ذا حدين؛ فهي من جهة تعمل على التخلص من الاستبداد والتخلف والهيمنة الأجنبية والاحتلال؛ ولكنها تجد نفسها تتماهى ـ أحيانا ـ مع المستبد الأجنبي أو المحتل في أفكاره وأدواته.

وكما كان (التقنين) الحديث في البلدان الإسلامية متأثراً بالغرب؛ فإنّ (الدسترة) أو إنشاء الدساتير كان أيضاً متأثراً به، بل متشبهاً في الشكل والمضمون بالدساتير الغربية، وبمستويات من التأثر أعلى من التقنين؛ لأنّ التقنين كثيراً ما كان يراعي في مضامينه جانب أحكام الشريعة الإسلامية؛ بينما كانت دساتير البلدان الإسلامية علمانيةً ـ غالباً ـ إلّا من بعض المواد الشكلية. وكانت هناك أربعة بلدان سبّاقة في وضع دساتير لها: تونس في العام 1861، وتركيا العثمانية في العام 1876، ومصر الخديوية في العام 1882، وإيران القاجارية في العام 1907. وسبق ذلك صدور ما عُرف في تركيا بـ «التنظيمات العثمانية» في العام 1839، ثم حركة الإصلاحات في السلطة في العام 1856. وفي إيران القاجارية تأسست أول حكومة قانونية بالمعنى الحديث بفرمان سلطاني، وذلك في العام 1858، وهي تتضمن ملامح دستورية عامة.

وظل الدستور في معظم البلدان الإسلامية يسمى بـ (القانون الأساسي)؛ تبعاً لتسميته في الدولة العثمانية والدولة الإيرانية المهيمنتين ثقافياً وسياسياً ـ آنذاك ـ على معظم البلدان الإسلامية. ثم سماه المصريون خلال القرن العشرين الماضي بـ «القانون النظامي»، بينما صدر في تونس باسم «قانون الدولة». وحين استبدلت البلدان العربية مصطلح (القانون الإساسي) العربي بتسمية (الدستور) الفارسية؛ فإنّ كثيراً من البلدان الإسلامية غير العربية بقيت تستخدم اصطلاح (القانون الأساسي) العربية، وفي المقدمة إيران وتركيا.

وكان التأثر بالدساتير الغربية ليس مجرد تفاعل تلقائي وطبيعي، بل تشبّهاً قسرياً غير موضوعي بدساتير المتفوق والمحتل، والتي أفرزتها مخاضات فكرية وسياسية واجتماعية تختلف في مضامينها عن مناخات البلدان الإسلامية؛ فأصبحت هذه البلدان علمانيةً في دستورها، وإسلامية في بنيتها السياسية الاجتماعية؛ ما يعني فصاماً بنيوياً في أساس الدولة الجديدة.

وإذا كان التأثر يتم ـ غالباً ـ بدافع عقدة التخلف، والتي يخلقها ـ عند بعض النخب المحلية ـ الانبهار بالتطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والمجتمعي للغرب، وتفوقه السياسي والعسكري؛ فإنّ دافعاً آخر كان يلح على نخب أُخر؛ يتمثل في التخلص من الاستبداد السياسي والاحتلال الأجنبي؛ فقد كانت الدولتان المسلمتان المستقلتان العثمانية والإيرانية محكومتين بسلطتين وراثيتين مستبدتين مطلقتين، وكانتا مطبوعتين بسمات التخلف والتبعية وعدم الاستقرار الداخلي. أمّا البلدان المسلمة الأُخر؛ فكانت تعاني من واقع أكثر سوءاً؛ لأنّها كانت محتلة احتلالاً مباشراً من الدولة العثمانية نفسها أو من الدول الأُوروبية الكبرى؛ مما يجعل من سمات التخلف والتبعية وعدم الاستقرار سمات مركبة وأكثر عمقاً من الدولتين التركية والإيرانية.

1 ـ التجربة التركية:

بدأت تجربة تركيا العثمانية مع التقنين الدستوري في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي؛ ففي العام 1808 صادق السلطان محمود الثاني على ما عُرف بـ «سند إتفاق»، وهو ميثاق وطني بين الحكومة وأعيان البلاد؛ يتألف من مدخل وسبعة مواد وملحق. وقد تم التوقيع عليه في اجتماع لأعيان البلاد (مشورتي عامه). وجاء في أول مادة من الميثاق: ((يقبل مُبرِموا الاتفاق أنّ يكون السلطان رئيس الدولة، وأن يحافظ الجند على خزينة الدولة ومدخولها بعد بناء الدولة عسكرياً، وأن ينفذوا كل أمر يصدر من الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) على أنّه أمر صادر من السلطان، ولا يعترضوا عليه، وإذا حدثت فتنة أو فساد في العاصمة يأتوا إليها دون استدعاء، ويُغِيروا علي المتمردين))([33]). ويُعدّ ميثاق 1808 أول صيغة دستورية عثمانية رسمية مدوّنة تحدد طبيعة المسؤوليات في الدولة؛ ولا سيّما القوات المسلحة والحكومة، وتقيد صلاحيات السلطان العثماني.

وبعد تولي عبد الحميد الثاني السلطنة خلفاً لمحمود الثاني؛ أصدر في العام 1839 ما عُرف بـ «فرمان تنظيمات»، وهو أمر سلطاني نصّ على إصدار قوانين جديدة لإدارة الدولة بشكل جيد. وتضمن الفرمان أُصولاً دستورية وقانونية تتعلق بفرض الضريبة على كل فرد وفق وضعه المالي، ولا يُتبع نظام الالتزام، وشرعية نفقات الدولة، وعدم جواز معاقبة أي شخص إلّا بعد محاكمته، وتخويل المحاكمَ سلطة الجزاء العرفي، وعدم المساس بعرض وكرامة أي شخص، وحق الملكية لكل إنسان، ومنع مصادرة الإرث من الشخص صاحب الإرث إذا ارتكب جرماً، والمساواة بين أفراد الشعب في الحقوق دون تمييز ديني، وتفعيل القوانين بعد أن يُعدها مجلس الأحكام العدلية، وبعد مصادقة السلطان عليها، والتزام السلطان وعلماء الدين والوزراء بالقوانين. وقد ساعد «فرمان تنظيمات» في ظهورِ تيار دستوري أوجده جماعة من العلمانيين المتأثرين بالتطورات الدستورية الغربية؛ أطلقوا على أنفسهم (الشباب العثمانيين).

وفي عهد السلطان عبد المجيد أعلنت الدولة العثمانية عن «فرمان إصلاحات» في العام 1856؛ المؤلف من (56) مادة، والذي دوّنته لجنة مشتركة مؤلفة من مندوبي الدولة العثمانية وانجلترا وفرنسا والنمسا، وهي دول (اتفاق باريس). وبموجبه اشترطت إنجلترا وفرنسا والنمسا على الدولة العثمانية إصدار ميثاق قانوني وتطبيقه داخل جميع ولايات الدولة العثمانية؛ مقابل مساندتها في (حرب القرم) ضد روسيا. ونص الفرمان على المساواة بين رعايا الدولة العثمانية بصرف النظر عن الدين: ((لا يجوز تمييز طبقة من الطبقات الحاكِمة على طبقة أُخرى بسبب الدين،أو اللغة، أو الجنسية))، والمساواة في الامتيازات بين الأديان، وحرية العبادة وإيجاد أماكن العبادة للأديان والمستشفيات ومراكز التبشير، وعدم التدخل في أموال رهبان المسيحيين، واعتبارهم ضمن موظفي الدولة، والحد من سلطات رجال الدين الإسلامي بما يناسب العصر، وإلغاء شرط الإسلام من شروط التوظيف في الدولة.

هذه الصيغة الميثاقية الدستورية؛ كانت البوابة الكبرى التي دخلت منها القوى الأُوروبية إلى الداخل العثماني؛ لخلخلته وإسقاطه تدريجياً، وسمحت للأقليات الدينية المسيحية واليهودية بالتنسيق علانية مع الدول الأُوروبية، واستلام الدعم المالي والمعنوي منها، والنفوذ في مرافق الدولة؛ ولا سيّما القوات المسلحة.

وقد مهّد «فرمان إصلاحات» لإنشاء أول دستور للدولة العثمانية، وذلك في العام 1876 في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وسمي «قانون أساسي دولت عليه عثماني»، ويتألف من (119) مادة و(12) قسماً، واستمر العمل به حتى العام 1921. وهو نسخة معدّلة عن دستور بلجيكا للعام 1831 ودستور بروسيا (ألمانيا) للعام 1851. وقد أعدّت الدستور لجنة برئاسة رئيس الوزراء ـ فيما بعد ـ مدحت باشا، ومؤلفة من عشرين خبيراً من علماء الدين والعسكريين والموظفين؛ بينهم ثلاثة مسيحيين. وبعد إقرار مُسوَّدة الدستور من هيئة الوكلاء؛ صادق عليها السلطان. ورفع الدستور شعار الحرية والأُخوّة والمساواة والعدالة، ونص على مجموعة من الأُصول؛ أهمها: أنّ السلطنة هي ثابتة للولد الأكبر من سلالة آل عثمان، وأن السلطان يتمتع بحصانة مقدسة، ويطلق اسم (عثمانلي) (عثماني) على أفراد التبعة العثمانية كافة؛ أي الرعايا في جميع البلدان المحتلة من قبل تركيا العثمانية؛ من أي دين ومذهب كانوا، وأن العثمانيين بأجمعهم يملكون حريتهم الشخصية ولا يعتدون على حقوق وحريات الآخرين، وهم متساوون أمام القانون في الحقوق والوظائف، وأن دين الدولة العثمانية هو الإسلام؛ مع كفالة حرية جميع الأديان المعروفة في الممالك، وأن اللغة التركية هي لغة الدولة، ويشترط إجادتها في وظائف الدولة، وأن السلطة التشريعية تتألف من هيئتين: (مجلس الأعيان)(الشيوخ) الذي يعين السلطان أعضاءه، و(مجلس مبعوثان) (النواب) الذي ينتخبه رعايا الدولة في كل البلدان.

وقد تعرض القانون الأساسي (دستور العام 1876) للتعديل خمس مرات، كما عطّل السلطان عبد الحميد العمل به في العام 1888، وأغلق مجلس النواب، وألغى الحقوق والحريات، وشدد الرقابة على الصحف. وجراء ذلك بادر عدد من النشطاء السياسيين والثقافيين العلمانيين إلى تأسيس جمعية سرية أسموها (اتحادي عثمانلي) (الاتحاد العثماني). وبعد اتساع نشاطاتها وتزايد أعضائها؛ تغيّر اسمها في العام 1895 إلى (جمعيتي اتحاد وترقي) (جمعية الاتحاد والترقي). وأعلنت الجمعية العصيان العام في سنة 1907، وهددت بالقيام بأعمال تزعزع كيان الدولة؛ بهدف إعادة العمل بالدستور (إعادة إعلان الشرعية)؛ الأمر الذي اضطر السلطان عبد الحميد الثاني إلى إعادة العمل بالدستور في العام 1908؛ بكل ما يتضمنه من مؤسسات وحقوق وحريات.

وبعد انهيار الدولة العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأُولى، ووقوع البلدان التي كانت تحتلها تحت احتلال جديد (بريطاني ـ فرنسي)؛ عادت الدولة التركية إلى حدودها شبه الأصلية، وتحوّلت من دولة ثيوقراطية عابرة للحدود والقوميات تحكم باسم الدين إلى دولة قومية علمانية؛ واقعية في حدودها وطموحاتها. وأصبح دعاة جمعية الاتحاد والترقي؛ ولا سيّما كبار ضباط الجيش منهم؛ هم الحكّام الحقيقيين في الدولة، وتحوّل السلطان العثماني إلى مجرد رمزٍ للدولة. وهو ما أقره دستور دولة تركيا الجديد الذي صدر في العام 1921، والمؤلف من (23) مادة (دستور مختصر)، وقد دونته الحكومة العسكرية برئاسة الجنرال مصطفى كمال (اتاتورك)، وأقره مجلس الشعب التركي. ونص الدستور الجديد على أنّ الشعب هو مصدر السلطات دون قيد أو شرط، ويُدير الدولة بنفسه.

وأُجري تعديل أساس على الدستور في العام 1923؛ أُلغيت بموجبه الخلافة، وأُسقط حكم السلالة العثمانية، وأُعلنت الجمهورية التركية. وتم استحداث منصب رئيس الجمهورية؛ ليتحول النظام السياسي في تركيا من نظام الخلافة إلى النظام الرئاسي. واستكمالاً للتعديلات، ولإنهاء كل آثار الدولة العثمانية ونظام الخلافة ومستلزماته الدينية؛ فقد أقرّ مجلس الشعب التركي دستوراً جديداً مفصلاً من (105) مواد. وهو شبيه بدستور الجمهورية الفرنسية الثانية. وأصبحت بموجبه تركيا دولةً قومية علمانية في قوانينها وأدائها ومؤسساتها([34]).

2 ـ التجربة الإيرانية:

في العقود الأُولى من القرن التاسع عشر الميلادي؛ بدأ الحراك في إيران القاجارية باتجاه تنظيم الحياة السياسية وإنشاء دستور يكفل تنظيم الحدود والحريات، والتخفيف من حجم الاستبداد الشاهنشاهي والحكم المطلق. وكان من المدوّنات المهمة في هذا المجال كتاب «دفتر تنظيمات» الذي حرره السياسي والدبلوماسي الإيراني ملكم خان، والذي أسس لفكر دولة القانون في إيران والفصل بين السلطات. وجاء ذلك متزامناً مع باكورة إصلاحات الشاه القاجاري ناصر الدين، والتي كان من أهم افرازاتها تشكيل حكومة بصيغة حديثة في العام 1858. وكان ناصر الدين شاه قد أمر في العام 1890 بترجمة الدستور الفرنسي في عهد “نابليون بونابرت”، وأمر (شوراى دولتي) (مجلس الحكم) بتطبيق مواده. إلّا أنّ إصلاحات ناصر الدين شاه الدستورية لم تكن إلّا لإسكات صوت النخبة الدينية والثقافية الإيرانية التي كانت تتحرك بقوة لتحقيق العدالة والحرية، وتقييد صلاحيات الشاه وحكومته. وقد أدى الصدام بين الطرفين إلى اغتيال ناصرالدين شاه في العام 1896 على يد أحد أنصار السيد جمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي). وتزامن ذلك مع تشكيل الجمعيات السرية الأُولى التي كانت تدعو إلى القوننة والدسترة والحكومة المشروطة؛ أي الحكومة التي تمارس سلطتها بالشروط المدوّنة والقانون. وأول من تصدى لهذا الحراك وقاده اثنان من كبار فقهاء إيران؛ هما السيد محمد الطباطبائي والسيد عبد الله البهبهاني. ثم التحق بهما في السنوات اللاحقة عدد من الفقهاء والمثقفين الدينيين. وكان هذا التيار يستند إلى دعم حوزة النجف الأشرف ومرجعياتها له. وقد عمل دعم المرجع الأعلى الجديد في النجف الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني دوراً بالغاً في تقوية هذا التيار.

وإلى جانب التيار الدستوري الديني؛ كان هناك تيار علماني ناشط؛ يدعو إلى الحكم الدستوري أيضاً، ولكنه يرفع شعارات معادية للدين ولكل إلزامات العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية، وكان متأثراً ومدعوماً من روسيا القيصرية وبعض المؤسسات الأُوروبية. إلّا أنّ التيار الديني كان يهيمن بالكامل على الشارع الإيراني؛ بينما يحظى التيار العلماني بوسائل مهمة للتعبير؛ هي الصحف.

وكان الشاه مظفر الدين القاجاري ـ الذي أعقب الشاه ناصر الدين ـ متعاطفاً مع المشروطة ومطالب التيار الدستوري المعارض، ولكنه كان ضعيفاً وخاضعاً لسيطرة الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) القوي والمتنفذ علي أصغر خان أتابك، والذي كان يعادي المشروطة وتيارها، ويمارس القمع ضد جمعياتها السرية؛ مما يشدد من قبضة الاستبداد، ويكرّس الحكم المطلق.

وتصاعد الحراك الدستوري بعد إرسال مجموعة من علماء النجف الأشرف رسالة مهمة إلى الشاه مظفر الدين في العام 1902 يطالبونه بتأسيس مجلس لوكلاء الشعب (النواب)؛ ليقوم بدور تمثيل سلطة الشعب وبعمليتي التقنين والرقابة([35]). وفي مقابل إصرار الحكومة الإيرانية على الرفض؛ انفجر الوضع في الشارع الإيراني، واندلعت ثورة المشروطة، وسقط عدد كبير من القتلى والجرحى في التظاهرات التي اجتاحت العاصمة طهران وعدد من المدن الإيرانية؛ فقام عدد كبير من علماء الدين ومعهم جمهور كبير من سوق (بازار) طهران بالهجرة إلى قم احتجاجاً على قمع السلطة وعدم استجابتها لمطاليب الشعب في القبول بالمشروطة. واستمر الحراك بوتيرة تصاعدية تهدد أمن البلاد. فرضخت الحكومة لمطاليب الثوار، ووقع الشاه في أواسط العام 1906 على قرار تشكيل (مجلس شوراي ملي) (مجلس الشورى الوطني) وإنشاء الدستور. وكان هذا التوقيع بمثابة انتصار تمهيدي لثورة المشروطة المطالبة بالدستور.

وفي أعقاب هذا الانتصار؛ انتخب الشعب نوابه في مجلس الشورى، وافتتح المجلس في العام نفسه بحضور الشاه. وكانت المهمة العاجلة للمجلس تشكيل لجنة من علماء الدين والاختصاصيين لتدوين الدستور. وبعد إقرار المجلس للصيغة النهائية للدستور؛ صادق عليه الشاه في مطلع العام 1907؛ قبل وفاته بأيام. وسمي بـ «قانون أساسي مشروطيت» (دستور المشروطة). وهو شبيه في معظم مواده بالدستور البلجيكي للعام 1830؛ مع إلغاء أو تعديل المواد التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية([36]).

وبعد إصرار بعض الفقهاء؛ وفي مقدمهم الشيخ فضل الله النوري؛ على ضمان توافق الدستور مع الشريعة الإسلامية بشكل كامل، ومع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية الإيرانية؛ فقد أقر مجلس الشورى ملحقاً للدستور؛ صادق عليه الشاه الجديد محمد علي القاجاري؛ وأصبح الدستور الإيراني القاجاري بصيغته النهائية مؤلفاً من عشرة فصول و(107) مواد. وقد فصل الدستور بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحدد صلاحيات الشاه والحكومة، وحدد دين الدولة بالإسلام، ومذهب الدولة بالمذهب الجعفري الاثني عشري. ونصت المادة الثانية على تشكيل لجنة من خمسة مجتهدين؛ تمتلك صلاحية مطابقة تشريعات المجلس مع أحكام الشريعة الإسلامية([37])، ورفض أي قانون لا يتطابق مع الشريعة([38]).

لقد انقسمت إيران خلال ثورة المشروطة إلى أربعة تيارات رئيسة متصارعة بشدة:

1 ـ تيار المشروطة المشروعة، وهو تيار الإسلاميين الدستوريين، ويقوده عدد من الفقهاء، وفي مقدمهم السيد عبد الله البهبهاني الغريفي والسيد محمد الطباطبائي، ويدعمهم في النجف مرجع النجف الشيخ الآخوند الخراساني، وفقهاء آخرون؛ كالشيخ عبد الله المازندراني والشيخ الميرزا خليل والشيخ الميرزا النائيني. وهو تيار الأغلبية في الشارع، وفي مجلس الشورى الوطني الإيراني.

2 ـ تيار المشروطة العلمانية، ويضم الماركسيين والليبراليين التغريبيين، وهو تيار له حضوره في مجلس الشورى، وفي الصحافة، ومؤسسات الدولة.

3 ـ تيار المستبدة، ويضم الحكومة وأنصار الشاه، يقوده الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، وهو التيار الذي يهيمن على أجهزة الدولة والقرار السياسي.

4 ـ تيار المشروعة، وهو تيار الإسلاميين الرافضين للدستور الوضعي، والمطالبين بتحكيم الشريعة الإسلامية، ويقودهم عدد من الفقهاء، وفي مقدمهم الشيخ فضل الله النوري، ويدعمه في النجف المرجع السيد كاظم اليزدي.

وكان الصراع بين التيارات الأربعة على أشده في الشارع الإيراني خلال الأعوام 1907 إلى 1909. وفي الوقت الذي كان تيار (المشروطة المشروعة) بقيادة السيد البهبهاني يتهم تيار (المشروعة) بقيادة الشيخ النوري بالتحالف مع تيار (المستبدة) بقيادة الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، بدعم الحكم الشاهنشاهي المطلق، وباستلام الأموال من الصدر الأعظم، والعمالة لروسيا؛ فإنّ تيار (المشروعة) كان يتهم تيار (المشروطة المشروعة) بالتحالف مع تيار (المشروعة العلمانية)، الذي يصفه بالإلحاد والكفر، وبالعمالة لبريطانيا.

ولذلك فإنّ الانقسام الخطير في الاجتماع الديني السياسي الشيعي في تلك الفترة كان سببه أنّ كلا التيارين المتصارعين يقودهما مراجع دين وفقهاء. ولم يقتصر هذا الصراع الاجتماعي على إيران، بل كان العراق ميداناً شرساً لهذا الصراع([39]).

وأعطى انقسام التيار الديني وكبار فقهاء الشيعة في إيران والنجف؛ مسوغاً للشاه القاجاري محمد علي لضرب الثورة الدستورية، واستعان بآراء وفتاوى بعض علماء الدين الذين حرّموا المشروطة والدستور؛ ولا سيّما الشيخ فضل الله النوري؛ لإلغاء الدستور في العام 1908، وقصف مبنى مجلس الشورى الوطني بالمدفعية، وإعلان الأحكام العرفية، وإعدام بعض ناشطي المشروطة. وكان يرفع خلال ذلك شعاراً دينياً: ((الدستور بدعة تتعارض مع الإسلام))([40]).

وبذلك باتت ثورة الدستور ومنجزاتها على مشارف الانهيار. إلّا أنّ تحرك علماء النجف الأشرف أحبط جزءاً من مخططات الشاه، وأدت رسالة مرجع النجف الآخوند الخراساني إلى علماء إيران إلى إعادة تفعيل الحراك الثوري، وتشكيل الجمعيات السرية من جديد. وأفرز الحراك عملاً ثورياً مسلحاً؛ انتهى بدخول مجاميع ثوار المشروطة المسلحة إلى طهران عنوة، وسيطروا على مقاليد الأُمور في العام 1909، وأجبروا الشاه محمد علي على إعادة العمل بالقانون الأساسي. وفي أعقابها أُجريت الانتخابات البرلمانية ثانية، وتم افتتاح الدورة الثانية لمجلس الشورى الوطني.

تجدر الإشارة إلى أنّ ضريبة انتصار الحركة الدستورية في إيران كان مقتل قائدي التيارين الدينيين الأساسيين المتصارعين خلال الثورة؛ فقد قام ثوار المشروطة بعد دخولهم طهران ونجاحهم في السيطرة على العاصمة؛ بمحاكمة الفقيه الشيخ فضل الله النوري قائد تيار (المشروعة) المناهض لـ (المشروطة)، وإصدار حكم الإعدام عليه، وتنفيذ الحكم في مركز العاصمة طهران في العام 1909؛ وسط مهرجان من الفرح أقامه أنصار المشروطة. وبعد عام تقريباً (1910) قام أحد أنصار (المشروعة) بإغتيال الفقيه السيد عبد الله البهبهاني الغريفي قائد ثورة (المشروطة)، والذي كان يلقب بـ (شاه سياه) (الشاه الأسود) ([41]).

والذي نريد قوله هنا أنّ التسقيط والاتهامات القاسية المتبادلة بين فقهاء المشروطة (حكم الدستور) وفقهاء المشروعة (حكم الشريعة) لم يكن تسقيطاً شخصياً ولا اتهامات بدوافع شخصية في كثير منه، بل هي نتيجة تعارض شديد في الاجتهاد وفي منهجية التأصيل للفقه السياسي والإسلامي ومخرجاته الواقعية. وكان كلا الفريقين يرى أنّ معركته المصيرية من شأنها إحقاق الحق والعدل وإنقاذ الأُمّة ومنع انهيار الشريعة. ولكن مخرجات هذا التعارض كانت غاية في التطرف والقسوة.

وتمّ تعديل دستور المشروطة أكثر من مرة؛ كان أهمها تعديل المادة الخاصة بحكم السلسلة القاجارية وتثبيت حكم أُسرة بهلوي، وذلك بعد نجاح انقلاب قائد الجيش ورئيس الوزراء رضا خان مير بنج (بهلوي فيما بعد)، والذي نصب نفسه ملكاً على إيران في العام 1926، وقد حصر جميع السلطات بيده، وصادر الدستور عملياً، ومهّد لاستبداد أكبر بقيادة الأُسرة الحاكمة الجديدة (البهلوية). وقد استمر العمل بدستور المشروطة حتى العام 1979؛ حين أسقطته الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، وأسست لدستور جديد.

 

 

 

([1]) عطية، د. جمال الدين، «الواقع والمثال في الفكر الإسلامي المعاصر» (مصدر سابق)، ص222.

([2]) يمكن في هذا المجال مراجعة مئات الكتب والشهادات التي كتبها مسلمون وغير مسلمين، ومنها اعترافات المؤتمرات الدولية؛ من مؤتمر لاهاي في العام 1932 وحتى مؤتمر المجمع الدولي للقانون المقارن في العام 1951. اُنظر: لوبون، غوستاف، «حضارة العرب»، ترجمة: عادل زعيتر، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2000. وسيديولوت، «تاريخ العرب». ود. عبد الرزاق السنهوري، «فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أُمم شرقية»، ترجمة: د. توفيق الشاوي؛ ود. نادية السنهوري، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1989. وعطية، د.جمال الدين، «تراث الفقه الإسلامي ومنهج الاستفادة منه» (د.ن)، الكويت، 1967.

([3]) روى الحديث أبو هريرة وصحابة آخرون بصيغ متشابهة عن رسول الله(ص)، وهو ـ في رأيي ـ حديث موضوع، ويتعارض مع بديهيات الشريعة والعقل. نقله الشيخ محمد بن سلامة القضاعي في «مسند الشهابي»، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1985، ج1، ص257، الحديث 1346.

([4]) عطية، د. جمال الدين، «الواقع والمثال» (مصدر سابق)، ص238.

([5]) المصدر السابق، ص222.

([6]) وضع الباحث عبد الجبار الرفاعي (خلال تسعينات القرن الميلادي الماضي) موسوعة من عشرة مجلدات تحت عنوان «النظام الإسلامي»، إصدار: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم، 1417ه‍، وقد ضمت قوائم ببليوغرافيا (Bibliography) لما كتب عن موضوعات الدولة الإسلامية وفقهها، وخصّ المجلد الثامن بمصادر الإمامة والسياسة. وعند النظر في هذه المصادر، وتحديداً المصادر الخاصة بمدرسة الإمامة؛ سنجد أنّ معظمها صدر بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

([7]) اُنظر: المؤمن، علي، «الفقه والسياسة» (مصدر سابق)، 75 ـ 76.

([8]) اُنظر: جعفر، د.علي محمد، «نشأة القوانين» (مصدر سابق)، ص243.

([9]) اُنظر: عطية، د. جمال الدين، «الواقع والمثال» (مصدر سابق)، ص224.

([10]) الجمال، د. مصطفى، «النظرية العامة للقانون» (مصدر سابق)، ص232.

([11]) اُنظر: البغا، د. محمد، «التقنين كما يبدو في مجلة الأحكام العدلية»:

http://www.taddart.org/?p=12736.

([12]) صابان، سهيل، «تطور الأوضاع الثقافية في تركيا من عهد التنظيمات العثمانية إلى عهد الجمهورية»، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، 2010، ص187.

([13]) كولسون، هانز، «في تاريخ التشريع الإسلامي» (مصدر سابق)، ص206.

([14]) السنهوري، د. عبد الرزاق، «فقه الخلافة» (مصدر سابق) ، ص7.

([15]) صدر كتاب «تحرير المجلة» في خمسة مجلدات في النجف الأشرف، في العام 1939.

([16]) باشا صالح، علي، «سركذشت قانون: مباحث تاريخ حقوق» (تاريخ القانون: دراسات في تاريخ الحقوق»، ط3، جامعة طهران، 2001، ص227.

([17]) المصدر السابق، ص 227 ـ 228.

([18]) اُنظر: سروستاني، د. شفيعي، «فقه وقانون كذاري» (الفقه والتقنين)، ص86.

([19]) باشا صالح، علي (مصدر سابق)، ص176.

([20]) نوري، فضل الله، «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل»، إعداد: محمد تركمان (مصدر سابق)، ضمن كتاب «رسائل شيخ فضل الله نوري»، (بالفارسية)، ص29.

([21]) دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المادة الرابعة، ص5.

([22]) المصدر السابق، المواد 91 ـ 99، ص42 ـ 44.

([23]) شيرازي، د. أصغر، «إيران: السياسة والدولة» (مصدر سابق)، ص85.

([24])كولسون، هانز (مصدر سابق)، ص228.

([25]) السنهوري، د. عبد الرزاق، من محاضرة ألقاها في العام 1942 في القاهرة،

archive.islamonline.net/?p=20587

([26]) المصدر السابق.

([27]) عطية، د.جمال الدين، «التظير الفقهي» (مصدر سابق)، ص126.

([28]) كولسون، هانز (مصدر سابق)، ص228.

([29]) استناداً إلى الحديث النبوي المروي عن عبد الله بن مسعود: «إياكم ومحدثات الأُمور، فإنّ شر الأُمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة». نقله ابن ماجه في سننه، تحقيق: محمود نصار، دار الكتب العلمية، بيروت، 2014، ج1، ص25.

([30]) اُنظر نموذجاً: قطب، سيد، «معالم في الطريق»، دار الشروق، القاهرة، 1973، ص37، في معرض رده على دعوات المفكر الجزائري مالك بن نبي للنهوض والتجديد.

([31]) وهي المعروفة بـ «الأُسس الإسلامية»، ثقافة حزب الدعوة الإسلامية (مصدر سابق)، ج1، ص76.

([32]) محاضراته الفقهية التي ألقاها في النجف الأشرف خلال العام 1969 والتي طبعت في كتاب «الحكومة الإسلامية» أو «ولاية الفقيه»، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1996.

([33]) بكر، عصمت عبد المجيد، «النظام القانوني في العهدين العثماني والجمهوري»، دار الكتب العلمية، بيروت، 2012، ص43.

([34]) اُنظر: صابان، سهيل، «تطور الأوضاع الثقافية في تركيا من عهد التنظيمات العثمانية إلى العهد الجمهوري» (مصدر سابق)، ص107 ـ 124. وبكر، عصمت عبد المجيد، «النظام القانوني في العهدين العثماني والجمهوري» (مصدر سابق)، ص94.

([35]) حائري، عبد الهادي، «تشيع ومشروطيت در إيران ونقش إيرانيان مقيم عراق» (التشيع والمشروطة في إيران ودور الإيرانيين المقيمين في العراق)، دار أمير كبير، طهران، 1981، ص12.

([36]) باشا صالح، علي (مصدر سابق)، ص270.

([37]) «متمم قانون اساسي مشروطة» (ملحق دستور المشروطة)، دار جمال، طهران، 2003.

([38]) المادة الثانية من ملحق دستور المشروطة، والتي تنص على حق النقض الذي يمتلكه خمسة من المجتهدين (فقهاء الشريعة) على تشريعات مجلس الشورى؛ فيما لو كانت تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ تشبه في مضمونها المادة (91) من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي تنص على وجود مجلس صيانة الدستور الذي يضم ستة فقهاء وستة حقوقيين؛ يطابقون تشريعات مجلس الشورى مع أحكام الشريعة ومواد الدستور.

اُنظر: «قانون أساسي مشروطة» (دستور المشروطة)، المادة الثانية، ص17، و«قانون أساسي جمهوري إسلامي إيران» (دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية)، ص25.

([39]) كانت نخبة المجتمع النجفي ـ مثلاً ـ منقسمة ـ غالباً ـ إلى (مشروطة) و(مستبدة)؛ فجماعة المشروطة يسيرون خلف مرجع النجف الأعلى الآخوند الخراساني (راعي المشروطة)، وتيار المستبدة يؤيد مرجع النجف الآخر السيد محمد كاظم اليزدي. وكان بين الطرفين صراعٌ محتدم.

([40]) نجفي أسفاد، د. مرتضى، «حقوق أساسي جمهوري إسلامي إيران» (القانون الدستوري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية) (مصدر سابق)، ص8.

([41]) وُصف السيد عبد الله البهبهاني بـ (الشاه)؛ لأنّه كان يهيمن على قرار الدولة ويمارس ولايته على الحكومة والبلاط بعد انتصار ثورة المشروطة في العام 1909. أمّا وصف (الأسود) فبسبب سحنته السمراء الداكنة، إذ هو من أُصول بحرانية (من الأُسرة البلادية الغريفية)، ومن مواليد النجف الأشرف بالعراق.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment