المشترك الإنساني للفكر الإسلامي المستقبلي

Last Updated: 2024/05/30By

المشترك الإنساني للفكر الإسلامي المستقبلي

د. علي المؤمن

العالم سيكون بيتاً.. فأين سنكون نحن؟

حين أطلق عالم الاجتماع الكندي “ماك موهان” اصطلاح (القرية العالمية) أو (العالم.. قرية) في نهاية ستينات القرن الماضي، كان القليلون يدركون عمق نظرته المستقبلية، فقد وجد “موهان” أنّ ثورة الاتصالات أو الطفرة التي أحدثها علم وسائل الاتصال، سواء ما يتعلق بتكنولوجيا الإعلام والدعاية أو تكنولوجيا الاتصالات، ستحوِّل هذا العالم إلى قرية واحدة؛ بالنظر لانعدام حدود الزمان والمكان بين مكونات ومفردات العالم.

وعليه، يمكن القول: إنّ (قرْيَنَة) العالم هو أول تجلٍّ لواقع العولمة الشاملة، والتي ظهر مفهومها في نهايات الثمانينات من القرن الماضي.

وبغض النظر عن الأهداف التي ينطوي عليها مفهوم (العالم بات قرية)، ولا سيما ما يتعلق بتوحيد الفضاء الثقافي لهذه القرية وهيمنة ثقافة الأقوياء (أصحاب تكنولوجيا الإعلام والاتصالات) على سكان القرية الآخرين (شعوب العالم)؛ فإنّ قاعدة هذا المفهوم ترتبط بالمجال التقني للقرية، وهو مجال تطوّر بسرعة هائلة في عقدي الثمانينات والتسعينات، حتى أصبحت نبوءة “موهان” واقعاً قائماً، وإن رفضنا ـ ومعنا معظم أُمم الأرض ـ الأهداف الاستكبارية والتسلطية والآيديولوجية لهذا الواقع، الذي يسعى أصحاب سلطة ما بعد التكنولوجيا او سلطة علوم المستقبل لفرض أنفسهم ـ بقوة العلم ـ سادةً لهذه القرية، وباقي سكانها أتباعاً لتأثيرات أولئك الأسياد الأقوياء.

إنّه واقع مرعب حقاً! سنبقى نتعامل معه بردود الفعل؛ لأننا كعرب ومسلمين وعالم ثالثيين وشعوب نامية، لا نمتلك الفعل الذي يسمح لنا بامتلاك رؤية عن المستقبل، بل ورؤية عن الحاضر وما ستسفر عنه معطيات الحاضر من مستقبل ضبابي؛ بل ولا نمتلك الأدوات الفاعلة التي تجعلنا بمعزل عن تأثيرات مفهوم (القرية العالمية)؛ لأن العزلة في هذه القرية أمر مستحيل، فسكانها واقعون تحت طائلة التأثير والتأثّر المتبادلين.

أما الواقع القادم فهو الأكثر رعباً، ويتمثل في زوال حقيقة (العالم.. قرية) خلال الثلاثين عاماً القادمة، إذ ستتحول (القرية العالمية) إلى (بيت عالمي) بحلول العام 2050م، وسيصبح العالم بيتاً يسكن تحت سقفه وبين جدرانه جميع سكان الكرة الأرضية.

سيحتوي (البيت العالمي) على مجموعة كبيرة من الغرف والصالات، متباينة في حجمها وتأثيثها وإمكاناتها، وسيجلس كل شعب ( تحديداً الشعوب والأُمم التي ستحافظ على هويتها ووجودها) في غرفة شبه مستقلة، ليس لها أبواب، ولا يزيد ارتفاع أسوارها الافتراضية عن متر واحد فقط. ونقصد بالاستقلال هنا وجود حدود الجغرافيا الإدارية فقط.

وسيكون الأقوياء، أي أصحاب سلطة المال والعلم والتكنولوجيا، هم أسياد البيت، ويعيشون في صالات فارهة مجهزة بكل وسائل الراحة والرفاه. وسيكون الضعفاء، وهم غالبية سكان البيت، في حالات متباينة، فقسم منهم يعيشون كالأشباح في الكهوف، وآخرون في رفاه نسبي، لكنه ظاهري، إذ إنّ جميع الضعفاء يشتركون في عدم القدرة على تحريك رأس المال إلّا بإرادة الأقوياء، وعدم القدرة على امتلاك التكنولوجيا المتطورة التي تجعلهم متساوين في التأثير مع الأقوياء.

وبما أنّ جميع سكان البيت يعيشون تحت وطأة التأثير والتأثر المتبادلين، فإنّ التأثير الحقيقي سيكون للأقوياء (أسياد البيت)، رغم أنّ سكان كل غرفة يسمعون حتى همس سكان الغرف الأُخر، ويرون كل حركة داخلها.

ويهمنا هنا أن نطرح التساؤلات التالية: ما الذي أعددناه لمواجهة هذا المشهد؟ وأين موقعنا في معادلة التأثير والتأثر المتبادلين؟ وما هو مصير هويتنا ودورنا الحضاري؟ وكيف سنحافظ على أُمتنا التي نطمح أن تكون عائلة واحدة تسكن غرفة واحدة؟

إنّها ليست رواية من روايات “جول فيرن”، ولا نبوءة من نبوءات “نوسترداموس”، إنّها المصير الذي ستفرزه معطيات الحاضر كحقائق مستقبلية في إطار المعادلات التي تقررها الدراسات المستقبلية بصيغتها العلمية، فضلاً عن معادلات فلسفة التاريخ والسنن الإلهية.

حوار المستقبَلات

ليس المستقبل الإسلامي المنشود رهين سقوط المستقبَلات الأُخر، فالمسلمون لا يشيدون دعائم مستقبلهم على حساب الآخرين، ولو كانوا الأضداد النوعيين، كما فعل ويفعل هؤلاء الأضداد، حين بنو مدنياتهم على حساب الشعوب الأُخر التي قدر لها أن تتراجع عن ركب الحضارة في ظروف معقدة يطول شرحها، فاستعمروها واستغلوها، ونهبوا خيراتها وثرواتها، واستدرجوها باتجاه التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية لهم، ثم قننوا (علمياً!) لهذه الفجوة الحضارية من خلال العلوم الاجتماعية والسلوكية الغربية، كالأنثروبولوجيا والأثنولوجية، وأظهروا شعوب الجنوب أجناساً من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة.. هوامش وأطراف وعبيد، تبعاً لمعايير التطور المادي وأساليب التفكير والعيش والجنس واللون والموقع الجغرافي.

في حين ينظر الإسلام للناس كافة نظرة واحدة متكاملة، فيساوي بينهم (كأسنان المشط)([1])، ويقرر إنّهم إمّا إخوة في الدين أو نظير في الخلق([2])، وفقاً لمعاييره الإنسانية التي أثبتتها العقيدة الإسلامية {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}([3]).

من هنا، فإنّ بناء الحضارة الإسلامية المستقبلية بناء مستقبل على أرضها وقيمها وتراثها وفكرها، وليس على أنقاض الحضارات الأُخر وقيمها وأفكارها ومدنياتها. وقد تكون الحضارات الأُخر في طريقها للانهيار، ولكن الحضارة الإسلامية المستقبلية لن تنتظر هذا الانهيار لتبني صروحها. وقد يضطر المسلمون للتدافع مع الحضارات الأُخر وممارسة هجوم مضاد، خلال دفاعهم عن أنفسهم إزاء هجمات الآخرين الشاملة {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}([4]).

ولكنّ الأصل هو أننا نتحاور مع هذه الحضارات والمدنيات ما دامت لا تستل سيف البغي ضدنا؛ لأننا لا يمكن أن ننكفئ على أنفسنا في بناء مستقبلنا، ولا يمكن أن نكون بمعزل عن دائرة التأثير والتأثر؛ ولأنّ خطابنا الإسلامي هو خطاب عالمي للناس كافة؛ ولأن المسلمين يعملون في إطار حمل الأمانة والتكليف والمسؤولية الشرعية والأخلاقية تجاه الآخرين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}([5]). وعلى هذا الأساس، يسعى الإسلام لبناء المستقبل الأفضل للإنسانية جمعاء {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}([6])، الأمر الذي يجعل مستقبلات الآخرين رهن المستقبل الذي ينشده الإسلام.

إنّ المستقبل الإسلامي هو مستقبل الإنسانية جمعاء.. المستقبل الذي يبشر العالم بحياة العدل والحق والخير والجمال والحرية، وهو رسالة الله تعالى التي أمر نبيه الكريم(ص) بتبليغها للناس كافة؛ ليحقق الإنسان من خلالها أهداف الاستخلاف والإعمار.

و(المستقبلية الإسلامية) هي خطاب الإسلام المستقبلي للبشر على مختلف انتماءاتهم ومشاربهم.. إنّها تحاور مستقبلات الآخرين، وتدعو خلاله لعرض النموذج الإسلامي الحضاري الإنساني المشرق الذي يفيض بخيره على كل الناس. ويجتذب عقولهم وضمائرهم نحو سعادة الدارين (الدنيا والآخرة).

المستقبَلات الإنسانية والتحديات الفكرية

يتميّز مشروع حوار الحضارات بنزعته المستقبلية؛ من خلال توظيف غاياته لبناء مستقبل أفضل للإنسانية، فهو مشروع للمستقبل أكثر من كونه مشروعاً للحاضر، ككل المشروعات الأساسية الكبرى التي تسعى للتغيير بعيد المدى. ومستقبلية المشروع تعبير عن واقعيته وجديته، إذ إنّ سرعة التطورات التي يشهدها الواقع الإنساني جعلت الحاضر لحظة عابرة يصعب الإمساك بها، ودفعت البشرية لتعيش المستقبل بكثير من تفاصيله.

في هذا الإطار، تتبلور فلسفة حوار الحضارات، والمتمثلة في إيجاد مساحات مشتركة للقاء والتفاهم والتكامل بين مستقبَلات (Futures)([7]) المجموعات السكانية ذات الهوية الحضارية المستقلة، والعمل على التقريب بين هذه المستقبَلات للخروج بمشهد (سيناريو) ينطوي على وحدة المصير الذي تواجهه البشرية.

حوار الحضارات ومناهج الدراسات المستقبلية

من المهم جدّاً إخضاع مستقبل مشروع حوار الحضارات لمناهج الدراسات المستقبلية الحديثة، لما تمثله من رهان علمي تعتمده معظم المجتمعات المتقدمة علمياً وتكنولوجياً.

والحقيقة، أنّ استشراف المستقبل وتوفير شروط البناء الحضاري المستقبلي لهما علاقة مباشرة ولصيقة بالفكر والنظرية والمنهج، فنحن لا نتحدث عن دراسات فنية أو تقنية فقط، رغم ضرورة هذا اللون من الدراسات، بل نتحدث عن التخطيط الشامل الذي ينتج عنه البديل الحضاري المستقبلي المطلوب، الذي يستند إلى قواعد الفكر والمنهج. وليس أمام المسلمين سوى إنتاج بديلهم الحضاري هذا بأديهم، فهو البديل الذي يريدونه، وليس الذي يريده الآخرون. ومن خلال هذا الخيار سيمكنهم التحاور والتعامل مع الوجودات الحضارية الأُخر من موقع التناظر والتكافؤ.

وقد طرحت منهجية (المستقبلية الإسلامية)([8]) مجموعة من الرؤى التأصلية لحقل الدراسات المستقبلية، بالصورة التي يمكن من خلالها التأسيس للبديل الحضاري الإسلامي المستقبلي المطلوب، وهي منهجية تختلف جذرياً في بناها النظرية، العقائدية والفلسفية، عن اتجاهات المستقبليات الوضعية، إذ إنّها ترتكز في مبادئها على الرؤية الكونية التوحيدية، واستخلاف الإنسان وعلاقة العمل الدنيوي بالجزاء الأُخروي، وتعتمد القرآن الكريم والسنة الشريفة والفكر الإسلامي والخبرة الإنسانية مصادر نظريةً لها، فضلاً عن إحاطتها في الجانب المنهجي الفني بقضايا السنن والوعود الإلهية، والتفسير الإسلامي للتاريخ، وعلم اجتماع الحضارات الإسلامي، وآليات الدراسات المستقبلية الحديثة.

ومن هنا، فهي منهجية شاملة لكل حقول المعرفة، وليست (أحادية) في موضوعها ومجالات تطبيقها، ونرى أنها أكثر انسجاماً مع طبيعة مشروع حوار الحضارات بالصيغة التي طرحها مؤسسوه ومنظروه؛ لأن حوار الحضارات مشروع تأصيلي ينطلق من عقلية إسلامية منفتحة على العصر وحاجاته، ويتميز بأُفقه العالمي، وتطلعاته التغييرية الدولية.

إنَّ من شأن الدراسات المستقبلية استشراف نوعية التحديات المشتركة التي تعرِّض مستقبل البشرية إلى الخطر وتقضي على الأمل الذي يقدِّمه مشروع حوار الحضارات بمستقبل أفضل للبشرية، كما تحاول إيجاد الحلول التي تدفع مهمة التصدي لهذه التحديات نحو النجاح. وهنا يكمن بُعد آخر للواقعية التي نطمح أن تطبع مشروع حوار الحضارات، فدون هذه الواقعية لا يستطيع المشروع مواصلة حركته بالمضمون الذي يمكنه من أن يكون مؤثراً في الواقع الدولي، وليس متأثراً وحسب. كما لا أعتقد أنّ استمرار المشروع هدف بذاته، وإن كان هذا الموضوع على جانب كبير من الأهمية، ولكن الهدف الحقيقي هو أن يتحول المشروع إلى إحدى المعادلات الأساسية التي تنظّم حركة اللاعبين الدوليين، سواء الذين يمثلون الحضارات أو الدول أو المجتمعات.

وقد يكون المفكر الفرنسي المسلم “روجيه غارودي” من الرواد الذين ربطوا بين حوار الحضارات والدراسات المستقبلية وبناء البدائل الحضارية والمشروع العالمي المستقبلي الذي تساهم البشرية جمعاء في بنائه، بهدف الحصول على مستقبلٍ أفضل يضمن للجميع الحياة الإنسانية الكريمة([9])، إذ يقول: <إنّ الحوار بين الحضارات هو وحده الذي يمكن أن يولِّد مشروعاً كونياً يتّسق مع اختراع المستقبل، وذلك ابتغاء أن يخترع الجميع مستقبل الجميع>([10]). ويؤكد ضرورة استثمار نزعة (المستقبلية) في هذا المجال؛ لتصور المستقبل والتفكير بغايات البشرية، ومعرفة ما للتاريخ من أهمية([11]).

حتمية الشراكة الإنسانية

إنّ التشتت الكبير الذي تشهده المجتمعات الإنسانية والتناقضات الهائلة التي تعيشها، تجعل لكل مجتمع مستقبله ومشاهده المستقبلية الخاصة التي يسعى إليها بمعزل عن المجتمعات الأُخر؛ الأمر الذي سيفرز العديد من المستقبَلات المتناقضة والمتنافرة، وهو مصير في غاية الخطورة. ولا شك أنّ وعي حقيقة الشراكة المتكافئة بين البشر على الأرض، سيجعل الحضارات والمدنيات والمجتمعات القائمة تفكِّر بطريقة أُخرى تستبطن وعياً مختلفاً تجاه التحديات المشتركة التي تواجه البشرية والمصير المشترك الذي ينتظرها، فهي تعيش في عالم واحد يصغر يومياً، وتكاد تنعدم المسافات بين الوحدات التي تكوِّنه، مما يقتضي تخطيطاً مشتركاً لمستقبلٍ مبني على الحوار والتفاهم وتبادل الرأي والخبرة، من موقع التكافؤ بين المجموعات البشرية، والعدالة في توزيع الفرص وفي تحديد المسؤولية تجاه الأرض التي تحتضن الجميع، الأرض التي حَمَّل الله تعالى الإنسان أمانة الاستخلاف فيها، بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال حملها، فوصف الله تعالى الإنسان بأنّه ظلوم جهول؛ لأنّه استكبر على تعاليم الله وحرف مسؤولية إعمار الأرض إلى الإفساد فيها. فكان الإفساد والانحراف والظلم هي العوامل التي تسبّبت في تشتت البشرية وتناقضها.

إنّ التضاؤل المجازي لحجم العالم حقيقة نتلمسها جميعاً، وقد نتجت عن تكامل مجموعة من الثورات العملاقة، كالثورة التكنولوجية الشاملة، ولا سيما في مجال الاتصالات والمواصلات، والثورة الاقتصادية العابرة للقارات، والتي أفرزت عولمة رأس المال ـ ابتداءً ـ ثم الأشكال الأُخر للعولمة، حتى بدا أنّ تنبؤ عالم الاجتماع الكندي “ماك موهان” بتحوّل العالم إلى قرية، والذي أطلقه في الستينات من القرن العشرين، بدا وكأنه من مخلفات الماضي. فهذا الواقع سيتلاشى خلال العقود الثلاثة القادمة؛ لأنّ الشبكة المتلاحمة من العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية التي ستشد البشر بعضهم، ستنقلهم إلى خيار آخر هو (البيت العالمي) وليس (القرية العالمية).

وتحوّل الكرة الأرضية إلى بيت سيفرض على حضاراتها وشعوبها ومجتمعاتها أن تسكن في غرف وصالات ذات جدران منخفضة ومكشوفة على بعضها، وستكون هذه الغرف متباينة في حجمها وتأثيثها وإمكانياتها، إذ سيعيش الأقوياء (أصحاب رؤوس الأموال والتكنولوجيا) في صالات فارهة مجهزة بكل وسائل الراحة والسيطرة على سكان الغرف الأُخر؛ لأنهم أسياد هذا البيت بحكم سلطات سياسية اسمية.

أما الضعفاء، وهم معظم سكان البيت، فسيعيشون حالات متباينة، ولكنهم يشتركون في حقيقة واحدة تتمثل في عدم القدرة على تحريك رأس المال إلا بإرادة الأقوياء، وعدم القدرة على امتلاك التكنولوجيا المتطورة التي تجعلهم متساوين مع الأقوياء في القابلية على التأثير. ولا ريب أنّ هذا المشهد المرعب (مشهد البيت العالمي) هو واقع مأساوي وغير عادل، ولكنه الواقع الذي نستشرفه الآن، في ما لو استمرت المعادلات السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والثقافية التي تحكم العالم على ما هي عليه.

والأهم من ذلك، أنّ سكان الأرض (أو البيت) سيعيشون الشراكة بكل صورها ومضامينها، وباعتباريها الزماني والمكاني (تداخل الأزمنة والأمكنة)؛ فكلما تضاءل حجم العالم ازداد حجم الشراكة بين سكانه؛ لأنّ نظام التأثير والتأثر لن يستثني أحداً، بما في ذلك التأثّر السلبي، ومن ثمَّ سيضم الجميع مصيرٌ واحد، فإذا تصدع البيت أو انهار أو احترق فإنّ الكارثة ستلحق بالجميع.

معوقات استمرار مشروع حوار الحضارات

من أبرز الميزات التي يتميز بها مشروع حوار الحضارات التعرّف على طبيعة المعوّقات التي تحول دون استمراره وتعيق حركته، أو تحول دون ارتقاء الحوار إلى مرتبة الواقع والتطبيق، ومن الضروري للمشروع أن يراجع من حين لآخر نوعية المشكلات والعراقيل التي تواجهه، ويعيد ترتيبها، بهدف مواجهتها وفقاً للأولويات. وفي هذه الحالة يتمكن المشروع من أن يكون جزءاً من الواقع، ويتعامل معه في ضوء الإمكانيات المتاحة محلياً وإقليمياً ودولياً، وليس في ضوء الأماني والتخطيط النظري. وتنقسم المعوقات إلى ذاتية مرتبطة بالمشروع نفسه، والموضوعية ذات العلاقة بالوضع العالمي العام وطبيعة المتحاورين.

1- المعوقات الذاتية:

وهي المعوقات المرتبطة بالمشروع وبنيته الفكرية وغاياته، والنظرية التي يستند إليها، ورسائله وآلياته. وليس من الضروري أن تكون جميع هذه المعوقات قائمة الآن، ولكن مقدماتها تلوح في الأُفق، ومن هنا أمكن استباق قيامها واحتواؤها قبل أن تتجذر. ومن أهم هذه المعوقات: تحوّل مشروع حوار الحضارات إلى خطاب تنظيري وممارسة إعلامية وثقافية عامة مشحونة بالأماني والآمال، أو تحوّله إلى دعوات أخلاقية ومعنوية ونمطية، وفي ذلك تسطيح لأهدافه ووسائله. كما أنّ اقتصار تبنّي المشروع على دولة واحدة أو على مؤسسة فيها، ولا سيما بعد انتهاء عام حوار الحضارات (2001م)، وعدم مواصلة المنظمات الدولية والدول الأُخر التفاعل مع المشروع؛ سيُضعف المشروع بشكل كبير ويطفئ وهجه العالمي. وفي حال اقتصار المشروع على حالات حضارية ومدنية معينة، وعدم انفتاحه على حضارات ومدنيات أُخر، ولا سيما في مرحلته الأُولى، فإنّ أتباع هذه الحضارات سيكونون مضطرين للانكماش حيال المشروع، فضلاً عن افتقار نظرية المشروع إلى معايير علمية ثابتة لتقسيم الحضارات، وتحديد نوعية الحضارات التي يُفترض دخولها في مشروع الحوار.

2- المعوقات الموضوعية:

وهي المعوّقات التي تقع خارج دائرة المشروع، والمفروضة عليه من الواقع الدولي ومن طبيعة الحضارات التي يشملها. وأبرز هذه المعوقات: عدم تحديد المتحاورين لهوياتهم تحديداً موضوعياً حقيقياً، فالمحاور الذي لا يكشف عن هويته أو يتجنّب تحديدها بدوافع مختلفة أو يجهل هويته، يعيش أزمة هوية ولا يستطيع حينها التعبير عن نفسه وعن تطلعاته.

فمثلاً عندما نقول: (نحن)؛ فمن البديهي أن نعرّف من نحن؟ هل نحن عرب، مسلمون، عرب مسلمون، عرب أفارقة أم عرب آسيويون؟ وهل نحن ـ مثلاً ـ عراقيون، عرب، مسلمون، أم آسيويون؟ فأي حضارة يمثلها العراق؟ ومن ثمّ فإنّ الهوية الحضارية تنطوي على أبعاد مختلفة تعبِّر عن انتماء الجماعة الإنسانية، ومن أبرزها مصادر تشكيل الهوية ومرجعيتها العقائدية والروحية والتاريخية، إضافة إلى موقع هذه الحضارة في الراهن الدولي ومقدار إسهامها في إنجاح مشروع الحوار وفي التأثير في مسار الحوار.

ولكي نكون أكثر وضوحاً في موضوع الهوية، فإننا نتحدث عن هويتنا الحضارية ـ نحن المسلمين ـ وهي هوية ما زالت غامضة في أذهان الكثيرين، فضلاً عن أنها لم تتشكل بعدُ على أرض الواقع. والسبب يعود إلى تشظي المشروع الحضاري الإسلامي بفعل التجاذبات القومية والوطنية والإقليمية التي تزيد من تعقيد موقف المحاور في ما يعني الهوية الحضارية الإسلامية حين يريد التعبير عن انتمائه وهويته خلال الحوار، إضافة إلى الحصار المزدوج الخطير الذي يعاني منه المشروع الحضاري الإسلامي، بين غزو ثقافي وحضاري خارجي، وبين اغتيال ثقافي داخلي يكمِّل الغزو الخارجي. ومحصلة هذا الوضع بروز مظاهر اغتراب مركبة وارتباك شديد في الهوية، يمكن إطلاق صفة (شيزوفرينيا حضارية) عليه، ومثال ذلك حالة العودة إلى مرحلة ما قبل الهوية، أو ما قبل تشكيل الهوية.

ولا يقتصر الأمر على المسلمين فحسب، بل يشتمل على الحضارات الأُخر أيضاً، فاليونان هم أصحاب حضارة إغريقية رائدة وهم مسيحيون أيضاً وأُوروبيون وغربيون، والغرب كذلك تتوزع انتماءاته بين التاريخ والدين والسياسة والاقتصاد، فمن هو الغرب الذي يراد التحاور معه؟! أو فضلاً عن أنّ الغرب المعاصر يعبر على إشكالية تحديد الهوية، بدوافع مختلفة، فإنّه لا يعرف هوية الآخر معرفةً موضوعية، بل يعرفها من خلال ذاته، ومن ذلك وعي الغرب بالإسلام، والذي يمثّل جزءاً من وعيه بذاته([12]).

من خلال استقراء سريع للأفكار وممارسات الوجودات الحضارية القائمة، يتضح أنّ كثيراً منها لا يعي حقيقة الشراكة الإنسانية على الأرض، فيتصرف وكأنه يعيش مصيراً منفرداً ومنعزلاً عن العالم، أو أنّه صاحب الشأن الوحيد على الأرض؛ باعتباره الذي يحق له التحكم بمصائر المجتمعات البشرية الأُخر، بالصورة التي تحقق له مصالحه وحسب، الأمر الذي يوسّع دائرة التناقض بين البشر، فمثلاً هناك أثرياء يشكلون 15% من عدد سكان العالم يسيطرون على أكثر من 80% من ثروات الأرض، فيما لا تتجاوز ثروة الـ 85% الباقين من البشر نسبة 20% من الدخل العالمي، بل سيؤدي تطور النظم الاقتصادية الحالية إلى ارتفاع نسبة البطالة في المستقبل بشكل مخيف، حتى تقدر بعض الدراسات الاستشرافية أن 80% من عدد سكان الأرض سيكونون خلال الخمسين عاماً القادمة عاطلين عن العمل أو شبه عاطلين. وسيرتكز رأس المال المعولم في أُوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية واليابان.

ولسنا هنا في معرض نقد الغرب، بل يهمنا التعرف على المساحات القابلة للحوار معه، من خلال الوقوف على طبيعة وعيه لحقيقة الشراكة الإنسانية؛ لأنّ الغرب هو أحد أبرز اللاعبين الدوليين في مشروع الحوار.

إن المشكلة أو العقبة الأساسية هنا تتمثل في أنّ الحضارة الغربية ـ إن صح التعبير ـ لا تعترف بالآخرين وبحقهم في الاستقلال الحضاري، وتصادر أي جهد أو إنجاز حضاري لا يصب في مسارها؛ لأنّها أُحادية النظرة. وتطبّق عملياً نظرية (إمّا نحن أو أنتم) أو (إمّا نحن أو لا أحد)، وهي بذلك ترفض ـ ضمنياً ـ التعايش المتكافئ، وإن اعترفت بالآخرين فإنّها تعترف بهم كأطراف وضعفاء وهوامش، في حين أنّ الغرب هو الذات والمركز والأصل والقوة ـ الحق والسيد والعقل([13]).

فالأوروبيون لم يتعاملوا مع الهنود الحمر ـ مثلاً ـ من منطلق الشراكة في الأرض والثروة والسيادة والمصير، رغم أنّ هذه الشراكة مجحفة بحق الهنود الحمر، ولكنهم تعاملوا من منطلق اختزال معنى الحق في حالة التفوق، فالمتفوق الأقوى له الحق في تدمير الآخر الضعيف سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وتصفيته جسدياً لو رفض الاستعباد والاستكبار.

إذن، لا معنى للشراكة مع الآخر في وعي الغرب بذاته وبما حوله، بل هناك معانٍ خاصة للتعايش. أي أنّ الغرب يشعر بالحاجة للتعايش مع الآخر، وبالحاجة للحوار معه، ولكن بهدف تحويل الآخر إلى سوق استهلاكية لمنتوجات الغرب الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ومن ثم إعادة تشكيل الأخير قيمياً وأخلاقياً وعقائدياً وسلوكياً، فهو لا يرضى عن الآخر إلّا إذا أصبح الآخر كما يريد الغرب وليس كما يريد الآخر أن يكون، فالآخر ـ في رأي الغرب ـ لا يحق له أن يفكر كما يريد أو يكون كما يريد، وإلّا سيكون متمرداً ولا يستحق أن يحاوره الغرب أو يتعايش معه. وإعادة التشكيل هنا تتضمن (غربنة) معتقدات الآخر وأفكاره وعواطفه وقيمه وسلوكه، وفقاً لعقلانية الغرب وحداثته. ويستخدم في هذه العملية مختلف أنواع الوسائل والأساليب، ابتداءً بالغزو العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي وانتهاء بتحويل العالم والتكنولوجية المتطورة إلى نظم للاستبداد والسيطرة والتحكم بالآخر، ومن ذلك نظم المعلوماتية والفضاء والاتصالات والمواصلات والإعلام، بل وحتى العلوم التي تهدف إلى خدمة الإنسانية، كالهندسة الوراثية والبايولوجية وغيرهما.

ولعل هذه المنظومة الفكرية وما يترتب عليها من ممارسات، هي مؤشرات على لون من البداوة (عكس التحضر)، أو هي عودة إلى البداوة، فالغرب منذ (35) عاماً وحتى الآن يمارس الغزو كقبيلة كبيرة وقوية أعطت لنفسها الحق في مصادرة حقوق جميع الوجودات الأُخر.

وعند هذه النقطة نصل إلى حقيقة لاحقة أُخرى أو معوّق آخر، ويتمثل في عدم التكافؤ بين المتحاورين سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، واستثمار الأطراف المتفوقة هذه المعادلة اللامتوازنة لتحقيق أغراضها في التحكم بالآخرين، إذ إنّ عدم وعي حقيقة الشراكة بين سكان هذا الكوكب يؤدي إلى الإحساس بعدم التكافؤ بينهم. وحينها يكون الحوار حوار القوي والضعيف أو حوار الغالب والمغلوب، وهو ـ في الواقع ـ ليس حواراً حقيقياً موضوعياً، بل يتلخَّص مضمونه في فرض إرادة القوي على الضعيف وإملاء شروط الغالب المتفوق على المغلوب المنكسر، وخلاله تتحول المثاقفة والتبادل الفكري إلى غزو ثقافي، والحوار الحضاري إلى بداوة وتوحش.

إمكانية تجاوز المعوقات

من الواضح أنّ إزالة المعوّقات الموضوعية التي سبق الحديث عنها هو ضرب من المستحيل، ولكن قد يكون من الممكن التخفيف من خطورتها على استمرار مشروع حوار الحضارات، من خلال حشد جهود بعض المفكرين والمثقفين والكتّاب والإعلاميين والسياسيين في أكثر من دولة، ومحاولة استثمار بعض الثغرات التي تبعث على الأمل. أمّا على مستوى المعوقات الخاصة بالمشروع، فإنّ بالإمكان تذليلها واحتواءها، وهو المدخل الأساس لاستمرار المشروع.

إنّ التواصل مع الواقع العالمي يستدعي أن يكون المشروع علمياً في بُناه ونظريته، وعلمياً في خطابه، وواقعياً في حركته. ومهمةٌ بهذه الصعوبة تحتاج إلى آليات وأدوات عمل مؤثرة ودائمة. وسيسمح ذلك بتحويل الحوار الحضاري إلى معادلة ثابتة في العلاقات الدولية، ويسهّل عملية دفع المنظمات الدولية للاستمرار في تبني المشروع، فضلاً عن بعض الدول التي يمكن جعلها شريكة فيه. وتتكامل هذه العملية بالانفتاح على الحضارات والمدنيات التاريخية والقائمة، كالحضارة الإسلامية بكل تنوعاتها، حضارة وادي الرافدين، الحضارة المصرية، الحضارة الفارسية، الحضارة اليونانية، الحضارة اليابانية، الحضارة الصينية، الحضارة الهندية، الحضارة المكسيكية، حضارات الهنود الحمر، الحضارة اليمنية، الحضارة الفينيقية، الحضارة الروسية، الحضارات الأُوروبية، الحضارة الأمريكية وغيرها.

ويستدعي المنهج العلمي اعتماد معايير ثابتة لتقسيم هذه الحضارات، كالتاريخ مرة، والدين أُخرى، والقومية ثالثة، وأن تكون الحضارة قائمة، وبذلك يمكن الانفتاح على كل ألوان التحضّر واتجاهاته؛ ليكون الحوار حوار نظراء. ولا شك أنّ اعتماد المعيار التاريخي وحده سيحوِّل الحوار إلى حوار هياكل وأعمدة رخامية أثرية.

ومن هنا، ينبغي تعريف الحضارة التي يراد إدخالها في مشروع الحوار. وتحديد هويتها بدقة، للوقوف على طبيعة القرابة بين الحضارات المتحاورة (مساحات الاشتراك والافتراق)، ومن يمثل هذه الحضارات، والأهداف العلمية والواقعية المرجو تحقيقها في الحوار مع كل منها.

وفي إطار تقوية البنية النظرية للمشروع، ينبغي الالتفات إلى معادلات سنن التاريخ أو السنن الإلهية، بما في ذلك سنن صعود وأفول الحضارات، وسنن الصراع والتنافس والتدافع ـ حسب التعبير القرآني ـ بين الوجودات الإنسانية المختلفة، فضرورة الحوار وحقيقة الشراكة الإنسانية لا تلغيان سنّة التدافع.

وعلى مستوى المعوقات الموضوعية، فإنّ مهمة النقد الذاتي والمراجعة المستمرة تقف في مقدمة معالجات الوجودات الحضارية الإنسانية لواقعها فالمسلمون ـ مثلاً ـ ما يزالون في بداية مسيرة العودة الحضارية، وهي عودة عسيرة تسبقها العديد من المخاضات. ومدخل هذه العودة اكتشاف الذات أو الهوية، وهدفها إيجاد البناء الحضاري الإسلامي الذي من شأنه دخول الحوار المتكافئ مع الحضارات الأُخر. وحينها ستتوحد هوية هذا البناء كمزيج متجانس متشكل من عدة مجموعات سكانية متوزعة جغرافياً وليس حضارياً، فالمسلمون العرب لا يمثلون حضارة إسلامية عربية، والمسلمون الإيرانيون كذلك، وهكذا المسلمون الأُوروبيون، إذ إنّ هوية البناء الحضاري الإسلامي ترفض التشظي والتجزئة إلى عدة بنى حضارية، ولا تعطي أي مسوّغ للحديث عن إسلام عربي أو إسلام شرق آسيوي أو إسلام أُوروبي.

ولا أعتقد أن طبيعة التكوين الحضاري لأية أُمّة، ولا سيما الأُمّة المتشكلة عقائدياً كالأُمّة الإسلامية، تسمح بتفرد وحدة سكانية جغرافية منها في التعبير عن وجودها الحضاري، فقاعدة البناء الحضاري الإسلامي في القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن تقتصر على مسلمي أُوروبا فقط، كما قد يرى الدبلوماسي الألماني المسلم “مراد هوفمان”([14])، أو غيره.

ولكي نكون موضوعيين في تقويمنا للواقع الإسلامي، نقول: إنّ اللوم لا يقع فقط على الغزو الخارجي، بل إنّ العوامل الداخلية لها الأثر الأكبر في بلورة الواقع الإسلامي بكل إشكالياته وتراجعاته التي لا تسمح له بأن يدخل مضمار الحوار كحضارة قائمة متماسكة تحظى بالمقومات الحضارية المتعارفة علمياً. ولعل أبرز هذه المقومات:

1 ـ استحضار الأُصول الإسلامية في النظرية والمنهج والسلوك، وهي محور الهوية الإسلامية الموحّدة، ومضمون البناء الحضاري الإسلامي، وعنوان أصالته. ولا شك أنّ هذا الاستحضار يتحرك في دائرة المتغيرات على أساس استيعاب البناء الحضاري الإسلامي لكل متطلبات الحاضر والمستقبل.

2 ـ التكامل الإسلامي في شتى المجالات؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية. وقد استخدمنا هنا مصطلح (التكامل) للتعبير عن واقعية المشروع، في حين أنّ مفاهيم كالوحدة الإسلامية قد تكون هدفاً صعب المنال في الحاضر أو المستقبل المنظور.

3 ـ مواكبة العصر، وهي ضرورة أساسية جداً يستعيد فيها المسلمون خيارات العقل والواقع والعلم والتكنولوجيا. ومضامين هذه الخيارات ينبغي أن تراعي الخصوصيات الإسلامية بكل حساسياتها.

4 ـ التنمية الشاملة في كل مجالات الحياة، وهي تنمية تبدأ من المجتمعات الإسلامية الموزعة جغرافياً، وتنتهي بمشروع تنموي تكاملي.

وبالنسبة للحضارات أو الوجودات الحضارية الأُخر التي يساهم واقعها في إيجاد المعوقات التي سبق الحديث عنها، فإنّها معنية أيضاً بالمراجعة والنقد الذاتي، وأمامها مسار شاق ومخاضات لتكون مهيأة لدخول الحوار المتكافئ المطلوب، ولا سيما الوجودات الحضارية الغربية([15]).

التحديات المشتركة التي تواجه البشرية

إنّ التحديات المشتركة التي ترسم واقع البشرية في حاضرها ومستقبلها، تستهدف جميع سكان هذا الكوكب، ولن تكون أية حضارة أو مجتمع إنساني بمنأى عنها، فتحدي الفقر ـ مثلاً ـ يستهدف الأغنياء أيضاً، وتحدي البطالة لا يتجاوز أصحاب الكارتلات، وتحدي الهوية يهدد صنّاع العولمة أنفسهم، وهكذا التحديات الأُخر؛ لأنّ البشر ـ كما ذكرنا ـ سيجدون أنفسهم يعيشون في بيت عالمي واحد. وخيار المستقبل هذا لن ينفع في حفظ توازنه وتعادله غير تكافؤ الفرص والتكافل الإنساني، وإلّا فإنّ أية محاولة لتوزيع سكان البيت الواحد بين مستكبرين ومستضعفين، أسياد وعبيد، أصحاب هوية وذوي هوية مسحوقة، مرضى وأصحّاء، فقراء وأثرياء، متقدمين ومتخلفين، سيعني الكارثة الشاملة، وسيجد المستكبرون والأصحّاء والأثرياء والمتقدمون أنفسهم في قلب التحديات والأزمات؛ لأنّ رأس المال المعولم والثقافة المعولمة والسياسة المعولمة وأسلحة التدمير الشامل المعولمة، ستؤدي بمرور الزمن وبتصاعد حدة معدلات العولمة، إلى انفجار الألغام التي زرعتها في طريق الآخرين؛ لتلحق أفدح الأضرار بصنّاع العولمة.

ومن منطلق القرابة الجغرافية وزوال الجدران في البيت العالمي الواحد، ستكشف أوراق الجميع، وحينها ستزداد ردود أفعال الفقراء والمستضعفين والباحثين عن الهوية والمسحوقين عقائدياً والمتخلفين تكنولوجياً، وسيكون بمتناول أيديهم القيام بأي ردود فعل ممكنة ضد صنّاع هذا الواقع، بدافع إحداث التوازن والتعادل، أو الحصول على الحق أو الانتقام، وخلال ذلك سيستخدمون أسلحة العولمة ذاتها.

والحقيقة أنّ قائمة التحديات المشتركة تطول، ولعلّها لا تستثني أي مجال من مجالات الحياة، ونركِّز هنا على الأهم منها:

1 ـ تحدي البحث عن الهوية، فإفرازات التقارب الجغرافي وضغوط العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية، وكل ألوان الغزو الثقافي والحضاري والسياسي والعسكري، التي تعدّ بمجملها تجليات ظاهرة الاستعمار ما بعد الحديث([16])، وتهدف إلى ذوبان الآخر في الأنا، لن تتمكن من فرض فضاء ثقافي أو حضاري موحد على العالم، ولن تتمكن من محو هويات الحضارات والمجتمعات. صحيح أنّ قوانين الدورة التاريخية أو السنن الإلهية، فرضت على بعض المجتمعات البشرية أن تقبع في الصفوف الحضارية الخلفية، ولكن نظم الاستعمار ما بعد الحديث ستحفِّز الشعوب والأُمم للبحث عن هويتها الحضارية والدينية والثقافية المستقلة. وقد يكون من الطبيعي أن تؤدي ضغوط البحث عن الهوية إلى استحالة الاختلاف الثقافي والديني والتباين السياسي والاقتصادي، صراعاً إرهابياً تستخدم فيه كل أسلحة الدمار، ولا سيما إذا تصورنا أنّ سواتر الجميع وأظهرهم ستكون مكشوفة؛ لأنهم يعيشون في بيت واحد.

ويبدو أنّ الباحث الأمريكي “هانتيغتون” استند إلى بعض هذه الحقائق العالمية ـ من جملة ما استند إليه ـ ليخرج بنتيجة حتمية الصراع أو الصدام، ولا سيما من خلال تأكيده التمايزات التاريخية والثقافية والدينية بين الحضارات، إلى جانب تصاعد حدة الاحتكاكات بين الشعوب والوجودات الحضارية بعد أن تصاغر العالم، وكذلك التحول في النظم التقليدية للدولة ومجتمعها القومي([17]).

ولعل من الصعب رفض هذه الحقائق أو العبور فوقها. ولكن الحتمية التي خرج بها هانتغتون ليست هي الخيار المستقبلي الوحيد للبشرية، بل هو الخيار الأمريكي لتحقيق مشروعها العالمي الذي أطلقت عليه «النظام العالمي الجديد» الذي سيتحكم بالوضع العالمي خلال المئة عام القادمة([18])، في حين يمتلك العالم الذي يتحسس واقعية الشراكة خياراً آخر هو خيار الحوار والتفاهم لتجنّب ظاهرة صراع الهوية المدمِّر.

2 ـ التناقضات الإقليمية التي تفرزها اختلافات الجغرافية السياسية، ووجود الأقليات العرقية والدينية، وتباين أشكال الأنظمة السياسية، والألوان السياسية والفكرية المتصارعة التي تضيق بالواقع الواحد الذي تعيشه، إضافة إلى استمرار بعض ألوان الاستكبار الاستيطاني (الكيان الصهيوني نموذجاً)، وهي بمجملها ألغام متفجرة دائماً.

3 ـ ازدياد حدة التناقض في المصالح بين أقوياء العالم الذين يمتلكون رؤوس الأموال والتكنولوجيا المتطورة، ممّا يهدّد بأفجع الكوارث خلال مرحلة المخاض التي سيشهدها النظام العالمي، والتي ستسدل الستار على المرحلة الانتقالية التي استفردت خلالها الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم، إذ ستحاول أمريكا بكل الوسائل المحافظة على موقعها، فيما ستعمل القوى الأُخر على أن يكون لها مواقع تنافسية في النظام العالمي. ويبدو أنّ المثلث الروسي ـ الصيني ـ الإيراني سيكون مثلث التوازن أو التعادل في النظام العالمي، وإن كان من الصعب معيارياً تحوّله إلى قطب دولي موحد.

4 ـ أزمات الطاقة والمياه والموارد الطبيعية، وتحديات الفقر والجوع والمرض والبطالة والتلوث البيئي والانفجار السكاني، هذه التحديات المتراكمة ستزيد من الفواصل الطبقية والنفسية بين الأُمم، وإن تقاربوا مكانياً، ومن شأن كل واحد منها تفجير مختلف ألوان الصراع في العالم. فمثلاً تضاعف عدد السكان العالم إلى (عشرة مليارات نسمة في عام 2025م) سيؤدي إلى أزمات حادة في المواد الغذائية، وتزايد الطلب على السلع الاستهلاكية، ويتبعه نزوع الدول الضعيفة إلى تصدير المزيد من ثرواتها الطبيعية (النفط والمعادن خاصة) لسد حاجة شعوبها، الأمر الذي ينتج عنه أزمة أُخرى في الطاقة بعد أن تنفد احتياطات النفط بالتدريج، وسيكون الحديث عن الطاقة المائية البديلة غير مجد؛ لأنّ أزمة المياه ستتفاقم وستؤدي إلى صراعات إقليمية بسبب شح المياه. ويرافق ذلك بالطبع شح في المحاصيل الزراعية؛ تبعاً للمشكلات التي يعاني منها الريف، ولا شك أنّ اجتذاب المدن للمزيد من السكان سيؤدي إلى عجز واضح في قابليتها على امتصاص حاجات السكان، ولا سيما على صعيد الغذاء والسكن والدواء والعمل والتعليم.

وتقدِّر منظمة العمل الدولية أنّ العالم سيحتاج إلى توفير ما يقرب من ملياري فرصة عمل حتى عام 2030م تقريباً، بمعدل (5) مليون وظيفة سنوياً. وسينتج عن ذلك أزمات اجتماعية حادة أُخر، كالجريمة بكل أشكالها، والفساد الأخلاقي، وأعمال العنف وغيرها. فضلاً عن تصاعد معدلات الهجرة من الدول الفقيرة أو النامية إلى الدول الغنية، مما يضاعف من مشكلات المجتمعات الهجينة وذات التعددية الثقافية غير المنسجمة.

وستتسبب هذه الحالة في نقمة الجميع، فالسكان الأصليون (دول أُوروبا الغربية والشمالية مثلاً) قد يتحولون ـ بتضاؤل معدلات النمو السكاني لديهم وازدياد الهجرة إلى بلدانهم ـ إلى أقلية بمرور الزمن، وسيؤدي ذلك إلى نقمتهم وإلى بروز حالات خطيرة من العداء للأجانب، سيعزز خطورتها نزوع المهاجرين نحو التكتل والمحافظة على الهوية، وإن كان نزوعاً شكلياً وبدافع التعصب ورد الفعل فقط.

ولنتصور حال بلد مهم وذي حضارة عريقة كالهند، ففي عام 2025 سيصل عدد سكان الهند إلى قرابة ملياري إنسان، فكيف سيمكن تلبية حاجة هؤلاء من الغذاء والسكن واللباس والدواء والعمل والتعليم وغيرها؟ لا شك أنّ نصفهم ـ كحد أدنى ـ وغيرهم من شعوب العالم المستضعفة، سيتحولون إلى جيوش كبرى من المعوقين مالياً وغذائياً وصحيّاً وتعليمياً، وسيكونون العلامة الفارقة التي ستميِّز مستقبل العالم المحكوم بنظم العولمة، والذي اختار طريق القطيعة والصدام!!

5 ـ تحدي التخلف والجهل، وهو تحدٍّ لا يقتصر ميدانه على الفقراء وغير المتعلمين، فالتقدم التكنولوجي والعلمي الذي لا تنظِّم حركته الضوابط الأخلاقية والقيم المعنوية، سيفرز مجتمعاً متخلفاً وجاهلاً من نوع خاص، أي مجتمعاً غارقاً في التخلف الأخلاقي والجهل القيمي. كما أنّ المجتمعات المتخلفة تكنولوجياً وعلمياً ستعيش واقعاً مأساوياً آخر، وإن حاولت التشبث بالأخلاق والقيم المعنوية. وسيكون لكلا المجتمعين تحلله وفساده وجريمته، إلى جانب التناقض الخطير بين هذين النوعين من المجتمعات، ولا سيما التي تعيش فضاءً واحداً.

هذه التحديات التي ستطبع مستقبل العالم هي نذر الكارثة. وليس من المبالغة أن نقول إنّ آلية التفاهم والحوار الحضاري المتكافئ هي الكفيلة بحل كثير من حالات التمايز والاختلاف والتناقض والصراع بين المجتمعات البشرية.

 

([1]) وذلك لما ورد عن النبي(ص) قوله: <المؤمنون كأسنان المشط يتساوون في الحقوق بينهم…>. النوري، مستدرك الوسائل: ج 8/ ص 327 ح 9568. وابن سلامة، مسند الشهاب: ج 1/ ص 145 ح 195 وفيه: <الناس كأسنان المشط>.

([2]) أُنظر عهد أمير المؤمنين (ع) إلى مالك الأشتر لما ولّاه مصر، نهج البلاغة: ص 427 كتاب رقم 53.

([3]) الإسراء: 70.

([4]) البقرة: 251.

([5]) الأنبياء: 107.

([6]) سبأ: 28.

(1) لعل الباحث المستقبلي “دي جوفينيل” هو أول من أطلق مصطلح (المستقبَلات) في مشروعه العالمي الذي أسسه عام 1960 بأموال الملياردير الأمريكي “فورد”، وعمل فيه مئات العلماء والباحثين من مختلف الاختصاصات، وعُرف بمشروع (المستقبَلات الصالحات). كما أنّ (جمعية مستقبل العالم) أقرّت عام 1975 مصطلح (Future reserch) أي (بحث المستقبَلات) كأحد المصطلحات الخاصة بحقل الدراسات المستقبلية (Future studies) أو علم المستقبل (Futurology) أو المستقبلية (Futurism).

ويقصد بالمستقبَلات (جمع مستقبل) مشاهد المستقبل، وهي لا تعني الزمن العضوي القادم، بل المشاهد أو الصور التي سيكون عليها المستقبل، وهي مشاهد متنوعة ومختلفة.

([8]) لقد تلمس الباحث هذا الواقع بعد تأسيس مشروع (المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية) ونشر فكرته وخططه، إذ وصف بعضهم المشروع أو حقل الدراسات المستقبلية في واقعنا الإسلامي بأنّه ضرب من الترف العلمي واللاواقعية؛ باعتباره عبوراً على الحاضر والعصر، وحرفاً للمراحل؛ لأنّ المسلمين لم يدخلوا العصر بعد، فكيف بنا ونحن نفكر بالبديل الحضاري الإسلامي المستقبلي الذي يمكنه التعامل مع الموجودات الحضارية الأُخر من موقع التناظر والتكافؤ؟!

([9]) أُنظر: “روجيه غارودي”، «حوار الحضارات»، ترجمة د. عادل العوا، دار النفائس، بيروت. وقد صدر الكتاب (بالفرنسية) عام 1975، فيما صدرت ترجمته العربية عام 1982.

([10]) المصدر السابق: ص 9.

([11]) المصدر السابق: ص 187.

([12]) أُنظر: للكاتب، مقدمة كتاب «الإسلام والغرب: إشكالية التعايش والصراع»: ص 6.

([13]) أُنظر: للكاتب، «الإسلام والتجديد: رؤى الفكر الإسلامي المعاصر»: ص 182.

([14]) أُنظر: “هوفمان”، «الإسلام كبديل»، تعريب: غريب محمد غريب، بافاريا للنشر 1993.

([15]) نترك الحديث في هذا المجال لحقل علمي جديد عنوانه (الاستغراب)، وهو حقل يركِّز وعي المسلمين بحقيقة الغرب، وقد يساعد الأخير أيضاً في إعادة اكتشاف نفسه وإعادة اكتشاف الآخرين، فهو مرآة يقدمها الشرق إلى الغرب ليرى فيها نفسه، ولكنها ليست مرآة شرقية مؤدلجة، بل مجرد أداة محايدة، على العكس من (الاستشراق) الذي هو ـ في حقيقته ـ آيديولوجية غربية يعي من خلالها الغرب الآخر الشرقي. أُنظر في هذا المجال: د. حسن حنفي، «مدخل إلى علم الاستغراب»، ود. إدوارد سعيد، «الاستشراق».

([16]) الاستعمار ما بعد الحديث هو خيار الأقوياء أو المستكبرين العالميين، الذين يجدون في نظم العولمة وأساليب الغزو المعلن والخفي، الوسائل الأكثر جدية وتأثيراً للتحكم بالعالم.

([17]) “صاموئيل هانتغتون” وآخرون، «صدام الحضارات»: ص 19 ـ 20، الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت.

([18]) وهو ما أعلن عنه جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب نجاح حرب (عاصفة الصحراء) عام 1991.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment