التحول في الفقه السياسي الإسلامي

Last Updated: 2024/05/30By

التحول في الفقه السياسي الإسلامي

د. علي المؤمن

 

مسار التحول في الفقه السياسي الإسلامي

يمكن القول إن معظم النتاجات السياسية التي صدرت عن فقهاء ومفكري مدرسة الخلافة المتأخرين – حتى نهايات القرن الثالث عشر الهجري – لم تكن تختلف كثيراً في مناهجها واتجاهاتها الفكرية وموضوعاتها عن النتاجات التي دوّنها الفقهاء المتقدمون، فلم يشهد الفقه السياسي لمدرسة الخلافة تحولاً يذكر خلال القرون الهجرية من التاسع وحتى الثاني عشر، بعد أن تسنى له النهوض والتبلور في زمن مبكر، ولم يعد في وسع الفقهاء الذين جاؤوا بعد ابن تيمية والإيجي، أن يضيفوا ما يعتد به. ولكن التحول الفكري بدأ يظهر من بين ثنايا الواقع السياسي الذي شهده العالم الإسلامي خلال القرن الثالث عشر الهجري، فبرزت كتابات وأفكار تهتم بالشأن السياسي العام للأمة الإسلامية، وكان لها أكبر الأثر في الاتجاه الجديد للفكر السياسي الإسلامي، برغم أنها كانت تعبّر عن طابع دعوي إصلاحي، ولا تمثل مؤلفات في فقه الدولة الإسلامية، وفي مقدمة تلك الكتابات «العروة الوثقى» للسيد جمال الدين (الأسد آبادي) الأفغاني(1) (ت 1897م) وتلميذه الشيخ محمد عبده (ت 1905م).

وقد حاولت المؤلفات السياسية التي صدرت خلال القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي) في دائرة مدرسة الخلافة، أن تجمع بين الأصالة في مصادرها وأفكارها ونتائجها، والعصرية في مناهجها وتطلعاتها، فمثّلت إعادة شاملة لصياغة ما كتبه الماوردي وابن الفراء وابن تيمية والجويني. ولعل من أهمها: «الخلافة والإمامة العظمى» للشيخ محمد رشيد رضا (ت 1935م)، ورسائل الشيخ حسن البنا (ت 1949م)، ومجموعة مؤلفات الشيخ محمد تقي النبهاني (ت 1966م) كـ«الخلافة» و«الدولة الإسلامية» و«نظام الإسلام»، وبحوث الشيخ أبي الأعلى المودودي (ت 1980م) التي جُمعت في كتاب «نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور»، و«فقه الخلافة وتطورها»(2) للدكتور عبد الرزاق السنهوري. كما صدر عدد من المؤلفات والدراسات المهمة لعلماء وباحثين إسلاميين كردود على كتاب «الإسلام وأصول الحكم»(3) لعلي عبد الرزاق. ومثلت هذه المؤلفات – الردود – إضافات جيدة للمكتبة السياسية الإسلامية؛ بيد أن النهضة البحثية الحقيقية جرت فصولها خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين الميلادي، وتمخّضت عن صدور عشرات الكتب والدراسات والرسائل الجامعية، في مجال الدولة الإسلامية وفقهها ونظامها ودستورها. وتميزت هذه الدراسات، ولا سيما التي صدرت بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران، بعرض نظرية مدرسة الخلافة بمناهج علمية حديثة(4)، في عملية مقابلة للثورة البحثية التي شهدتها مدرسة الإمامة في فترة الثمانينات، إذ يمكن القول إن أغلب تلك الدراسات صدرت كرد فعل على الواقع الذي أفرزته الجمهورية الإسلامية وأطروحتها الفقهية، فكانت بذلك تستبطن دفاعاً عن نظرية مدرسة الخلافة، ودعوة لعدم الخلط بين النظريتين؛ للحؤول دون تحول التأثر الديني والوجداني بالثورة الإسلامية الإيرانية إلى تأثر عقيدي وفقهي.

أما التحول الذي شهدته مدرسة الإمامة في مسار فقهها السياسي، فإنه بدأ بطيئاً في نهاية القرن العاشر الهجري، وشهد انتعاشاً خلال حقبة الدولة الصفوية، إلا أنه ظل محكوماً – في كثير من الأحيان – بمعطيات الواقع السياسي لهذه المرحلة؛ فقد ظهرت في هذه المرحلة بحوث كثيرة ذات صلة بالفقه السياسي، ولا سيما في موضوعات الأراضي الخراجية والجهاد وصلاة الجمعة ومشروعية السلطة وغيرها. ولعل الدولة الصفوية كانت أكثر الدول الشيعية التي أعطت الفقهاء دوراً مميزاً، تمثل في الإشراف والرقابة، بل اقترب هذا الدور – في بعض الفترات – من حالة الولاية على الحكم، كما حصل مع الشيخ علي بن الحسين الكركي(5) (ت 940هـ) والشيخ بهاء الدين العاملي(6) (ت1035هـ)، فكان الفقهاء يفوضون سلاطين الدولة الصفوية بممارسة الحكم، وبذلك يمنحونهم الشرعية الدينية. ولا نريد الخوض هنا في حقيقة توجهات الدولة الصفوية وأساليب ممارستها للسلطة، ومستوى التزاماتها الشرعية، ولكن الهدف هو الوقوف على طبيعة هذه المرحلة ومعطياتها، وما أفرزته من واقع جديد في مجال إعادة التأسيس للفقه السياسي الإسلامي لمدرسة الإمامة.

في هذه المرحلة تبلور مفهوم النيابة العامة للإمام المهدي المنتظر(ع)، والذي سبق أن كشف عنه، وألمح إليه – قبل ذلك بأكثر من قرن ونصف – الشيخ محمد بن مكي الجزيني العاملي (استشهد سنة 786)(7) في مؤلفاته، ولا سيما «اللمعة الدمشقية». ومفهوم نيابة الإمام المهدي هو الركيزة الأساس التي يستند إليها مبدأ «ولاية الفقية». حتى أن بعض المفكرين والباحثين المعاصرين يعدّ الشيخ محمد بن مكي العاملي مؤسساً لهذا المبدأ. يقول الدكتور الفضلي في معرض تحليله لأسباب استشهاد الشيخ العاملي: «أما الإدانة – حقيقة – فكانت لأنه كان يقول بمبدأ ولاية الفقيه، وكوّن له تحت مظلتها مرجعية كبيرة في ربوع الشام… وبدفع قوي من هذه المرجعية تحرك في ربوع الشام لتجميع فلول الشيعة، وجمع أمرهم، وإقامة سلطة سياسية شرعية لهم، فجبى الأموال وأعدّ الرجال، واتصل بحكومات الشيعة في وقته سراً وعلانية»(8). كما يقول باحث سني: «يمكن اعتبار المجتهد الشيخ محمد بن مكي الجزيني (العاملي) أول من تطرّق إلى موضوع ولاية الفقيه في كتابه القيّم «اللمعة الدمشقية»، إذ أشار فيه إلى مصطلح «نائب الإمام» و«سلطة نائب الإمام»(9).

ثم جاء المحقق الكركي – بعد أكثر من قرن ونصف – ليكمّل صياغة مفهوم «نيابة الإمام» ويضعه إطاراً وركيزة أساسية للفقه السياسي لمدرسة الإمامة في عصر الغيبة، ويحوّله إلى واقع عملي، حيث «سار الشيخ الكركي في مرجعيته العامة، وزعامته للطائفة، سيرة الشهيد الأول، فقد كان يقول بولاية الفقيه، وأدار، في هديها وبحكم نيابته عن الإمام المهدي(ع)، شؤون الدولة الصفوية(10). وكان شاهات الدولة الصفوية عموماً يظهرون ولاءهم للولي الفقيه، ويعتبرون أن الملك له في الأساس، وهم مفوّضون عنه(11). إلا أن مصطلح «الولي الفقيه» لم يكن مطروحاً حينها، بل كان يطلق على الفقيه الذي له الإشراف الشرعي على الدولة لقب «شيخ الإسلام». وفي هذا اللقب محاكاة لما قامت به الدولة العثمانية (العدو اللدود للدولة الصفوية) من ابتداع منصب «شيخ الإسلام»، إلا أن التشابه في التسمية لا يعني التشابه في الأسس النظرية والواقع العملي للمنصبين، فهما مختلفان؛ إذ كان شيخ الإسلام في الدولة العثمانية موظفاً لدى السلطة برتبة «مفتي»، وكان يستمد شرعيته من السلطان الذي يعيّنه، في حين كان شيخ الإسلام في الدولة الصفوية مرجعاً للأمة والدولة، وهو الذي يمنح الشرعية للسلطان ويفوّضه ممارسة الحكم ويراقبه، ولا يعيّن بأمر السلطان، بل هو متعيَّن أساساً، ويكون – عادة – كبير فقهاء الشيعة، والذي تُجمع على مرجعيته الحواضر الدينية الشيعية، ولا سيما النجف الأشرف.

ونشير هنا إلى وثيقة كتبها الشيخ جعفر بن خضر الجناجي النجفي المعروف بكاشف الغطاء(12) (ت 1228م)، وتعد من وثائق التحوّل الذي شهده الفقه السياسي الإسلامي، فهي توضح طبيعة المستوى العملي الذي بلغه مبدأ «ولاية الفقيه» آنذاك. وهذه الوثيقة عبارة عن إجازة أو تفويض منحه الشيخ جعفر (كاشف الغطاء) إلى السلطان فتح علي شاه القاجاري، تُمَكِّن الأخير من التصرف في الشأن السياسي العام والخراج والزكاة، جاء فيها: «ولما كان الاستيذان من المجتهدين أوفق بالاحتياط، وأقرب إلى رضا رب العالمين، وأقرب إلى الرقي، والتذلل والخضوع لرب البرية، فقد أذِنتُ… للسلطان… فتح علي شاه… في أخذ ما يتوقف عليه تدبير العساكر والجنود، ورد أهل الكفر والطغيان والجحود، من خراج أرض مفتوحة بغلبة الإسلام، وما يجري مجراها، وزكاة». ثم يأمره بتنفيذ عدد من القضايا ذات العلاقة بالجوانب السياسية والمالية والدعوية(13).

تركيز مبدأ نيابة الفقيه للإمام

ظهر في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)، عدد من البحوث الفقهية الجديدة التي ركزت مبدأ نيابة الفقيه للإمام المهدي(ع)، (ويقصد به الفقيه العادل الجامع لشروط المرجعية)، وتحدثت عن صلاحيات الفقيه وحدودها ومساحات ولايته وأنواعها، وهي عموماً بحوث أدخلت الفقه السياسي لمدرسة الإمامة مرحلة جديدة، وأهمها:

1 – «ولاية الحاكم الشرعي» للشيخ أحمد النراقي(14) (ت1245هـ)، وبحثه عبارة عن فصل مستقل من كتاب «عوائد الأيام»، ويعد باكورة البحوث الفقهية الاستدلالية الجامعة التي أكدت اختصاص الفقيه (الجامع للشرائط) بولاية الحكم والإفتاء والقضاء وإقامة الحدود والتصرف في الأموال الشرعية وشؤون القاصرين، بحدود الولاية نفسها التي كانت للنبي(ص) والأئمة(ع)، إلا أن يقوم دليل شرعي على الاستثناء، استناداً إلى قاعدة نيابة الفقيه للإمام(ع) والوكيل كالأصيل عند غيابه. فجاء هذا البحث نقلة حقيقية في الفقه السياسي لمدرسة الإمامة؛ إذ مثّل طليعة البحوث المعمقة والشاملة في ولاية الفقيه. ورغم أن الشيخ النراقي لم يصرح بولاية الفقيه على الحكم واختصاصه برئاسة الدولة الإسلامية، بالنظر لما يبدو من ابتعاد هذا الموضوع عن الواقع وعن معطيات المستقبل المنظور، وكأنه من أشد الموضوعات افتراضاً آنذاك، إلا أن حيثيات البحث واستنتاجاته تشير بمجموعها إلى رأي الشيخ النراقي الراسخ باشتمال ولاية الفقيه على شؤون الدولة والحكم(15).

2 – «الولايات والسياسات» للشيخ مير فتاح حسين المراغي (ت 1250هـ)، وهو ثلاثة بحوث مستقلة من كتاب «العناوين» الفقهي الاستدلالي، درس المؤلف في أحدها موضوع ولاية الفقيه، وأثبت فيه الولاية العامة للحاكم الشرعي (الفقيه)، واختص الآخر بولاية المؤمنين العدول، وطرح فيه الكثير من موضوعات الفقه السياسي وشؤون الحكم الإسلامي، وفي الثالث درس الولايات الخاصة، كولاية الأب والوصي. ولم تحظ بحوث الشيخ المراغي هذه بالاهتمام الذي حظي به بحث الشيخ النراقي، بالنظر لشهرة الأخير وموقعه العلمي الكبير، وكونه أحد أساتذة الشيخ مرتضى الأنصاري، وتناول الفقهاء اللاحقون بحوثه بالدرس والتحقيق والنقد، وهو ما لم يحصل مع بحوث الشيخ المراغي، بالرغم من أهميتها؛ إذ نادراً ما يتطرق الباحثون الجدد لكتابه «العناوين» خلال تناولهم موضوعات الفقه السياسي الإسلامي، إلا أن بعض الباحثين المعاصرين أشاد كثيراً بالكتاب ووصفه «بالدقة والعمق العجيب»(16).

3 – «الجهاد» و«المكاسب المحرمة» للشيخ محمد حسن النجفي المعروف بالجواهري(17) (ت 1266هـ)، وهي بحوث من كتاب «جواهر الكلام»(18). ولم يخصص صاحب الجواهر بحوثاً مستقلة لموضوعات الفقه السياسي، لكنه تناولها في أكثر من باب، أهمها «كتاب الجهاد» و«كتاب المتاجر»، وقد تطرق في باب «المكاسب المحرمة» إلى موضوع شرعية ولاية الحكم والقضاء، بالنسبة للحاكم العادل، وأحكام الأراضي الخراجية. كما بحث في باب «نفوذ تصرفات الأولياء» بعض شؤون ولاية الحاكم الشرعي (الفقيه)(19). ورغم أن الجواهري يعد من أبرز تلاميذ كاشف الغطاء، الذي كان يقول بالولاية العامة للفقيه وتصدى لها عملياً في فترة الأحداث التي جرت في النجف الأشرف، ورغم طبيعة علاقته بالدولة القاجارية في إيران، إلا أن للجواهري مبانيه الاجتهادية الخاصة التي ربما لا تتفق – أحياناً – مع مباني أستاذه(20). ومن هنا لم يخصص بحوثاً مستقلة في «جواهر الكلام» لموضوعات الفقه السياسي، رغم اهتمامه بها، فمثل بذلك منهجاً وسطاً بين ما كان عليه السلف (كالمحقق الحلي والشهيد الأول)، وبين التحوّل الذي أوجده الفقهاء الذين عاصرهم (كالشيخ كاشف الغطاء، والشيخ النراقي) في طريقة تناولهم وتبويبهم لموضوعات الفقه السياسي.

4 – «مناصب الفقيه» للشيخ مرتضى الأنصاري(21) (ت1281هـ)، وهي مجموعة بحوث متفرقة من كتاب «المكاسب»(22) الفقهي الاستدلالي. وقد وردت معظم بحوث الفقه السياسي في قسم البيع منه. ومن أولى المواضيع التي يطرحها المؤلف، حرمة التعاون مع الحكومات غير الشرعية أو الظالمة – كما يسميها – وهو عنوان لكل الحكومات غير الإسلامية. ويستثنى من ذلك من يهدف إلى إصلاح الأمة وخدمتها، شرط أن يكون قادراً على ذلك، أو من يكون مكرهاً ومجبراً حقاً. أما البحث الأساس الذي خصّه بمنصب الفقيه والولاية على الأنفس والأموال، فيخلص فيه إلى أن مناصب الحكومة والعمل على إقامتها والقضاء، وإحقاق الحقوق، وإقامة الحدود والفتوى، هي من اختصاص الفقيه الجامع لشَرطي الأعلمية والعدالة وغيرهما(23).

وسار الفقهاء الذين جاؤوا بعد الشيخ الأنصاري على منهجه الفقهي، ومبناه الاجتهادي في مجمل مسائل الفقه، ومنها ما يرتبط بالفقه السياسي. ولم تشهد هذه المرحلة حتى اندلاع ثورة المشروطة في إيران بحوثاً هامة في هذا المجال، ربما باستثناء ما أورده السيد محمد بحر العلوم(24) في باب «الولايات» من كتاب «بُلغة الفقيه»، إذ كان هذا البحث غنياً في معالجاته لكثير من أحكام الفقه السياسي والحكومة، وولاية الفقيه، معالجة معمقة وواسعة.

نتائج مرحلة التحول

دخل الفقه السياسي لمدرسة الإمامة مرحلة جديدة أخرى خلال العقدين الأول والثاني من القرن العشرين الميلادي؛ بسبب الحاجة العملية التي واجهت الفقهاء، جراء الواقع الجديد الذي خلقته الأحداث الكبرى في إيران والعراق، وفي مقدمتها ثورة المشروطة عام 1906م، وثورة العشرين عام 1920م. فاندلاع ثورة المشروطة في مواجهة استبداد النظام السياسي في إيران، كان دافعاً للفقهاء في إيران للبحث عن البديل السياسي الشرعي؛ إذ ظهر العديد من الآراء الاجتهادية، والبحوث الفقهية في هذا المجال، والتي ساعد تضاربها – أحياناً – على اتساع دائرة موضوعات الفقه السياسي، وإعادة منهجتها وتبويبها، وأهم بحثين ظهرا في هذه الفترة الخصبة:

1 – «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل» للشيخ فضل الله النوري(25) (ت 1907م)، الذي يمكن اعتباره تحولاً مهماً في مسار تطور فقه الدولة في الفكر الشيعي. في هذا البحث، دعا الشيخ فضل الله إلى الحكومة المشروعة أو الشرعية، في مقابل الحكومة المشروطة التي طغت أفكارها على الساحة السياسية. والحكومة المشروعة – حسب الشيخ النوري – هي التي تستمد شرعيتها ووجودها من الشريعة الإسلامية وأحكامها، أي التي تحكم بالشريعة الإسلامية، وبما أن الفقهاء هم علماء الشريعة، فلا بد أن يكون لهم الإشراف الكامل على الدولة. أما الحكومة المشروطة فهي التي تدعو إلى حكم الدستور الذي يعطي لنظام الأكثرية البرلمانية حق منح الشرعية للحكومة، وهو ما رفضه الشيخ النوري بشدة. وبناءً على ذلك اضطر دعاة المشروطة إلى إضافة مهمة في دستور الدولة الإيرانية، يتلخص مضمونها في إشراف الفقهاء على القوانين والقرارات التي يصدرها مجلس الشورى الوطني الإيراني، وتمثلت آليته في اختيار مراجع الدين في النجف الأشرف وإيران خمسة من الفقهاء يكونون بمثابة مجلس رقابة دائم في داخل البرلمان.

2 – «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة»(26)، للشيخ الميرزا محمد حسين النائيني(27) (ت 1936م)، ويعد أهم بحث صدر حينها، فهو أول بحث شامل في الفكر السياسي الشيعي ينشر مستقلاً، ويكتب بهدف تأسيس نظام سياسي، وليس لمجرد التنظير الفقهي، كما أن كاتبه كان من أبرز فقهاء النجف الأشرف (قبل تسلمه موقع المرجعية الدينية العليا)، وأيد آراءه الفقهية المطروحة في الكتاب عدد من أهم الفقهاء الشيعة، وفي مقدمتهم الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني(28) (ت1911م) والشيخ عبد الله المازندارني(29) (ت 1913م). وعلى أساس مضامين الكتاب تأسس النظام السياسي في إيران في أعقاب ثورة المشروطة. وقد أكد الشيخ النائيني مفهوم نظام الحكم المنتخب من قبل الأكثرية المتمثلة في البرلمان، وعد هذه الأكثرية مصدراً لمشروعية النظام، وإن كان الشاه يترأس هذا النظام، شرط أن يكون مقيداً بالدستور والقوانين وليس مطلق الصلاحيات.

والحقيقة أن الشيخ النائيني لم يهدف من وراء الكتاب إلى طرح نظرية متكاملة في فقه الدولة الإسلامية، أو يقول بأن مضامين الكتاب تمثل الموقف العقائدي والفقهي النهائي لمدرسة الإمامة، بل كان يتعامل مع الممكن ومع الواقع، فقد عد هذا النوع من النظام السياسي (الدستوري) أكثر أنظمة الحكم عقلانية، وأكثرها ملاءمة للواقع وللظروف الموضوعية، فالحكومة الدستورية هي خيار الأمة في مقابل الاستبداد والنظام الشمولي، من باب دفع الأفسد بالفاسد، على اعتبار أن النظام الملكي الدستوري هو أهون الشرين، وليس باعتباره الخيار المثالي للأمة. ومن أبرز مؤشرات هذه الحقيقة، أن الكتاب لم يكتب بالعربية، بل بالفارسية، مما يعني محدودية تداوله وأغراضه، في حين أن البحوث الفقهية الأخرى للشيخ النائيني كلها كتبها – كغيره من الفقهاء – بالعربية، كما احتوى الكتاب على مضامين وتحليلات تدخل في إطار الفلسفة السياسية والرؤى السياسية التحليلية، وربما تكفي مطالعة الفصل الخامس من الكتاب، الذي احتوى على كثير من المصطلحات القانونية والسياسية المتداولة، للوقوف على ذلك. ثم إن الشيخ النائيني سحب – في السنوات اللاحقة – جميع نسخ الكتاب من الأسواق والمكتبات، وحرّم إعادة طبعه. وبشكل عام، فقد نجحت رؤية الشيخ النائيني هذه نسبياً في تحديد سلطات الشاه، وتأسيس مجلس للشورى، منتخب من قبل الأمة، ويضم عدداً من الفقهاء الذين يشرفون على تشريعاته.

أما الحدث المهم الآخر الذي أعقب الثورة المشروطة فهو ثورة العشرين في العراق، التي فجّرتها فتاوى الفقهاء الشيعة، وفي مقدمتهم الشيخ محمد تقي الشيرازي(30) (ت 1920م) الذي قاد الثورة، ومعه معظم فقهاء العراق، وبادر إلى تأسيس إدارات محلية في المناطق المحررة تتبع سلطته، ويمكن القول بأنها كانت حكومة إسلامية ثورية يقودها الفقيه، وتعمل بأحكام الشريعة، وهي خطوة عملية رائدة في حينها، تأسست على الآراء الفقهية للشيخ الشيرازي وغيره من الفقهاء.

وفي أعقاب هذين الحدثين، اللذين كان محفّزين لظهور العديد من البحوث في مجال الفقه السياسي الإسلامي – كما ذكرنا – لم تشهد الساحة العلمية بحوثاً مهمة، باستثناء بعض الكتابات والآراء السياسية المحدودة لعدد من فقهاء مدرسة الإمامة، كالسيد محسن الأمين في سوريا، والسيد حسن المدرس والسيد أبي القاسم الكاشاني في إيران، والسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ محمد مهدي الخالصي والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد محسن الحكيم في العراق. بيد أن عقود الخمسينات والستينات والسبعينات شهدت منعطفاً جديداً آخر في مسار الفقه السياسي الإمامي، بسبب انتشار فكر الحركات الإسلامية الشيعية في إيران والعراق، والتي كانت تدعو إلى تأسيس الدولة الإسلامية. وتميّز هذا الفكر بالجمع بين الفقه السياسي والفقه الحركي، وهي ظاهرة لم تكن معروفة في الوسط الفقهي والفكري الشيعي. ولعل من أهم بحوث عقد الخمسينات التي حملت هذه السمة بحث «وجوب إقامة الدولة الإسلامية» للسيد الشهيد محمد باقر الصدر(31) (ت 1980م).

وبعد هذه المسيرة العلمية التاريخية الطويلة التي قطعتها مدرسة الإمامة، استقر فقهها السياسي على شكلين من الحكم الإسلامي:

الأول: الشكل الأصلي، وهو الذي يختص بالإمام المعصوم(ع) المنصوص عليه، وهو الأساس الثابت.

الثاني: الشكل الفرعي، أو الملحق المتفرع من الشكل الأصلي، وتطبيقاته مؤقتة، وتقتصر على عصر غيبة الإمام المهدي(ع)، ويقف على رأسه نائب الإمام (الفقيه العادل الجامع للشروط). وهناك عدة اتجاهات فقهية في هذا المجال (سنتعرض إلى بيانها لاحقاً).

ولا يختلف الشكلان في مساحة الحكم والصلاحيات التنفيذية – كما يذهب القائلون بولاية الفقيه العامة – فللفقيه الحاكم ما للإمام المعصوم من شؤون ولاية المسلمين؛ باعتباره نائباً ووكيلاً عنه في غيبته، دون المساس بمنزلة الإمام المعصوم وخصائصه التي يتفرّد بها.

أطروحة «الحكومة الإسلامية»

شكّل ظهور الآراء الفقهية للإمام روح الله الموسوي الخميني(32) (ت 1989م)، في عقد الستينات، البداية الحقيقية للنهضة المنهجية في الفقه السياسي لمدرسة الإمامة، فكانت المرة الأولى في تاريخ مدرسة الإمامة التي يؤسس فيها أحد الفقهاء لأطروحة فقهية متكاملة في «الحكومة الإٍسلامية»، ويدعو الفقهاء – صراحة – إلى تطبيقها، وينتقد من خلالها الاتجاه السائد – آنذاك – في الحوزات العلمية الدينية، والذي يركز جهوده على المزيد من البحث الفقهي في مجال العبادات وغيرها من الأبواب التقليدية في الفقه، ولا يولي اهتماماً كافياً بموضوعات الفقه السياسي وشؤون المسلمين العامة. ورأى الإمام الخميني أن تأسيس الفقهاء للحكومة الإسلامية وقيادتهم لها ليس خياراً إلى جانب الخيارات الأخرى، بل هو واجب، ليتمكن الإسلام – من خلالها – من أداء رسالته، كما أراد الله سبحانه وتعالى.

اعتمد الإمام الخميني خلال مرحلة التدريس في النجف الأشرف كتاب «المكاسب» للشيخ الأنصاري؛ ليكون محور دروسه الفقهية التي يلقيها على طلبة البحث الخارج (الدراسات العليا)، وكان من أهدافه التركيز على قضايا الفقه السياسي وفقاً لمنهجية الشيخ الأنصاري. وبذلك جُمعت أهم آرائه ونظرياته – في الفقه السياسي – في شروحاته وتعليقاته على المكاسب، ولا سيما في قسم المكاسب المحرمة وقسم البيع. ففي المكاسب المحرمة طرح موضوعات «معونة الظالم» و«حرمة الولاية من قبل الجائر» و«جوائز السلطان» و«الخراج ومقاسمة السلطان الجائر» و«أداء الزكاة إلى السلطان الجائر»(33)، كما طرح في قسم البيع موضوع «ولاية الفقيه»(34)، الذي نشر في ما بعد بحثاً مستقلاً تحت عنوان «الحكومة الإسلامية» أو «ولاية الفقيه»(35)، وهو خلاصة أطروحته في الدولة الإسلامية، التي انعطف فيها الفقه السياسي لمدرسة الإمامة انعطافة تاريخية، وبلغ مرحلة البلوغ والنضج.

في أطروحته، عدّ الإمام الخميني «ولاية الفقيه» فكرة علمية واضحة لا تحتاج إلى برهان، بمعنى أنها بديهية لمن يفهم عقائد الإسلام وأحكامه فهماً حقيقياً(36). بيد أن اليهود والصليبيين شوهوا صورة الإسلام في أذهان الناس، لكي يبعدوا فكرة قدرة الإسلام على تنظيم شؤون الحياة والمجتمع وتأسيس الحكومة(37). ويؤكد الإمام الخميني تناقض الإسلام مع الفقه السلطاني والنظام الملكي والحكم الوراثي؛ لأنها صور مقتبسة من الآخرين وهدفها استعباد الناس(38)، في حين أن كمال الإسلام يجعله نظاماً يستوعب كل مجالات حياة الإنسان… تخطيطاً وتشريعاً وتحكيماً وتنفيذاً، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الحكومة التي هي جزء لا يتجزأ من الإيمان بالولاية (ولاية النبي والأئمة المعصومين)، والسعي من أجل ذلك، هو مظهر من مظاهر ذلك الإيمان(39).

ويلخص الإمام الخميني أدلة ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية بما يلي:

1 – ضرورة المؤسسات التنفيذية، التي من شأنها إخراج التشريعات الإسلامية إلى حيز التطبيق، والحكومة الإسلامية هي التي تنفذ قوانين الشريعة الإسلامية، لهذا قرر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع، فجعل للأمر ولياً للتنفيذ، وهو ما تدل عليه سيرة النبي(ص)(40).

2 – ضرورة استمرار تنفيذ الأحكام، إذ لا تختص أحكام الإسلام بزمان الرسول(ص)، بل إنها خالدة، ولا بد من الاستمرار في العمل بها، فلا يجوز تعطيل الحدود والقضاء، وإهمال جباية الأموال الشرعية، وترك الدفاع عن الأمة الإسلامية وأراضيها(41).

3 – حقيقة قوانين الإسلام، فهذه القوانين شرعت لتكوين دولة، فيها إدارة وفيها اقتصاد وفيها ثقافة، وكل ما من شأنه إيجاد نظام اجتماعي متكامل يسد احتياجات الإنسان(42). والحكومة هي الكفيلة بإقامة ذلك، فمثلاً: الأحكام المالية تدل على أنها تهدف إلى تأسيس دولة، وكذلك أحكام الدفاع، وأحكام الحدود والديات والقصاص(43).

4 – ضرورة الثورة السياسية، التي تهدف إلى الحيلولة دون مسايرة أنظمة الشرك والانحراف والفساد والظلم، وتستبطن حرمة التعاون معها؛ لأنها حكومات غير شرعية. ومواجهة هذه الحكومات يستدعي إيجاد البديل الذي يكفل إجراء العدالة والقسط والصلاح والاستقامة(44).

5 – ضرورة الوحدة الإسلامية، فلا سبيل إلى توحيد الأمة الإسلامية، ولمّ شمل المسلمين والقضاء على مؤامرات الاستعمار إلا بالحكومة الإسلامية التي تكون محوراً لحركة الأمة ووحدتها(45).

6 – ضرورة إنقاذ المظلومين والمحرومين، فالشريعة الإسلامية تفرض على أتباعها العمل على إنقاذ المظلومين في كل مكان، وتخليصهم من براثن الظالمين والمستغلين، وهي رسالة الإسلام الأساسية(46).

ويدعّم الإمام الخميني هذه الضرورات بشواهد من سيرة الرسول(ص) والإمام(ع) ومجموعة من الأحاديث والروايات. وحين يصل إلى طبيعة النظام السياسي في الإسلام، فإنه يرفض كل الأشكال التاريخية والقائمة، حتى تلك التي تدَّعي الانتساب إلى الإسلام، إذ يقول إن «الحكومة الإسلامية لا تشبه الأشكال الحكومية المعروفة؛ فهي ليست حكومة مطلقة يستبد فيها رئيس الدولة برأيه، عابثاً بأموال الناس ورقابهم، فالرسول(ص)، وأمير المؤمنين(ع) وسائر الأئمة(ع) ما كانوا يملكون العبث بأموال الناس ولا برقابهم، فحكومة الإسلام ليست مطلقة، وإنما هي دستورية، ولكن ليس بالمعنى الدستوري المتعارف الذي يتمثل في النظام البرلماني أو المجالس الشعبية، وإنما هي دستورية بمعنى أن القائمين بالأمر يتقيدون بمجموعة الشروط والقواعد المبينة في القرآن والسنة، والتي تتمثل في وجوب مراعاة النظام وتطبيق أحكام الإسلام وقوانينه. ومن هنا كانت الحكومة الإسلامية، هي حكومة القانون الإلهي. ويكمن الفرق بين الحكومة الإسلامية والحكومات الدستورية، الملكية منها والجمهورية، في أن ممثلي الشعب أو ممثلي الملك، هم الذين يقننون ويشرعون، في حين تنحصر سلطة التشريع بالله عزّ وجل في الحكومة الإسلامية، وليس لأحد أياً كان أن يشرّع، وليس لأحد أن يحكم بما لم ينزل الله به من سلطان… وكل ما ورد في الكتاب والسنة مقبول. في حين أن الحكومات الدستورية، الملكية أو الجمهورية، إذا شرعت الأكثرية فيها شيئاً، فإن الحكومة بعد ذلك تعمل على أن تحمل الناس على الطاعة والامتثال بالقوة إذا لزم الأمر(47).

ثم يذكر شروط الحاكم الإسلامي (رئيس الدولة الإسلامية)، كالعقل والبلوغ وحسن التدبير، ويركز على الشرطين الأكثر أهمية، وهما: العلم بالقانون الإسلامي والعدالة، وقصد بالقانون الإسلامي الفقه؛ على اعتبار أن الحكومة الإسلامية هي حكومة الشريعة وتجسيدها العملي، فلا بد أن يكون رئيسها عالماً بالشريعة حسب ما يقتضيه العقل السليم. أما جانب العدالة، فلا بد لمراعاته أن يتحلى الحاكم بأقصى حد من كمال العقيدة وحسن الأخلاق مع العدل والنزاهة، وهو مقتضى من يتصدى لإقامة الحدود وإحقاق الحقوق والتصرف في أموال الأمة(48). وحسب مدرسة الإمامة، فإن الإمام المعصوم هو أفضل من يمتلك هاتين الصفتين، بصرف النظر عن أصل النص عليه. أما في عصر الغيبة، فلا يوجد نص على شخص معين بالاسم، فلزم البحث عمن تتوافر فيه تلك الخصائص. إذا استثنينا العدالة التي يمكن أن تتوافر في كثير من المؤمنين، فإن العلم بالشريعة منحصر بالفقهاء. وعند هذه النقطة يصل الإمام الخميني إلى موضوع ولاية الفقيه، فيقول: «إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يليه الرسول(ص)، وأمير المؤمنين(ع)، على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة»(49). وموضوع حديث الإمام الخميني هنا هو مساحة الولاية والحكومة أو الوظيفة العملية، أي مجالات الحياة التي تشملها سلطة الحاكم الشرعي، وليس منصب النبوة أو الإمامة، فهذان المنصبان خاصان، وفيهما شؤون لا يمكن لأي إنسان امتلاكها.

ويؤكد الإمام الخميني حقيقة أن الدولة الإسلامية، هي وسيلة لتحقيق الأهداف السامية للإسلام، وليست هدفاً أو غاية بذاتها، ويتلخص الهدف في تطبيق شريعة الله تعالى، وتحقيق العدل في الأرض، وكفالة سعادة البشرية، وتعبيد الطريق لهم للوصول إلى الآخرة. وحكومة بهذا المستوى لا بد أن يكون حاكمها على مستوى خاص من الصفات والخصال. من هنا يدعو الإمام الخميني الفقهاء العدول إلى أن يغتنموا الفرص ويعملوا على تشكيل حكومة رشيدة يراد بها تنفيذ أمر الله، وإن كان يحمّلهم جهوداً ومساعي غير يسيرة، ولا يقبل عذراً في ذلك؛ لأن تولي الفقيه لأمور الناس بالقدر المستطاع يمثل – بذاته – انصياعاً لأمر الله تعالى وأداءً للوظيفة الشرعية الواجبة(50).

ويستعرض الإمام الخميني عدداً من أهم الأحاديث والروايات التي تستفاد منها الدلالة على ولاية الفقيه، كأحاديث الرسول الأعظم(ص): «اللهم ارحم خلفائي.. الذين يأتون من بعدي، يروون حديثي وسنتي، فيعلّمونها الناس»(51)، و«الفقهاء أمناء الرسل»(52)، و«العلماء ورثة الأنبياء»(53)، و«العلماء حكام على الناس»(54)، وحديث الإمام موسى الكاظم(ع): «الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها…»(55) وحديث الإمام الصادق(ع): «من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا.. فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً»(56).

ثم يدعو الإمام الخميني علماء الإسلام إلى العمل الجاد والجهاد من أجل إقامة الدولة الإسلامية، ويعدد السبل التي من شأنها تحقيق هذا الهدف، وفي مقدمتها: إصلاح المراكز الدينية، والحوزات العلمية، وتطهيرها من الأفكار الجامدة والمشوهة، ومقاطعة فقهاء السلاطين، وتوعية الأمة، وإزالة آثار الغزو الاستعماري في مجالي الفكر والأخلاق، وعدم مهادنة الحكومات الجائرة(57).

وتتضح من ثنايا هذا البحث طبيعة التحول الذي أوجده الإمام الخميني في مجال الفقه السياسي الإسلامي، بعد أن أعاد النظر في مفهوم انتظار المهدي(ع) في عصر الغيبة، وفتح الباب على مصراعيه لتجاوز فكرة اختصاص تأسيس الدولة وإدارتها بالإمام المعصوم(ع)، هذه الفكرة التي ظلت إحدى العقبات النظرية الرئيسة في طريق إقامة الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وفقاً لمدرسة أهل البيت(ع)، كما حالت دون تدخل كثير من الفقهاء في رعاية الشأن السياسي، بعد أن حددوا ولاية الفقيه في الفتوى والقضاء والمال الشرعي.

ويعتقد كثير من الباحثين السنة، أن أطروحة الإمام الخميني فتحت باب التقريب بين الشيعة والسنة، وتحديداً في مجال تأسيس ولاية الحكم – في عصر الغيبة – على مبدإ البيعة، وعدم حصرها في شكل واحد، وهو المبني على النص، والخاص بأئمة أهل البيت، هذا الحصر الذي أدى إلى تعطيل مساعي إقامة الحكم الإسلامي – في عصر الغيبة – وعمّق الهوة بين السنة والشيعة، كما فتحت الأطروحة الباب أمام علماء الإسلام الشيعة ليؤسسوا الحكومة الإسلامية على أساس الشورى(58). ولسنا هنا بصدد مناقشة وجهة النظر هذه، ولكن مما لا شك فيه أن الحقائق التي أفرزها واقع التطبيق قد أكّدت إمكانية التقاء النظريتين الفقهيتين المؤصلتين السنية والشيعية في إطار مبدأ «ولاية الفقيه»، وإن اختلفتا في بعض المنطلقات والتفاصيل، ولكن النتائج لدى النظريتين تبقى متقاربة إلى حد كبير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الإحالات

(1) رغم أن السيد جمال الدين (الأسد آبادي) الأفغاني كان شيعياً إلا أنه كان ذا تأثير في معظم التيارات السياسية الإسلامية التي تأسست بعد وفاته. والعروة الوثقى، في الأصل، صحيفة سياسية إسلامية، كان قد أصدرها في باريس، ثم جمعت في مجلد واحد.

(2) الكتاب كان في الأصل رسالة دكتوراه قدمها السنهوري بالفرنسية لجامعة ليون بفرنسا عام 1924 وترجمته التي قام بها الدكتور توفيق محمد الشاوي والدكتورة نادية السنهوري صدرت عام 1989م.

(3) كان صدور هذا الكتاب – الذي نفى أي وجود للدولة في الإسلام – دافعاً للكثيرين من المفكرين والباحثين الإسلاميين للخوض في موضوع الفقه السياسي والنظام السياسي للدولة الإسلامية.

(4) أورد نصر محمد عارف قائمة بمجموعة مهمة من هذه المؤلفات في كتابه «من التراث السياسي الإسلامي» ص59 – 74.

(5) المعروف بالمحقق الكركي، وهو من جبل عامل في لبنان، كبير فقهاء الشيعة، وشيخ الإسلام في الدولة الصفوية.

(6) فقيه كبير من جبل عامل بلبنان، شيخ الإسلام في الدولة الصفوية.

(7) المعروف بالشهيد الأول، المرجع الديني الأعلى للشيعة، ولد في لبنان واستشهد في دمشق.

(8) د. الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي، ص401.

(9) محمد عبد الكريم، النظرية السياسية المعاصرة للشيعة، ص102.

(10) الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي، ص401.

(11) انظر: المصدر السابق، ص402.

(12) المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، ولد وتوفي في العراق.

(13) الوثيقة منشورة في كتابه كشف الغطاء، باب الجهاد. انظر: الفضلي، مصدر سابق، ص456.

(14) أحد كبار الفقهاء في النجف الأشرف، ولد في إيران وعاش وتوفي في العراق.

(15) انظر: النراقي، عوائد الأيام، مبحث ولاية الحاكم.

(16) انظر: الشيخ عميد الزنجاني، فقه سياسي، ج2 ص57 – 58.

(17) المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، ولد وتوفي في العراق.

(18) يعد كتاب «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام» أكبر موسوعة فقهية استدلالية وأهمها في مدرسة الإمامة.

(19) المصدر السابق نفسه، كتاب الجهاد، ج21، وكتاب المتاجر، ج22.

(20) للمزيد انظر: الزنجاني، فقه سياسي، مصدر سابق، ج2، ص60 – 61.

(21) المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، أحد أبرز المجددين في القرون الأخيرة، ويلقب بالشيخ الأعظم، ولد في إيران وعاش وتوفي في العراق.

(22) يعد كتاب «المكاسب» من أهم الكتب الفقهية الاستدلالية لمدرسة الإمامة خلال القرون الأخيرة، ولا يزال الأكثر هيمنة على الأجواء العلمية الشيعية.

(23) انظر: الشيخ الأنصاري، المكاسب، كتاب البيع، ج9 ص305 – 374.

(24) أحد كبار الفقهاء في النجف الأشرف، ولد وتوفي في العراق.

(25) أحد كبار الفقهاء في إيران، كانت آراؤه الفقهية التي دعا فيها للمشروعة، أي الدولة الإسلامية الشرعية، في مقابل المشروطة، أي الملكية الدستورية، السبب في إعدامه بضغط من العناصر العلمانية التي اخترقت ثورة المشروطة.

(26) حمل الكتاب حين صدوره باللغة الفارسية في إيران والعراق عام 1909م عنوان: «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة في لزوم مشروطية الدولة المنتخبة لتقليل الظلم على أفراد الأمة»، ثم نشرت مجلة العرفان اللبنانية نص ترجمته العربية في عامي 1930 – 1931م.

(27) المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، ولد في إيران وعاش وتوفي في العراق.

(28) المعروف بالآخوند، المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، ولد في إيران وعاش وتوفي في العراق.

(29) أحد مراجع الدين في إيران، ولد وتوفي في إيران.

(30) المرجع الديني الأعلى للشيعة، ولد في إيران، وعاش وتوفي في العراق.

(31) أحد كبار المفكرين ومراجع الدين المجددين في النجف الأشرف، شكّلت بحوثه في مختلف المجالات منعطفات تاريخية على الصعيدين العلمي والفكري لمدرسة الإمامة، ولد وتوفي في العراق.

(32) المرجع الديني الأعلى ومؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية. بعد بروزه قائداً لجهاد الشعب الإيراني، ثم نفيه إلى العراق، أخذ يعلن عن آرائه الفقهية في النجف الأشرف من خلال دروسه، التي أثمرت عن تأسيس دولة إسلامية قائمة على مدرسة الإمامة. ولد وتوفي في إيران.

(33) انظر: الإمام الخميني، المكاسب المحرمة، ج2.

(34) انظر: الإمام الخميني، البيع، ج1.

(35) نشر – بعد مراجعته – في أواخر عام 1970 في النجف الأشرف ثم بيروت، وهو نص البحوث التي ألقاها الإمام الخميني خلال 24 درساً على طلبته في النجف الأشرف في الفترة من 21 كانون الثاني – 10 شباط 1970.

(36) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص7.

(37) المصدر نفسه، ص8.

(38) المصدر نفسه، ص12.

(39) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص19.

(40) المصدر نفسه، ص23 – 25.

(41) المصدر نفسه، 25 – 26.

(42) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص26 – 27.

(43) المصدر نفسه، ص29 – 33.

(44) المصدر نفسه، ص33 – 34.

(45) المصدر نفسه، ص35.

(46) المصدر نفسه، ص36 – 37.

(47) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص41 – 42.

(48) المصدر نفسه، ص45 – 47.

(49) المصدر نفسه، ص49.

(50) المصدر نفسه، ص54.

(51) رواه الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي، الحديث 50.

(52) رواه الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج1 ص58.

(53) المصدر نفسه، ج1 ص42.

(54) رواه الشيخ عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، الحديث 599.

(55) رواه الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج1، ص47.

(56) وهي المشهورة بمقبولة عمر بن حنظلة، رواها الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج1 ص56، وتعد أهم أدلة ولاية الفقيه على الحكم، وعدّها بعض المحققين المعاصرين رواية صحيحة. انظر: السيد جعفر مرتضى العاملي، ولاية الفقيه في صحيحة عمر بن حنظلة وغيرها، مجلة التوحيد (ق1)، العدد الرابع، رمضان 1403هـ، ص66.

(57) الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص119 – 145.

(58) انظر: د. توفيق محمد الشاوي، فقه الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة، ص19، و306.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment