الثيوقراطية والنظام السياسي الإسلامي التعارض واللقاء

Last Updated: 2024/05/30By

الثيوقراطية والنظام السياسي الإسلامي: التعارض واللقاء

د. علي المؤمن

 

مفهوم الثيوقراطية

يتجاوز مفهوم الثيوقراطية ما عرف بـ«الحكم المدني»، ليتسع لكل نظام حكم، يستند إلى قاعدة الحق الإلهي. فهي نظرية في السلطة، أساسها إرجاع الحق في ممارسة السلطة، أياً كانت أشكالها ومضامينها، إلى كونه حقاً إلهياً، مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالإرادة الإلهية. وقد سيطرت هذه النظرية على أوروبا في عصورها الوسطى، وأعطت الكنيسة الدعم الشرعي لأشكال الحكم المرتبطة بها، بناءً على تأييد زعماء المسيحية الأوائل كالقديس بولس (67 م) والقديس بطرس (67 م) وفلاسفتها، وبلورت «فكرة الخضوع والاستسلام (للسلاطين النابغين) الذين فرضتهم الإرادة الإلهية على الناس»(1). ومن هنا كان الحكم الثيوقراطي حكماً مطلقاً لا يحده حد.

وتدور الفكرة المحورية للثيوقراطية حول موضع السيادة ومصدرها، فتضع للسيادة مصدراً واحداً فقط هو الله تعالى، ولكنها تقدّم فهماً خاصاً لهذا المصدر وطبيعة تفويضه السيادة للملك أو الحاكم، تكون نتائجه التباين النظري والعملي مع حقائق الدين وروحه، من خلال منح الحاكم نفسه سلطات مطلقة في التنظير والتشريع والتنفيذ والقضاء، دون أي حدود أو ضوابط قانونية، ودون الحاجة للرجوع إلى شريعة الله، الذي يزعم الحاكم الانتساب إليه. وتجمع هذه النظرية في إطارها ثلاث نظريات أو ثلاثة نظم فرعية:

1 – الطبيعة الإلهية للحكام:

وهي أولى النظريات الثيوقراطية، وسبقت ظهور المسيحية، إذ تعود إلى الحضارات والمدنيات القديمة، في اليونان وروما وإيران ومصر والصين واليابان. وتتلخص النظرية في تقديس الحاكم (امبراطوراً كان أو ملكاً أو أميراً) باعتباره الإله نفسه أو مظهر الإله أو ابن الإله أو ربيب الإله وأنه صاحب سيادة وسلطة مطلقتين. وتفرض هذه النظرية على الرعايا طاعة عمياء للحاكم وخضوعاً كاملاً له، عن رضا وقبول، باعتبار أن ذلك تعبير عن تقديس الرعايا للحاكم – الإله أو الذي يجسد الإله(2). وقد ظلت هذه النظرية حاكمة في اليابان حتى عام 1947م.

2 – الحق الإلهي المباشر:

وظهرت هذه النظرية في أوروبا بعد انتشار المسيحية، وأصبح الحاكم – وفقاً لهذه النظرية – بلا طبيعة إلهية؛ بل إنه إنسان اختاره الله واصطفاه، ومنحه السيادة والسلطة المطلقة على البشر، على اعتبار أن الإرادة الإلهية هي مصدر كل سلطة على الأرض. وبذلك فالحاكم هو صاحب سلطة مطلقة، لأنه يحكم بتفويض إلهي وبمقتضى الحق الإلهي، ويستمد سلطته من الله مباشرة، وقد اعتنقت الكنيسة هذه النظرية، ومن خلالها استطاعت بسط نفوذها وسلطتها على أوروبا، وإن كان الإمبراطور أو الملك أو الأمير هو الحاكم المدني وقد بدأ ذلك في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين في أواسط القرن الثالث الميلادي.

نشأت هذه النظرية على تعاليم القديس بولس الذي جعل الإيمان أو الاعتقاد شأناً فردياً روحياً خاصاً والحكم والتشريع شأناً وضعياً أرضياً، فأصبحت العقيدة الدينية هي مجرد علاقة روحية خاصة بين الإنسان وربه، وأصبح الحكم والتشريع من اختصاص الملك فقط(3)، ولا شيء يربط بين الدين أو العقيدة الدينية وبين الحكم والتشريع، فالدين من الله وللَّه والحكم من الله وللملك. وجاء جملة من الفلاسفة المسيحيين، مثل القديس تورتوليانوس (ت 222 م) والقديس سانت اوغستين (ت 430 م)، لينظرا لهذه المفاهيم، وفقاً لمعادلة ثيوقراطية، تحولت إلى قانون، مازال سائداً حتى الآن: «ما للَّه للَّه وما لقيصر لقيصر»، ولا علاقة بين الاثنين، سوى أن القيصر ينسب حكمه للَّه، ليسوّغ ممارساته وتشريعاته، باعتبارها تمثل إرادة الله.

وبهذا الشأن يقول القديس «بوسيه» (1627 – 1704) المعاصر لملك فرنسا لويس الرابع عشر (1638 – 1715): «إن الله هو الذي يعيّن الملك ويضعه على العرش»(4)، أو كما قال بعض ملوك أوروبا: «إننا لم نتلق التاج إلا من الله، ولنا وحدنا سلطة القوانين ولا نخضع في عملنا لأحد»(5). ويترتب على ذلك خضوع الرعايا خضوعاً مطلقاً للحاكم؛ لأن معصية الحاكم معصية للَّه، فضلاً عن انتفاء المسؤولية عن أي تصرف يصدر عن الحاكم، فهو مسؤول أمام الله فقط وازدهرت هذه النظرية في أوروبا خلال عصورها المظلمة(6).

3 – الحق الإلهي غير المباشر:

ظهرت هذه النظرية في أوروبا في أعقاب بدء الصراع على السلطة والنفوذ بين الكنيسة والملوك خلال القرن الثالث عشر الميلادي، الأمر الذي دفع بعض المفكرين السياسيين، ومن أبرزهم الفيلسوف الإيطالي «توما الأكويني» (1222 – 1274)، إلى القول بأن الله تعالى يختار الحاكم بواسطة الشعب، أي إن الإرادة الإلهية تتدخل لتختار الإمبراطور أو الملك، ولكن ليس بشكل مباشر؛ بل من خلال اختيار الشعب له بتوجيه إلهي. وهذه النظرية تتمسك بالفكرة العامة للثيوقراطية، ولكنها تحاول أن تضفي على نفسها مسوحاً ديمقراطية، دون أن تنسب نفسها إلى الديمقراطية أو أي مذهب سياسي أرضي آخر. وتكاد تفصل هذه النظرية – على خلاف النظريتين السابقتين – بين السلطة والحاكم، فالسلطة في ذاتها من عند الله، ولكن الله يوجه الناس لاختيار الحاكم الذي يمارس هذه السلطة(7).

والنتيجة التي تترتب على هذه النظريات تتلخص في أن الحاكم الثيوقراطي هو حاكم مطلق، ولا فصل بين شخصيتيه الحقيقية والحقوقية، وأنه فوق الشريعة والقانون، وأنه غير مسؤول أمام أي سلطة أو شعب، ولا تسمح له طبيعة سلطته ومصدرها بقبول النقد أو النصح، لأنه ذو طبيعة إلهية أو مفوض من قبل الله تفويضاً مباشراً أو غير مباشر.

محاور تعارض الثيوقراطية مع النظام الإسلامي

قد يكون من الصعب تحديد محاور التعارض واللقاء بين الثيوقراطية والنظام الإسلامي على نحو الدقة، بسبب عدم الوضوح في الأسس النظرية والقواعد الفكرية للنظام الثيوقراطي؛ لأنه لا يستند أساساً إلى نظرية؛ بل هو حكم مطلق، يحكم فيه الملك أو البابا دون الاستناد إلى شريعة أو قانون أو ركائز فكرية ونظرية واضحة. فضلاً عن أن هذا النظام ليس نظاماً دينياً؛ بل هو نظام أرضي وضعي، ينسب نفسه إلى الله وإرادته؛ بهدف تسويغ ما كان يقوم به الملوك والأباطرة الأوروبيون في عصور أوروبا المظلمة من ممارسات، لا تمت بأي صلة للدين. والحقيقة أن الأنظمة الثيوقراطية التي حكمت أوروبا في هذه المرحلة تمثل نتاجاً للعقلية الأوروبية المنتمية إلى المسيحية، في إطار تحالف المصالح والمصير بين السلطة الأرضية المطلقة المتمثلة بالملك أو الإمبراطور، وبين السلطة الدينية المطلقة المتمثلة بالكنيسة ورجال الدين، وهدفه تقاسم مساحات السلطة والقدرة والنفوذ، وبسط الحكم المطلق للملك، وتسويغ سيطرته على أراض وثروات جديدة وإضافة رعايا جدد له؛ لأنه بات يستند إلى تشريع ديني وكذلك بسط الحكم الديني المطلق للكنيسة، ونشر تعاليمها في بقاع جديدة وإضافة أتباع جدد لها؛ لأنها باتت تستند إلى قوة الدولة القاهرة. وخلال ذلك كانت الأنظمة الثيوقراطية تعبث بشريعة الله، لتجد لها منفذاً إلى السماء، تستر به مبادئها وممارساتها.

إن كل القواعد السالفة لم يعرفها النظام الإسلامي المستند إلى نظرية فقهية؛ لأنه بطبيعته حكم ديني يهدف إلى تطبيق الشريعة الدينية (الإلهية)، وليس تسويغ وضع سياسي معين أو ممارسة سلطوية. ولكن قد يكون هناك تطابق – إلى حد ما – بين الأنظمة الثيوقراطية (الأوروبية) والأنظمة السلطانية المسلمة، ابتداءً بالأنظمة الأموية والعباسية وانتهاءً بالصفوية والعثمانية، وهو ما لا يدخل في إطار بحثنا؛ لأن ما يعني البحث هو النظام السياسي الإسلامي الحديث المتمثل بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو نظام ديني يختلف في أسسه العقائدية وقواعده الفقهية وغاياته وأهدافه وهيكله الإداري عن الأنظمة الثيوقراطية. ونحاول هنا تلخيص نقاط الاختلاف والتعارض بين النظامين في المحاور التالية:

1 – الأسس النظرية:

تقف موضوعات التصور الكوني والغايات والأهداف والحاكمية والسيادة في مقدمة الموضوعات النظرية التي تفصل بين الثيوقراطية والنظام الإسلامي. فلقد ذُكر آنفاً أن النظام الثيوقراطي هو نظام وضعي وليس نظاماً دينياً، ويهدف إلى تحقيق غايات سلطوية أرضية، على العكس من النظام الإسلامي. فضلاً عن أن الثيوقراطية لا تستند إلى نظام سياسي مسيحي، على اعتبار أن المسيحية التي صاغها فكر رجال الدين المسيحي تفتقد التشريع أو الأحكام والتعاليم التي تؤهلها لصياغة نظام سياسي، فالمسيحية – كما يقول الإمام الخميني – «ليس فيها شيء سوى بضع نصائح أخلاقية، وهي تخلو من الأمور التي تختص بتدبير النظام والسياسة الحديثة والمدنية وقضايا البلاد وإدارتها، فلا يظنن أحد أن الإسلام يفتقد هو الآخر البرامج الخاصة بهذه الأمور(8). وهذه هي المسيحية بصورتها الأخرى التي رسمها رجال الدين، ابتداءً من القديس بولس، حين جعلوها مقتصرة على الجانب العبادي والإيمان الفردي فقط(9). ومن هنا كان موضوع انتساب الحاكم الثيوقراطي إلى الإرادة الإلهية لا يعدو كونه حاجة زمنية، وهي نظرية لا أصل لها في الديانة المسيحية. وعلى مستوى الممارسات اليومية التي تعد إفرازاً للأسس النظرية الثيوقراطية، فإن ما ارتكبته الأنظمة الثيوقراطية من ممارسات تمس حرية الناس وإرادتهم وأموالهم وكرامتهم وأعراضهم، هي بعيدة كل البعد عن تعاليم السيد المسيح(ع).

وأخذت هذه الأمور منحى آخر بعد دخول أوروبا ما عرف بعصر النهضة، إذ لم يكتف رجال الدين والمفكرون السياسيون بعلمنة الدولة وأجهزتها؛ بل عمدوا إلى علمنة الدين وسلب قدسيته، وأنزلوه من السماء إلى الأرض، بعد أن فصّلوه بالكامل على مقاس تاريخهم وجغرافيتهم وبيئتهم الاجتماعية ونظمها السياسية والاقتصادية الجديدة.

ويعد موضوع السيادة والحاكمية الأساس الذي تقف عليه الثيوقراطية باعتبارها تستمد سيادتها وحاكميتها من السيادة الإلهية. وهنا تبرز شبهة اللقاء بين الثيوقراطية والنظام السياسي الإسلامي، على اعتبار أن السيادة والحاكمية في الكون – من المنظور الإسلامي – هي للَّه تعالى، لا شريك معه فيها، وكل حاكم على الأرض يجب أن يستمد سيادته أو شرعية حاكميته من الحاكمية الإلهية المطلقة. ولكن سنقف على حقيقة التعارض في المنظورين من خلال عرض المنظور الإسلامي على كل نظرية من النظريات الثيوقراطية. فالنظرية الأولى التي تقول: إن للحكام طبيعة إلهية، مرفوضة إسلامياً بالكامل؛ لأن الإسلام جاء لنشر التوحيد الخالص والقضاء على الشرك وعبودية غير الله تعالى. أما النظرية الثانية التي تقول بالحق الإلهي المباشر، فإن إعطاءها الحق للحاكم باعتلاء العرش باعتبار أن الله هو الذي نصّبه مباشرة، يتعارض وقاعدة تنصيب رئيس النظام الإسلامي بالشريعة والقانون. وهو الأمر نفسه بالنسبة إلى نظرية الحق الإلهي غير المباشر التي تقول بأن تنصيب الحاكم يمثل إرادة الله، ولو تمثيلاً غير مباشر، فإنها وإن كانت تلتقي في النتائج مع طبيعة السيادة في النظام الإسلامي الحديث، على اعتبار أن المصدر النهائي لشرعية الحاكم الإسلامي هو حاكمية الله تعالى، فإن نقاط التعارض بينهما تتمثل بما يلي:

1 – إن الحكم في النظام الإسلامي ليس ملكياً ووراثياً، وفي الأنظمة الثيوقراطية ملكي وراثي. أي إن الحاكم (الفقيه) في النظام الإسلامي هو إمام وقائد ورئيس، ومنصبه ديني وزمني، بينما الحاكم الثيوقراطي هو إمبراطور أو ملك.

2 – الحاكم (الفقيه) في النظام الإسلامي (وفقاً لمدرسة أهل البيت(ع)) يستمد شرعيته من كونه نائباً للإمام المعصوم وخليفة لرسول الله(ص) – أولاً – وممثلاً للشريعة الإسلامية – ثانياً – ومن قبول الأمة له رئيساً عليها – ثالثاً، أي إن اكتساب الشرعية متسلسل موضوعياً، ويمثل امتدادات أفقية وعمودية مترابطة، تدعمها النصوص والأحكام الشرعية. أما الحاكم الثيوقراطي فهو ينتسب إلى الله مباشرة، دون الاستناد إلى أي حقائق شرعية وقانونية، ودون وجود لأي قنوات أو امتدادات – مقبولة دينياً – تمنحه شرعية الانتساب إلى الله.

3 – هناك شروط يجب أن تتوافر في الحاكم الإسلامي، أهمها: العلم بالشريعة، العدالة والكفاءة، أي إنه يجب أن يكون عالماً، عادلاً، مدبراً. وإذا سقط عنده أي شرط من هذه الشروط فإنه سيسقط ويعزل. في حين أن شروط الحاكم الثيوقراطي هي انتسابه إلى العرش بالوراثة.

4 – الحاكم في النظام الإسلامي ليس ذاتاً مقدسة، ولا يمارس حكماً مطلقاً استبدادياً، وهو ليس فوق الشريعة والقانون؛ بل يسري عليه القانون كأي فرد من أفراد المجتمع الإسلامي، كما أنه يخضع لرقابة الأمة وممثليها، ويخضع لأحكام الشريعة والقانون، بما في ذلك أحكام الشورى، وبإمكان ممثلي الأمة (الخبراء) عزله إذا مارس عملاً يخالف العلم والعدالة والتدبير، وبالتالي فإنه يحكم بالشريعة والقانون. بينما الحاكم الثيوقراطي يمارس حكماً مطلقاً استبدادياً ولا يخضع لأي قانون أو شريعة أو رقابة، ولا يمكن عزله بأي شكل من الأشكال، وهو يحكم بأمره فقط.

5 – إن السيادة في النظام الإسلامي هي للشريعة الإسلامية، وإن سيادة الحاكم هي سيادة مكتسبة من الشريعة. أما الحاكم في النظام الثيوقراطي فهو السيد المطلق.

2 – آليات ممارسة السلطة:

إن آليات ممارسة السلطة في الأنظمة الثيوقراطية، بما في ذلك أجهزة الدولة، تتلخص في شخص الحاكم فقط، باعتباره صاحب السلطة المطلق والحاكم بأمره، فلا وجود لسلطات متعددة وأجهزة تخطيط وتشريع وتنفيذ وقضاء ورقابة، ولا أي نوع من الشورى، ولا دستور وقوانين أو مؤسسات دستورية، أو حريات عامة وسياسية، أو رأي آخر، إذ إن الحاكم الثيوقراطي يجمع كل السلطات بيده، ويصرّف الأمور وفقاً لرغباته وأهوائه وإرادته، لا يحده قانون ولا يراقبه أحد ولا تردعه شريعة. في حين أن النظام السياسي الإسلامي الحديث يتمتع بكل مواصفات النظام الديني الحديث، الذي يعتمد ركائز عقائدية وفقهية، تمثل ثوابته وأسسه، وقد استمد منها آليات حديثة ومتطورة في التطبيق وفي ممارسة السلطة، تتمثل بوجود ثلاث سلطات منفصل بعضها عن بعض، هي سلطات التشريع (البرلمان – مجلس الشورى) والتنفيذ (رئاسة الجمهورية والوزارة) والقضاء، وتشرف عليها السلطة العليا، وهي سلطة الفقيه التي تمثل الولاية على الحكم، بمعنى رئاسة الحكم والإشراف عليه ومراقبته وبمعنى إمامة الأمة أيضاً. وإلى جانب هذه السلطات الأربع هناك أجهزة أو سلطات فرعية، تمثل رقابة الشريعة والقانون على الحكم (مجلس صيانة الدستور)، ورقابة الأمة على الحاكم (مجلس خبراء القيادة)، والشورى للحاكم في رسم السياسات العامة للدولة (مجمع تشخيص مصلحة النظام).

والحقيقة أن مبدأ ولاية الفقيه ودستور الجمهورية الإسلامية، يؤكدان أن السلطة في النظام السياسي الإسلامي الحديث (في عصر الغيبة) هي سلطة بشرية تستند إلى أحكام دينية، وسلطة نسبية تستمد شرعيتها من الحاكمية المطلقة، وهي سلطة مقيدة بقوانين الشريعة، وهي غير مقدسة في ممارساتها إلا في حدود التزامها بالشريعة الإسلامية، وهذا الالتزام الذي توجهه الفقاهة والعدالة، هو مصدر إلزام الأمة بأوامر الحاكم (الفقيه) ونواهيه، وهذا المصدر هو الجانب المقدس في شخصية الحاكم؛ لأنه ليس معصوماً أساساً، ولذلك اشترط الفقه الإسلامي ودستور الجمهورية الإسلامية الفقاهة والعدالة والكفاءة في الحاكم، وقررا عزله إذا فقد أحد هذه الشروط. وشخص بهذه المواصفات، أعطته الشريعة حق مراقبة المسؤولين والإشراف على حسن أدائهم ومنعهم من ممارسة أي سلوك استبدادي أو أي تصرف من شأنه حرف مسار النظام عن الشريعة والدستور والقوانين؛ الأمر الذي يشكل آلية شرعية وقانونية تعمل للحيلولة دون استبداد أو انحراف أي سلطة من السلطات أو مسؤول من المسؤولين، وبالتالي المحافظة على استقامة حركة النظام. وهذا الإشراف وتلك الرقابة لا يعطيان «الولي الفقيه» الحق في ممارسة الحكم المطلق؛ بل هما ضمانة لعدم ممارسة الحكم المطلق، فضلاً عن وجود الكوابح الشرعية والدستورية الكثيرة التي تحول دون ذلك.

وهناك نقطة تعارض جوهرية بين النظامين الإسلامي والثيوقراطي، تتمثل بوجود عدد كبير من مجالس الشورى التي تمسك بحركة النظام الإسلامي وسلطاته، وهي مجالس ومؤسسات تنتخبها الأمة وتمارس من خلالها دورها الحقيقي في الاستخلاف وفي دفع عجلة النظام باتجاه أهدافه وغاياته، وهو حق لم يمنحه إياها النظام؛ بل إنها تمتلكه أساساً. ومن أبرز تلك المؤسسات: مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) مجلس الخبراء، المجالس البلدية وغيرها. فضلاً عن أن الأمة هي التي تنتخب الولي الفقيه انتخاباً غير مباشر، أي من خلال انتخابها أعضاء مجلس الخبراء الذي ينتخب القائد، كما تنتخب رئيس الجمهورية (رئيس السلطة التنفيذية) انتخاباً مباشراً، وهما الرجل الأول والثاني في النظام.

كل الأمور هذه، لم تعرفها الأنظمة الثيوقراطية، كما لم تعرفها الأنظمة السلطانية التي ظلت تحكم المسلمين بعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة بالأسس والأساليب نفسها التي حكمت بها الأنظمة الثيوقراطية أوروبا.

3 – موقع المؤسسة الدينية ورجال الدين:

هذا المحور هو من أهم محاور التعارض بين الأنظمة الثيوقراطية والنظام السياسي الإسلامي الحديث وأكثرها دقة وعمقاً، إذ إن موقع المؤسسة الدينية ودور رجال الدين في كلا النظامين يختلف اختلافاً جوهرياً. ففي النظام الثيوقراطي (الذي يمثل تعاليم الكنيسة) يشكل رجال الدين (الاكليروس) طبقة متميزة – تماماً – من المجتمع في سلطتها ووضعها المعيشي وفي إمساكها بمفاصل الدولة بالكامل، ليس من منطلق التخصص بالشريعة أو الكفاءة العلمية أو الإدارية؛ بل لأنها طبقة حاكمة مفروضة، تمارس سلطة مطلقة، تنافس سلطة الإمبراطور أحياناً، وإن كانت تكمّلها وتعضّدها عادة. ومن أبرز ما أفرزته سلطة رجال الكنيسة ما عرف بمحاكم التفتيش التي تحاكم على النيات والظن وتصادر أي فكر أو ممارسة يشك في تعارضهما مع تعاليم رجال الدين أو تعاليم الإمبراطور.

وتسبب هذا الواقع بالصراع العميق والعنيف بين الدولة والكنيسة من جهة والمجتمع من جهة أخرى، وهو ما أفرز الفكر الغربي الحديث، المؤسس على الأفكار اللا دينية والعلمانية والإلحادية، بما في ذلك فصل رجال الدين عن أي سلطة زمنية أو مدنية، وفصل العقيدة والشريعة والأخلاق عن الدولة وأجهزتها وحركتها وعن العمل السياسي والسياسة عموماً، ورفض أي نوع من أنواع المجتمع الديني إلا في حدود الكنيسة فقط، ثم تأسيس النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحديثة على أنقاض ذلك الصراع، وأبرزها الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية، إضافة إلى نظم أخرى، كالدكتاتوريات الفردية والدكتاتوريات الطبقية (الماركسية)، والتي كانت بمجملها ردود أفعال وردود أفعال مضادة، وباختصار، فقد كان الحكم المسيحي أو المجتمع المسيحي أو الحكم الديني يعني حكم رجال الدين المسيحيين أو طبقة رجال الكنيسة.

أما في النظام الإسلامي فلا وجود لحكم رجال الدين؛ بل لا وجود لمصطلح رجال الدين، لأن هذا المصطلح مستورد من الغرب ومترجم عن مفهوم طبقة الاكليروس في النظام الثيوقراطي المسيحي. وفي الإسلام كل مسلم هو رجل دين، وهناك علماء دين هم المتخصصون بالشريعة، وهؤلاء ليسوا طبقة، وإن كان لهم دور متميز في النظام الإسلامي، والحكم الإسلامي هو حكم الشريعة وليس حكم علماء الدين. وعلماء الدين يمارسون دورهم في النظام الإسلامي من خلال تخصصهم بالشريعة، وفي مواقع محددة، يكون فيها للتخصص الفقهي مدخليته وليس في كل حركة النظام، أي إنهم جزء من النظام وليس كل النظام وليسوا هم النظام، ولا تختص المسؤوليات والمناصب فيه بهم. وهو ما يعبّر عنه الإمام الخميني بقوله: «هل يمكن أن يكون هناك إسلام دون علماء دين؟ وهل يمكنكم أن تفعلوا شيئاً دون وجود العلماء؟… إن قبول الإسلام من دون علماء دين كالقول بقبول الإسلام من دون سياسة… فلا يمكن أن يكون إسلام دون علماء دين، فالنبي نفسه كان عالم دين، لقد كان أعظم علماء الدين وعلى رأسهم طراً»(10). فوجود علماء الدين في الإسلام ضمان باستمرار العمل بالشريعة في المجتمع، ووجودهم في النظام الإسلامي ضمان لتطبيق قوانين الشريعة في حركة الدولة، وذلك من منطلق تخصصهم. وهو ما يعيد تأكيده الإمام الخميني بقوله: «لا تقولوا: نحن نريد الإسلام من دون علماء الدين؛ بل قولوا: نريد الإسلام وعلماءه أيضاً. إذا أردتم أن تكونوا أنتم المتصدين لوحدكم من دون علماء الدين فستبقون خاضعين للآخرين [الأجانب] إلى يوم القيامة… لا ترفضوا هؤلاء العلماء، فهم طاقة لا حدود لها، وقوة لا تنتهي، وهي قدرة الشعب وقوته، فلا تتخلوا عن قوة الشعب هذه»(11). ويقول – أيضاً – موضحاً على نحو الدقة طبيعة الدور العملي لعلماء الدين في النظام الإسلامي: «إن لعلماء الدين دورهم وللحكومة دورها أيضاً، فعالم الدين لا يريد أن يصبح حاكماً، لكنه يريد أن يكون له دور.. إن لعالم الدين دوره، ويجب أن يقوم بهذا الدور، وغير واجب أن يكون رئيساً للجمهورية، ولكن يمكنه أن يقوم بدور في موضوع رئاسة الجمهورية، فينبغي له أن يمارس الإشراف والرقابة، فهو يقوم بذلك نيابة عن الشعب. ليس ضرورياً أن يكون عالم الدين رئيساً للحكومة، ولكنه يؤدي في الدولة دوراً مهماً، فإذا أراد رئيس الحكومة أن ينحرف فإن العالم يمنعه من ذلك»(12).

والحقيقة أن قضية وجود علماء الدين في بعض مواقع الدولة ودور المؤسسة الدينية في حركة النظام، ولا سيما موقع رئاسة الدولة وإمامة الأمة الذي يشغله الولي الفقيه أو المرجع الديني، ليست قضية أفرزها تأسيس النظام السياسي الإسلامي الحديث؛ بل هي قضية عميقة في مدرسة الإمامة (التشيّع) على المستويات التاريخية والعلمية والاجتماعية، وتتلخص في الموقع الديني والاجتماعي لنواب الإمام المعصوم، وهم الفقهاء المجتهدون العدول، وهو الموقع الذي عرف في العصور المتأخرة بـ«المرجعية الدينية» التي تتمثل بشخص المرجع الديني، وهو يكون – عادة – الأعلم بين الفقهاء. وقد ظلت الدراسات الفقهية طوال مئات من السنين تبحث في طبيعة موقع الفقهاء وولايتهم في عصر الغيبة، وكانت تجمع على ثلاثة مواقع:

1 – الولاية على الفتوى (التشريع).

2 – الولاية على القضاء.

3 – الولاية على الأموال الشرعية.

بينما اختلفت بشأن ولاية الفقيه على الحكم (السلطة السياسية). بيد أن الإمام الخميني الذي بلور نظرية ولاية الفقيه على الحكم التي قال بها كثير من الفقهاء السلف – حسم الموقف في إطار النظام السياسي الإسلامي الذي تأسس على مبدأ ولاية الفقيه، إذ أقرّ الفقهاء والخبراء الذين دوّنوا دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية مبدأ ولاية الفقيه على الحكم، وكونه السلطة العليا في الدولة. وبذلك دخلت قضية المرجعية الدينية مرحلة جديدة لم تشهدها من قبل، بعد أن تمكنت من تأسيس دولة تستند إلى نظرية فقهية متكاملة، وقد مرّت المرجعية الدينية في المدرسة الشيعية – حتى الآن – بثلاث مراحل رئيسة:

الأولى: مرحلة النيابة الخاصة، التي بدأت بالغيبة الصغرى للإمام المهدي(عج) في عام 260 هـ واستمرت حتى عام 329 هـ، توالى خلالها أربعة من نواب الإمام على زعامة المجتمع الشيعي.

الثانية: مرحلة النيابة العامة، التي بدأت بالغيبة الكبرى للإمام المهدي في عام 329 هـ، والتي أصبح فيها كل الفقهاء نواباً للإمام بالتعيين النوعي، وليس بالاسم كما كان في عهد الغيبة الصغرى. واستمرت هذه المرحلة حتى قيام الدولة الإسلامية في إيران.

الثالثة: مرحلة النيابة العامة بعد قيام الدولة الإسلامية في إيران وهي المرحلة التي حكمت فيها المرجعية الدينية وأصبحت على رأس الدولة لأول مرة في تاريخها. وفي هذه المرحلة ظهرت المراجعات العلمية والفكرية الأكثر عمقاً بشأن موقع الفقهاء وعلماء الدين ودورهم في الدولة والمجتمع والدور الجديد للمؤسسة الدينية المتمثلة بالحوزة العلمية في حركة المجتمع، بعد أن باتت هذه الحركة جزءاً من واقع الدولة الإسلامية(13).

إن دور «المرجعية الدينية» يرتبط بموضوع التقليد الذي يعد مبنى عقلائياً، تقرّه الشريعة، ويتمثل بتقليد المسلم (المكلّف، للفقيه في الأحكام الدينية، بمعنى الرجوع إلى الفقيه في مجال تخصصه، وما يترتب على ذلك من مواقع تستند إلى جملة من النصوص الشرعية، منها حديث الإمام الحسن بن علي العسكري(ع): «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»(14). وكذلك الحديث المروي عن الإمام المهدي(عج): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»(15). وهكذا برز وجود مرجعية الفقهاء متجسداً في استمرار حركتي الاجتهاد والتقليد المتكاملتين، واشتراط تقليد الفقيه الحي العادل ومن خلال الاستناد إلى نصوص أخرى، مثل حديث الإمام علي(ع): «العلماء حكّام على الناس»(16)، وحديث الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) عن جعل الفقيه حاكماً على الناس(17)، وغيرهما، بات موقع الفقهاء يمثل الولاية الشرعية على الأمة في عصر غيبة المعصوم، في مجالات الفتوى والقضاء والحقوق الشرعية والحكم، باعتبارهم «أهل الذكر» و«العلماء والحكّام» و«رواة الحديث» و«مراجع التقليد» كما تنص الأحاديث الشريفة.

والفقيه الحاكم (الولي الفقيه) تتدخل الأمة في تعيينه، تعييناً مباشراً أو غير مباشر، بعد أن تحرز فيه الشروط التي يجب توافرها، والتي ثبتتها المدوّنات الفقهية، والمدوّنات القانونية. وبذلك يضمن النظام السياسي الإسلامي تحقيق ثلاثة أهداف شرعية:

الأول: تكامل خطي الشهادة والخلافة، والتحامهما، من خلال انتخاب خط الخلافة (الأمة) لمصداق خط الشهادة (الفقيه)، فيتجسد الخطان في الفقيه الحاكم، الأمر الذي يجعل مساحة ولايته (وفقاً لمبدإ ولاية الفقيه) كولاية المعصوم(18).

الثاني: ممارسة الأمة دورها الحقيقي في الاستخلاف على الأرض، من خلال انتخاب ولي أمرها(19).

الثالث: تأكيد الحيلولة دون حصول التعارض والتزاحم بين الفقهاء، واقتصار الولاية على الحكم وقيادة المجتمع على الفقيه الحاكم دون غيره(20).

والحقيقة أن الموقع الديني والاجتماعي للمرجعية الدينية، والذي يشكّل زعامة دينية اجتماعية واقعية، هو الذي أهّل علماء الدين لقيادة الشعب الإيراني في مواجهة النظام الشاهنشاهي وإسقاطه، ثم ضمان الشعب لعلماء الدين مواقعهم الشرعية، للمحافظة على استمرار تجربة النظام الإسلامي على مسارها الذي رسمه الإمام الخميني.

أما المؤسسة الدينية المتمثلة بالحوزة العلمية، فقد توزعتها ثلاثة اتجاهات بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية، الأول انخرط في حركة الدولة وأصبح جزءاً من مؤسسات النظام، وتسلم مواقع إشرافية وتشريعية وتنفيذية وقضائية، والثاني فضّل دعم الدولة وحركتها من داخل الحوزة العلمية، وعمل لتنظيم الحوزة وتطويرها لتلبي حاجات الدولة والمستجدات الهائلة والمتسارعة على الصعد المحلية والعالمية، والثالث بقي مستقلاً عن النظام ويمارس الدور الديني والاجتماعي نفسه الذي كان قبل تأسيس النظام الإسلامي. وفي حين استحال التيار الأول جزءاً من المجتمع السياسي، فإن التيار الثاني ظل أكثر فاعلية في الربط بين المجتمع الأهلي والمجتمع السياسي؛ بل أكثر تأثيراً في التقريب والوفاق بين الجماعات الدينية والسياسية الناشطة والمتنافسة في إطار النظام.

هذه الجماعات وكذلك مؤسسات النظام وأجهزته، فيها عالم الدين وغيره، أي إن وجود عالم الدين على رأس مؤسسة أو جماعة معينة لا يعني أنه شغل هذا الموقع لأنه عالم دين؛ بل لأنه مواطن وكفؤ، فعالم الدين والمواطن العادي متساويان في الحق في شغل أي منصب من مناصب الدولة، ابتداءً برئاسة الجمهورية وانتهاءً بالدوائر البسيطة. بيد أن ثوابت الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي وشرعية حكمه وطبيعة قوانينه، تشترط أن تكون بعض المناصب خاصة بالفقهاء دون غيرهم، أي المجتهدين العدول وليس بمطلق علماء الدين وهي ستة مناصب فقط:

1 – القائد (رئيس الدولة).

2 – رئيس السلطة القضائية.

3 – المدّعي العام للبلاد.

4 – وزير المخابرات.

5 – نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور.

6 – أعضاء مجلس خبراء القيادة.

ومعيار تسنم هذه المناصب هو أن يكون من يشغلها فقيهاً عادلاً؛ لأن لهذه المناصب أبعاداً دينية أو جوانب ترتبط بالتخصص بقضايا الشريعة الإسلامية، وتترتب عليها أمور ترتبط ارتباطاً مباشراً بممارسة الاجتهاد، إضافة إلى ضمان الاحتياط من الظلم. وهذه المناصب الستة التي يصل عدد من يشغلها إلى نحو (90) شخصاً، لا تشكل سوى 2 في المئة فقط من عدد المناصب العليا في البلاد، إذا افترضنا أن عدد المناصب العليا يصل إلى (5000). أما وجود عدد آخر من علماء الدين في مناصب أخرى في الدولة، وإن كانت مناصب مدنية، فمعيار ذلك هو الكفاءة الإدارية والتخصص بموضوع المنصب، وليس لأنهم من علماء الدين، فأي شخص بإمكانه شغل هذه المناصب من غير علماء الدين، ومن ذلك رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الشورى الإسلامي والوزارات وغيرها. ولا يتجاوز عدد علماء الدين في المناصب العليا نسبة 5 في المئة من مجموع الوزراء والمعاونين وأعضاء مجلس الشورى وأعضاء مجمع تشخيص مصلحة النظام والمستشارين والمدراء العامين وغيرهم. مثلاً، هناك ثلاثة وزراء – كمعدل – من علماء الدين من مجموع (25) وزيراً ومعاوناً لرئيس الجمهورية، وهم – عادة – وزير المخابرات ووزير العدل ووزير أو معاون ثالث. أما مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) فمعظم أعضائه من غير علماء الدين، وهكذا الأمر بالنسبة إلى المحكمة العليا. كما أن محافظي الأقاليم وحكام المدن يندر أن يكون بينهم عالم دين، وكذا سفراء الجمهورية الإسلامية، ذلك أن هذه المناصب مفتوحة – وفقاً للقانون – لكل أبناء الشعب، ويتم إشغالها إما بالانتخاب من قبل الشعب نفسه، أو بالتعيين في إطار معيار الكفاءة، وهو السائد بلغة القانون.

نقطة اللقاء بين النظامين

النظرية الأولى من النظريات الثيوقراطية، والتي تجعل للحاكم طبيعة إلهية، هي نظرية مرفوضة إسلامياً، ولا يربط بينها وبين النظرية السياسية الإسلامية أي رابط. أما الخيط الرفيع الوحيد الذي تشترك فيه النظريتان الثانية والثالثة، أي الحق الإلهي المباشر والحق الإلهي غير المباشر، مع النظرية السياسية الإسلامية، فهو موضوع مصدر السيادة في النظام الإسلامي. ففكرة الحق الإلهي الثيوقراطي تقول بأن السيادة للَّه تعالى وهو مصدرها، وهي مقولة عامة تشترك فيها نظرياً مع النظام الإسلامي، كما يشتركان في الانتساب لذلك المصدر. ولكنهما يختلفان في فهم ماهية السيادة وتفسيرها، ويختلفان في حقيقة الانتساب إليها، وفي طبيعة المصاديق الأرضية التي تنطبق عليها مواصفات الانتساب إليها، أي أصحاب الحق في ذلك، وما ينتج من ذلك من ممارسات وسلوكيات.

وقد دفع ذلك الخيط بعض علماء المسلمين إلى القول بأن النظام الإسلامي في جانب السيادة ومصدرها هو نظام ثيوقراطي. ولعل أول من قال بذلك هو الشيخ أبو الأعلى المودودي، الذي أكد على أن مصطلح الحكومة الثيوقراطية هو التعبير الصحيح عن النظام الإسلامي، فهو يعتقد بأن الحكومتين تنتسبان إلى الله(21). إلا أن المودودي قال ذلك في معرض رفضه لأن تكون الحكومة الإسلامية حكومة ديمقراطية، فاضطر للبحث عن بديل يصف به النظام الإسلامي، وهو يقصد بذلك تحديد رأي الإسلام في موضوع السيادة والحاكمية في النظام الإسلامي، أي إنه يحصر التشابه بين النظامين في هذا الموضوع فقط بما يترتب عليه من حصر التشريع بالله تعالى، وعلى هذا الأساس لا يبقى أي مسوغ لوصف النظام الإسلامي بأنه نظام ثيوقراطي، ما دام الذي يربطهما خيط رفيع فقط، مقابل الكمّ الهائل من الخيوط التي تفصل بينهما. وهو الأمر الذي تداركه الشيخ المودودي نفسه، حين فرّق بين الثيوقراطية التي كانت حاكمة في أوروبا وبين الثيوقراطية الإسلامية، فقال إن الثيوقراطية هي «في أوروبا طبقة من السدنة مخصوصة، ويشرّعون قانوناً من عند أنفسهم، حسبما شاءت أهواؤهم وأغراضهم، ويسلطون ألوهيتهم على أهل البلاد متسترين وراء القانون الإلهي»(22). بينما الثيوقراطية في الإسلام «لا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشايخ؛ بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة، وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشؤونها، وفق ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله». ويعد المودودي هذا الدور الذي يعطيه الإسلام للأمة قريباً من الديمقراطية، على أن لا تقوم الأمة بممارسة معينة وتسن قانوناً يخالفان شريعة الله، وهذا يجعل من الحكم الإسلامي ثيوقراطياً(23). هذه الثنائية اضطرت المودودي لأن يطلق على الحكومة الإسلامية مصطلح «الثيوقراطية الديمقراطية» أو «الحكومة الإلهية الديمقراطية»(24).

وذهب الشيخ حسين علي المنتظري – أيضاً – إلى القول بأن الحكومة الإسلامية في موضوع الحاكمية هي حكومة ثيوقراطية، فأكد على أن الحكومة الإسلامية في مجالات التشريع والتنفيذ والقضاء يجب أن تلتزم بقوانين الإسلام وموازينه، «وليس لها أن تختلف عما حكم به الإسلام قيد شعرة، فالحكومة مشروطة مقيدة، والحاكم في الحقيقة هو الله (تعالى) والدين الإسلامي بمقرراته الجامعة. ولذا يعبّر عنها بالحكومة الثيوقراطية في قبال الحكومة الديمقراطية(25)، ولكنه يفرّق أيضاً بين الثيوقراطية حكومة القانون الإلهي، وبين حكومة رجال الدين التي هي حكومة استبدادية على نحو ما كان لرجال الكنيسة والبابا في القرون الوسطى(26).

والحقيقة أن هذا الخيط الرفيع لا يعد مشتركاً إلا في المفهوم العام، فهو يشكّل شبهة لقاء بين النظامين وليس لقاءً حقيقياً، لأن الانتساب إلى الحق الإلهي اصطنعته الثيوقراطية الأوروبية، لتعبّر عن حاجة سلطوية أرضية، تسوغ فيها تشريعاتها وممارساتها، بينما يستمد النظام الإسلامي شرعيته من التزامه بالشريعة الإسلامية عقيدة وفقهاً، أي إن تمسك النظام الإسلامي بأصول الشريعة، وفي مقدمها سيادة الله المطلقة على الكون والتشريع، هي مسؤولية كبرى تفرض عليه الالتزام بكل أوامر الشارع المقدس ونواهيه، وليس لتسويغ ممارساته، فضلاً عن أنها تسلب عنه حق التشريع. وبالتالي فإن الانتساب إلى الحق الإلهي في الثيوقراطية الأوروبية هو انفلات ومصلحة، وفي النظام الإسلامي التزام ومسؤولية، منطلقاً من فلسفة عقائدية، تعطي الحق للمالك الحقيقي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) د. إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، ص 245.

(2) للمزيد انظر: د. عبد الغني بسيوني، النظم السياسية، ص 47، د. يحي الجمل، الأنظمة السياسية المعاصرة، ص 58، إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية، ص 26.

(3) انظر: عادل عبد المهدي، الحكومة الإسلامية والحكومة الوضعية، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الأول، 1995، ص 172.

(4) د. إمام عبد الفتاح إمام، ص 254.

(5) المصدر السابق.

(6) للمزيد انظر: د. ثروت بدوي، النظم السياسية، ص 126، د. وهبة الزحيلي، نظام الإسلام، ص 228، د. إمام عبد الفتاح إمام، ص 254، د. محمد كامل ليلة، في المبادئ والنظم الدستورية، ص 252 – 253.

(7) انظر: د. ثروت بدوي، ص 127، د. إمام عبد الفتاح إمام، ص 27، د. يحي الجمل، ص 58، د. عبد الغني بسيوني، ص 48 – 49.

(8) من خطبة له في 15/5/1965، صحيفة نور ج1 ص 119.

(9) انظر: المصدر السابق.

(10) من خطبة له في 31/12/1977، صحيفة نور، ج1 ص 262.

(11) المصدر السابق.

(12) من خطبة له في 29/12/1977، صحيفة نور، ج11 ص 133.

(13) للمزيد انظر: علي المؤمن، الإسلام والتجديد… رؤى في الفكر الإسلامي المعاصر، ص 70 – 75.

(14) الشيخ أحمد بن علي الطوسي، الاحتجاج، ج2، ص 263 – 264.

(15) المصدر السابق، ج2 ص 283.

(16) الشيخ عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم، ص 32.

(17) المعروفة بمقبولة عمر بن حنظلة، وهي من أهم مستندات ولاية الفقيه على الحكم.

(18) الإمام محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، ص 169 – 172.

(19) المصدر السابق.

(20) انظر: الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص 49، السيد كاظم الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة، علي المؤمن، الإسلام والتجديد، ص 74.

(21) الشيخ أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، ص 32.

(22) المصدر السابق، ص 33.

(23) المصدر السابق، ص 35.

(24) المصدر السابق، وحول عرض رأي الشيخ المودودي وتقويمه في هذا المجال انظر: د. محمد عمارة، الإسلام وضرورة التغيير، ص 143، د. عبد الغني بسيوني، ص 51 – 53، فهمي هويدي، الإسلامي والديمقراطية، مجلة المستقبل العربي، العدد 166، 12/2/ 1999، ص 25.

(25) آية الله الشيخ حسين علي المنتظري، دراسات في فقه الدولة الإسلامية، ج1 ص 538.

(26) المصدر السابق.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment