النظام العالمي في ظل الحرب الباردة

Last Updated: 2024/05/30By

النظام العالمي في ظل الحرب الباردة

د. علي المؤمن

 

تأسيس هيئة الأمم المتحدة

من النتائج المهمة التي أسفرت عنها معاهدات ما بعد الحرب الاستعمارية الثانية، قيام الأمم المتحدة، منظمة دولية، تسهر على حماية السلام والأمن العالمي، وتحقق مستويات معينة من التضامن الدولي. وقد بدأ التمهيد لقيام الهيئة خلال الحرب الاستعمارية الثانية، بمقترح طرحه الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عام 1942 تحت عنوان «إعلان الأمم المتحدة»، كبديل لعصبة الأمم، التي أثبتت فشلها في معظم الأزمات العالمية والإقليمية، ولم تحقق الحد الأدنى من أهدافها، بسبب عدم امتلاكها الآليات المطلوبة للتنفيذ والإلزام، وعدم انضمام بعض الدول العظمى المؤثرة إليها، وخضوعها للتوازنات بين الدول الاستعمارية الكبرى ومصالحها المتبادلة.

وهيئة الأمم المتحدة – في الحقيقية – مطلب أحس الحلفاء بضرورته خلال الحرب، وكما كانت الولايات المتحدة صاحبة المبادرة في تأسيس عصبة الأمم – في إطار مبادىء الرئيس «ويلسون» – فإنها هنا صاحبة المبادرة أيضاً. بيد أن الرئيس «روزفلت» مات قبل أن يشهد قيام الأمم المتحدة ببضعة أشهر، ففي «مؤتمر سان فرانسيسكو» في أمريكا، الذي اشتركت في أعماله إحدى وخمسون دولة، في الفترة من 15 نيسان وحتى 26 حزيران/يونيو 1945، تمت دراسة مقدمات «مؤتمر دومبارتون أوكس» عام 1942 الذي انفردت بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والصين بحضوره بشأن إقامته وضع دولي جديد يأخذ طابع النظام وتحكمه مبادىء قانونية تنظم العلاقات بين الدول، ويضم أجهزة ومؤسسات ملزمة للواقع الدولي برمته، ولا تستثنى منه أية دولة. وتم التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة في ختام «مؤتمر سان فرانسيكو»، ثم أعلن عن قيام منظمة الأمم المتحدة، في أواخر عام 1945.

يضم ميثاق الأمم المتحدة (111) مادة، مع مقدمة تشرح الأهداف العليا للمنظمة، وفي المقدمة ضمان السلم والأمن العالمي، وتحقيق التعاون الدولي والعلاقات الودية بين شعوب العالم، بالشكل الذي يكفل حل ما يتعرض له الواقع العالمي من مشكلات اقتصادية واجتماعية وثقافية وإنسانية، ويكفل أيضاً حصول الإنسان على حقوقه المشروعة وحرياته الأساسية. وهي أهداف لا تختلف عن أهداف عصبة الأمم سوى في بعض الصياغات.

وفي أول اجتماع للهيئة في لندن في 10 كانون الثاني/يناير 1946، تم اختيار نيويورك (ثاني المدن الأمريكية) مقراً دائماً للمنظمة؛ لتكون العاصمة السياسية للعالم؛ تكريساً للدور الأمريكي الجديد في العالم، بعد أن ودعت مرحلة الانكفاء التي دخلتها مختارة في فترة ما بين الحربين. كما تم اختيار أعضاء مجلس الأمن الدولي، بينهم خمسة أعضاء دائمي العضوية، هي دول الحلفاء المنتصرة (بريطانيا، فرنسا، روسيا، أمريكا، والصين)، ويتمتعون من موقع الوصاية والأبوة المفروضة بامتيازات لا نظير لها، وفي مقدمة ذلك أن عضويتهم دائمة، وأن لهم حق نقض قرارات المجلس، وبالتالي قرارات الجمعية العامة والأمين العام؛ لأن التوصيات السياسية والأمنية للجمعية العامة والأمين العام تبقى حبراً على ورق دون إقرارها من قبل مجلس الأمن. وهذه الميزة التي تعطي للأقوياء فقط حق البقاء، هي بدعة جديدة في الفكر السياسي الحديث أكثر شمولية وعمقاً وأخف وطأه من بدعة الانتداب التي أقرتها عصبة الأمم في أعقاب الحرب الاستعمارية الأولى. وتألفت المنظمة من الأجهزة التالية:

1 – الجمعية العامة، وتدخل في عضويتها جميع الدول الأعضاء في المنظمة، وحقوق وواجبات الدول متساوية في إطار الجمعية العامة، وتعقد دورة واحدة كل سنة. ويدخل انتخاب الأمين العام واختيار الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن، وأعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي وقضاة محكمة العدل وإقرار ميزانية المنظمة ضمن اختصاصات الجمعية العامة. وهي بمثابة برلمان المنظمة.

2 – المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وينتخب أعضاؤه من بين الدول الأعضاء في المنظمة، ويهتم بالجوانب الاقتصادية والثقافية والإنسانية لشعوب العالم. وهو أداة الاتصال بين منظمة الأمم المتحدة والوكالات التخصصية التابعة لها، كاليونسكو واليونسيف ووكالة الطاقة الذرية، وغوث اللاجئين، والقيمة والعمل والتجارة وغيرها.

3- محكمة العدل الدولية، وقد خصص لها ميثاق مستقل من (70) مادة، ومقرها مدينة لاهاي، وتضم (15) قاضياً، مهمتهم النظر في القضايا الدولية التي يطرحها عليهم أعضاء الأمم المتحدة أو أجهزة المنظمة نفسها.

4 – الأمانة العامة، وتضم الأمين العام (تنتخبه الجمعية العامة لمدة خمس سنوات بترشيح من مجلس الأمن، ويعني ذلك أن الأمين العام هو مرشح الدول العظمى الدائمة العضوية في المجلس) ونوابه وعدد من المكاتب واللجان.

لم تنجح هيئة الأمم المتحدة فيما فشلت فيه عصبه الأمم؛ بل إنها بقيت في – أغلب الأحيان – تحقق رغبة الأقوياء (الدول الكبرى) بأساليب مقننة، ومحكومة بأجهزة ومؤسسات. وهي في الوقت ذاته متنفس للدول النامية والفقيرة ولكن اختلافها الوحيد عن عصبة الأمم هو أنها الخيار الوحيد للدول العظمى للمحافظة على التوازن الدولي وتجنب كوارث الحرب الكبرى.

بدء الحرب الباردة

اقتسام الغنائم، هو السبب الأساس في اصطفاف الدول المنتصرة في الحرب الاستعمارية الثانية أمام بعضها. وكان اللاعب الرئيسي في الساحة الاتحاد السوفيتي، الذي يدفعه عاملان موضوعيان مهمان للمطالبة بأكبر قدر من الغنائم، الأول حجم الخسائر التي قدمها في الحرب، والتي تعادل مجموع خسائر الدول المتحاربة، والثاني الإنجازات الكبيرة التي حققها في السنتين الأخيرتين من الحرب، والتي كان لها دور أساس في هزيمة ألمانيا. وهناك عامل آخر ذاتي هو الأمر الواقع، فحين خرج الاتحاد السوفيتي من الحرب، كان يشعر أنه أقوى من أي وقت آخر؛ لأنه يسيطر عسكريا على حوالي نصف مساحة أوربا (جميع دول أوربا الشرقية)، فضلاً عن تأثيره الآيديولوجي؛ مما يجعل قيام أنظمة شيوعية في هذه البلدان أمراً واقعاً.

وفي المقابل خرجت أوربا الغربية من الحرب أضعف من أي وقت آخر، وكانت تشعر أنها نفضت يدها من الخطر النازي لتجد نفسها أمام خطر أكبر هو الخطر الشيوعي؛ فلم تجد بداً من الاحتماء بالولايات المتحدة الأمريكية، التي وجدت نفسها في موقع المسؤولية عن العالم الرأسمالي والديمقراطيات التقليدية في أوربا، ولا سيما أن «فرانكلين روزفلت» قد أسس لمبدإ خروج أمريكا من حالة الانكفاء، والبحث عن فرص استعمارية جديدة. كما باتت الدول الفقيرة والصغيرة (دول الجنوب) مسرحاً للنزاع المتنامي بين الحلفاء، ولم تكن الدول المنتصرة في الحرب الثانية تترد في اقتطاع أي بلد أو ضرب مصلحة أي شعب، حفاظاً على مصالحها ومدياتها الأمنية؛ إذ كرست مؤتمرات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأولها «مؤتمر بوتسدام» 1945، كرست الفكر الاستعماري الحديث، ولكن بصياغات جديدة فيها بريق الوعود بتقرير مصير الشعوب، والاستقلال والحرية، وحقوق الإنسان. وجاء «مؤتمر الصلح» في باريس عام 1946؛ ليعمق الهوة بين الحلفاء، فبعد التوقيع على اتفاقية الصلح مع الدول المهزومة (إيطاليا ورومانيا وبلغاريا والمجر وفلنده) عدا ألمانيا، التي كانت خاضعة لإدارة الحلفاء، ولم يكن لها حكومة، نشب الصراع على تقرير مصير أوربا الشرقية. ثم تجدد النزاع في مؤتمر موسكو 1947، الذي عقد لترتيب أوضاع النمسا وألمانيا. وانتهى النزاع إلى تقسيم ألمانيا رسمياً، فقامت في قسمها الشرقي دولة شيوعية تدور في فلك الاتحاد السوفيتي، عاصمتها الجزء الشرقي من برلين، وفي قسمها الغربي دولة اتحادية رأسمالية تدور في فلك المعسكر الغربي (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة)، عاصمتها بون، فيما تم تقسيم العاصمة برلين إلى جزأين أيضاً. أما النمسا فقامت منها دولة صغيرة تابعة للمعسكر الغربي، وتم تخليص اليونان من هيمنة المعسكر الشيوعي، فيما أُقِرَ الوضع في دول البلقان وعموم أوربا الشرقية؛ باعتبارها منطقة شيوعية خاضعة مباشرة لنفوذ الإتحاد السوفيتي.

وفي المقابل؛ وضعت الولايات المتحدة الأمريكية يدها على اوربا الغربية باعتبارها جزءاً من نفوذها الايديولوجي والسياسي والعسكري؛ باعتبارها منطقة رأسمالية ليبرالية ديمقراطية. كما حولت الولايات المتحدة استراتيجية مد النفوذ الى كل نقطة في العالم تحفظ لها مصالحها؛ الى مبدأ ثابت في عهد الرئيس الأمريكي «ترومان»؛ وهو المبدأ الذي حكم سياسات واشنطن الخارجية والأمنية لعشرات السنين. ومن هنا بدأ الصراع على تحديد شكل الخارطة السياسية في أوربا، بين الاتحاد السوفيتي من جهة وأوروبا الغربية ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، منذ اليوم الأول لانتهاء الحرب الاستعمارية الثانية.

وتحول الطرفان بمرور الزمن إلى معسكرين استعماريين متضادين، لا يجمع بينهما أي قاسم مشترك، ولعل الإرهاق الاقتصادي والعسكري الذي كان المعسكران يعانيان منه، والتكافؤ في ميزان القوة، وحضور مآسي الحرب في ذاكرة الأوربيين، والضغوط الأمريكية، حالت دون تحول ذلك الصراع إلى حرب جديدة بين حلفاء الأمس. إلاّ أن أطراف الصراع استعاضت عن الحرب المسلحة بحرب من نوع آخر، أطلقت عليها الأدبيات الغربية اسم الحرب الباردة (coldwar)، التي يستخدم فيها المتحاربون كل ألوان السلاح عدا السلاح الناري والمواجهة العسكرية، وقد تحدث مثل هذه المواجهة، ولكن بالنيابة – كما سيأتي لاحقاً.

كانت مؤتمرات التسوية والصلح التي عقدت في أعقاب الحرب، تحضرها ابتداءً دول تحكمها أنظمة شيوعية خاضعة للهيمنة الروسية. ويمكن القول إن مؤتمر موسكو أطلق شرارة الحرب الباردة رسمياً، بين جبهتين عظيمتين يفصل بينهما «ستار حديدي» كما أسماه «تشرشل» عام 1946، يمتد من بحر البلطيق وحتى بحر الأدرياتيكي. وفي أعقابها أخذ الرئيس الأمريكي «ترومن» يطبق مبدأه المعروف باسمه، والقاضي بتقديم أنواع المساعدات، ولا سيما العسكرية، للدول المهددة من قبل الشيوعية، وكانت الأولوية لليونان وتركيا ثم إيران.

وفي اليابان، كانت الولايات المتحدة الأمريكية اللاعب الوحيد في الساحة، فلم تسمح لأي من الدول الحليفة بالتدخل، وراحت تقلب الأوضاع رأساً على عقب في هذا البلد، فكانت الخطوة الأولى محو آثار النزعة العسكرية، وتغيير الدستور ومعظم القوانيين المدنية ونظم التعليم والزراعة والصناعة، وبالتالي خلق يابان جديدة موالية للغرب، أو تكون جزءاً منه على المستوى الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي. وكان ذلك أمراً واقعا بالنسبة لروسيا. إلاّ أن الأخيرة لم تخضع لسياسة الأمر الواقع في الصين، فظلت تدعم الشيوعيين بقيادة «ماوتسي تونغ» للإطاحة بحكومة «جيان كاي شك» المدعومة من قبل الغرب. وكان الصراع في بلدان الهند الصينية يحمل اللون ذاته. فيما تمكنت الهند بقيادة «غاندي» و«نهرو» و«جناح»، بعد أكثر من قرن من النضال ضد الاستعمار البريطاني، من الحصول على استقلالها عام 1947، مع بقائها منطقة نفوذ بريطانية ولكنها ما لبثت أن انقسمت إلى دولتين: مسلمة حملت اسم «باكستان»، والأخرى هندوسية هي الهند نفسها.

وكانت كوريا قد تعرضت هي الأخرى للانقسام، ولكن في إطار تداعيات الحرب الباردة، فبعد الاحتلال الأمريكي – الروسي المشترك لكوريا عام 1945، حاولت كلا القوتين المستعمرتين إقامة نظام يدور في فلكها في الجزء الذي تحتله، فظهرت إلى الوجود دولة شيوعية في الشمال برعاية الاحتلال السوفيتي، ودولة رأسمالية في الجنوب تدور في فلك أمريكا. وعلى إثرها نشبت الحرب بين أبناء الشعب الواحد لحساب القوتين العظميين، راح ضحيتها حتى عام 1945 حوالي مليون شخص، معظمهم من الكوريين. وهو السيناريو نفسه الذي تكرر في فيتنام فيما بعد.

وهكذا استمرت القوى العظمى في صراعاتها الاستعمارية على حساب الشعوب المستضعفة، رغم التغيير الذي طرأ على شكل الخارطة الاستعمارية الدولية ودخول قوى جديدة، وهو ما كان يبرز بوضوح في شرق آسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ إلا أن الأهمية الجيوبوليتكية لمنطقة الشرق الأوسط كانت تزداد بمرور الزمن، فضلاً عن الدور الذي لعبه النفط في تضخيم حساسية المنطقة، وبروز قضايا خطيرة أخرى، في مقدمتها قضية فلسطين. فقد وحدت أمريكا وبريطانيا جهودهما للحؤول دون امتداد نفوذ الاتحاد السوفيتي إلى المنطقة. وكانت إيران هي الأكثر أهمية في هذه المعادلة؛ لأن سيطرة الاتحاد السوفيتي على إيران يعني تحولها إلى بوابة لنفوذ موسكو في كل المنطقة، ولا سيما المنطقة الخليجية. وعلى هذا الأساس تحولت إيران إلى درع غربي يقي المنطقة من المد الروسي. وبالتالي سيظل الشرق الأوسط مدة طويلة حكراً على الهيمنة البريطانية – الأمريكية، ولا سيما بعد تراجع فرنسا في سوريا ولبنان، وحصر نفوذها في إفريقيا.

وقد بقيت فرنسا متشبثة بمستعمراتها الإفريقية بمختلف الوسائل، ولا سيما في بلاد المغرب العربي، حيث مارست أبشع ألوان القمع ضد شعوبها، وخاصة في الجزائر، رغم أن فرنسا كانت في مقدمة البلدان الغربية التي رفعت شعارات تقرير مصير الشعوب خلال الحرب الاستعمارية الثانية وما بعدها. فقد تناست كل الوعود التي قطعتها على نفسها – كغيرها من الدول الاستعمارية – بفعل تفاقم روح التنافس الاستعماري لدى الدول الكبرى وتجدد أطماعها في الدول المستضعفة.

تأسيس الكيان الإسرائيلي

القضية الأكثر أهمية وخطورة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في أعقاب الحرب العالمية الاستعمارية الثانية هي الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني رسمياً في جزء من فلسطين عام 1948، وجاء ذلك تتويجاً لمخطط استعماري، بدأت وزارة المستعمرات البريطانية بالإعداد له خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وكان تنفيذه تدريجياً ويسير بخطى دقيقة، كجزء من مخطط بريطاني شامل يهدف إلى جعل «إسرائيل» خندقاً أمامياً يحمي مصالح بريطانيا في المنطقة، ويضمن استمرار تبعية منطقة الشرق الأوسط لها. وعبَّر وعد «بلفور» (وزير خارجية بريطانيا) للمنظمات الصهيونية العالمية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عن طبيعة الحقائق التي يتضمنها الجزء الطافي من ذلك المخطط الذي تحول إلى أحد أعقد الأهداف التي التقت عندها الدول الكبرى؛ فظهر وكأنه إرادة استعمارية دولية. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية من أوائل القوى الاستعمارية التي دعمت التحالف البريطاني – الصهيوني، وتبنته بالكامل، بفعل التأثير الحاد الذي مارسته المنظمات الصهيونية الفاعلة في أمريكا.

ابتدأت الخطوات التنفيذية للمؤامرة بهجرة اليهود المكثفة إلى فلسطين، والشروع ببناء المستوطنات وشراء الأراضي، إلى جانب جهود إضعاف الدولة العثمانية وزعزعتها تمهيداً لإسقاطها، وتقسيم المنطقة الإسلامية، وخصوصاً بلاد الشام، في إطار «معاهدة سايكس – بيكو»، ثم إعطاء المخطط الاستعماري دفعاً رسمياً بوعد «بلفور». وحين أصبحت فلسطين خاضعة للاحتلال البريطاني في أعقاب الحرب الاستعمارية الأولى بموجب قانون الانتداب، بات الانتهاء من المشروع الصهيوني مجرد مسألة وقت. وترافق ذلك مع حملات الاضطهاد النازي لليهود في ألمانيا، وتكثيفها في مجمل البلدان التي تسيطر عليها ألمانيا خلال الحرب الاستعمارية الثانية، مما أدى إلى هجرات جماعية يهودية إلى فلسطين، بلغ عدد المنظمين إليها عام 1946 أكثر من مائة ألف يهودي، مصحوبة بدعم استعماري دولي كامل، وتعاطف واضح من هيئة الأمم المتحدة مع قضية اليهود المضطهدين. وواجه الفلسطينيون العرب والمسلمون مشروع صهيونية فلسطين بردود فعل مختلفة، أكثرها حسماً العمل المسلح، فكانت حركة الشيخ عز الدين القسام أبرزها، وقد قمعها البريطانيون بعنف، وانتهى الأمر بضخ بريطانيا مزيداً من القوات العسكرية في فلسطين عام 1938 للقضاء على الانتفاضات الفلسطينية المسلحة المتواصلة.

وحين اضطرت بريطانيا بفعل الأوضاع الاقتصادية الضاغطة ومستجدات الخارطة السياسية الدولية – لإنهاء وجودها العسكري الرسمي في منطقة الشرق الأوسط سحبت قواتها من فلسطين عام 1947 وسلمت مسؤولية البلد إلى الأمم المتحدة، بعد أن اطمأنت على قدرة الصهاينة على الصمود والاستمرار في مخطط إعلان دولتهم التاريخية. فبادرت الأمم المتحدة لتطبيق مشروع التقسيم الذي يعود تاريخه إلى عام 1937، ويقضي بمنح 33% من الأراضي الفلسطينية لليهود والباقي للعرب. وحين لم يقبل الطرفان الموافقة على المشروع، استمرت أعمال العنف والتمدد من قبل الصهاينة، حتى أعلنوا عن دولتهم (إسرائيل) عام 1948 قبل سويعات من خروج القوات البريطانية، وتحت حمايتها وإشرافها. وعلى الفور أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية دعمها الكامل للكيان الجديد واحتضانه؛ وكأنه جزء من حدود الأمن القومي الأمريكي، فكانت ثاني دولة تعترف بإسرائيل بعد بريطانيا، الأمر الذي مهد لدخولها الأمم المتحدة بعد أقل من عام. وأفشلت الدولتان العظميان الجهود الفلسطينية والعربية على الصعيدين السياسي والعسكري الداعية لتطهير فلسطين من المستعمرين المستوطنين الجدد، فكانت نتائج حرب 1948 بين الصهاينة والجيوش العربية مجرد سيناريو أعدته بريطانيا بالاشتراك مع بعض الحكومات العربية، إذ أسفرت عن تثبيت دعائم الكيان الصهيوني رسمياً وعلى الأرض، وتحويله إلى أمر واقع.

الصراع في أوروبا

على مستوى الصراع في أوربا فإن مبدأ «ترومن» الذي فرض أمريكا زعيمة للعالم الرأسمالي الغربي في مواجهة الكتلة الشيوعية الشرقية التي يتزعمها الاتحاد السوفيتي، تحول إلى واقع قائم من خلال مشروع «مارشال» (وزير خارجية الولايات المتحدة)، الذي أشعر جميع الأوربيين بالحاجة الدائمة للرعاية الأمريكية أو أبوة أمريكا لأوروبا. فعلى أساس هذا المشروع منحت أمريكا الدول الأوربية الغربية ما يقرب من (17) مليار دولار مساعدات مجانية، لتستعيد قواها، ولا سيما على صعيد إعادة بناء النظم السياسية والاقتصادية على أساس المقاييس والمواصفات الأمريكية، في الوقت الذي رفضت فيه موسكو هذا النوع من المساعدات المشروطة؛ لأنه يؤدي إلى تبعية كاملة لواشنطن، ولم تسمح لأي من دول أوربا الشيوعية بتسلمها. ورغم ما وصفه بعض المحللين بالمعجزة الاقتصادية التي حققتها أوربا الغربية بفضل مشروع مارشال، إلا أن أوربا الغربية وجدت نفسها بعد بضع سنوات مكبلة بقيود التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية وحتى الثقافية لأمريكا، وهو ما أقرته الأحلاف والمنظمات التي أنشأتها الكتلتان.

كانت يوغسلافيا التي أقام فيها «جوزف بروز تيتو» نظاماً شيوعياً، الدولة الشيوعية الوحيدة التي رفضت الخضوع للهيمنة الروسية فقد انسحبت من «الكومنفورم» عام 1948، ولم تدخل في أي حلف مع الاتحاد السوفيتي، وظلت تناور بين الكتلتين، حتى أنها لم تتردد في تسلم معونات من الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت منظومة «الكومنفورم» قد تأسست عام 1947، لتكون إطاراً يجمع الأحزاب الشيوعية في مختلف دول العالم تحت قيادة الحزب الشيوعي الروسي، وتحديداً شخص «ستالين»، بدلاً عن المنظومة السابقة التي عرفت بـ«الكومنترن» الأمريكية. وفي عام 1948 دخلت تشيكسلوفاكيا المعسكر الشيوعي بعد الإطاحة بنظام الحكم فيها؛ لتسد الفراغ الذي تركته يوغسلافيا. ثم تبعتها الصين التي نجح فيها الحزب الشيوعي بقيادة «ماوتسي تونغ» عام 1949 في تسلم السلطة في بكين. وبهذا تكون الكتلة الشيوعية التابعة لقرار ستالين قد ضمت – إلى جانب جمهوريات الاتحاد السوفيتي وجمهوريات البلطيق – بلغاريا ورومانيا وبولندا وهنغاريا وألبانيا وتشيكوسلوفاكيا والصين وشمال كوريا.

في مواجهة «الكومنفورم» والكتلة الشيوعية، عمدت دول أوربا الغربية، وتحديداً فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا واللوكسمبورغ، إلى إقامة حلف مشترك عرف بـ «حلف بروكسل»، وهو الحلف الذي قامت على أساسه عدد من التنظيمات الإقليمية الأوربية، كالاتحاد الأوربي والمنظمة الأوربية للتعاون الاقتصادي.

إن الانفتاح الكبير الذي شعرت به الكتلة الشيوعية، وانتعاشها سياساً واقتصادياً، والمساحة الجغرافية التي تسيطر عليها، ونفوذ ايديولوجيتها إلى معظم بلدان العالم، شجعها على الاستمرار في حربها العقائدية مع الكتلة الرأسمالية، ولكن بأساليب أكثر تأثيراً وتركيزاً وراح ستالين يبشر بانهيار العالم الرأسمالي وحتمية هزيمته أمام الايديولوجية الشيوعية، فيما كانت أوربا الغربية تشعر بأن الخطر يدق أبوابها، وترى أن رسالتها معنية بنشر مبادىء الديمقراطية الليبرالية في كل العالم، وأن وجود أنظمة الحزب الواحد التي تحكمها دكتاتورية السكرتير العام للحزب هي العائق الأكبر أمام تحقيق رسالتها.

ثم تطورت سياسة التحالفات في داخل الكتلتين بسرعة فائقة، فقد انضمت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1949 إلى حلف بروكسل الذي تحول إلى حلف شمال الأطلسي، وهو حلف عسكري ضم الدول الخمسة المؤسسة إضافة إلى أمريكا والبرتغال والنروج وايسلندا وكندا، ثم انضمت إليه – في تواريخ مختلفة – اليونان وتركيا وإيطاليا وألمانيا الغربية. وفضلاً عن المجال العسكري – وهو الأهم – أكد الحلف أيضاً على التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment