الفقيه والمثقف وإشكالية وعي التراث والعصر

Last Updated: 2024/05/30By

الفقيه والمثقف وإشكالية وعي التراث والعصر

د. علي المؤمن

 

لاتزال قضية العلاقة بين الفقيه والمفكر والمثقف، واتجاهات الوعي لدى كل منهم؛ تشغل أصحاب الاهتمام والاختصاص في الساحة الإسلامية؛ بالنظر لحساسية نتائجها وخطورتها؛ لأنها تدخل في تحديد جانب كبير من مصير الشعوب المسلمة، حاضراً ومستقبلاً.

هذه القضية الشائكة؛ يمكن تقسيما إلى ثلاثة محاور رئيسة:

1 – اتجاهات الوعي لدى كل من الفقيه والمفكر والمثقف، أي الجانب النظري في المسألة الثقافية.

2 – التخصصات والأدوار الدعوية والدينية الاجتماعية لكل من الفقيه والمفكر والمثقـف، أي جانب الممارسة والتطبيق في الاحتماع الديني.

3 – علاقة تلك الاتجاهات والتخصصات والأدوار بعضها ببعض، وأسس التكامل بينها وأطره.

المحاور الثلاثة المذكورة، أفرزت – من جهتها – مجموعة إشكاليات، أهمها:

أولاً: عدم وعي بعض الفقهاء بالعصر ومتطلباته، وانكفائهم عن معالجة قضايا الواقع، أو معالجتها بأساليب لاتأخذ تحولات الموضوعات وظروفها الزمانية والمكانية بنظر الاعتبار.

ثانياً: عدم امتلاك بعض المفكرين الإسلاميين أدوات الكلام الإسلامي والتفقه، أي عدم توافرهم على إمكانية الاستنباط من النصوص الشرعية، في مجالات العقيدة والفقه؛ لكنهم ينظِّرون في مختلف مجالات الفكر الإسلامي.

ثالثاً: عدم وعي بعض المثقـفين الإسلاميين بالتراث الإسلامي وعلومه، وأهمية هذا التراث في تأصيل فكرهم وحركتهم في السياسة والاجتماع والعمل الاسلامي، ولا يمتلكون إمكانية الاستفادة منه؛ لكنهم ـــ في الوقت نفسه ـــ يقاربون قضايا إسلامية بحاجة إلى تخصص أو إلى مستوى علمي قريب من التخصص.

ففي الواقع الإسلامي هناك من يتصور بأن التراث الفقهي، والعلوم الأخرى المرتبطة به ارتباطاً وثيقاً، كأصول الفقه وعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم اللغة، هو محور تخصص الفقيه، وأن الفكر المعاصر والتراث الكلامي والفلسفي هو محور تخصص المفكر، وتبقى ثقافة العصر وتيّاراتها المختلفة هي من تخصص المثقـف. إلّا أن التصور يعكس نقصاً أساسياً في الرصيد المعرفي والثقافي؛ على اعتبار أن الفقيه الذي لا يعي العصر وتحولاته؛ لا يمكنه معالجة قضاياه معالجة تنسجم مع الواقع. أما المفكر الإسلامي الذي لا يمتلك القدرة على فهم النص الديني والتراث الفقهي والعلوم المرتبطة به فهماً قريباً من التخصص؛ فإنه سيكون عاجزاً عن التنظير والتأسيس الفكري في مختلف المجالات. في حين أن المثقـف الإسلامي الذي لا يعي التراث وعلومه ولا يقدر على استيعابه؛ فسوف لن يتمكن من ممارسة دوره الحقيقي في النقد والتغيير والتوعية.

وفي قبال ذلك؛ هناك من المهتمين من يقول بضرورة اتخاذ إجراء احترازي لاقتلاع جذور النقص من أساسها. ويتمثّل هذا الإجراء في إدخال تعديل على مفاهيم ومصطلحات كالفقيه والمجتهد والمفكر والخبير والمثقف وأمثالها، وإضافة قيود موضوعية وشروط جديدة لها. فمثلاً؛ يكون وعي العصر وثقافاته وتحولاته، وفهم قضايا المجتمع وحاجاته في مختلف المجالات، إلى مستوى القابلية الكاملة على تحديد مصالح المجتمع، هي من شروط إطلاق لقب فقيه أو مجتهد على المتخصص في العلوم الدينية. كما تكون القدرة على فهم النص والتراث فهماً علمياً والإفادة منهما في بناء النظرية الإسلامية، إلى مستوى يقترب من الاستنباط، هي من الشروط التي يجب توافرها في المفكر الإسلامي. أما وعي التراث واستيعاب علومه، بمقدار فهمها، وليس التخصص فيها، فهي من شروط إطلاق لقب مثقـف إسلامي على أي مثقـف.

هذه الإشكاليات سنقاربها في المقالات القادمة عبر أربعة محاور مستقلة:

الأول – مصطلحات الفقيه والمفكر والمثقـف، وإشكالية التفكيك بينها (المدخل).

الثاني – إشكالية وعي التراث والعصر لدى الفقيه والمفكر والمثقـف (جانب النظرية).

الثالث – إشكالية التخصص والأدوار (جانب الممارسة).

الرابع – أسس التكامل وأطره (المعالجة).

تفكيك المصطلحات

يثار ــ ابتداءً ـــ سؤال معرفي حول أسباب الفصل والتفكيك في المصطلح بين المثقـف من جانب، والفقيه والمفكر من جانب آخر، عند تناول مجمل الإشكاليات وعنونتها؛ على اعتبار أن المدلول المعرفي العام لمصطلح المثقـف يشتمل على الفقيه والمفكر أيضاً. وعلى حد تعبير بعض علماء الاجتماع من أن مصطلح المثقـف يستوعب جميع منتجي الأفكار وناشريها وحملتها ومستهلكيها، بمن فيهم علماء الدين والأدباء والكتاب والإعلاميين والفنانين، بل وجميع خريجي الجامعات والمتعلمين تعلماً مرموقاً. ولكن لجوءنا إلى الفصل له أكثر من سبب ودافع موضوعي، يرتبط مباشرة بواقعنا الإسلامي؛ إذ إن المدلول العام لمصطلح المثقـف – إذا ما طبقناه على الفقيه والمفكر – يواجه إشكاليات، ومعالجتها – مهما تكن – يجب أن تنطلق من البيئة والواقع اللذين يحكمان الإشكالية، دون اللجوء إلى استعارة معادلات أو مفاهيم ومصطلحات من بيئات أخرى، وإن أطلق عليها أصحابها صفة العلم والمعرفة. من هنا كان ضرورياً اعتماد المداليل الخاصة. المنبثقة من الواقع، والتي تضع فروقات واضحة على مستوى المفهوم والاصطلاح والمعنى بين كل من الفقيه والمفكر والمثقـف، وتقسّمهم إلى ثلاث فئات.

وربما نستطيع أن نستفيد من قول الإمام علي(ع): «الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق»(1)، في تأكيد واقعية الفصل بين الفقيه والمثقـف، والبعد التاريخي لهذا الفصل. فالإمام يفرّق هنا بين العالم الرباني (الفقيه) والمتعلم (المثقـف).

هذا التقسيم له حضور مشهود في تاريخنا الإسلامي، حتى إنه أخذ يتبلور ويأخذ شكلاً شبيهاً بالقانون الاجتماعي؛ فبعد ظهور المذاهب الفقهية والكلامية، حصل الانقسام بين الفقهاء والمتكلمين والأمراء، ثم تبلور التفكيك في فئات العلماء والمثقفين، بعد الهزات الاجتماعية والآيديولوجية والعلمية التي عرّض لها العالم الإسلامي، جراء الإنقسام الواضح بين العلوم العقلية والعلوم النقلية، فضلاً عن الانقسام بين مجموع العلوم النقلية نفسها ومجموع العلوم العقلية أيضاً، فظهرت فئة الفقهاء، أمثال عبد الله بن أباض وأبي حنيفة النعمان وزرارة بن أعين، وفئة المتكلمين، كواصل بن عطاء وهشام بن الحكم والأشعري، ثم فئة الفلاسفة الموسوعيين، كالفارابي وابن سينا وابن رشد، وفئة علماء الطبيعيات، كجابر بن حيّان والبيروني والرازي، وفئة المؤرخين وأصحاب المغازي، كابن الأثير، وفئة الأدباء والكتاب الموسوعيين، كالجاحظ وأبي حيّان التوحيدي، وفئة اللغويين، وفئة الشعراء، والمفسرين، ورواة الحديث، الخ.

وعلى وفق ذلك، أمكن تقسيم هذه الفئات إلى ثلاث طبقات رئيسة:

1 – طبقة الفقهاء، وتضم فئتي المحدّثين والفقهاء (المجتهدون وأصحاب الفتوى).

2 – طبقة المفكرين، وتضم المتكلمين والفلاسفة.

3 – طبقة المثقـفين، كبعض المؤرخين والأدباء واللغويين.

ولم يكن هذا التقسيم التقريبي موجوداً آنذاك؛ بل لم يكن هناك ما يصطلح عليه الآن بـ«المفكر» و«المثقـف»؛ لكن الهدف من ذكر هذه الفئات هو التدليل على الحضور التاريخي لعملية الفصل، وعلى ضرورتها موضوعياً بالنسبة إلى واقعنا الإسلامي الحالي المعاصر.

وبعد التطورات العلمية المستمرة التي شهدها العالم، وظهور التخصصات، ولا سيما بعد ما عرف بالنهضة الأوروبية، وانتقال عدوى العلمنة والتغرب إلى عالمنا الإسلامي، والاستقلال المتواصل للعلوم والمعارف عن بعضها بعضاً: العلوم الدينية، العقلية، الاجتماعية، التطبيقية والبحتة، وحسب عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر» الذي عبّر عن هذا التحول التاريخي الكبير على مستوى العلوم والمعارف بـ«خيبة العالم»، أصبح التخصص وانفصال العلم الواحد عن الآخر واقعاً قائماً(2).

ولكنهم – في الغرب – اختزلوا كل تلك المعاني والمداليل المختلفة في مصطلح واحد، أصبح له بعد معرفي، وهو (Cultured) الذي ترجم إلى كلمة «المثقـف» بعد انتقال المصطلح إلى عالمنا الإسلامي، ومعه انتقلت مداليله وفضاءاته التي تستوعب جميع الفئات الاجتماعية المتخصصة – علمياً – والمتعلمة.

ومن خلال ما سبق، تبرز ضرورة تحديد مفهوم المصطلحات التي احتواها العنوان، لفهم المراد منها هنا، لكنها تكاد تكون غائمة – أحياناً – أو تستخدم استخدامات خاصة في بعض المدارس الفكرية والثقافية؛ لاختلاف تعريفاتها ومفاهيمها من مدرسة إلى أخرى بل – أحياناً – من كاتب إلى آخر.

التعريفات الخاصة التي تطرح هنا، ربما يكون جانب منها مجازياً، ولكن القاعدة هي أن المصطلحات كثيراً ما تبدأ مجازية ثم تنتهي حقيقية:

1- الفقيه الإسلامي، هو متخصص في الفقه الإسلامي وصاحب رأي في أحكامه، أي أنه قادر على استنباط الحكم الشرعي من مصادر التشريع، من خلال فهم النصوص المقدسة والمراد منها فهماً علمياً دقيقاً خاضعاً للقواعد المثبتة في علوم القرآن (تفسير آيات الأحكام، الناسخ والمنسوخ وغيرهما). وعلوم الحديث (الدراية، الرجال وغيرهما) وعلم أصول الفقه، إضافة إلى علوم اللغة العربية، ثم استخراج الأحكام الشرعية التي تستوعب جميع مجالات الحياة. واصطلاح المجتهد يرادف اصطلاح الفقيه، رغم أن بعض المتخصصين يعطي للفقيه دائرة أوسع وأكثر عمقاً في التعامل مع الفقه. والفقيه هو مشروع مرجعية دينية في الفتوى، وولاية وقيادة للأمة. ومن هنا، فالفقهاء هم مراجع الأمة وقادتها في الدين والدنيا.

2- المفكر الإسلامي، متخصص في الفكر الإسلامي وملتزم به نظرية وسلوكاً، وصاحب رأي في مجالات العقيدة وعلم الكلام والفكر المقارن، من خلال تعمقه في الأفكار الأخرى، ولا سيما المعاصرة، ويمتلك القدرة على تحليلها ومحاكمتها، والتأسيس للأفكار والنظريات الإسلامية الجديدة. فالمفكرون هم نخبة الأمة ومن منظري حركتها في الحياة.

3- المثقـف الإسلامي، هو المطّلع – إلى حد الاستيعاب – على الواقع وتطوراته وتيّاراته الاجتماعية والفكرية والثقافية والعلمية. وهو لا يمتلك رأياً فقهياً أو فكراً إبداعياً خاصاً به – تمييزاً له عن الفقيه والمفكر – بل إنه يحمل الأفكار ويستهلكها وينشرها ويشرحها في هذين المجالين، أي أنه يتحرك في إطار مرجعية علمية وفكرية، تحركاً واعياً وهادفاً وتكاملياً، والمثقف نوعان:

الأول: مثقف موسوعي، وهو الملمّ بأكثر من مجال ثقافي، كالكاتب والصحافي والأديب.

الثاني: مثقف تخصصي، وهو المتخصص في أحد العلوم الإنسانية كالاجتماع، والسياسة.

والتأكيد هنا على مصطلح «المفكر الإسلامي» و«المثقف الإسلامي» وليس «المفكر المسلم» و«المثقف المسلم»؛ هدفه التفريق في المدلول والمفهوم والدور بين المفكر والمثقف الذين يمتلكان هوية ثقافية غير دينية، وينتسبان للإسلام وراثياً، فلا يشكّل الإسلام بالنسبة له هوية فكرية وآيديولوجية، أي أن كلمة «المسلم» هنا لها بعد اجتماعي وقانوني فقط، وبين المفكر والمثقف اللذين يتبنيان الإسلام نظاماً حياتياً متكاملاً، ويشكّل الإسلام بعداً أيديولوجياً في شخصيتهما، ويتحركان اجتماعياً وثقافياً على وفق هذا الانتماء. وبناءً على ذلك، فالمفكرون الإسلاميون هم منظروا حراك الأمة الميداني، والمثقفون الإسلاميون هم طليعة الأمة والجهاز التنفيذي لحركتها.

أما العصر، كمصطلح احتواه العنوان أيضاً، فهو الحاضر الراهن، بمحدداته الزمانية والمكانية، وتحولاته ومتغيراته وحقائقه وثقافته ومعارفه وعلومه وهو يرادف «الواقع» أو «الزمكان».

وظيفة الفقيه ودوره

الفقهاء – كما في الحديث – أمناء الرسل(3)وورثة الأنبياء(4)، وقادة النظام الاجتماعي الديني(5)، والحكام على الناس، والحكام بين الناس، ومراجع الشريعة. وتتطلب تلك المهام من الفقيه أن يتمتع بالمواصفات التالية:

1-  الفهم العميق لمصادر التشريع وقواعده الفقهية والأصولية والعلوم المساعدة، إلى مستوى القدرة المطلقة على الاستنباط والإفتاء.

2- وعي العصر والحياة، إلى مستوى القدرة على تحديد الحاجات الجديدة، للفرد والمجتمع، واستيعاب موضوعاتها، وتحديد الموقف الشرعي منها، فضلاً عن القدرة التأصيلية على التجديد الديني وتطوير حركة الفقه والاجتهاد.

3- العدالة في النظر والقول والفعل والتقرير، إلى مستوى الابتعاد عن كل مواطن الشبهات، والتحوّل إلى أسوة في التزكية والعبادة والمعاملة.

4- الكفاءة الإدارية والقيادية، إلى مستوى القدرة على التخطيط لحركة المجتمع، ثم تسييرها وتوجيهها على الصعد كافة.

أي أن للفقيه أدواراً ومواقع متكاملة ومتداخلة:

1 – دينية، وتتمظهر في مرجعية الفتوى والتقليد، والدعوة والتبليغ.

2 – علمية، وتتمظهر في التدريس والتأليف والتحقيق.

3 – اجتماعية، وتتمثّل في الإرشاد والتوجيه والإدارة الاجتماعية.

4 – سياسية، وتتمثّل في الولاية والقيادة.

5 – اقتصادية، وتتمظهر في تنظيم بيت مال المسلمين وإدارته.

6 – قانونية، وتتمثّل في القضاء بين الناس وإجراء أحكامه.

ومن أجل تنظيم هذه الأدوار، والحيلولة دون حصول أي نوع من التزاحم بين مساحات عمل الفقهاء؛ فقد اختصت بعض الأدوار والمواقع في فقيه واحد. مثلاً؛ موقع القيادة وولاية الأمر به الفقيه المتصدي، الذي تكشف عنه الأمة من خلال أهل الحل والعقد، من بين مجموع الفقهاء الحائزين على شروط الولاية العامة، سواء حمل عنوان “المرجع الأعلى” أو الولي الفقيه”. وكذلك منصب القضاء؛ فإن الضرورات التنظيمية والإدارية تفرض أن تناط مهامها بالعدد الذي تقتضيه الضرورة. وربما لاتوجد فجوات مخلّة في أغلب تلك المواقع والأدوار، خاصة الجانب التقليدي المرتبط بمرجعية الفتوى، وكذا المواقع العلمية والسياسية والقضائية، ولكن هناك ثلاثة مهام عامة باتت محل تداول ونقاش متواصل منذ أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي:

    1 – الاجتهاد الجديد:

وهو الاجتهاد المنسجم مع سرعة حركة الحياة ومتطلبات العصر الضاغطة، أي أنه الاجتهاد الجديد في أفقه وموضوعاته، والذي يكمِّل الجانب التقليدي في أدواته وقواعده. وقد عبّر عنه بعض الفقهاء عن الاجتهاد الجديد بـ “الاجتهاد المتحرك” أو “الديناميكي”، والذي يستند الى مجموعة قواعد، أهمها: “مقاصد الشريعة” و”الأولويات” و”مدخلية الزمان والمكان”. وحين دعا الإمام الخميني الى تطبيق هذا اللون من الاجتهاد في أواسط ثمانينات القرن الماضي، وأكد ضرورته؛ فإنه أكد أيضاً على أن هذه الأفاق الجديدة التي يمكن أن تعد تجديداً في الاجتهاد؛ ينبغي أن لايخرج عن قواعد الاجتهاد التقليدي، والذي أسماه بـ “الفقه الجواهري”(6)، ويوضح دوافع الآفاق الاجتهادية الجديدة بقوله: «سيتغير الكثير من الطرق السائدة في إدارة أمور الناس في السنوات القادمة، وستحتاج المجتمعات الإنسانية إلى المسائل الإسلامية الجديدة لحل مشاكلها. يجب على علماء الإسلام العظام أن يفكّروا بهذا الموضوع من الآن»(7). ولاجدال في أن مسألة استنباط الأحكام الجديدة إلى مستوى تغطية الحاجات المتجددة للانسان والمجتمع، وتحديد الموقف الشرعي منها، والتجديد في الاجتهاد، هي من اختصاص الفقهاء، بحيث تتوقف وتتعطل إذا لم يقوموا بذلك، بل ربما تنحرف عن مسارها الشرعي. فملاحظة تلك التغيرات والتطورات والتحولات في حركة الحياة، ثم معالجتها فقهياً، مع الأخذ بنظر الاعتبار عاملي الزمان والمكان، وأساليب الاجتهاد الجديد، هو الحل الوحيد يبقى على الشريعة تخصصاً علمياً، وموقفاً نظرياً، ومنهجاً في العمل، وخطاباً شاملاً، ونظاماً يقود الحياة، وتكون مهمة الفقيه في هذا المجال تطويع موضوعات الحياة للشريعة.

ويؤكد أحد الفقهاء أن مهمة المجتهد الحقيقي في الوقت الحاضر إحداث تحوّل في واقع الاجتهاد والفقه، في المسائل غير العبادية، أي الاجتماعية، بعد دراسة عناصر الاستنباط ومصادره من جديد. وبذلك «تتجلى شمولية الدين والفقه ومسايرتهما لمظاهر الحياة المتطورة. ويجب أن نعرف إذا لم تستخدم أصول الأحكام والقوانين الكلية، في الاستنباط ومناطات الأحكام في المسائل غير العبادية، كالمسائل السياسية والاقتصادية والتجارية أو مسائل العلاقات الدولية ومسائل السلطة، فإنه لا يمكن حل كثير من المشاكل، وسيبقى الخلل والنقص واضحين»(8).

ومن جانب آخر، بات الانفتاح على تراث المذاهب الإسلامية ونتاجاتها العلمية، وتطبيقاتها العملية، والانتفاع منها، أمراً ضرورياً في حل كثير من المشاكل الشرعية التي تواجه المجتمعات المسلمة، سواء في ظل حكم الشريعة الإسلامية، أو في ظل الأنظمة المختلطة (العلمانية ــ الإسلامية)، أو التي تواجه المسلمين في البلدان غير المسلمة ويشكلون فيها أقلية دينية. ويتطلب ذلك توسيع دائرة الفقهاء المتخصصين في العلوم الإسلامية المقارنة، ليس في مجال الفقه وحسب، بل في علوم القرآن وعلوم الحديث وعلم أصول الفقه وغيرها.

كما يتطلب ذلك أن لاينظر الفقهاء بأجمعهم الى بلوغ موقع المرجعية؛ بل التوجه الى الاختصاصات الفرعية، وذلك عبر التأسيس لمبدأ التخصص في الموضوعات الفقهية وأبوابها أو التخصص في العلوم الأخرى؛ فيكون هناك فقهاء يتخصصون في فقه العبادات، وآخرون في الفقه الاقتصادي، أو في الفقه السياسي أو فقه العقود أو الفقه الاجتماعي أو الفقه الثقافي وغيرها؛ بل وتخصصات أكثر دقة وتفرع. وليس المقصود هنا الاجتهاد المتجزء؛ بل المقصود أن يتجه المجتهد بعد بلوغه درجة الاجتهاد المطلق؛ الى التخصص في أحد تلك الأقسام أو الأبواب الفقهية، وليس بالضرورة أن يخوض مئات الفقهاء في دراساتهم ودروسهم ومؤلفاتهم، في الموضوعات نفسها والزمان نفسه. بل من المهم أيضاً أن يتجه فقهاء آخرون الى التخصص في علوم إسلامية أخرى غير الفقه، كالتفسير وغيره من علوم القرآن، وعلم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الرجال وعلوم الحديث والفقه المقارن، أو التخصص في اللغة العربية والترجمة التخصصية أو علم الأديان أو الفلسفة.

    2 – الحقوق الشرعية والموقف المالي:

يتوقف كثير من الفقهاء عند واقع قضية الحقوق الشرعية (الزكاة والخمس وغيرهما) وعملية استحصالها وضبط توزيعها عملياً. وليس محور البحث هنا الأصول التشريعية لهذه الحقوق ومواردها ومستحقيها، كما أشبعتها المدونات الفقهية بحثاً واستدلالاً، بل هدف البحث هو المتولّي عليها في عصر الغيبة، والأساليب العملية لاستحصالها وتوزيعها. وإذ يجمع الفقهاء على أن ولاية التصرف في الحقوق هي للحاكم الشرعي (الفقيه) أو مرجع التقليد، لكنهم يتوقفون عند ماهية هذا الفقيه أو المرجع؛ فهل هي لكل الفقهاء، أو لعدد منهم أو لفقيه بعينه؟(9). وهنا يخرج الفقهاء المجددون بنتيجة، ملخصها؛ أن الولاية على الحقوق الشرعية وحركتها، من المؤمنين إلى بيت المال(الجباية)، ومنه إلى مستحقيها (التصرف)؛ بحاجة الى تنظيم عملي للموقف المالي وتوحيد له؛ ليكون المال الشرعي أكثر نفعاً وتأثيراً في إسناد مكونات النظام الاجتماعي الديني الشيعي، بعدالة، وبعيداً عن أية شبهة شخصانية.

    3 – حركة التبليغ والإرشاد الديني ـــ الاجتماعي:

هناك اعتقاد منتج ومهم يتلخص في ضرورة أن تكون قضية التبليغ والخطابة والإرشاد الديني المباشر للمجتمع خاصة بالفقيه أو عالم الدين المقارب للاجتهاد، أو من يدرس في مرحلة البحث الخارح (الدراسات العليا)، وليس لكل من يرتدي الزي الديني؛ لأن التبليغ الديني العام يقع في دائرة مهام الفقيه الأساسية. ويلاحظ وجود خلل واضح في هذا المجال؛ فمعظم علماء الدين – وخاصة المجتهدين والذين تقدّموا في مراحل الدراسة العليا – يرجّحون الاستمرار في الدراسة والتدريس والتحقيق والبحث، على السفر خارج مدنهم أو بلدانهم للقيام بأعباء التبليغ والإرشاد والدعوة، ولو لمدّة محدودة. بل إن بعضهم لا يقوم بهذا الدور حتى في منطقة إقامته، ويعتبر العمل التبليغي مهمة خطباء المنبر وصغار العلماء، ولا يتناسب مع مقام عالم الدين الكبير أو الفقيه، الذي تنحصر مهمته ـــ وفق هذا الرأي ـــ بالدراسة والتدريس والتحقيق الفردي. حتى بات هذا الاتجاه عرفاً في المؤسسة الدينية.

وبالتالي؛ فإن الفقهاء في الحوزات العلمية، والذين يصل عددهم الى مايقرب من (500) مجتهد؛ سيتضاعف تأثير وجودهم وأعمالهم وأدوارهم الى أضعاف مضاعفة، فيما لو توزعت جهودهم العلمية والدينية على أكثر من مجال؛ فيكون هناك 30 بالمائة يتخصصون في الفروع الفقهية و30 بالمائة للتخصص في باقي العلوم الإسلامية أو العقلية أو الإنسانية والاجتماعية، و 30 بالمائة للعمل التبليغي في المناطق الأخرى. أما الـ 10 بالمائة المتبقين فهم الفقهاء المتميزون علمياً غالباً، والذين تكون اهتماماتهم تقليدية شاملة.

ولا شك أن بعض المهتمين سيتصور أن هذا اللون من الطرح هو نوع من التنظير غير العملي، انسجاماً مع رؤيته للركود في الواقع. إلا أن عملية التطبيق ستكون ممكنة فيما لو تمت عملية تكييف هذا التوزيع وأساليبه وأدواته، في إطار مشروع إعادة مأسسة النظام الاجتماعي الديني ومنظومة المرجعية والمؤسسة الدينية، وهو مشروع لابد أن يقوم، عاجلاً أو آجلا؛ لأن عجلة التطور الشامل والحاجات المتراكة؛ ستجعل الجمود على الأدوات والسياقات والآفاق، وجهاً آخر للخروج من الزمن.

الفقيه ووعي العصر

يشكّل وعي العصر لدى الفقيه ووعي التراث لدى المثقف، ثنائية بارزة على المستويين النظري والتطبيقي، وهذه الثنائية هي من مظاهر الخلل المعيق لمشروع نهوض المسلمين ودفع عجلة التنمية المجتمعية والثقافية والعلمية والسياسية الشاملة. ورغم أن الواقع الإسلامي بمختلف قطاعاته يعاني من ضغط هذه الثنائية، إلا أنها على مستوى الفقهاء والمفكرين والمثقـفين؛ تشكل أزمة حقيقية؛ لأن هذه الفئات الثلاث مجتمعةً تمثل عقل الأمة ومحور حركتها.

إن إشكالية وعي الفقهاء لعصرهم، تتمظهر في حصر بعض الفقهاء اهتماماته في زاوية العلوم المعهودة في الحوزات الدينية، أو التراث العلمي الديني بتعبير آخر؛ فيكون ذلك محور اختصاصه وثقافته. وحين يرى هذا البعض أن علوم الفقه والأصول والرجال والدراية واللغة والأخلاق والمنطق وآيات الأحكام هو محور حاجاته العلمية والمعرفية، كما هو الحال مع أي مختص آخر، كالفيزيائي والطبيب والمهندس؛ فلا يجد حاجة إلى أية ثقافة من نوع آخر، عصرية أو غير عصرية، كثقافة العلوم البحتة والتطبيقية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، والأدبية، بل وحتى التاريخية والفلسفية أحياناً، فضلاً عن وعي قضايا الحكم والسياسة الدولية. وإذا اكتسب الفقيه ثقافة معينة في هذه المجالات؛ فذلك يشكّل اهتماماً شخصياً محضاً، أو ترفاً ثقافياً لا علاقة له بكونه فقيهاً(10)؛ بل هناك من يعتقد أن هذه الاهتمامات تصرف الفقيه عن تخصصه الحقيقي، وتشتت ذهنه، وتفقده العمق الفقهي المطلوب؛ إذ إن هذا العمق أو الغوص المتأصل في قضايا الفقه ومسائله المتشعبة، وإشكالاته وفرضياته، هي التي تحفظ للفقيه مقامه العلمي، وتكسبه ملكة الاجتهاد المطلق والقابلية على حل أعقد المسائل الفقهية والأصولية.

وفي المقابل؛ يعتقد آخرون بأن هذا اللون من التخصص المنغلق، قد يخلق عمقاً فقهياً في المجالات الفردية والعبادية، أو سائر المسائل التقليدية التي يتجاوزها الزمن تدريجياً. وربما يتحوّل هذا التبحر والتخصص المنغلق على العلوم الشرعية، إلى هدف بذاته، كسائر العلوم النظرية، وليس إلى وسيلة لقيادة الحياة، ويخلق متخصصاً في الفقه، وليس فقيهاً، بالمعنى الذي يجعله في موقع مرجعية الأمة، وهو الموقع الذي يفرض الانفتاح على حاجات العصر ودخول عالم التحدّيات بمختلف مستوياته ومجالاته، والمعرفة بالواقع، وفهم حاجات المجتمع، وإدراك الموضوعات إدراكاً كاملاً، مع الأخذ بعين الاعتبار تحولاتها وتغيّرها من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر. كما أن الوعي بالعصر ومتطلباته، والمستقبل واستدعاءاته؛ يمكّن الفقيه من تحديد مصالح المجتمع الداخلية والخارجية، والعمل وفقها. وهذا التحديد هو الذي يجسد مقاصد الشريعة، حتى إن الإمام الخميني بقوله: «لو كان هناك شخص أعلم من ناحية العلوم المعهودة في الحوزات، ولكنه لا يستطيع تحديد مصلحة المجتمع.. فهذا الشخص ليس مجتهداً في المسائل الاجتهادية والحكومية»(11)، اعتبر أن القابلية على تحديد مصالح المجتمع شرطاً في الاجتهاد الجديد. وبما أن المسائل الاجتماعية تشتمل على النسبة الأكبر من أبواب الفقه، فهذا يعني أن الفقيه المجتهد في القضايا الفردية والعبادية، وعموماً المسائل الفقهية المتوارثة عبر الأزمان، يعدّ -حسب رأي الإمام الخميني- مجتهداً فاقداً لبعض شرائط المرجعية القيادية للأمة، وإن تحققت أعلميته في تلك المسائل الفردية والعبادية أو المعاملات. وهذا يعني أن عدم الوعي بالعصر ومتطلباته وبمصالح المجتمع وحاجاته، يتعارض مع طبيعة وظائف الفقيه الأربعة أو الخمسة، وخاصة وظيفة قيادة المجتمع من خلال ولايته على الأمور الحسبية، أو وظيفة قيادة الأمة من خلال ولايته على الحكم.

وفي مجال المسائل الفقهية التقليدية، كأحكام الطهارة والمياه والنجاسات والصلاة والصيام، وعموم العبادات والمكاسب والبيع والمرابحة والربا والمضاربة والنكاح، وعموم العقود، ثم عموم الإيقاعات، من طلاق وعتق وغيرهما، وكذلك أحكام الإرث والقضاء والحدود والقصاص والديات، في هذا المجال؛ يُلاحظ أن هناك المزيد من التأكيد والتركيز والتعمق في المسائل الشرعية نفسها التي أشبعها الفقهاء بحثاً وتمحيصاً ونتائج، خلال مئات السنين، ودليل ذلك؛ الموسوعات الفقهية والأصولية وكتب الفتاوى والأحكام الشرعية (الرسائل العملية) الحديثة، والتي تتشابه في منهجها وعرضها ومعظم مادتها واستدلالاتها مع ما صدر خلال الألف سنة الماضية. في حين تنحصر الجهود حيال معالجة القضايا الجديدة التي باتت مساحاتها تتضاعف وتتضخم باطراد وبشكل يومي، وفي مقدمتها المسائل الجديدة للمجتمعات المسلمة، أو النظام الاجتماعي الإسلامي بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية والدفاعية والتكنولوجية والعلائقية وغيرها، وهي المسائل التي يفترض أن تتركز عليها الجهود، وهي من البديهيات التي تدل عليها أهداف الإسلام في قيادة الحياة.

وفي هذا المجال يقول آية الله الخامنئي: «الفقه الإسلامي ليس عبارة عن الطهارة والنجاسة والعبادات، وإنما تشتمل فروعه على جميع جوانب حياة الإنسان، الفردية والاجتماعية والسياسية والعبادية والعسكرية والاقتصادية، الفقه هو الذي يدير حياة الإنسان»(12)، بل ويعتبر ذلك قصوراً في فهم المسلمين لدينهم العظيم، الذي جاء لتنظيم حياة البشرية كافة، وبمختلف أبعادها، ويجيب على كل تساؤلاتها، ويلبي جميع حاجاتها، ويمنحها سعادة الدنيا: «نحن لم نفهم الدين جيداً حتى الآن، فلا بد أن نستخرج منه الأفكار الجديدة التي لم نطّلع عليها بعد.. وليس من المعقول أن الدين هو هذه الخطابات فقط… إنّ الدين أكثر من ذلك»(13).

 

وعند هذه النقطة نعود إلى القول بأن وعي الفقيه بالعصر وثقافاته وحقائقه وتحولاته، هو مقدمة إنطلاق النهضة الجديدة في واقع المسلمين؛ بل هو أساس الاجتهاد والتنظير الفقهي في مجال الحاجات الاجتماعية الجديدة، ومن خلاله يمكن للفقيه فهم موضوعات الأحكام المختلفة فهماً واقعياً وميدانياً وحسياً، مقدمة لإصدار الحكم الشرعي، الأكثر التصاقاً بالحقيقة (الدين).

التحول في الاجتهاد

يتمظهر الوعي الواقعي والعصري للفقيه بموضوعات الأحكام الفقهية في حالتين غالباً:

1 – فهم الموضوعات المتحولة والمتغيرة، الفردية والعامة، والتي كانت لها أحكام سابقة، وفهم طبيعة التحول والتغيير، وينبغي أن تكون لها أحكام جديدة.

2 – فهم موضوعات الحوادث الجديدة الواقعة، وعموم المستجدات في مختلف المجالات، الفردية والعامة؛ بهدف إصدار الأحكام الشرعية الخاصة بكل موضوع وواقعة.

3- تشخيص المصالح والمفاسد المتعلقة بالمجتمع، وإصدار الأحكام الشرعية العامة الموافقة لها، بما في ذلك الأحكام الثانوية والولائية، في إطار قواعد فقه مقاصد الشريعة وفقه الأولويات.

وربما لا تتحقق مقاصد الشريعة في كثير من القواعد الشرعية الموروثة ومخرجاتها، ولا سيما في الموضوعات العامة التي تعرضت لتحولات زمانية ومكانية، أو تغيرت الظروف التي أدّت إلى تغير أدلة أحكامها، الأمر الذي يستوجب استنباط حكم جديد مناسب. ويؤسس الإمام الخميني لهذا الاتجاه الاجتهادي بقوله: «القضية التي كان لها حكم معين في السابق، يمكن أن يكون لها في الظاهر حكم جديد، فيما يتعلق بالعلاقات التي تحكم السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما، بمعنى أن نتيجة المعرفة الدقيقة في العلاقات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية تحوّل الموضوع الأول – الذي لم يتغير في الظاهر – إلى موضوع يستلزم حكماً جديداً بالضرورة»(14).

هذا الاتجاه الاجتهادي الذي أطلق عليه بعض الفقهاء «التحول في الاجتهاد» يقوم على أساس تغيّر الزمان والمكان والظروف في شتى مجالات الحياة، والذي يستتبع حدوث موضوعات جديدة، أو تغيّراً في أصل الموضوعات أو خواصها الداخلية والخارجية، كلّها أو بعضها. والنتيجة تغيّر أدلتها الشرعية، أو تغيّر فهم الفقيه للموضوعات السابقة، أو فهم الفقيه للدليل. وبكلمة أخرى: عدم البقاء على حكم موضوع معيّن عند تغير بعض خواصه، أو تغير الظرف الذي أدّى إلى ذلك الحكم، ولا سيما في الموارد التي ليس فيها نص(15).

فالمتغير هنا ليس حكم الشرع، بل موضوع الحكم؛ لأن الموضوع يتقوم بمجموعة القيود المأخوذة فيه، فإذا انتفت كلها أو بعضها انتفى الموضوع؛ لأن: «المقيد عدمٌ عند عدم قيده» كما قرر ذلك علماء أصول الفقه في بحث قاعدة القيود(16). وبذلك يتبدل الحكم تبعاً لتبدل الموضوع. فمرور الزمان واختلاف المكان وتغير الأوضاع، وتجدد التقاليد والأعراف، لا تغير الأحكام الشرعية؛ على اعتبار أن التحول في الاجتهاد يؤدي إلى عرض الجديد في الحياة على الفقه، ثم يخضعه للشريعة، وليس العكس، أي أنه ليس تغييراً في الأحكام تكون نتيجته عرض الفقه على الجديد في الحياة، ثم إخضاع الشريعة للحياة(17)، أو بكلمة أخرى، «تفصيل الشريعة على مقاس العصر»(18)، وهي القاعدة التي ترفضها مقاصد الدين عموماً.

ومما لا شك فيه أن وعي التحولات والمتغيرات واكتشاف الموضوعات الجديدة، ثم ترتيب الأحكام الشرعية عليها، هي مهمة الفقيه حصراً، وليست مهمة المثقـف أو الأكاديمي، مهما بلغ مستواه المعرفي؛ لأن تعيين موقف الشريعة من الموضوعات تدخل في تعبّر عن فهم فقهي وأصولي بالغ التخصص.

ومن النماذج المعروفة لتطبيق اتجاه التحول في الاجتهاد؛ الأحكام الشرعية الجديدة لموضوعات سابقة متحولة في قيودها وشرائطها وظروفها، والتي عبّرت عن وعي الفقهاء بعصرهم:

  • جواز بيع الدم وشرائه
  • جواز تشريح الميت
  • جواز بيع أعضاء جسم الإنسان وشرائها، وزرعها في جسم إنسان آخر مع أن انفصالها عن الجسم السابق يحوّلها إلى «ميتة»
  • جواز صناعة التماثيل، باعتبارها لوناً من ألوان الفنون الجميلة
  • لعب الشطرنح
  • جواز تحديد النسل
  • جواز تأميم الأنفال (الغابات، البحار، المعادن وغيرها) وتقنين التصرف بها من قبل الدولة
  • جواز تقنين التصرف بالأراضي، حتى البوار منها، من قبل الدولة (19).

وغيرها من الموضوعات الخاصة والعامة التي تستلزم صدور أحكام جديدة أو ثانوية أو ولائية. مع الأخذ بالاعتبار الأغراض المحددة لهذه الموضوعات، كأغراض بيع الدم وتشريح الميت وزرع الأعضاء وتحديد النسل وغيرها؛ فهي جائزة ومشروعة بحدود أغراضها، وليست جائزة بالمطلق.

دور المثقف ومهمته

المثقف الإسلامي هو رجل المعرفة والمسؤولية الميدانية التغييرية، والذي يعيش الإلتزام بقضايا مجتمعه بكل تفاصيلها، ويستجيب لحاجات المجتمع ويلتصق بهمومه، ويواجه التحديات التي تعيق حركته ونموه وتطوره على مختلف الصعد، ويكتشف الشبهات التي تسعى لحرفه، ويدفعها عنه بالأساليب البنّـاءة التي تعتمد نظرية المفكر والموقف الشرعي الذي يحدده الفقيه، ويحصن منظومته الفكرية والثقافية الأصيلة، ويساهم في تقوية النظام الاجتماعي الديني الذي يمثل هويته وهوية المجتمع الذي ينتمي إليه، عبر عمليات البحث التخصصي الدقيق والنقد البناء والتأصيل وإعادة المأسسة، بما ينسجم ومتطلبات الحاضر والمستقبل.

وقبل الحديث عن الدور المعرفي والاجتماعي والتغييري للمثقف الإسلامي، نستعرض أبرز أراء مدارس علم الاجتماع الغربية بشأن أدوار المثقف، والتي تلخصها ـــ عادة ـــ  بثلاثة أدوار:

1 – دور خدمة السلطة السياسية في المجالات النظرية والآيديولوجية والاجتماعية والثقافية، أي تسويغ واقع السلطة، وهو ما يسمى بــ “مثقف السلطة”.

2 – الدور المعرفي، البعيد عن الأطر الآيديولوجية، وهو ما يعبِّر عن خلفيته عالم الاجتماع السياسي “سيمور مارتن ليبست” بــمقولة «نهاية الآيديولوجيا»، حيث يرفض أية علاقة بين المعرفة العلمية المحايدة والانتماء الايديولوجي للمثقـف. ويطلق على هذا المثقف مصطلح “المثقف المعرفي” المستقل ايديولوجياً وسياسياً.

3 – الدور الانتقادي، وهو الدور الذي تعبّر عنه “الطبقة المثقفة الانتقادية” (Intelligentsia)، والتي يقول عنها عالم الاجتماع الألماني “كارل مانهايم” «يجب عليها [طبقة المثقفين] أن تبقى انتقادية لنفسها ولكل الجماعات الأخرى»، بالصيغ التي يشير إليها “ريمون أرون”، حين يحصر الدور النقدي للمثقف بثلاثة أنواع: النقد المنهجي، والنقد الأخلاقي، والنقد الآيديولوجي والتاريخي. وهو ما يعرف بـ “المثقف الانتقادي”(20).

هذه الآراء تشير الى أن المثقف ـــ من وجهة نظر علم الاجتماع الغربي ـــ محاصر بين خيارين: خيار الانتماء، ويعني الانتماء الى السلطة السياسية والسلطة الاجتماعية والسلطة الدينية والسلطة المالية، وكذلك الى الآيديولوجية التي تمثلها، وخيار اللاإنتماء، أي أن يكون المثقف معرفياً محايداً أو انتقادياً مجرداً. وهذان الخياران ينسجمان مع طبيعة الاجتماع الديني والسياسي والثقافي الذي أفرزته الايديولوجيا العلمانية بالتزامن مع عصر النهضة الأوربية، بل أنهما مفصلان على مقاسات المجتمعات الغربية العلمانية التي ولدت ولادة طبيعية في أعقاب قرون من الصراع المعرفي والسياسي والاجتماعي مع النظم الثيوقراطية التي تمثل تحالف الاستبداد الكنسي والحكومات المطلقة. وهو صراع لاتعرفه المجتمعات المسلمة، إلّا في حدود بعض الايديولوجيات والنظم التكفيرية المرفوضة عقدياً واجتماعياً بمستوى قريب من الإجماع الإسلامي.

ولاينسجم التصور المعرفي الاجتماعي الغربي في حصر خيارات المثقف، مع دور المثقف في الرؤية الإسلامية؛ لأن انتماء المثقف الإسلامي الى اجتماعه الديني لا يعني أنه يمارس دور خدمة السلطة السياسية ونخبها وجماعاتها، أو أنه منساق دون وعي وراء المؤسسة الدينية؛ بل لأنه من خلال انتمائه، يمارس دوره الذي يمليه عليه تكليفه الشرعي وواجباته الدينية والثقافية والإنسانية. ولكن الملفت للنظر أن المثقف التغريبي الذي ينتمي الى جذور مسلمة وبيئة مسلمة، يندفع نحو تبنّي الرؤية الغربية لتعريف المثقف ودوره، من قبيل المثقف النقدي والمثقف المعرفي المستقل والمثقف التنويري والثقافة الانتقادية والتفكير العلمي، وراح ـــ تحت تأثير إغراءات المفاهيم والمصطلحات والأسماء الغربية اللامعة التي يلوكها في أحاديثه ومقالاته ـــ يبحث عن دور انتقادي، يشاكس فيه المجتمع والتراث الإسلامي والمرجعية الدينية والمؤسسة العلمية الإسلامية والنظام الإسلامي، ويردد التوصيفات التي تفرزها منظومة العقل الغربي الإستشراقي السلطوي، كالأصولية الإسلامية وسلطة المؤسسة الدينية واليسار الإسلامي والتطرف الإسلامي والإرهاب الإسلامي والإسلام السياسي والماضوية والتخلف وموت التراث والعقل المسلم المأزوم وغيرها، ثم يتبنى مداليلها وفق مايحدده العقل الغربي المخاصِم للإسلام ومجتمعاته؛ لكي يقال عنه إنه مثقف (أنتلجنتسي)، أو مثقف غير منتمٍ، وأنه يمارس دوره الثقافي المطلوب. لكنه في حقيقته؛ مثقف مهزوم ومسلوب الهوية، ويعيش هاجس الرعب من (تهمة) الانتماء الى أصوله المعرفية واجتماعه الديني. بل أن هذا الاستلاب والهزيمة، تدفعه ـــ غالباً ـــ الى نقد التراث والمؤسسة الدينية والنظام الاجتماعي الديني نقداً قاسياً، شخصانياً تارة، وغير تخصصي تارة أخرى. ويصل الأمر الى مستوى إعلان الحرب عليها، والمساهمة في تشويهها وضربها وتدميرها.

والمفارقة أن المثقف المستلَب الذي ينتمي الى بيئة مسلمة، ولا سيما المثقف العلماني العربي والمسلم، هو الأكثر ازدراءً لمفهوم الدين عموماً وللإسلام خصوصاً، والأكثر طعناً بالأصول الإسلامية، والأكثر سخرية من المؤسسة الدينية والمتدينين. على العكس من أغلبية المثقفين العلمانيين الغربيين، الذين وصلوا الى قناعة المصالحة مع الدين، واحترام المؤسسة الدينية والمتدينين. والسبب يعود الى أن المثقف العلماني الغربي منسجم مع واقعه الاجتماعي ومع حقيقة دينه المسيحي الروحي ومع الاستحالات الايديولوجية التراكمية التي عاشها طيلة قرون. أما المثقف العلماني ذو الجذور المسلمة، فهو يحاول التماهي مع هذه الاستحالات التي لاتمت الى الواقع الإسلامي بصلة، والتشبه بجداليات ماقبل عصر النهضة الاوربية، ولذلك؛ يصطدم بقوة بدين مختلف وشريعة مختلفة وواقع مختلف؛ الأمر الذي يدفعه الى شن حروب انفعالية خاسرة على الدين ونظامه الاجتماعي.

وحين يعلن المثقف المسلم المستلب، استقلاله عن ما يسميه علماء الاجتماع الغربيين بالسلطات التي ينبغي للمثقف أن يستقل عنها، وينتقدها من خارجها؛ فهذا يعني أنه منفصلٌ عن اجتماعه الديني والثقافي والسياسي، وأنه لاينتمي الى المرجعية الدينية والجماعات السياسية الاسلامية والحكم الإسلامي والمؤسسة الدينية والمؤسسة الاجتماعية وغيرها؛ لأنه انتماءه إليها يقوده تلقائياً الى الدفاع عنها وتسويغ أحكامها وأدائها، وهو مايتعارض مع مفهوم المثقف في الرؤية الغربية. وهذا الفهم يعمل على إفراغ النظام الاجتماعي الديني الإسلامي من عنصر قوة بشري نوعي مهم، وهو عنصر المثقف، فضلاً عن أنه لايعي أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والمحاسبة والتواصي بالحق، يفرض على المثقف الإسلامي أن يمارس دور النقد البنّاء والتقويم السليم بكل جرأة ووضوح، ولايركن الى الصمت والتسويغ غير الواعي والدفاع بالباطل؛ لأن ذلك يتعارض مع بديهيات الايديولوجيا الإسلامية.

ولعل تشكيل طبقة «انتلجنتسيا إسلامية» حقيقية، تخوض غمار النقد والتقويم للنظام الاجتماعي الديني ومكوناته، وللواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ هي صلب مهمة المثقف الإسلامي. ومع افتراض سلامة أهداف عملية الإصلاح والتصحيح وإعادة البناء التي تطمح اليها طبقة المثقفين الإسلاميين؛ فإن اختيار الوسائل والأساليب، لابد أن يكون مدروساً بعناية، كونها المقدمة الضرورية لصحة العملية بمضمونها المعرفي والتطبيقي السليم. وتستند هذه المقدمة الى أربع قواعد أساسية:

  • إبعاد الثوابت الإسلامية المقدسة عن عملية النقد، والمقصود بهما القرآن الكريم والصحيح من السنة. أما القراءة التخصصية المتجددة لهما، والتي تنطوي على نقد التراث والقراءات التقليدية؛ فهي تدخل في صلب عملية النقد البنّاء، شرط أن يكون النقد تخصصياً، والناقد يتمتع بكل المؤهلات العلمية المطلوبة.
  • مراعاة ظروف الزمان والمكان، والأطر الشرعية والأخلاقية، والمصلحة العليا، فالنقد يكون حراماً أحياناً، وأخرى واجباً وثالثة مستحباً؛ لأن الهدف من عملية النقد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو البناء والتغيير نحو الأفضل، وليس النقد من أجل النقد، أو النقد دون النظر الى النتائج التي ستترتب عليه.
  • انسجام النقد والتقويم مع الواقع الشخصي للمثقف؛ إذ ينبغي أن يبدأ بنقد نفسه وواقعه قبل نقد الآخرين ونقد الظواهر العام؛ لأن محاسبة النفس والتقويم الذاتي وإعادة بناء الشخصية بما ينسجم ودور المثقف وأهدافه، هو ميدانه الأول، ثم يتحرك في حدود تخصصه وثقافته نحو الأفق الخارجي.
  • انتماء المثقف الإسلامي الى نظامه الاجتماعي الديني ومكوناته، وفق خياراته وتخصصه، وهو انتماء مركب ينطوي على أكثر من انتماء فرعي. ولاتلغي هذه الانتماءات دور المثقف الإسلامي في عملية النقد والمحاسبة والنصيحة، بل العكس كما ذكرنا. ومن خلال هذه الانتماءات، يعبر المثقف الإسلامي عن عقديته ومسؤوليته، ولايكون مجرد مثقـف معرفي أو نقدي أو عقلاني أو حر أو متنور، أو أي تعبير مستورد آخر يحاول بعض المنفعلين فرضه على الواقع الإسلامي.

وعليه؛ يتلخص دور المثقف الإسلامي ووظيفته بما يلي:

1 – على الصعيد الفردي: يبني نفسه وعقله وشخصيته، بناءً عقدياً وروحياً وثقافياً وعلمياً، ويحصنها في مواجهة كل التحديات والمغريات والشبهات، ويحاسبها باستمرار. وهذا الصعيد هو الميدان الأول للمثقـف الإسلامي، وهو منطلقه في الحركة والعمل.

2 – على الصعيد النظري: يقوم بدراسة الواقع العام بكل أبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، ويكتشف سلبياته وإيجابياته؛ ثم يعمل على تقوية الإيجابيات، وينتقد السلبيات ويصلحها، عبر الكتابة والخطابة والبحث العلمي والتخطط والبرمجة العلمية.

3 – على الصعيد العملي: ينزل الى الميدان ويختلط بالناس، ويتبني قضاياهم ذات الصلة بالدولة والنظام الاجتماعي الديني والعادات والتقاليد والجانب المعيشي والثقافي والتعليمي والصحي والخدمي، وممارسة عملية التوعية والتغيير والبناء، ممارسة ميدانية مباشرة.

هذه المجالات الثلاثة لا ينفصل أحدها عن الآخر، ولايخوض المثقف الإسلامي فيها بشكل فردي أو بمعزل عن المفكر والفقيه، بل هي مهام جماعية تكافلية تكاملية، تقوم بها جماعات المثقفين الإسلاميين، بمختلف عناوينهم التخصصية والحركية والدينية،    ويتكاملون فيها مع نظريات المفكرين الإسلاميين، ويسترشدون بفتاوى الفقهاء ومواقفهم. ولاشك أن تحويل هذه الرؤية الى منظومة عمل، بحاجة إلى وقفة بحثية وميدانية طويلة، لبلورة موقع المثقف الإسلامي وأدواره ومسؤولياته الدينية والمعرفية والسياسية والاجتماعية، وعلاقته المعرفية والشرعية بالمفكر والفقيه، وخاصة في المرحلة التي تشرّب فيها بعض المثقفين المقولات المنهجية المتغربة بشأن المثقف وموقعه وعلاقاته، والتي أفرزها واقع لا يمت إلى الإسلام بصلة.

وعي المثقف بالتراث

يواجَه المثقف الإسلامي باتهامين متناقضين في إطار إشكالية الوعي، فالخطاب العلماني يتهمه بأنه تراثي عقلاً وخطاباً وحركة، ورجعي ويعيش الماضي بكل تفاصيله، في حين تتهمه الحوزة العلمية بأنه عصري في أدوات تفكيره، وسطحي عقلاً وخطاباً وحركة، ويعيش قطيعة مع التراث الديني والعلم الديني.

ولكل من الاتجاهين (العلماني والديني) منطلقاته، فهما – وإن أخطآ في تشخيصهما – إلا أنهما لم ينطلقا من فراغ على العموم، ولعله يعود إلى طبيعة تعامل أكثر المثقفين الإسلاميين مع التراث والعلم الشرعي، وهو تعامل يشوبه الارتباك وعدم الوضوح في الرؤية، ويتميز ـــ غالباً ـــ بالعلاقة غير المتوازنة أو غير المنهجية، فتكون النتيجة؛ أما إسلامياً جامداً على التراث دون وعي حقيقي بالعصر، وإما إسلامياً عصرياً مصاباً بنوع من الانفلات الفكري والثقافي. وهذا اللون من اللاتوازن هو أحد أهم أسباب أزمة المثقف الإسلامي. في حين أن بعض المثقفين الإسلاميين الذين تعاملوا بعمق ومنهجية مع التراث والعلم الديني، استطاعوا أن يعيشوا توازناً رائعاً في أساليب تفكيرهم ورؤيتهم، وينتجوا خطاباً إسلامياً واعياً وأصيلاً.

إن المراد من التراث والعلم الديني هنا هو التراث الإسلامي والمعارف الشرعية تحديداً، أي العلوم والمعارف التراثية التي تدخل في فهم «النص المقدس»، وتبنى على أساسها المعتقدات والأحكام الشرعية، وهي العلوم التي أسسها المحدثون والفقهاء السلف، والتي تبلورت وأخذت شكلها الحالي عبر قرون طويلة من الدراسة والبحث والتصنيف، وخاصة علوم القرآن الكريم وعلوم الحديث الشريف. وعلى أساس هذه العلوم قام عِلمان كبيران هما علم الكلام (العقيدة) وعلم الفقه (الأحكام). وهذه العلوم هي التراث، وهي قوام الهوية الإسلامية في الماضي، وأساس هوية الحاضر، ومنطلق النهوض الإسلامي المستقبلي، وهي المساحة القابلة للتحوّل والتجديد والاجتهاد وإعادة القراءة. أما النص المقدس (القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة) فهو ليس تراثاً؛ بل الثابت والملزِم في الماضي والحاضر والمستقبل، والذي لا يخضع لظروف الزمان والمكان(21).

وقد تمظهر التعامل الانفعالي اللامتوازن لأغلب المثقفين الإسلاميين مع التراث الإسلامي والعلوم الشرعية، في فكرهم الحركي وفي خطابهم الذي يشكّل جزءاً أساسياً من الخطاب الإسلامي المعاصر، كما انعكس على الواقع الإسلامي المعاصر عموماً، وتسبب في انحراف بعض الإسلاميين فكراً أو سلوكاً، وبروز القلق العقيدي والفكري لدى آخرين، فيما تعرض الجزء المتبقي الى الإلغاء من قبل المؤسسة الدينية، برغم أن هذا الجزء يتمتع بالأصالة الفكرية والعلمية وبالتعامل المنهجي مع التراث، ودرس العلوم الشرعية وفق المعايير المتعارفة حوزوياً؛ إلا أن شبهة التعامل اللامتوازن للمثقف الإسلامي مع التراث طالت هذا الجزء أيضاً، بجريرة الفئات الأخرى من المثقفين الذين شطحوا فكرياً أو لم يتعاملوا منهجياً مع العلم الشرعي.

ولعل من أسباب عدم اهتمام المثقف الإسلامي بتراثه وبدراسة العلم الشرعي وبالتفقه، بل والقطيعة مع التراث أحياناً، يعود الى انفعال المثقف الإسلامي في مواجهة الخطاب العلماني، المحلي أو الغربي، الذي يتهم المثقف الإسلامي بــ (السلفية) و(الماضوية) و(الأصولية) و(اللاعقلانية) و(الجمود) و(التخلف)، ومقاطعة العصر وثقافاته وتحولاته، ورفض الواقع وحيثياته. هذه التهم التي ظلت تلاحق المثقف الإسلامي، تسببت في هزيمة داخلية ونفسية لدى بعضهم، مما تسبب في لهاثه بعضهم وراء تشرّب معاني مفهوم “المثقف” في علم الاجتماع أو وفق مايطرحه المفكرون الغربيون. فكانت النتيجة أن أصبحت المناهج والنظريات والأسماء الغربية، وآخر المصطلحات الوافدة، والمشكلات الثقافية الآنية، هي الشغل الشاغل لهذا البعض، بقصد أو بدونه، من أجل دفع شبهة عدم العصرنة وعدم التخلف.

وعلى الضفة الأخرى؛ يحاول بعض المثقـفين الإسلاميين (كتّاب أو صحفيين أو أكاديميين أو سياسيين) التأسيس لنظريات إسلامية في مجالات تخصصية، وتحديد موقف الشريعة، والإجابة على إشكاليات فكرية تخصصية. في الوقت الذي تستدعي هذه المحاولات فهماً عميقاً للتراث الإسلامي ودراسة منهجية للعلم الشرعي، يفتقر إليهما المثقف المسلم غالباً(22).

تفقّه المثقف

يعد اقتران البعد المعرفي في شخصية المثقف الإسلامي بالعلم الديني وبوعي التراث الإسلامي؛ ضرورة ملحة بكل المعايير. يقول رسول الله (ص): «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح»(23). كما يقول الإمام محمد الباقر(ع): «لا يُقبَل عملٌ إلاّ بمعرفة»(24). والمقصود هنا بالعلم والمعرفة المقترنين بالعمل والحركة والفعل؛ ليسا مطلق العلم والمعرفة، بل هما العلم الديني والمعرفة الدينية التراثية تحديداً، كما يشير إلى ذلك ما يروى عن الرسول(ص): «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل»(25). هذا المبدأ الشرعي الذي يعني وجوب اقتران حركة المثقف الإسلامي بالعلم الديني؛ له معايير مصداقية عديدة مستلّة من الواقع، وهي تمثّل ضرورات لا مناص منها أبداً، وأبرزها:

    1 – الاستقامة على الدين:

يقول الإمام علي(ع): «لا ترتابوا فتشكّوا، ولا تشكّوا فتكفروا.. وإن من الحق أن تفقّهوا»(26). فالارتياب هو مدخل الشك السلبي والانحراف والكفر، وبكلمة أخرى الابتعاد عن الحقيقة الدينية. في حين أن التفقُّه هو الموصل إلى هذه الحقيقة. ولعل التأمل في المصير المؤلم الذي انتهت إليه إحدى الجماعات الإيرانية المعروفة ببداياتها الإسلامية ومنطلقاتها النقية؛ يؤكد أهمية التفقه المنهجي للمثقف الإسلامي، وخاصة المثقف الحركي؛ إذ كان أبرز أسباب انحراف هذه الجماعة، ثم وصمها بالنفاق؛ ضعف الثقافة التراثية والعمق الإسلامي العلمي لمؤسسيها وقادتها وكوادرها، وخاصة أنهم كانوا من الشباب دون العشرين أو أكبر قليلاً، وليس بينهم فقيه او علماء دين، وقد قرأوا الإسلام قراءة سطحية، ولامسوا التراث الديني ملامسة هامشية، عبر بعض الخطابات والكتابات الثقافية والفكرية النقدية المعاصرة، ثم أسسوا ونظّروا لفكرهم وايديولوجيتهم في ضوئها. وكانت النتيجة أن هذه الجماعة تشظّت، فاقترب جزء منها من الماركسية، ووضع نفسه في أقصى يسار الإسلام، وانغمس جزء أخر في الفكر الليبرالي ووضع نفسه في أقصى يمين الإسلام، فيما تطرّف جزء ثالث في الانفتاح على العلمانية والإلحاد وأفكارهما وسلوكياتهما، وتطرف جزء رابع في الانغلاق على الواقع والعالم، وتحنّط في أطر الماضي أو بات صوفياً. وقد لفت نظري وأنا أقرأ مذكرات أحد الفقهاء القياديين، تقييمه لعناصر هذه الجماعة، حين كان يعيش معهم في زنزانة واحدة خلال حكم الشاه، وقد عرفهم عن قرب؛ فكان يمتدح فيهم الحماس والإخلاص والنقاء، وهم شباب في العشرين من عمرهم، أغلبهم جامعيون أو خريجو جامعات، ولكن هذا الفقيه يقول أنه كان يخشى كثيراً من ضعف ثقافتهم الدينية، وانفتاحهم على الثقافة العصرية، دون حصانة علمية وثقافية إسلامية أصيلة، فكانوا يجتهدون في أمور عقائدية وفقهية تخصصية، وينظّرون لقضايا فكرية أساسية، ويعطون لكل ذلك عناوين إسلامية، لكن اجتهاداتهم وتنظيراتهم تفتقر إلى أبسط المعايير العلمية الإسلامية والقواعد الشرعية، ومليئة بالاشكالات والانحرافات، بسبب عدم اطلاعهم المنهجي حتى على واحد من الكتب العلمية الإسلامية التراثية والتخصصية، وعدم وجود فقهاء وعلماء دين بينهم، وعدم رجوعهم في أفكارهم وحاجاتهم الفقهية والعقدية الى فقيه ومتخصص(27)، فكانت نهايتهم كما ورد عن رسول الله (ص): «من أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكَم من المتشابه فقد هلك وأهلك»(28). وهو ماحدث مع جماعات إسلامية أخرى، كان أفرادها أنقياء خلال التأسيس للجماعة، ثم انتهوا إلى إسلاميين ماركسيين، أو إسلاميين قوميين، أو إسلاميين ليبراليين، أو إسلاميين سلفيين.

2 – الانسجام مع الموقع والدور:

إن الموقع التغييري والتبليغي الذي يتبوأه المثقف الإسلامي في المجتمع، وخاصة المثقف الحركي، ودوره الطليعي في حركة الأمة؛ يحتمان عليه أن يكون بمستوى متطلباتهما العلمية والثقافية والاجتماعية؛ إذ لا يمكن للمثقف الإسلامي أن يمارس دوره التبليغي والدعوي والتغييري دون أن يكون قد أنهى بصورة منهجية مرحلة مقدمات العلوم الحوزوية حداً أدنى. فربما يطالع أحد المثقفين الإسلاميين تفسيراً ـــ مثلاً ـــ لآية قرآنية في كتاب ثقافي، فإن وجد هذا التفسير قريباً إلى ذهنه وقناعته ونفسه؛ فربما يؤسس عليه حقيقةً أو رأياً عقائدياً أو فكرياً معيناً، دون مراجعة للمصادر الأساسية في التفسير، ودون أن يكون على اطلاع بالعلوم القرآنية الأخرى وقواعدها وأصولها، وهكذا الأمر بالنسبة للحديث الشريف، ثم يعمم هذا الرأي على الآخرين عبر كتاباته أو خلال ممارسته دوره الدعوي أو الثقافي الاجتماعي.

    3 – مواجهة تحديات العصر:

يشهد الواقع الإسلامي تراكماً متزايداً باطراد للاشكاليات الفكرية والثقافية، والتي من شأنها مراكمة التحديات. وهو مايتطلب انتاج خطاب إسلامي أصيل ومعاصر في الوقت نفسه، يجيب على التساؤلات ويفكك الاشكاليات ويواجه التحديات، ويلبي الحاجات الفكرية والثقافية المستحدثة. وهذه المهمة الفكرية والثفافية لاتنحصر بالفقيه والمفكر الإسلامي؛ لكن الجزء الأكبر منها يقع على عاتق المثقف الإسلامي، الذي يدخل معركة الفكر والثقافة متسلحاً بالتراث والمعرفة الدينية المنهجية، وبخطاب العصر ولغته وثقافته ومتطلباته، فبدون الانطلاق من التراث الإسلامي، بعد استيعابه واستنطاقه؛ لا يمكن بناء الخطاب الإسلامي الأصيل والعصري، بناءً متكاملاً مشتملاً على نظريات معمقة في الفكر والحركة، ومعالجات لإشكاليات الفكر الآخر وشبهاته(29)، وفي مقدمتها الحداثة والتنمية المستدامة والمشروع الحضاري.

4 – مواجهة محاولات الإلغاء:

يرى بعض علماء الدين أن المثقف ممنوع عليه الخوض في الموضوعات الإسلامية التي فيها نوع من التخصص، بل وحتى الكتابة أو الحديث فيها(30). وينطلق هذا البعض من حكم مسبق على المثقف الإسلامي، يتلخّص في ضعف وعيه التراثي وعدم دراسته العلم الديني دراسة منهجية، وهذا الحكم قد لا يخلو من الموضوعية غالباً. من هنا؛ فإن القراءة الواعية المتأنية للتراث الإسلامي العلمي والفكري وامتلاك أدواته، عبر الدراسة المنهجية؛ ستمكن المثقف الإسلامي من تجاوز ذلك الحكم الجاهز، والانطلاق في آفاق المعرفة الإسلامية، دون أية عقبة موضوعية تلغي حركته وتصادر رأيه.

ولا تقتصر الضرورة على فهم الأفكار الإسلامية العامة أو الأحكام الشرعية التي يحتاجها المثقف الإسلامي في حياته، فهذا المقدار لا بد منه لكل مكلّف، بل إن الضرورة تكمن في تفقّه المثقف الإسلامي، إذ: «لا خير في دين لا تفقّه فيه»(31)كما يقول الإمام علي(ع)، أو كما يقول الإمام الصادق(ع): «ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام»(32). وهذا لا يعني دفع المثقف الإسلامي ـــ إلزاماً ـــ الى الانخراط في سلك الدراسات الشرعية الحوزوية وارتداء زيها، وصولاً الى بلوغ مستوى القابلية على الاستنباط والتخصص في العلوم الإسلامية، رغم أنه طموح مشروع وممكن، كما لا يعني أن يغرق المثقف الإسلامي في التراث بكل تفاصيله وشكلياته، وجامداً على نصوصه، بل الأصل هو دراسة مكوناته دراسة منهجية واعية، واستيعابها إلى مستوى الفهم الجيد، والقابلية على التحاور والاستنطاق، وتقرير الموقف العقائدي والفقهي من قضية معيّنة، فكرية أو سياسية أو سلوكية، تستدعي استيعاب الكثير من النصوص العلمية المثبتة في كتب علوم القرآن والحديث والكلام والرجال والفقه وأصول الفقه والمنطق واللغة العربية، إضافة إلى السيرة والتاريخ والفلسفة والأخلاق وغيرها. وهذا الاستيعاب ينتج عنه فهماً منهجياً لآلية الاستفادة من الآية القرآنية، ومعرفة المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، ومعرفة كيفية الاستشهاد بالحديث الشريف، والتفريق بين الحديث المسند والمتواتر والضعيف، ومستويات اعتماد خبر الواحد وغيرها، ومعرفة منهجية تطبيق القواعد الفقهية والأصولية، وخاصة في القضايا التي تشتمل على أبعاد فقهية وعقائدية تُبنى على القطع.

ويبقى أن هناك عقبة تواجه المثقف الإسلامي الذي لايجد الوقت أو الجغرافيا التي تمكنه من الالتحاق المباشر بالدراسات الشرعية الحوزوية، مما يشكل له صعوبة في فهم النصوص التراثية، بل وصعوبة فهم حتى النصوص الجديدة – أحياناً – والتي تُكتب خصيصاً لطلبة العلوم الدينية في الحوزات العلمية، وخاصة في علم الدراية وأصول الفقه والمنطق وأبواب الإلهيات في علم الكلام. وهنا يمكنه اللجوء الى الدراسة الالكترونية المباشرة في الحوزات الجامعية الحديثة، التي تقدم مناهج جديدة بلغة حديثة وبأساليب تتلاءم والمستوى العلمي العام، كمناهج كلية الفقه في النجف الأشرف، وخاصة ما كتبه الشيخ محمد رضا المظفر، ومناهج العلوم الشرعية في جامعة الأزهر، وكلية الأوزاعي في بيروت، وكتابات الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وما صدر عن كلية أصول الدين والمجمع العلمي للسيد مرتضى العسكري، وجامعة المصطفى في قم، والجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن، وخاصة ما كتبه الشيخ عبد الهادي الفضلي خصيصاً لها، والكتب التي صدرت في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بقلم الشيخ جعفر السبحاني(33).

التكامل بين الفقيه والمثقف

من خلال ماسبق؛ يتبيّن أن لكل من الفقيه والمفكر والمثقف، وظائف وأدوار متباعدة وتخصصية أحياناً، ومتقاربة ومتداخلة أخرى، لكنها تجتمع في مساحة اجتماعية دينية واحدة، وعنوانها الراهن الأساس؛ الاجتهاد والتجديد والإصلاح الديني، على صعيدي الفكر والممارسة، وصولاً الى الاستجابة الى متطلبات الواقع والمستقبل الإسلامي.

هذه الوظائف والأدوار ومساحات الحركة، تحددها التعريفات والمفاهيم الإسلامية التأصيلية لكل من الفقيه والمفكر والمثقف، أي التي تفرزها الشريعة الإسلامية، وبالصورة التي تجعلها متكاملة ومتعاضدة، وربما متداخلة أحياناً. فمثلاً؛ الدور التخصصي المناط بالمفكر ليس نفسه المناط بالفقيه؛ إذ أن مهمة المفكّر تتلخص في التنظير وصياغة نظريات إسلامية تأسيسية في مختلف مجالات حركة المجتمع، وخاصة في مجال المعرفة والفكر الإنساني، كالسياسة والاجتماع والقانون الاقتصاد، فضلاً عن مجال أسلمة المعارف والعلوم الإنسانية الأخرى. في حين أن الفقيه يحدِّد الموقف الشرعي من سلامة هذه النظريات، من منطلق المعرفة الكافية بموضوعاتها، ويكشف عن رأي الشريعة من تكاليف الفرد والمجتمع، كما أنه يقوم بدور عملي يتمثل في قيادة المجتمع دينياً. أما المثقف، فهو يتبنى موقفي الفقيه والمفكر، ويدرسهما ويشرحهما ويفتش عن تطبيقاتهما ويحوّلهما إلى واقع عملي. وهذا ما يفرض وعياً خاصاً في الاتجاه والمستوى لدى كل من الفقيه والمفكر والمثقف؛ إذ إن انسجام حالة الوعي مع الدور المطلوب، هو الذي يحقق الأهداف والغايات، كما أسلفنا.

ويستأثر الفقيه والمفكر والمثقف بالمواقع الفكرية والثقافية الأساسية في حركة الواقع الاجتماعي الإسلامي، فضلاً عن المواقع الأخرى التي يختص بها بعضهم. وإذا وضعنا هذا الاستئثار إلى جانب التمايز في الأدوار والمواقع، فسنعي أن الهدف المتوخى تحقيقه من وراء حركة الفقيه والمفكر والمثقف، لا يمكن نيله بمعزل عن تعاضد تلك الأدوار والمواقع، إلى حد التكامل، وإلا ستتعمق إشكالية الوعي في الواقع الإسلامي، وتتسع الفجوة بين اتجاهاته. ومن الطبيعي أن لهذا التكامل مقدمات أساسية، تبدأ بإذعان الفقيه والمفكر والمثقف بضرورة التكامل، وتنتهي بتبادل الفهم والمعرفة. فالمثقف – مثلاً – يكمل دور الفقيه في التعرف على الموضوعات وتفصيلاتها، والفقيه يكمل دور المثقف بإعطائه الحكم الذي يحدد موقفه الشرعي من هذه الموضوعات.

وتضع عملية التكامل حلاً شاملاً لإشكالية وعي الفقيه بالعصر ووعي المثقف بالتراث. ولايلغي هذا التكامل ضرورة وعي الفقيه بالعصر ووعي المثقف بالتراث من جهة، كما أن تحقق هذا الوعي لا يلغي ضرورة استمرار حالة التكامل من جهة أخرى. فالجهتان تؤكدان أن التخصص وطبيعة الاهتمامات التي يفرضها التخصص، يجعلان كلاً من الفقيه والمفكر والمثقف غير قادر بمفرده على الغوص في مشكلات الإنسان المعاصر على اختلاف موضوعاتها وتشعباتها، ولا سيما مشكلته الاجتماعية، وما ترتب عليها من موضوعات جديدة، ثم وضع مقاربات وإجابات فقهية وفكرية متكاملة لها. كما أن مهام كبرى، كبناء الخطاب الإسلامي المعاصر بناءً رصيناً متكاملاً، ينطلق من قواعد الشريعة ومقاصدها، ويعيد تأصيل الواقع وحاجاته، ويواجه الغزو الفكري والثقافي والطائفي الذي يستهدف عقيدة الفرد والمجتمع وسلوكهما وتقاليدهما، كما يستهدف التعليم والفن والإعلام. وبذلك؛ نعي أن التكامل تفرضه النظرية، ويفرضه الواقع بمختلف حاجاته وتحدياته.

وهنا تبرز التساؤالات: ما هو شكل وطبيعة الإطار الواقعي الذي يجمع الفقيه والمفكر والمثقف في داخله؟ ويمكن من خلاله تجاوز العقبات النفسية والتخصصية والمنهجية؟ وتحقيق هدف التكامل في التخصص واتجاهات الوعي؟ وما هي أدوار كل منهم ومساحات الإشتراك والافتراق التخصصي والعملي بينهم؟

ويمكن طرح ثلاثة حلول نظرية وعملية للإجابة على هذه التساؤلات:

  • اجتماع الفقيه والمفكر والمثقف في شخص واحد، أي يكون الرهان على الفقيه المفكر المثقف، ويستدل بعضهم في هذا المجال بنماذج معاصرة، كالسيد هبة الدين الشهرستاني والسيد محمد باقر الصدر والشيخ مرتضى المطهري والسيد محمد البهشتي والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ محمد مفتح والسيد موسى الصدر. وهو حل سهل نظرياً؛ لكن غير واقعي ويصعب تحققه؛ بالنظر لتشعب التخصصات والأدوار.
  • أن يكون لكل من الفقيه والمفكر والمثقف ثقافة بالتخصص الآخر، أي أن يخوض المثقف في معارف التراث والعلوم الدينية بشكل منهجي، وأن يتوصل المفكر الى أدوات الاستنباط والاجتهاد، وأن يعي الفقيه قضايا العصر ومتطلباته وعياً حقيقياً ميدانياً. هذا الحل يقترب من الواقع، ورغم أن صعوبات تكتنفه، إلّا أنه يمثل نصف الحل.
  • إيجاد أطار واقعي للتكامل، من خلال اجتماع الفقيه والمفكر والمثقف في إطار واحد يحمل عنواناً محدداً، ويستبطن مشروعاً وبرنامجاً وهيكلاً للعمل، ومحكوماً بأجواء الحوار العلمي الحر والرصين، ويحدد لكل منهم حقوقه وواجباته ومجالات حركته، بالصورة التي تكفل إنجاح المشروع.

ولاشك أن الإطار الواقعي التكاملي الجامع، كفيل بحفظ حدود التخصصات والمواقع، وعدم إلغاء أحد، وعدم سلب المبادرة من أحد، ولا اختزال أحدٍ في بعد واحد. فتكون العلاقة بين الفقيه والمفكر والمثقف علاقة مسؤولية تكافلية وتشاور عميق، وليست مجرد علاقة وظيفية، فالمثقف المتخصص في حقل علمي معين، هو مستشار للمفكر والفقيه، اللذين يستعينان به في مجالات الفكر المعاصر وعلم الكلام الجديد والفكر المقارن. وحيال تطورات العصر والموضوعات الجديدة يأتي دور المفكر للتأسيس للنظريات اللازمة. فإن كان المفكر هو الفقيه نفسه، فإنه سيكون قد حدد الموقف الشرعي لتلك النظرية، وإن لم يكن فقهياً، لزم الاستعانة بالفقيه لتحديد هذا الموقف، بمقدار معرفة الفقيه بموضوع النظرية؛ إذ يتطلب ذلك من المفكر والمثقف وضع الفقيه – دائما – في صورة كل «الحوادث الواقعة»(34) و«الموضوعات الجديدة». وربما تتعلق هذه الموضوعات بعلوم مختلفة، كالاجتماع والسياسة والاقتصاد والطب والكيمياء والفلك، فإن كان الموضوع طبيّاً، كان الطبيب هو مستشار الفقيه، وإن كان اجتماعياً، فعالم الاجتماع هو المستشار، وإن كان سياسياً، فالسياسي هو المستشار، وإن كان حكومياً، فرجل الدولة هو المستشار، وإن كان قانونياً، كان رجل القانون هو المستشار.

ويكرس هذا الإطار مفهوم كون المعرفة هي سبيل الوصول إلى الحقيقة بوسائل حرة واعية، وكونها مصدر إدراك الحقيقة، وعدم إخضاعها لضغوط المصالح المهنية والفئوية والشخصية، وتجييرها من أجل إلغاء الآخر. كما يمنع أيضاً كثيراً من الحالات السلبية، كالاسترسال في افتراض الموضوعات الجديدة، وطرحها تبعاً لتطورات العصر، على اعتبار أنها «مسائل مستحدثة»، حتى الوصول إلى موضوعات خيالية لا يقبلها العقل ولا العلوم التجريبية. وبذلك يكون هناك إفراط في معالجة الموضوعات الجديدة الحقيقية من جانب، وتفريط في افتراض موضوعات جديدة بعيدة عن الواقع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح، ص 496.

(2) انظر: محمد أركون، أزمة المثقف (محاضرة مترجمة)، مجلة المستقبل العربي، العدد 194، 4/1995م ص 16.

(3)

(4)

(5) أنظر: علي المؤمن، “النظام الاجتماعي الديني الشيعي”.

(6) “الفقه الجواهري” نسبة الى معايير الاجتهاد المستوحاة من كتاب جواهر الكلام لصاحبه المرجع الديني الشيخ محمد حسن النجفي

(7) الشيخ محمد إبراهيم الجناتي، دور الزمان والمكان في الاجتهاد، ق 2، مجلة التوحيد، العدد 73، تشرين الثاني 1994، ص 13.

(8) الشيخ محمد إبراهيم الجناتي، دور الزمان والمكان في الاجتهاد، مجلة التوحيد، العدد 73، ص 34 (مصدر سابق). وانظر: للشيخ الجناتي أيضاً، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية وعصر الاستخدام الشامل، مجلة التوحيد، العدد 76، حزيران 1995م.

(9) أوضح الإمام الخميني الموقف الشرعي من هذه الموضوعات في العديد من مؤلفاته وخطبه ورسائله، كما في كتاب «الحكومة الإسلامية» موضوع الأحكام المالية، ص 29 ـ31، وكتاب «البيع» موضوع الخمس، ج2. وأشار إليها الشهيد الصدر في مؤلفاته، ولا سيما «اقتصادنا» و«الإسلام يقود الحياة» في البحثين الثاني والثالث حول اقتصاد المجتمع الإسلامي. وبحث هذا الموضوع بكثير من التفصيل الشيخ المنتظري في موسوعته الفقهية «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية».

انظر في هذا المجال أيضاً: دراسة للشيخ محمد علي التسخيري تحت عنوان «الولاية على الحقوق الشرعية»، مجلة التوحيد، العدد 63، كانون الثاني – شباط 1993، ص 87 – 96.

(10) انظر: السيد محمد حسين فضل الله، الفقيه والمثقف، مجلة المنطلق، العدد 99، 98 – 1413 هـ، ص 10 – 11.

(11) من رسالة الإمام الخميني إلى علماء الإسلام والحوزات العلمية، في 22/2/1989م.

(12) من محاضرة الإمام الخامنئي حول اصلاح الحوزة العلمية، في 15 شعبان 1411هـ.

(13) المصدر السابق.

(14) من رسالة الإمام الخميني إلى علماء الإسلام، 22/2/1989.

(15) الشيخ محمد إبراهيم الجناتي الزمان والمكان في الاجتهاد، ق1، مجلة التوحيد، العدد 72، آب 1994، ص 51.

(16) يبحث علماء أصول الفقه هذا الموضوع في إطار قاعدة القيود، انظر: الشهيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، ج 3 ص 244 – 250.

(11) انظر: الفصل الأول من الكتاب (التجديد في الفكر الإسلامي).

(17) الشيخ محمد إبراهيم الجناتي، دور الزمان والمكان في الاجتهاد، ق 2، مجلة التوحيد، العدد 73، تشرين الثاني 1994، ص 16 – 21.

(18) انظر: الفصل الأول من الكتاب “التجديد في الفكر الإسلامي”.

(19) الشيخ محمد إبراهيم الجناتي، دور الزمان والمكان في الاجتهاد، ق 2، مجلة التوحيد، العدد 73، تشرين الثاني 1994، ص 16 – 21.

(20) للمزيد انظر: مجلة المنطلق، العدد الخاص بمحور الثقافة والمثقف/ 8 – 9 – 1413هـ.

(21) انظر: الفصل الأول من الكتاب “التجديد في الفكر الإسلامي”.

(22) انظر: عبد الجبار الرفاعي، الإسلاميون والثقافة التراثية، مجلة التوحيد، العدد 64، آذار – نيسان 1993، ص 124.

(23) رواه الإمام الصادق عن آبائه(ع) عن رسول الله(ص). ابن شعبة الحارني، تحف العقول عن آل الرسول، ص 39.

(24) تحف العقول، ص 215.

(25) رواه الإمام الكاظم عن آبائه(ع) عن رسول الله(ص)، الآمدي، غرر الحكم، ص 28.

(26)….

(27) من مذكرات الشيخ الهاشمي الرفسنجاني حول إحدى فترات الاعتقال في سجون الشاه السابق، وكان معه في السجن قادة منظمة مجاهدي خلق وكوادرها، وهم الذين يعنيهم في كلامه، انظر كتاب «بعثت انقلاب».

(28) أصول الكافي، ج 1 ص 43.

(29) انظر: الرفاعي، عبد الجبار، الإسلاميون والثقافة التراثية، مجلة التوحيد العدد 64، ص 23 – 124 (مصدر سابق).

(30) انظر: خالد توفيق، المعرفة بالتراث، مجلة التوحيد، العدد 67، أيلول – تشرين الأول 1993، ص 155.

(31) العلامة المجلسي، البحار، ج 70 ص 307.

(32) المصدر السابق، ج 1 ص 214.

(33) المناهج التي وضعها الدكتور عبد الهادي الفضلي لجامعة العلوم الإسلامية بلندن، في علوم المنطق والرجال والحديث وتاريخ التشريع الإسلامي وأصول البحث والكلام وغيرها، والمناهج التي وضعها الشيخ جعفر السبحاني للتدريس في الحوزة العلمية بقم، في مختلف العلوم الإسلامية، لعلها من أفضل ما صدر خلال الأعوام الأخيرة (1991 – 1998) في هذا المجال، على مستوى المنهج والأسلوب واللغة العلمية الحديثة، السهلة الممتنعة، بالصورة التي تتيح لكل مثقـف إسلامي أن يطالعها ويدرسها، وينتفع بها، دون الحاجة إلى التفرغ للدراسة في المعاهد الدينية على يد أساتذة متخصصين.

(34) أي ما يستجد من أحداث وموضوعات في مختلف مجالات الحياة، والعبارة مستلّة من حديث الإمام المهدي(ع): «وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» أي أن الفقهاء يجب أن تكون لهم معرفة بكل هذه الحوادث والموضوعات وتفصيلاتها ليكشفوا عن موقف الشريعة حيالها.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment