التجديد في الفكر الإسلامي بين الثابت والمتغير

Last Updated: 2024/05/30By

التجديد في الفكر الإسلامي بين الثابت والمتغير

د. علي المؤمن

دعوات التجديد في الفكر الإسلامي

لاتزال دعوات التجديد في الفكر الإسلامي، أو الإحياء والتجديد الديني؛ تتزايد بمرور الزمن، وعلى الرغم من أن هذه الدعوات تتّفق على أصل التجديد، إلا أنها تختلف في الكثير من التفاصيل، بل لعل بعضها يختلف حتى في وعيه لمفهوم التجديد، الأمر الذي يجعل حقائق التجديد نسبية في معظم خطوطها. ولكن هناك قواسم مشتركة للنظرة إلى المفهوم، مستقاة من النصوص الإسلامية المقدسة (الأصول)؛ وهو ما يجعلها تمثّل الفهم الأكثر قرباً من حقائق التجديد في الإسلام.

إن تفعيل حركة العقل، في البناء الفكري، يؤدّي إما إلى الإبداع والتجديد أو إلى إعادة الإنتاج والتقليد. ويمثّل التجديد – من جانبه – إما إنحرافاً بنسبة معينة، أو استقامة على الأصول، أي تجديداً أصيلاً. كما أن التجديد يكون حيناً بمستوى الفهم المتعارف لعصره، وحيناً آخر بمستوى يتجاوز الواقع إلى حد ما، مما يجعله بحاجة إلى جهود مضاعفة ليكون في حدود المقبولية.

وليس الهدف من المقاربات هنا حول الثابت والمتغيّر ودعوات التجديد، تحديد المتغير أو المتجدد، ومفرداتهما ومصاديقهما، بل الهدف دراسة الإشكاليات التي تثار حول الموضوع؛ تمهيداً لتقديم فهم موضوعي لها. والحديث عن حقائق التجديد ودواعيه ومرجعيته ومناطاته، يتعيّن أن يسبقه بيان المراد من مفهوم التجديد. ومقدمة ذلك ترتبط بوعي هذا المفهوم أو منهج الفهم، فهو ليس وعياً مجرداً أو منفصلاً عن حقائق الدين نفسها؛ بل وعي ديني يرتبط بالأصول الشرعية الثابتة، باعتباره إطاراً لقضية دينية.

والتجديد الفكري في الإسلام ليس نسخاً لفكر قائم، أو تأسيساً لفكر جديد، أو إحياءً لفكر قديم، بل هو عملية تفاعل حيوي داخل منظومة عقدية فكرية فقهية قائمة، لإعادة اكتشافه وتطويره، وفقاً للفهم الزمني الذي يعي حاجات العصر، أي أنه لا ينطلق من فراغ، بل له قواعده ومنهجه ومرجعيته وثوابته. وفي النتيحة، يكون التجديد خطاباً نهضويّاً، يستهدف البنية الفكرية، لتلبي جميع حاجات الإنسان المعاصر. وبكلمة أخرى، فإن التجديد يهدف – في كل زمان – إلى صياغة المشروع الإسلامي الحضاري العصري الذي يشتمل على عملية استيعاب جميع متطلبات الحياة. أي أنه معلول الحاجات العملية، وليس حركة نظرية مجرّدة ومنفصلة عن الواقع.

ولا يهدف التجديد في الفكر الإسلامي إلى الانسجام أو التوافق مع الفكر الآخر، ولا إلى درء شبهات التحجر والجمود، أو اختراع نظريات جديدة، تفصّل الشريعة على مقاس العصر؛ لكي تلاحق تطورات الزمن ولا تكون متخلّفة عنه؛ لأن الشريعة هي المقياس وليس متطلبات العصر، وهذه الأخيرة تعبّر عن طبيعة الحاجات. ويأتي دور المفكّر والفقيه خلال عملية التجديد، لإعادة الاكتشاف والاستنباط من جديد لسد تلك الحاجات. فالتضحية بالشريعة من أجل إرضاء الإنسان الجديد، أو التكيّف مع الأفكار الجديدة (وافدة أو محلية)، أو توظيف النص والتراث لخدمة الواقع. أي أن إخضاع النظرية للتطبيق، هي موازنات لا تتوافق مع ثوابت الدين وخصائص الديمومة فيه. أما صياغة الفكر الإسلامي في إطار خطاب جديد – ليكون معبّراً عن المشروع الإسلامي المعاصر – فإنه سيحول دون اضطرار الإنسان المسلم إلى التشبث بالأفكار والإيديولوجيات الوضعية التي تسعى لإعطاء تصور كوني عصري أو فهم عصري للحياة؛ متحرر من أية ضوابط إلهية.

ولاشك؛ إن التجديد الحقيقي المنتج هو التجديد الشامل أو مايمكن توصيفة بالمنظومي الشمولي، وليس التجديد الأحادي الذي يقتصر على الشريعة فقهاً وعقيدة، وقبلهما الموروث الروائي الذي تستند اليه القواعد والتشريعات والأحكام، أي أن  التجديد في الفكر الإسلامي وفي الخطاب الإسلامي هو تجديد شامل لايقتصر على الاستنطاق الجديد للقرآن والاكتشاف الجديد فيه، ولايقتصر على تنقية السنة والحديث وتنقية الموروث المعرفي الكلامي والفقهي والتفسيري واكتشاف الأدوات الجديدة في فهم الدين، بل ينبغي أن يستوعب كل الموروث المرتبط بالدين بشكل وآخر، والذي يدخل في دائرة المتغيرات، بما في ذلك الموروث التاريخي، أي السيرة النبوية وسيرة أئمة آل البيت، وكذا سيرة الصحابة والتابعين والرواة والمحدثين، أو ما يدرسه علم الرجال والتراجم، لأن تدوين السيرة النبوية خصوصاً، وسيرة أئمة أل البيت والصحابة والتاريخ الإسلامي عموماً؛ انتج معرفة دينية وفقهاً وسنةً وكلاماً وتفسيراً. وكذا الأمر بالنسبة للموروث الأصولي والفكري والفلسفي واللغوي والأدبي.

وبالتالي؛ فإن التجديد منظومة واحدة، لاتنفصل جوانبها ومكوناتها ومخرجاتها، وتستوعب كل المعرفة الدينية الخاصة، والمعارف العامة ذات الصلة بالمعرفة الدينية، والعلوم الآلية التي أنتجت المعرفة الدينية. وهو ما يعني أن التجديد الشامل لن يتمكن منه الفقيه أو المتكلم أو المؤرخ أو المفسر أو الفيلسوف أو الرجالي أو المحدث، بل هي مهمة تشاركية تعاضدية مؤسسية، تبدأ موضوعياً وشكلياً بالتزامن، من مقدمات كل الحقول وتنتهي بكل مخرجاتها، لأن هذا العمل يحتاج الى تكامل أفقي وعمودي، أي بين التخصص العمودي العميق المنتج في كل الحقول والمعارف والعلوم المذكورة، وبين تشعب هذه الحقول أفقياً واتساعها، وكلاهما فوق طاقة أي شخص، مهما بلغ من العبقرية والعمر.

دوافع التجديد في الفكر الإسلامي

في ظل التطور السريع والشامل لجميع جوانب الحياة، وظهور التيارات التي تنسب نفسها إلى حركة التجديد في الفكر الإسلامي، ولكنها تعالجه بأدوات فيها الكثير من الإفراط، تبعاً لنظرتها لموضوع التطور، فضلاً عن التفاعل مع الحضارات الأخرى والاحتكاك الفكري بها، واللذين لا يمكن للواقع الإسلامي أن يكون بمنأى عنهما، وما تشهده المجتمعات المسلمة من انفتاح عشوائي على ألوان الفكر والثقافات، وحرية منفلتة في التعبير عن الرأي؛ تصل الى مستوى التجاهر بالدعوة الى الإلحاد في مجتمعات مسلمة محافظة من جهة، أو الدعوة الى التطرف الديني والطائفي والخرافة في مجتمع معتدل وتعددي من جهة أخرى؛ فإن تجديد الفهم الديني الى مستوى الاستجابة للحاجات الجديدة والواقع الضاغط وتحدياته، والحيلولة دون تأثيرها سلباً على الواقع الإسلامي؛ يعد مطلباً أساسياً يقع على عاتق الفقهاء والمفكرين الإسلاميين وأصحاب الاختصاص في الحوزات العلمية والحركات الاسلامية والجامعات والمؤسسات البحثية؛ ليكون الفهم الديني الجديد أصيلاً وعصرياً وعلمياً وإقناعياً، وجاذباً للنخب والجمهور.

وبخلاف ذلك، فإن عجلة التطور المرعبة وقسوة الاحتكاك، ستجعلان الفكر الإسلامي في أزمة حقيقية، وستتجاوزان الواقع الإسلامي وتحجُرانه في زاوية العجز والعزلة، وهو أمر يتقاطع مع قوة الشريعة ومرونتها، وقابليتها الهائلة على استيعاب عمليات التطوّر والاحتكاك، كما أن حالة الانفلات في شقيها: المتباعد عن الدين، والمبتدع فيه؛ يشكل خطراً على النسيج الإيماني الاجتماعي والوحدة المجتمعية، ولن يكون الشد العاطفي ضامناً وقادراً على الصمود الى الأبد في تأمين الواقع الايماني؛ بل أن تراجع الحراك الفكري التجديدي والاصلاحي يتناسب طردياً مع تنشيط حراك التخلف الفكري والتجهيل.

إن سنّة الله في الخلق، والنصوص الإسلامية المقدسة، تؤكّدان عملية التجديد والترشيد في الفكر الديني، سواء كان ذلك التجديد إلهياً يشتمل على بعض أسس التفكير الديني ومعظم تفاصيله، كما في التعاقب التكاملي للرسالات السماوية، وهو ما ينسجم مع مراحل تطور البشرية ورشدها، أم كان بشرياً، يقتصر على المساحات المتحركة في الفكر الديني لرسالة خاتم الأنبياء(ص). أضفْ إلى ذلك أن الإسلام يحمل في ذاته كوامن التجديد ودواعيه ودوافعه. فتأكيد الرسالة الإسلامية – مثلاً – على أن «العلماء ورثة الأنبياء»(1)، وأن الاجتهاد والاستنباط مختصان بهم، باعتبارهم العدول الذين ينفون عن الإسلام «تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»(2)، يعدّ واحداً من المؤشرات على دعوة الإسلام لتجديد الفكر الديني وإحيائه. يقول الرسول الأعظم(ص): «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»(3). وهذا يعني أن التجديد سنة إلهية، يمارس وفقها علماء الكلام والفقهاء والمفكرون المسلمون، مسؤولياتهم على المستويين النظري والعملي؛ لمواجهة التحديات الحضارية والمعرفية والفكرية التي تهدد الواقع الإسلامي، ومن ثم الانطلاق بالحضارة الإسلامية كبديل عقدي واقعي؛ لإنقاذ البشرية من معاناتها النفسية والفكرية والسلوكية.

وتتطلب هذه الممارسة عقلاً إبداعياً (متحرراً) من الجمود والتقليد، و(منفتحاً) على العالم وتطوراته الزمانية والمكانية، ومن شأنه تحريك الفكر الإسلامي، وإعادة بنائه، وتنقيته من بعض الموروثات المفهومية والمنهجية والبحثية، التي تتقاطع مع الفهم الحقيقي للإسلام، وتنمية دوائره وتوسيعها لتشتمل على كل قضايا الإنسان المعاصر.

مرجعية التجديد في الفكر الإسلامي

على الرغم من أن العقل الذي يتطلبه التجديد، هو عقل مبتكِر (متحرر) من التقليد، إلا أنه ليس مطلقاً في حركته وحريته، بل إن له مرجعية متكاملة ومحددة. ومرجعية التجديد تتمثل في مصادره، وهي مصادر الفكر الإسلامي نفسها. وتتكوّن من ثلاثة أنواع:

  • الأصول المقدسة: القرآن الكريم والسنّة الشريفة (الصحيحة)، وهي أصول لا يمكن تجديدها أو الإجتهاد في مقابلها، أي أنها «سلطة مرجعية» عليا ثابتة.
  • أدوات فهم الأصول المقدسة وآلياته، كالعقل والإجماع وغيرهما.
  • التراث الكلامي والفكري والفقهي، وهو ما توصّل إليه الفقهاء والمتكلمون والمفكرون المسلمون من فهم للنصوص وللواقع، تمثّلَ بنظرياتهم وآرائهم في مختلف المجالات، ولا سيّما في المجالين العقيدي والفقهي، ولا يشكّل هذا التراث مرجعية قاهرة، بقدر ما هو مرجعية متحركة للتكامل.

ونوضح هنا باختصار مدخلية كل عنصر مرجعي في عملية الاستنباط والتجديد:

أ- الأصل الأول المطلق، القرآن الكريم، هو دستور الله الخالد الذي بيّن فيه كل شيء: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة))(4)، هو مصدر التشريع والمعرفة الإسلاميين ومقياس الاستقامة والانحراف، والمرجع عند التعارض والاختلاف في الأفكار التي تنسب إلى الإسلام. ويبقى التعامل مع النص القرآني لفهمه وإدراك معانيه، بحاجة إلى دقة وعمق في المنهج والتحليل والتفسير، وهو ما يتعذّر على غير المتخصصين. والمراد من التخصص هنا المعرفة المعمّقة بعلم اللغة وأصول الفقه وعلوم القرآن. والتي توضح قواعد الاستنباط، كدلالة الألفاظ والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، وغيرها. ويمكن القول إن التفسير الموضوعي في التعامل مع النص القرآني، هو الأكثر ثمرة لاستنباط النظريات والأفكار الجديدة، وبناء فكر قرآني يستوعب الحاجات المعاصرة للفرد والمجتمع والدولة.

ب- السنّة المطهرة، ونقصد بها الصحيح من سنة رسول الله والأئمة الإثني عشر (عند الشيعة الإمامية)، وسنة رسول الله والصحابة ( عند المذاهب السنية)، وهي الأصل الثابت الآخر للمعرفة الإسلامية، والوسيلة الأساسية لوعي القرآن الكريم وتفسيره. وربما احتاج التعامل مع السنة إلى تخصص أكبر، بسبب ما تعرضت له من وضع وتحريف؛ مما يتطلب استحداث علوم وقواعد أخرى الى جانب علوم القرآن، كعلم دراية الحديث وعلم الرجال وعلم الأصول وغيرها.

ت- العقل، وهو أحد أدوات المعرفة والتجديد، ويراد به الفعاليات العقلية التي قنّنها القرآن والسنّة وأقرّاها، وهي تساهم في بناء صرح الفكر الإسلامي واكتشاف عناصره. ويؤكد القرآن الكريم على هذه الفعاليات من خلال التأمل والتفكير والتعقّل: ((قل انظروا ماذا في السموات والأرض))(5)، ((كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تعقلون))(6). والعقل هنا يعمل على التكامل مع النص، وتحويله إلى نظرية وحكم. فالاجتهاد والاستنباط والاكتشاف في مجال النظريات والمفاهيم العقائدية والكلامية والفلسفية من جهة، والأحكام الشرعية ومختلف قضايا الفقه من جهة أخرى، هي من ثمار تعامل العقل مع النص، أي أن العقل هنا لا يمارس دور المشرّع إلى جانب النص، بل يقتصر دوره على الإدراك والكشف.

ث- التراث الفكري والفقهي الذي خلّفه الفقهاء والمفكرون المسلمون في إطار المدارس الكلامية والمذهبية المختلفة، طيلة القرون الماضية. هذا الإرث العظيم كمّاً وعطاءً، هو محصّلة جهود متواصلة وتراكم معرفي هائل، مما يجعله قاعدة ومنطلقاً للتجديد. وبالتالي فهو أهم محاور التجديد وساحته الطبيعية.

مميزات الفكر الإسلامي الباعثة على التجديد

يمكن القول بأن السمات والخصائص التي تميّز الفكر الإسلامي عن غيره، هي – في الوقت نفسه – الدوافع الذاتية لحركة التجديد فيه، ومن أبرزها:

  • المرجعية الثابتة: وهي مصدر الإنتاج والتجديد، وملاك انتسابها للإسلام: ((وأن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله))(7).
  • الوحدة: الفكر الإسلامي وحدة مترابطة، وكل لا يقبل التبعيض، وأجزاؤه يكمّل بعضها البعض الآخر؛ فالعقيدة غير منفصلة عن السياسة، والاقتصاد يتكامل مع حركة المجتمع، والعبادة مع الجهاد، والتزكية لصيقة بالعلم؛ الأمر الذي يفرض تحوّلاً في الفكر بأجمعه، بعد حصول أي تطور في بعض أجزائه.
  • الشمولية: أي سعته وفاعليته التي تجعله قادراً على استيعاب جميع نواحي الحياة، بما فيها النواحي التي تستجد بمرور الزمن.
  • الأصالة: وتشتمل على المصدر والمنهج والمضمون. وهذا الشكل المتكامل من الأصالة يضمن عدم حصول أي نوع من التوليف والتوفيق بين الفكر الإسلامي والمذاهب الفكرية الأخرى، في المقدمات والمقاربات والنتائج، ويحصّن الأفكار الإسلامية التجديدية من أي انحراف محتمل. ومن الناحية العملية، فإن أصالة الفكر الإسلامي ضمنت له بقاءه وسلامته منذ أقدم العهود، وخاصة التي بدأ فيها الفكر الآخر بدخول الفضاء الإسلامي من خلال الترجمة، كما حصل في حقلي الفلسفة والكلام. وهنا لابد من استثناء ما يمكن اعتباره نتاجاً عقلياً وأدوات فكرية مشتركة عامة لا تتعارض مع ثوابت الفكر الإسلامي، ويكون مفيداً ومنتجاً لعملية التجديد الإسلامي، من منطلق قوله تعالى: ((الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه))(8).
  • التوازن: يتعامل الفكر الإسلامي مع مختلف القضايا بصيغ متوازنة، سواء أكانت في الموضوعات أم في المناهج، كالتوازن بين العمق والوضوح، والدين والدنيا، والنظرية والتطبيق.

هذه الخصائص والسمات حفظت للفكر الإسلامي مكانته في الفكر الإنساني، وضمنت للدين الخاتم حاضره ومستقبله.

مساحات التجديد في الفكر الإسلامي

تحديد الثوابت والمتغيرات في الفكر الإسلامي، يهدف إلى التعرّف على المساحات القابلة للتجديد أو غير القابلة، وعلى الأصول المقدسة للإسلام، ونتاجات المسلمين الفكرية والفقهية.

وقد مرّ أن أصول الفكر الإسلامي المتمثلة بالقرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة، وهي سنّة الرسول (ص)، عند المذاهب السنية، مضافاً إليها سيرة الأئمة الاثني عشر (ع)، عند الإمامية، باعتبارها كاشفة عن السنة النبوية؛ هي أصول ثابتة بالمطلق وغير قابلة للتغيير، وهي المرجعية القوّامة المنصوص عليها، وبها تتمثل أسس الحلال والحرام، ومعايير التجديد والتحريف؛ لأنها الجانب الإلهي المعصوم والملزِم في الإسلام، وبكلمة أدق هي الإسلام بعينه.

وتنطلق العملية الاجتهادية، عقيدة وفقهاً، من القواعد الثابتة التي يؤسس لها القرآن الكريم والسنة الشريفة، وهي ما يسميه الإمام جعفر الصادق(ع) بالتفريع: «إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا» (9)، فالمراد منه فهم أصحاب الاختصاص من الفقهاء والأصوليين وعلماء الكلام والحديث والمفسرين، وليس الفهم العام. وهذا الفهم التخصصي ووعي الخبراء بالإسلام هو الجانب المتجدد، رغم أنه يتمتع بثبات وإلزام نسبيين. وقد أفرز الوعي بالأصول عبر الأزمان، من خلال مناهجه العلمية، كالاجتهاد، ما يمكن أن نطلق عليه العلوم والنظريات الإسلامية في مختلف مجالات حياة الإنسان واهتماماته، كالفقه والأخلاق والتأريخ والنظم وغيرها.

والعملية الاجتهادية وتجديد الوعي مستمران، ويستمد هذا الاستمرار خصوصيته من طبيعة الشرع الإسلامي المقدس، وقابليته على استيعاب متطلبات الزمان والمكان. والاجتهاد والوعي الموروثان المتمثلان بما أنتجه السلف الصالح هو «التراث». وتحديداً التراث الفقهي والكلامي والفكري. والتراث هو المساحة القابلة للتجديد، أو «المتغير» في الفكر الإسلامي الذي يراعي التحولات في المفاهيم العامة وتطوّر وعي المسلم والعقل المسلم، عبر الزمان والمكان. والمتغير الآخر اللصيق هو ما أغفله التراث من نظم ونظريات، أي الكشف الجديد. وبكلمة أخرى، فإن القابل للتغيير يقتصر على ثلاث مساحات:

  • القواعد والأحكام العقدية والفقهية المكتشفة سابقاً في القرآن والسنة الشريفة، والمختلف في فهمها وتفسيرها، وهو الاختلاف المرتبط بالموروث.
  • الأدوات والمعارف التي تساعد على الاكتشافات العقدية والفقهية الجديدة في القرآن والسنة الشريفة.
  • القواعد والأحكام والإجابات والمقاربات للوقائع والموضوعات الجديدة، بما فيها الموضوعات التي كانت لها أحكام سابقة، ثم تغيرت موضوعاتها، فتبعها تغيير في الحكم.

وهنا ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار قوانين التجديد والتغيير في مجالي الفقه والكلام، وأصول الاستنباط الفقهي المتعلقة بالمساحة الأولى، وخاصة «الإجماع» باعتبار حيثيته الكاشفة عن السنة. أي أن التغيير هنا ليس مطلقاً في حريته؛ فمن الثوابت في هذا المجال؛ أن يعتمد التغيير على أدوات لاتتعارض مع الأصول (المصادر المقدسة الملزِمة)؛ فإنه من غير الممكن أن يتم الاستنباط من الأصول أو قراءتها بمناهج وضعية تتعارض مع الثوابت الدينية أساساً؛ فتكون النتيجة – آنذاك – تطبيق ما يمكن تطبيقه من الشريعة، أو الاستفادة مما يمكن الاستفادة منه في عصرنا.

علاقة المتغير بالثابت في الفكر الإسلامي

المتغير في الفكر الإسلامي يُخضع الواقع الجديد للثابت، فلا ينسخ الثابت ولا ينسخ الوعي السابق به، بل إنه يجدد هذا الوعي، ليقتحم بالثابت تحولات الزمان والمكان بكل أبعادها، ويحتويها احتواءً حقيقياً، أي إنه يقوم هنا بمهمتي هدم وبناء:

  • تحطيم الجمود على وعي الثابت، وهو الجمود الذي يعطّل فاعلية الثابت ودوره، ويؤدي إلى قطع صلات الشريعة بالحياة. مع الالتفات إلى أن عملية الهدم لا تستهدف ذلك الوعي بنفسه، بل تستهدف الجمود عليه. فوعي الأسلاف كان تجديداً وتغييراً في زمانه، وهو مادة غزيرة للوعي القائم، لدراستها وتحليلها وتنظيمها.
  • تجديد الوعي بالعصر والمستقبل ومتطلباتهما؛ لإعادة ربط الحياة بالشريعة، وإنهاء عملية الاستلاب الحضاري.

ومن جانب آخر، سيعمل التغيير على تنقية ما طرأ على الفكر الإسلامي من شوائب وانحرافات في التصور والفهم، والعودة إلى الثوابت، لتصحيح الوعي بها – في هذه المجالات – والتمّسك بحبلها، والالتصاق بها لضمان الحاضر والمستقبل. وينبغي هنا التأكيد الى أن العودة إلى الثوابت (القرآن الكريم والسنّة الشريفة)، لا تعني العودة إلى الماضي، ولا تعني «السلفية» بمفهومها الاصطلاحي، فالثوابت ليست جزءاً من الماضي، أو جزءاً من التراث الإسلامي، بل هي أسس ثابتة لشكل الحياة الإسلامية في الماضي والحاضر والمستقبل. فالعودة هنا ليست عودة بالمنظور الزمني، بل بمنظور استئناف عملية الأخذ المتكامل من الثوابت. أما نزعة التمسك بالماضي والفهم الموروث (أو الماضوية حسب اصطلاح التغريب الحديث) والنزعة السلفية، فتعنيان التمسك بوعي الماضي وبوعي السلف للثابت وللأصول؛ الوعي بكل أشكاله وأبعاده، وليس التمسك بالأصول أو الثابت وحسب. وهذا النوع من الجمود على الوعي من شأنه فصل الثابت عن واقع البشرية.

ولعل من المناسب أن نذكر بأن مصطلح «السلفية» الذي ترجمه إلى الانجليزية أحد الكتّاب المصريين (10) في بداية الثمانينات إلى مصطلح «الأصولية» (Fundamentalism)، لا يرادف معنى الأصولية في الفكر الإسلامي، فإذا كان المراد من الأصولية العودة إلى الأصول، وهي القرآن الكريم والسنة الشريفة، كما يفهم المسلمون ذلك، فإن السلفية تعني العودة إلى هذه الأصول أيضاً، ولكن على أساس فهم السلف لها، وليس على أساس فهم متجدد.

والتجديد الذي يعبّر عن فهم جديد للأصول، ليس تجديداً للحاضر والمستقبل، ولا إلغاءً لفهم السلف الصالح، بل هو تجديد للحاضر فقط، في حين سيكون للمستقبل تجديده الذي يعيه أبناؤه، أما فهم السلف فهو تجديد وإبداع في الماضي، وهو نقطة الانطلاق لتجديد الحاضر؛ يبدأ من حيث انتهى الأسلاف، وتجديد المستقبل يبدأ من حيث انتهينا، فوعي المسلمين متصل ومتواصل ومتراكم. وهذا جزء من قانون «الوراثة الحضارية».

وعموماً فإن التجديد الذي يتضمّن هذا الشكل من التغيير، يساهم في إبقاء الثوابت مقدسة في وعي المسلمين، لأنه سيركّز القناعة بقدرة الثوابت على استيعاب العصر وتلبية حاجاته. في حين أن الإصرار على التزام وعي المفكرين والفقهاء السابقين، وهو وعي روعيت في معظمه حاجات العصر السابقة؛ سيسلخ تلك القداسة عن أذهان بعض المسلمين، على اعتبار أن الثوابت لم تقدم لهم إجابات وافية على تساؤلاتهم.

مناهج الفهم الأحادي للإسلام

هناك مناهج كثيرة تعبر عن فهم ناقص وغير تخصصي للإسلام، وقراءة أحادية مبتسرة لثواتبه، وهي تعبير عن مناهج الفهم الأحادي للإسلام، والتي يحاول بعضها أن يقدم قراءة تجديدية إصلاحية من داخل الإسلام كما يزعم، بينما يعترف بعض آخر بأن فهمه وقراءاته غير دينية أساساً، وأهمها: منهج الفهم المبتور للإسلام، منهج الفهم غير التخصصي، منهج الفهم الأكاديمي، منهج الفهم اللاهوتي، منهج الفهم الإسقاطي العلماني. ونلقي ــ فيما يلي ــ الضوء على كل واحد من المناهج الخمسة المذكورة:

1- منهج الفهم المبتور للإسلام:

يعمل منهج الفهم المبتور على تفكيك الإسلام وتجزئة عناصره العقدية والشرعية والروحية والأخلاقية، في حين أن الإسلام بوصفه ديناً إلهياً خاتماً، يمثل منظومة متكاملة لاتتجزء: غيبية، روحية، عبادية، اجتماعية، ثقافية، سياسية، اقتصادية؛ إذ لا يمكن أقتطاع جانب من الإسلام ونقول هذا هو الإسلام ولا غير. فنقتطع مثلا جانب العدالة الاجتماعية في الإسلام ليصبح الدين اشتراكياً، أو نأخذ الجانب المقاوم في الإسلام، أي رفض الظلم ومواجهة الطغيان، فيصبح الدين ثورة يسارية، أو نستل الجانب الروحي فيستحيل الإسلام تصوفاً وعرفاناً وفلسفة وحكمة وأخلاقاً، أو نركز فقط على الجانب العبادي فيكون الإسلام مجرد طقوس وشعائر وارتباط شخصي بين المخلوق وخالقه، أو نحصر الإسلام في الجانب السياسي فيصبح مجرد سلطة وحكم ودولة، أو نكتفي بالجانب الاخلاقي فيتحول الإسلام ضوابط لحسن التعامل بين البشر، أو نأخذ الشورى والمشورة واحترام الرأي الآخر فقط فيكون الإسلام هو الديمقراطية، أو نقول إن الإسلام هو عقود وإيقاعات فيصبح الإسلام مجرد قوانين أحوال شخصية.

لا شك أن الجوانب المذكورة كلها موجودة في الإسلام: العدالة الاجتماعية، العلاقة الروحية بالله، رفض الظلم، العبادات والشعائر والطقوس، المعاملات والعقود والإيقاعات، القوة والسلطة والدولة، الديمقراطية، الأخلاق، الإنسانية، الرحمة وغيرها. كل هذه تمثل عناصر مكونة للعقيدة والشريعة الإسلامية، لكنها مترابطة ترابطاً عضوياً ولاتتجزء، وأن إلغاء أي عنصر أو فصله، سيؤدي الى خلل في المنظومة برمتها.

بالتالي؛ فإن الإسلام وحدة واحدة، تكمل مكوناته بعضها الآخر.. كمكونات جسم الإنسان تماماً: الماء، الدم، الشبكة العصبية، الدورة الدموية، الجهاز الهضمي، الجهاز التنفسي، العظام، العضلات، القلب، الدماغ، وقبلها الروح المحركة لها جميعاً. فلكل عضو وظيفة، وأي خلل و عطل في عضو ما، أو إلغاء لوظيفة أحد الأعضاء، سيؤدي الى خلل شامل في جسم الإنسان. أي أن كمال خلقة الانسان هي انعكاس لكمال الدين؛ لأن خالقهما كامل، ولايصدر عن الكامل إلّا الكامل؛ لأن النقص يستحيل على الخالق، ويستحيل في خلقه، فكيف إذا كانت الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع؟؛ ما يعني أن الله (تعالى) أكمل دينه، ولم يتركه أعرجاً أو أعمى أو أصماً، أو ينقصه جانب من جوانب الحياة، ولا يستوعب كل شؤون وحاجات الإنسان ومنظومة عيشه.

والحديث هنا عن كمال الدين وليس كمال التدين، سواء تعلّق موضع التدين بالفرد أو الجماعة أو المجتمع أو نظم الدولة. وتفصيل ذلك في مقال آخر.

نعم، هناك موضوعات وحاجات مستحدثة ومستجدة، تظهر باستمرار بمرور الزمن، وبتطور المنظومة الحياتية، وأساليب العيش، وهي تمثل مساحات تفويض تشريعي أو تكييف كلامي وعقدي، يملأها الإنسان المتخصص من خلال الفهم العقدي المتجدد، الذي يعبر عنه بـ “علم الكلام الجديد”، أو النظريات والنظم الفقهية الموضوعية والأحكام الشرعية الجديدة من خلال “الإجتهاد الجديد”.

وبالتالي، لا يمكن أن نفصل الدين على مقاسات فهمنا وأهدافنا الخاصة وأمزجتنا وأهوائنا وأنماط حياتنا، بل أن غايات الدين وأهدافه ومقاصده تُعرف ـ حصراً ـ من الجهة التي أنزلت الدين وشرّعت أحكامه ((أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فماجزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب))(11). إذ يبين القرآن هنا أن نزعة تفكيك الدين وتجزئته ليست جديدة؛ بل هو منهج قديم عرفه أهل الكتاب قبل الإسلام، وجاء القرآن ليوبخهم لاتباعهم هذا المنهج التحريفي. وبعد البعثة النبوية أيضاً كانت هناك مقترحات على النبي محمد (ص) من زعماء قريش وبعض الملوك بهذا الخصوص، وتتلخص بتوزيع النظم والقدرة بين الإسلام وبينهم، أي تفكيك مقومات الإسلام ومخرجات شريعته، وإلغاء بعضها، والإبقاء على جزء منها لرسول الله، وفي الوقت نفسه الإبقاء على عبادة الأوثان وحضور الأصنام، وعلى سلطات زعماء قريش، وعلى النظام الإجتماعي الجاهلي نفسه، في مقابل الإعتراف بنبوة محمد وزعامته لقريش والسماح لاتباعه بالتعبد وفق تعاليم الإسلام.

وفي النتيجة؛ فإن المسلم مكلف بالإيمان والأخذ بكل ما في القرآن الموجود بين الدفتين، وليس انتقاء ما يحلو له وينسجم مع فهمه الخاص ونمط حياته ورغباته. أما المقولات والتوصيفات التي يفصّلها أصحاب الفهم المبتور على مقاساتهم ومزاجاتهم وأنماط حياتهم، مثل: الإسلام أخلاق وحسب، الإسلام معاملة فقط، الإسلام ليس إلّا قناة تربط الفرد بربه، الإسلام عبادات لا أكثر، الإسلام هو ثورة على الظلم، الإسلام عدالة إجتماعية، أو توصيفات مثل: أنسنة الدين، الإسلام السياسي، الإسلام العربي، الإسلام الشرق آسيوي؛ إنما هي مقولات وتوصيفات متهافتة لا تصمد أمام حقائق الإسلام وكمال أصوله.

2- منهج الفهم غير التخصصي للإسلام:

أشرنا الى أن فهم الدين لايتم وفق المزاج والميول والرغبات ونمط الحياة؛ بل يجب فهم الإسلام من خلال نصوص مصدره وقصد مصدره، ومصدر الإسلام ومنزِّله هو الله (تعالى)، أي أن فهم الإسلام محصور بقصد الله فقط، وهو المعيار حصراً، ولا مدخلية لقصد الإنسان وأهدافه وتمنياته وميوله استحساناته في ذلك. وينتج عن هذه الحقيقة أن معرفة قصد الله وقراءة شريعته، تحتاجان الى تخصص عميق في فهم قصد الشارع و نصه المقدس والصحيح من سنة نبيه وأهل بيته.

وتزداد أهمية التخصص كلما تراكمت المعرفة الدينية وازدادت الحاجة الى علوم وأدوات جديدة في الفهم الديني، وهو ما يتناسب طردياً مع الابتعاد عن عصر النص. وكما لايجوز الاستهانة بأي تخصص علمي إنساني، فلا يجوز الاستهانة بعلوم فهم الدين، فيأتي أي شخص؛ أيا كان عمله وتخصصه المعرفي ومستواه التعليمي، ويفسر القرآن والحديث، ويلغي وينفي ويثبت وينسخ مايعجبه من الآيات والأحاديث، ثم يغير الأحكام، ويجتهد، ويقدم نظريات وطروحات، دون أن يكون متخصصاً.

صحيح أن هناك قراءات وتفسيرات واجتهادات وأفهام بشرية، وهو حق كفله الله للانسان، ليجتهد ويؤول ويفسر؛ لكنها قراءات المتخصصين حصراً، لأن قراءة الدين (نصوصه وأدوات قراءاتها) عمل تخصصي عميق، ولا يمكن أن يخرج عن المنهج الديني ومقصد الدين وفلسفته الإلهية.

والاختلاف في الاجتهادات والقراءات بين المتخصصين لايعد مثلبة في الدين أو المتدينين، بل هو أمر طبيعي، خاصة مع عدم وجود النص في الواقعة و الموضوع، وهو كأي إختلاف بين المتخصصين في العلوم والمعارف الأخرى. فضلاً عن أن اختلاف القراءات بين المتخصصين لا يصل الى كليات العقيدة والشريعة وأحكامها العامة، بل في الموضوعات التفصيلية. وهذه القراءة تعبر عن بذل الفقيه أو المتكلم جهده ووسعه للتوصل الى قصد الشارع أو ما يعرف بالحكم الظاهري. ولا يعني ذلك القطع أو الجزم بالتوصل إليه، لا سيما مع عدم وجود نص، لكنه في الحد الأدنى يمثل مقاربة تخصصية عميقة، وليست عشوائية أو ارتجالية أو مزاجية. أما القطع أو الحكم الحقيقي فلا يتوافران إلّا للمعصوم.

و حيال هذا الجهد العميق الذي يبذله المتخصص، يهدف الى براءة الذمة الشرعية، يمكن تفسير المأثور: (( إن الفقيه إذا أخطأ كان له حسنة، وإذا أصاب فله عشر)) (12)، أي أن الخطأ والصواب مقيدان بالفقاهة والإجتهاد، أي القدرة على استنباط حكم الشرع من مصادره وعبر أدواته التخصصية، وليس الباب الفتيا أو البت في المسائل العقدية والفقهية مفتوحاً دون ضوابط، وهو ما أكد عليه المأثور: ((من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه))(13).

ولذلك؛ لاخيار إلّا بالأخذ بالقطع النسبي الذي ينتجه المتخصص ( عالم الكلام والفقيه). وهذا اللون من القطع يتوافر عند المتخصص حصراً، لأنه بذل الوسع والجهد عبر استخدام أدوات التخصص المنتزعة من جنس الموضوع، للتوصل الى قصد الشارع والحكم الحقيقي، سواء في الموضوعات العقدية أو الفقهية، فكان فهمه مبرءاً لذمته وذمة الملكف الذي يرجع إليه.

أما قراءة الدين دون تخصص، أو من خلال منهج لاديني، والاعتماد على فهم هذا المنهج في تحديد فهم المسألة العقدية أوالفقهية، فهو عبث بالمعايير العقلية قبل النقلية. وهو شبيه بفهم الطبيب وغير الطبيب للحالات المرضية، فالطبيب (المختص) الذي يبذل جهده لتشخيص المرض (معرفة الموضوع)، ثم يشخص علاج المرض (حكم الموضوع)، ويصف الدواء وطريقة استخدامه (يشرح مضمون التكليف وشكله)، ربما يخطيء في التشخيص والوصف، ولكن لا خيار غير الاتكال على فهم الطبيب، لأنه مختص، وضرره خطإه غير المقصود أقل بكثير من ضرر مايتسبب به غير الطبيب الذي يقحم نفسه في تشخيص المرض والعلاج. وهذا ما يتفق في مضمونه مع خطورة اعتماد الجماعات الدينية التكفيرية المسلحة على فتاوى غير الفقهاء، ولاسيما في قضايا الدماء والأعراض والأموال.

والقناعة بالحكم الشرعي أو الموقف العقدي الذي يكشف عنه الفقيه وعالم العقيدة؛ يشبه قناعة صاحب المبنى أو المقاول بحجم الإنشاءات التي يصفها المهندس الاختصاص وفق الخارطة التي يضعها؛ فربما لايقتنع صاحب المبنى أو المقاول، بالموقف الذي يكشف عنه المهندس، لكن؛ بما أنهما غير مختصين؛ فإن عليهما الأخذ بما يقوله المختص حصراً. وحين يعمد أصحاب الأعمال أو المقاولين مجادلة المهندس وعدم الإذعان للمواصفات التي يضعها المهندس؛ فإن النتيجة ستكون انهيار المبنى.

لقد بات العالم يدعو الى مزيد التخصص بمرور الأيام، كلما ازدادت وتيرة الإكتشافات العلمية سرعة، وإلى احترام منهج التخصص الدقيق والتخصص الأدق، فلا يتدخل المتخصص في شؤون تخصص آخر. فجراح الدماغ ـ مثلاً ـ هو صاحب الرأي الأول والأخير في الفحص والتشخيص والعلاج في أمراض الدماغ. بل أن الطبيب الاختصاص في جراحة الجملة العصبية، لا يعطي رأياً في مشاكل الدماغ، فكيف بمهندس البناء الذي يريد أن يكون له رأي في جراحة الدماغ ؟.

بينما نرى في علوم فهم الدين، أن الصحافي والسياسي والمهندس والعامل والفلاح والضابط والشاعر والحقوقي والفيزياوي؛ لايترددون في تقديم فهم شخصي للدين ومعارفه وأحكام الشريعة، ويقول هذا رأيي، وهذا ما أعتقده. بل أن بعض هؤلاء يحملون ايديولوجية تتعارض مع الدين، كأن يكون صاحب الرأي الإجتهادي في الدين شيوعياً أو عنصرياً أو علمانياً، ولكنه يمتلك الجرأة ليفتي في الشأن الديني التخصصي.

وحتى المسلم المتدين غير المتخصص؛ فإنه لايمتلك القدرة على تقديم فهم شخصي في الموضوعات الدينية التخصصية، طالما أنه غير متخصص، سواء كانت الموضوعات عقدية أو فقهية. فبعض المتدينين يجتهد ويفتي ـ مثلاً ـ بعدم وجود نظرية اقتصادية في الإسلام، وآخر يعتقد أن أحكام الإرث لا تتوافق مع العصر، وثالث يبدو له أن هذا الحديث النبوي كذب، وبعضهم يسخر من مبدأ التقليد في أحكام الفقه. في حين أن القراءة الدينية التخصصية بحاجة الى متخصص في جملة من العلوم، بدءاً بعلوم القرآن وعلوم الحديث والرجال وعلوم اللغة العربية و الكلام، وانتهاءً بعلمي الفقه وأصوله.

وبصرف النظر عن تفاصيل الإختلاف في مقولة حرمة التقليد في الأصول، أو ما يعرف بحرمة الأخذ برأي الغير في المسائل العقدية دون معرفة الدليل، وضرورة نظر المكلّف في الموضوعات العقدية للوصول الى المعرفة اليقينية، فإن التطور الهائل للموضوعات الكلامية وتوسعها عمودياً وأفقياً، واتساع دائرة المعارف الإنسانية، وتراكم الأسئلة العقدية المركّبة، جعل الرجوع الى المختص في القضايا العقدية أيضاً أمر لامهرب منه، وليس الفقهية وحسب، فضلاً عن أن هذا الرجوع بات قائماً عملياً، وبخلافه ستتوسع دائرة الفوضى الفكرية والإرباك العقدي لدى عموم الناس، لأن عموم المكلفين عاجزين ـ بفعل مختلف الظروف والأسباب والمعوقات ـ عن التوصل من خلال البحث والنظر المعمقين الى المعرفة اليقينية بالقضايا العقدية الكبرى، كالألوهية والوحدانية، والعدالة الإلهية والجبر والتفويض، والولاية التكوينية والولاية التشريعية، والخلق والنشوء، والوحي والتنزيل، والنبوات، والعصمة، والإمامة و غيرها من الموضوعات التي بات كل واحد منها بحاجة الى تخصص دقيق، ولا سيما مع ظهور المناهج المضادة والمعارِضة الحديثة.

ويدخل ضمن إطار الفهم غير التخصصي للدين أيضاً:

  • استخدام بعض علماء الدين مناهج تجعلهم يجتهدون مقابل النص؛ الذي هو ثابت ديني؛ فيخلطون بين الثوابت والمتغيرات، ويخالفون النصوص التعبدية، ويجنحون نحو الانفلات في فهم مقتضيات العصر، أو ما بات معروفاً بتطبيق مدخلية الزمان والمكان والظروف في تغيير موضوعات الأحكام الشرعية.
  • الجمود على فهم السلف للدين، ومانقلوه من أحاديث وأخبار، بل اعتماد سلوكياتهم كمصدر تشريعي، فيكون الناتج إسلامات متعارضة بعدد الصحابة والسلف.
  • اعتماد بعض الجماعات المنتسبة للإسلام على أشخاص غير متخصصين في الشريعة، لإصدار فتاوى في أخطر الموضوعات، كالدماء والأموال والأعراض، الأمر الذي أباح لكثير من هذه الجماعات ممارسة كل ما يتعارض مع الدين من أعمال إرهابية وجرائم.

3- منهج الفهم الأكاديمي للإسلام:

يرى أصحاب الاختصاصات الأكاديمية، كالمناهج الفلسفية الغربية، والعلوم التجريبية والإنسانية والاجتماعية، بدأ بالانثربولوجيا وفيزياء الكون والهندسة الوراثية والاحياء، وانتهاء بعلوم النفس والاجتماع والقانون واللسانيات والتاريخ؛ بأن فهمهم للدين هو فهم علمي ناجز، لأنهم يستندون الى اختصاصاتهم الأكاديمية والمنهجية. والأنكى أن أصحاب هذه المناهج يحاولون حصر الفهم العلمي بمناهجهم ونظرياتهم ورؤاهم الفلسفية والأكاديمية التجريبية؛ لكي تكون مخرجاتها ونتائجها ملزِمة.

ولكن؛ ليس بالإمكان طرح نظريات فهم ديني بأدوات بشرية غير مقبولة دينياً، وليس بالإمكان منهجياً ومنطقياً فهم الدين، والإسلام ونصوصه تحديداً، فهماً حقيقياً لصيقاً بغاياته وأهدافه وكينونته وبنيته، وفق مناهج وفلسفات غير مقبولة دينياً أوعلوم غير دينية، بدءاً بالهرمينوطيقيا (فلسفة التأويل) والفينومينولوجيا (فلسفة الظاهر) والانطولوجيا (فلسفة الوجود)، وانتهاء بالابستمولوجيا (فلسفة المعرفة) والبلوراليسم (التعددية).

وبالتالي فإن الإتكاء على نظريات “ستيفن هاوكينغ” في الفيزياء الكونية مثالاً، أو الأخذ بنظريات “هوسلر” و “سارتر” و “ماركس” و “دارون”؛ لتقديم فهم للتكوين والخلق والوجود والأبدية والأزلية والمعرفة الدينية؛ سيكون مآله تهافت الغيب، والتشكيك بالله، ونفي الوحي، والنبوات، وإلهية النص المنزل، وآخره النص القرآني، وأبدية التشريعات الثابتة.

صحيح؛ أن مناهج الفلسفة والعلوم التجريبية والإنسانية والاجتماعية وأدواتها ومعارفها، كالعلوم القانونية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية، وعلم النفس الاجتماعي والانثروبولوجيا والمثيولوجيا واللسانيات والهرمينوطيقيا، تساهم مساهمة مهمة في توسيع آفاق الفقيه والمتكلم، وقدرتهما على معالجة الإشكاليات، والإجابة على الأسئلة، وتشخيص الموضوعات والأحكام، وتحويل حُزم الأحكام الى نظريات، والنظريات الى نظم، ولكن هذه المناهج تمثل مناهج ساندة يستثمرها المتخصص الديني، وليست مناهج مستقلة لفهم حقيقة الدين.

ولاشك، أن فهم الفيلسوف والمفكر الغربي وفهم الفقيه والمتكلم الإسلامي، هما فهمان بشريان، إلّا أن أدوات الفقيه في فهم الدين منتزعة من الدين نفسه، أو أنها قواعد لا تتعارض معه. أما أدوات الفيلسوف الغربي لفهم الدين، فهي أدوات وقواعد بشرية محضة، وغالباً ما تتعارض مع مقاصد الدين وجوهره اللصيق بالغيب. لذلك؛ يستحيل أن تكون الأدواتُ المتعارضة مع الدين مرجعيةً في فهمه. مثلاً: هل يمكن أن نفهم الغيب والوحي والتزيل والنبوات والنص القرآني وحجية السنة بمنهج يتعارض مع هذه المفاهيم أساساً؟

وإذا كان المتلقي وصاحب الحاجة لفهم الدين ومخرجاته متديناً، ويهدف الى فهم منظومته العقدية أو الحكم الشرعي الذي يريد العمل به، فإن الفقيه والمتكلم هما مرجعيته وحجته في هذا الفهم لا شك. أما إذا كان المتلقي يتبنى ايديولوجيا غير دينية أو معارضة للدين، وإن كان مسلماً بالوراثة؛ فإنه من الطبيعي أن يلجأ الى المناهج والفلسفات الغربية غير الدينية في فهم الدين.

4- منهج الفهم اللاهوتي للإسلام:

ولد فكر عصر النهضة الأوربية، ومناهجه الفلسفية في التفكير، وعلومه التجريبية والإنسانية الحديثة، في إطار حراك تاريخي طويل، شامل وحاد، ولصيق بهوية البيئة الأوربية وعناصر تكوينها، وبجوهر الصراع التراكمي الخاص بها. ويستند تأسيس هذه المناهج الى ثلاث خلفيات:

  • الفراغات الفكرية والمنهجية والتشريعية الحادة في الديانة المسيحية.
  • الصراع بين سلطات الكهنوت الكنيسي والسلطات السياسية المتحالفة معه (التحالف الثيوقراطي السلطوي المستبد والمتخلف) من جهة، وبين تيارات التحرر السياسي والفكري التنويري من جهة أخرى.
  • إتهامات التنويريين للتحالف الثيوقراطي السلطوي (الكهنوت وأنظمة الحكم المطلق) بأنه وراء كل مضامين وأشكال التخلف العلمي والفكري والثقافي والسياسي والإجتماعي والإقتصادي في أوربا.

وقد حقق فكر عصر النهضة الأوربية وفهمه العلماني للدين ثلاثة نجاحات واقعية أساسية:

الأول: التطور العلمي التجريبي والعمراني والإنساني للغرب.

الثاني: التطور في النظم السياسية والقانونية في الغرب.

الثالث: إنطلاق الحركات الإستعمارية العالمية الغربية وسيطرتها على معظم الكرة الأرضية.

هذه النجاحات، المصاحبة لتصاعد موجات الاستعمار العسكري الغربي ضد شعوب العالم؛ فتحت الأبواب لتعميم معادلات فكر عصر النهضة الاوربية العلماني على الأديان والايديولوجيات والوجودات الإنسانية الأخرى، ومنها الإسلام؛ فأخذ بعض المفكرين والباحثين والمستشرقين والمهتمين (الغربيين أو من أبناء البيئة المسلمة) الى إعادة فهم الإسلام عبر إسقاط اللاهوت المسيحي وتعاليم الديانة المسيحية وفراغاتها على الإسلام ونصوصه وعقيدته وشريعته ومفاهيمه ومنظوماته، والى استخدام أدوات فهم اللاهوت المسيحي ومناهجه، ومايتضمنه من تعارضات داخلية، في فهم الدين الاسلامي، وتطبيق معادلات الصراع بين الكنيسة والتنويرين وفلسفات عصر النهضة الاوروبية على المنظومة الدينية الاسلامية.

فنجد يعض هؤلاء المفكرين والباحثين يعتمد اللوثرية، وتحديداً منهج “فلاسيوس”؛ لينتهي الى تشبيه الواقع الإسلامي بالواقع المسيحي قبل ظهور لوثر، أو بالانشقاقات البروتستانتية والأرذوكسية واللوثرية، أو بالعصور المسيحية الوسطى الأوروبية. وراح آخرون يخططون لثورة تنويرية مسلمة على الموروث الديني الإسلامي، وتعميم مصطلح الموروث على النص القرآني والسنة، بالتزامن مع ثورة أخرى على المنظومة الدينية الإسلامية ومتكلميها وفقهائها.

ولوقعنة هذه الثورات المضادة للدين؛ عمدت موجات الغزو الفكري والمنهجي العلماني إلى توصيف المفكرين والباحثين المسلمين الليبراليين والعلمانيين، بالمجددين والمصلحين، وبأن بعضهم هو “مارتن لوثر” الإسلام، وإلى نحت مصطلحات عائمة كـ (اللوثرية الإسلامية) أو (الإسلام الأرثذوكسي) أو (الإسلام البروتستانتي) كمناهج في فهم الاسلام. وهذا المقاربة تساوق في خطئها وخطورتها فهم الإسلام بمنهج الفسلفة المادية الديالكتيكية (الماركسية الإلحادية).

5- منهج الفهم الإسقاطي العلماني للإسلام:

تماهياً مع وسائل التوجيه الغربية؛ يستحضر العلمانيون العرب والمسلمون ممارسات الدول السلطانية المسلمة وسلوكياتها، ونظمها الثيوقراطية الشمولية المستبدة، بدءاً بالدولتين الأموية والعباسية وانتهاءً بالدولتين الصفوية والعثمانية؛ ليتهموا الإسلام بالفشل إنسانياً، وبانطوائه على عناصر الظلم والاستبداد والتخلف.

وفي الخطوة التالية؛ يشبِّه العلمانيون المنظومة الدينية الإسلامية بالمنظومة الدينية المسيحية الكنيسية في مرحلة ماقبل عصر النهضة الأوربية. ثم ينتهوا إلى نتيجة قسرية مفادها أن تحرر أوربا من التحالف الكنسي السلطوي المتخلف المستبد، ودخولها عصر التنوير، لم يحصل إلّا بالقضاء على هذا التحالف أولاً، ثم إقصاء المنظومة الدينية الكنسية عن الشأن العام والتشريع والسياسة والدولة ثانياً. وعليه، فإن سر تطور أوربا وتقدمها الشامل يستند إلى البديل العلماني حصراً. وهو المسار الذي ينبغي على المسلمين الأخذ به، لينطلقوا في رحاب النهضة الحضارية، والتحرر الفكري والثقافي، والبناء القانوني المؤسسي، والاستقرار السياسي والإجتماعي والأمني، والنماء الإقتصادي والعمراني، والتطور العلمي والتكنولوجي.

هذه المعادلات الوهمية ليست سوى شعارات تصلح للاستغفال النفسي والعقلي، والهيمنة السياسية والإقتصادية، والغزو الفكري والثقافي، والتخريب الإجتماعي، لأن إسقاط الواقع الاوربي في عصور ماقبل النهضة على واقع المسلمين، والمنظومة الدينية الكنيسية على المنظومة الدينية الإسلامية، و الديانة المسيحية على الديانة الإسلامية، هو إسقاط لايمت إلى أي معيار علمي ومنهحي، بالنظر للإختلاف الماهوي بين الديانتين والواقعين.

ويشبه هذا الإسقاط، اتهام الإسلام بالمسؤولية عن إرهاب الجماعات الدينية التكفيرية المسلحة، كالقاعدة وداعش، وسلوكياتها، وبأنّ النص الديني الإسلامي المتمثل بالقرآن والسنة، يدفعان الى هذه السلوكيات جزماً.

ولا شك أن هذا الأسلوب في تحميل الإسلام المسؤولية، تقف وراءه أهدافاً ايديولوجية وسياسية مناهضة للدين أساساً، لأن معظم أصحاب هذه الأهداف يدركون جيداً أن معيار فهم الإسلام، ليس سلوك المنتسبين إليه وتفسيراتهم المصلحية ونظرياتهم المبتسرة التجزيئية التي يطبقونها وفق أهوائهم، لتحقيق مصالح سلطوية وسياسية واقتصادية واجتماعية، بل المعيار هو الفهم التخصصي الدقيق للدين.

نتاج مناهج التجديد غير التأصيلي للإسلام

أشرنا سالفاً الى المعايير التي تجعل موضوع التجديد الفكري الاسلامي خطيراً وحساساً، ويحتاج الى اختصاصات دقيقة للنهوض به. أما استسهال مقولة التجديد فإنها تؤدي الى مقولات منفلتة خطيرة، وقد بيّنا أن محاولات التجديد أفرزت تيّارات تحريفية تعمل في هذا الاتجاه أو تدعيه، وتنسجم مزاعمها مع المقدمات التي تطرحها، والمباني التي تؤسس عليها نظريتها ونتاجاتها.

وقد أدى الاختلاف في المباني والمقدمات إلى امتداد الاختلاف والتباين إلى النتائج؛ فتيارات التجديد (التقليدي) يستخدم ذات المناهج والأساليب الموروثة التي درج عليها السابقون، ويقيسها على الحاجات الجديدة. في حين لا تستخدم تيارات التجديد (الحداثوية) المناهج والأساليب الموروثة، ولا المناهج المستنبطة من الأصول المقدسة، وإنما المناهج الغربية الوافدة، أو بكلمة أخرى تستعير عقل الآخر، بمناهجه وصياغاته ومصطلحاته، لمعالجة مشاكل فكرية وشرعية إسلامية. وهناك تيار ثالث، ينطلق من معطيات الحاضر، ويستخدم مناهج وآليات مستنبطة من الأصول، وينتهي إلى أحكام لصيقة بالشريعة والواقع.

وتخوِّل كثير من الشخصيات والجماعات نفسها صياغة أنواع من الفكر، تطلق عليه فكراً إسلامياً أو تجديدياً، في حين أنها لا تمتلك أدنى درجات الاختصاص، وهذه هي الخطوة الأولى باتجاه الانحراف. ويتمثل الاختصاص بامتلاك أدوات المعرفة الإسلامية، والقدرة الكاملة على الوصول إلى عناصرها، بشكل يمكِّن المتخصص من استنباط الرأي الأصيل والفكرة المسندة إلى الأصول. فمثلاً؛ نرى أصحاب اختصاصات أخرى غير الفقه والعقيدة، كأن يكونوا أدباء أو فلاسفة أو علماء اجتماع، ينظّرون للفكر الإسلامي ويستنبطون آراء وأفكار خاصة، يضعونها في خانة الفكر الإسلامي التجديدي والإصلاحي، وينتقدون الموروثات الإسلامية، بل ويخطؤون الفقهاء وعلماء العقيدة.

وهناك فرق بین مفکر إسلامي ومفکر متخصص في الإسلام أو باحث في الفکر الإسلامي، كما أن هناك متخصص في الفقه والأصول وهناك فقيه اسلامي؛ فالمفکر الإسلامي مصادره إسلامیة، ومهمته إنتاج النظریات والنظم الإسلامیة العملية، ويعمل على تفعیل الفكر الإسلامي وتجديده، ودفعه نحو التطبیق، وهو إسلامي في رؤيته للحياة وفي منطلقات عمله ومنهجه، وملتزم فکراً وسلوکاً. بينما لانجد هذه الشروط متوافرة في شخصیة المفکر المتخصص في الاسلام أو الباحث في الفکر الاسلامي أو التراث الإسلامي؛ فقد یکون هذا الباحث مستشرقاً أو مارکسیاً أو قومیاً، وقد یکون اسلامیاً في النظرية وليس السلوك، وقد يكون ملتزماً في سلوکه، لكنه ليس إسلامیاً في فکره.

والخطير أن المناهج الغربية أو الناقصة في فهم الإسلام، والتي تدّعي الإصلاح الديني والتجديد؛ تُنتج إسلامات مصلحية ومزاجية ومنفلتة وشخصية لا حدّ لها ولا حصر، لأنها مبنية على رؤى وأفكار وأحكام ومقولات تتعارض مع مقاصد الدين وأهداف الإسلام ومنظومته العقدية والشرعية، بل تتعارض ـ أحياناً ـ مع بديهيات الدين ومظاهر التدين؛ الأمر الذي ينتهي الى ظهور إسلام سلوكي، وإسلام روحي، وإسلام داعشي، وإسلام اشتراكي، وإسلام ليبرالي، وإسلام علماني، وإسلام بدون علماء دين، وإسلام مدني، وإسلام بروتستانتي؛ وصولا الى الإسلام الإلحادي.

نعم؛ هناك من بات يطرح ـ بكل جرأة ـ إسلاماً إلحادياً، وليس علمانياً وحسب. فكما أن بعض المناهج التحريفية ينتج عنها إسلامٌ دموي سلطوي طاغوتي؛ فإن مناهج أخرى منفلتة ينتج عنها إسلام إلحادي. وقد انتهت بعض المحاولات التي أطلقت على نفسها تسميات مختلفة، وتجاوزت مقاييس الأصالة والاستقامة، وهدفت إلى ما أسمته بتجديد الفكر، أو تجديد العقل وإعادة تشكيله وبنائه، أو التغيير الاجتماعي الشامل، أو التحوّل في مسارات المعرفة؛ انتهت إلى مقولات ومصطلحات ونظريات بعيدة بنسب معينة عن مرجعية الفكر الإسلامي، وقريبة بنسب معينة من المرجعيات الحضارية الأخرى، فكانت مضامين هذه النظريات إما متغربة، أو صياغات محلية لنظريات استشراقية، أو مخترعات محلية، أو أفكاراً توفيقية. وهو ما نشاهده اليوم حتى في تيّارات تحمل عناوين إسلامية. ((ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم وما يضلّون إلّا أنفسهم وما يشعرون))(14).

وأصحاب بعض هذه المناهج، حتى الذين يعتبرون أنفسهم إسلاميين، بالمعنى الاصطلاحي، يرتكبون عدة أخطاء منهجية، إذا اعتبروا اتجاهاتهم الفكرية تلك تمثل جزءاً من التجديد في الإسلام. فمن أولى تلك الأخطاء أنهم يحاولون فرض مصطلحات وأفكار تحمل مداليل ومفاهيم خاصة، حدّدها أصحابها الأصليون ومؤسسوها، وهي بصياغاتها التي تعارف عليها المتخصصون لا تعد مفاهيم ونظريات محايدة (مشتركاً عاماً)، أو كما يحاول البعض أن يسميها «آليات المفهوم» أو الاستفادة من آلية النظرية، إذ إن الفصل بين النظرية كمذهب فكري من جهة، وآليات تطبيقها من جهة أخرى، يعني تفتيت مفاهيمها ومسخها. ومن ثم يجدر أن لا تبقى على اسمها نفسه؛ لأن الكثير منها – بالأساس – مذاهب متكاملة وتصورات شاملة للحياة والكون. ومن أمثلة ذلك، استخدام مفاهيم ومصطلحات كالحداثة والعقلانية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية، وتبنّي بعض جوانبها التطبيقية وآلياتها. وكذلك عقد مصالحة أو مزاوجة بين هذه المدارس الفكرية وما يقابلها من مدارس، كالأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، وحل الإشكاليات العالقة بينها. في حين أنها ثنائيات مستوردة على مستوى المصطلح والمفهوم والإشكالية، ولا يمكن لمقاصدها الأصلية أن تشكّل مشتركاّ عاماّ لاتجاهات الفكر الإنساني أجمع.

ولعل من أخطر التيارات التحريفية التي تشكل خطورة على أصالة الفكر الإسلامي، التيار الذي يدعو إلى دراسة الأصول الإسلامية بمنهج معرفي (غربي)، متجرداً عن أي التزام وضابط آيديولوجي، بدعوى إعادة تشكيل العقل وتجديد الفكر على أسس علمية دون غيرها، أو بكلمة أخرى، نقد النصوص المقدسة نقداً (ابستمولوجيا) معرفياً، تكون نتيجته الاعتداء على أصالة الفكر الإسلامي بهراوة (الابستمولوجيا) الغربية، بذريعة أصالة المعرفة وأصالة العلم وأصالة العقل وتجرده.

وعموم التيّارات التحريفية، وخاصة التي تحمل عناوين إسلامية؛ تهدف إلى تطويع الإسلام لمسايرة الركب الحضاري الغربي، وتقديمه بصورة تلائم شكل الحياة السائدة عالمياً، ليكون مقبولاً في الغرب كدين، كما يزعم أصحاب تلك التيارات، أو تكون بعض نظمه الاجتماعية مقبولة وخاضعة – قسراً – لتطورات العصر، وخاصة النظامين السياسي والاقتصادي والقوانين المدنيّة ((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم))(15).

الاختلاف في فهم الثوابت الإسلامية

تتمثل ملاكات الأصالة في التجديد ومعاييره ومقاييسه؛ في التمسك بالثوابت المقدسة، وهي القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة، والقواعد الشرعية المستخلصة منها، وأدوات الفهم والقراءة والاستنباط المنتزعة منها أو لاتتعارض معها، كاللغة العربية وفقهها، وعلوم التفسير والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، والدراية، والرجال، وأصول الفقه، والاجماع والعقل، والنتاجات والتجارب الإسلامية التأصيلية، وأية مناهج علمية إنسانية لاتتعارض مع الثوابت الإسلامية؛ لأن التجديد ينبغي أن يكون لصيقاً بالأصالة ومحكوماً بالثوابت.

على مستوى الأحكام مثلاً، كأنظمة العبادات والحدود والقصاص والمال، وعموم الأحوال الشخصية، كالإرث والزواج وغيرهما؛ فهي توقيفية غالباً، ولا يمكن تغيير مقاييسها وأسسها المنصوصة في الثوابت، ولا يمكن الاجتهاد لتغييرها. فكل تغيير أو تجديد أو اجتهاد يتطاول على كتاب الله (تعالى) والسنة الشريفة؛ يمثل خروجاً على الثوابت والنصوص، وإن كانت ذرائع أصحابها حصول تغيرات زمانية ومكانية؛ لأن الأصول التوقيفية في العقيدة والأحكام لا تخضع لعاملي الزمان والمكان. كما أن أي اختلاف في هذا المجال؛ ينبغي أن يعرض على الكتاب والسنة، لتحديد مواطن الخطأ والصواب، والأصالة والانحراف في النتائج، سواء أكانت نظريات في الفكر والثقافة أم أحكاماً في الفقه.

والقضية التي لا جدال فيها، هو كون القرآن الكريم والسنّة الشريفة ملزمين بالمطلق؛ لأنها الأصلان الثابتان المقدسان والملزمان بالمطلق، ولكن الاختلاف ينشأ حول فهم ذينك الأصلين المقدسين، وهو ما يتلخص فيما نسميه بـ «الفكر الإسلامي»، الذي يعد أكثره نتاجاً بشرياً يستند إلى النص القرآني والى صحيح السنة، أي أن هناك جانب ملزم (مقدس) في الفكر الإسلامي، وجانب غير ملزم (غير مقدس). وهذا الرأي يتوسط الرأيين الآخرين اللذين يقول أحدهما بأن الفكر الإسلامي نتاج بشري محض، ليس فيه أي جانب إلزامي، والرأي الآخر القائل بأن الفكر الإسلامي محاط بالقدسية، وهو ملزم.

وحقيقة الأمر، أن حدود الإلزام تتمثل في حدود العلاقة بين الإلهي والبشري في الفكر الإسلامي؛ فحين نتحدث عن الفكر الإسلامي، فلا نقصد به التراث وحسب، بل إنه يشتمل على النتاجات الإسلامية المعاصرة أيضاً، والتي تحظى بالشروط المطلوبة لصفة «الفكر الإسلامي». وهذا التحديد له أهمية خاصة؛ لعلاقته بموضوع إلزام المكلّف بالأحكام الفقهية. فالفكر الإسلامي ينقسم إلى مجالين رئيسيين، أحدهما المجال العقدي، ويدرسه علم الكلام، والآخر المجال الفقهي، وفيه ترتبط القضية ارتباطاً وثيقاً بموضوع «التقليد»، أي تقليد المكلّف للمجتهد في المسائل الفرعية. فكل مكلّف ملزَم بالتقليد (حسب الأدلة التي تطرحها المدارس الفقهية الإسلامية)، والإلزام بالتقليد يتبعه التزام بالفتاوى التي يصدرها ويتبنّاها مرجع التقليد. وهذا النوع الأول من الإلزام. بينما نجد أن المكلّف غير ملزم بفتاوى المجتهدين الآخرين الذين سبقوه أو المعاصرين (عدا الأحكام الولائية).

وهناك اختلاف بين المدارس الفقهية حول حدود الالتزام بمنهج الاستنباط والقواعد لمؤسس المدرسة الفقهية. وهذه القضية عند مدرسة الإمامية محلولة، إذ أنهم يلتزمون – بشكل مطلق – بالقواعد التي نصّ عليها الرسول وأئمة أهل البيت. وتلك هي أنواع من الإلزام وعدم الإلزام. وهنا تضع أغلب المدارس الفقهية الإسلامية، الأحكام التي أجمع عليها مجتهدو المدرسة، في إطار أصل «الاجماع» باعتباره كاشفاً عن السنة الشريفة؛ على أنها أحكام ملزمة – أيضاً – للمجتهد وللمكلّف.

أما المجال العقدي أو موضوعات علم الكلام، فلا فرق فيه بين التراث أو الأفكار المعاصرة، لحرمة التقليد في هذا المجال، والموضوعات العقائدية التي فيها نص مقدس ملزمة للجميع. أما الناتجة عن حركة العقل البشري، والتي تتمتع بالأصالة، ففيها كلام كثير بين أصحاب الاختصاص. يقول أحد الفقهاء: «إن كل ما جاءنا من تراث فقهي وكلامي وفلسفي هو نتاج المجتهدين والفقهاء والفلاسفة والمفكرين، من خلال معطياتهم الفكرية، ولا يمثل الحقيقة إلا بمقدار ما نقتنع به من تجسيده للحقيقة. وبهذا، فإننا نعتبر أن كل الفكر الإسلامي، ما عدا الحقائق الإسلامية البديهية، ليس فكراً إلهياً؛ بل هو فكر بشري يخطئ فيه البشر في ما يفهمونه من كلام الله وكلام رسول الله)) (16).

ويجب هنا الأخذ بنظر الاعتبار أن عدم الإلزام بالتراث الفكري الإسلامي لا يتناقض مع الاعتزاز به واحترامه وإكبار أصحابه وإجلالهم، بل ولا يتناقض مع مبدأ الاستفادة منه إلى أقصى درجات الاستفادة، بما يلبّي حاجة العصر ومصلحة الشريعة، لأن التراث هو الخزين والرصيد الفكري الإسلامي، والمنطلق لصياغة الفكر الإسلامي التجديدي المعاصر.

المعنيون بتجديد الفكر الإسلامي

إن التجديد في علوم الدين، والفقه وأداوته، ومجمل قضايا الفكر الإسلامي أو اكتشاف المفاهيم والنظريات والنظم الإسلامية؛ إنما هي مجالات تخصصية لها أصحابها، الذين وصفهم القرآن الكريم بـ «أهل الذكر» وأمر بالرجوع إليهم: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)) (17)، وهم ،كما ظاهر الآية، المتخصصون في الشرع عقيدة وفقهاً.

وتتطلب هذه المجالات الخطيرة؛ فقيهاً مفكراً مثقـفاً، على مستوى عالٍ من التخصص، ليكون قادراً على القيام بثلاث عمليات متوالية:

  • فهم الأصول فهماً حقيقياً، ويستدعي ذلك معرفة وإحاطة بعلوم الشريعة كافة.
  • فهم الواقع فهماً صحيحاً، والإحاطة بحقائقه ونظمه وحاجاته. ويستدعي ذلك معرفة تفصيلية بالأفكار السائدة وتطورات العصر، ومتابعة لأحداث الواقع على مختلف الصعد: العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها.
  • استنباط الأحكام والمعارف والنظريات وفقاً للفهمين السابقين، ثم إخضاع حقائق الزمان ونظمه وحاجاته لها، تحقيقاً لمقاصد الشريعة.

ولا شك في أن مهمة بهذه الدرجة من الخطورة والعمق ليس بإمكان فقيه واحد أو مفكر واحد أو اثنين التصدي لها؛ بل هي مهمة شاقة، تستدعي تظافر جهود كبيرة ومنظمة لإنجازها على النحو المطلوب.

وإذا عَدّ البعض أن تخويل أهل الاختصاص في العقيدة والشريعة الإسلامية ليكونوا أوصياء على الفكر الإسلامي، هو نوع من الاحتكار، فهذا تفسير خاطئ؛ لأن ما يسمونه بالوصاية إنما هي – في الحقيقة – مرجعية، وهو مطلب عقلي طبيعي، يكرّس احترام الاختصاصات، ويحول دون الخلط والتهافت في القضايا الفكرية عامة وفي الفكر الإسلامي خاصة.

هذا الأمر يستدعي – بالطبع – مبادرة من أصحاب الاختصاصات الإسلامية؛ ليكونوا بحجم المرحلة، وبمستوى وعي حاجاتها وحاجات الأمة والساحة وما يواجهها من تحدّيات وفي مقدمة ذلك ملء الفراغات التي يمكن للآخرين أن ينفذوا من خلالها. وإذا ظهر أي اختلاف أو شبهة أو خطأ في نظرية أو فكرة إسلامية معيّنة، فإن القرآن الكريم والسنّة الشريفة هما الحكم، وتكون النظرية الصحيحة هي الأقرب إلى النص: ((فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول)) (18). أما تفسير النص، والحكم بانطباق النظرية عليه، فهو شأن «أهل الذكر». بناءً على هذا الاعتبار، فإن لعلماء الدين حق الرقابة والإشراف على حسن وسقم ما يصدر من أفكار تنسب إلى الإسلام: ((ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) (19).

ويتعيّن على المفكر الإسلامي الذي يسعى لتأسيس نظرية إسلامية أصيلة أو تطويرها؛ التمتع بجميع خصائص التخصص والأصالة؛ التخصص في الفكر والتشريع الإسلاميين، وفي موضوع النظرية والرؤى الأخرى حولها، وفي المنهج العلمي وأساليب الاستنباط، إضافة إلى الأصالة في التفكير والقدرة الفائقة على النقد والمحاكمة؛ ليكون الناتج إسلامياً في المقدمات والمنهج والتفكير والنتائج، وبالتالي فليس كل مفكر أو مثقـف يمكنه الاستنتاج والاستنباط!

وما سبق يستدعي – أيضاً – تحرك الفقه بشكل يتلاءم وحجم الحاجات، خاصة حاجات النظام الاجتماعي أو نظم الدولة، فالمجتهد – الواقعي – هو الذي يرى في الدولة الإسلامية «تجسيداً للفلسفة العملية لتمام الفقه في جميع جوانب الحياة. والحكومة هي انعكاس للبعد العملي للفقه في تعامله مع جميع المعضلات: الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية. فالفقه هو نظام واقعي متكامل لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللحد»(20).

ومهمة عظيمة بهذا الحجم تتطلب مجتهداً جامعاً لخصائص الاجتهاد والتجديد، أي يكون عارفاً – بدقة – بموقع الزمان والمكان في حركة الاجتهاد، و«العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(21). يقول الإمام الخميني: «إنّ الإحاطة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية جعلت الموضوع نفسه في الظاهر موضوعاً جديداً، فيستتبعه قهراً حكم جديد»(22). والسلوك الشرعي، الفردي والجماعي، هو مظهر تطبيق الحكم الشرعي؛ لأن الحكم يحدد طبيعة التكليف. والفهم الجديد لثوابت الدين ينتج عنه حكماً جديداً، وبالتالي تكليفاً جديداً وسلوكاً جديداً.

الموقف من تصحيح الموروث الديني

    هناك من يحمل مواقف نمطية مسبقة؛ يفهم من نقد بعض علماء الدين والمثقفين الدينيين الذين يتعاملون مع موضوع تصحيح التراث وتنقيته تعاملاً استعراضياً ودعائياً، وشعبوياً أحياناً؛ يفهم أن هذا النقد ضد تنقية التراث الديني، وضد مراجعته، وضد مسار التصحيح العلمي، ويعارض التجديد في الفهم الديني المستند الى عملية تصحيح التراث المعرفي والعلمي الديني. وهذا الفهم خاطئ، ويتعارض مع المنهج الفكري الوسطي التوازني الذي نتبناه؛ فتنقية التراث وتصحيحه من لوازم استمرار ربط الفهم الديني بالواقع وتحولاته، لأن الموروث الديني يمثل المادة المعرفية التي نستند اليها في مواجهة تحولات الحاضر ومآلات المستقبل، وبدون ذلك؛ ستتوسع الهوة بين الفهم الديني والعصر، وسيؤدي الى انسلاخ شرائح من المتدينين عن الدين، وكذلك انسلاخ شرائح أخرى منهم عن الواقع، وكلا الانسلاخين ليسا في مصلحة الدين ومؤسسته العلمية.

ولكن؛ ينبغي أن تكون تنقية التراث الديني وتصحيحه، وفق المناهج والأدوات العلمية الصحيحة، وداخل المؤسسات المتخصصة، ومن قبل أصحاب الاختصاص، لأنه عمل شبيه بالأبحاث الأكاديمية والمختبرية الدقيقة. أما منهج التسفيه الإعلامي والخطاب الشعبوي، الذي يستخدمه قسم من المثقفين الدينيين وعلماء الدين حيال التراث التفسيري والروائي والمعرفي الديني، بذريعة التنقية والتصحيح والتجديد والإصلاح؛ فهو في حقيقته منهج استعراضي دعائي رخيص، يهدف الى إغواء بعض الشباب، وكسبهم كأنصار يصفقون له في وسائل التواصل وفي المحافل العامة، ولكي يقال عن هذا (الأفندي) أو ذاك (المعمم) بأنه مثقف مستنير، وصاحب فكر منفتح وسلوك عابر على الجمود الديني والانحياز الطائفي !.

أما ما يهم جمهور المتدينين؛ فهي مخرجات نتائج التصحيح والاكتشاف والتجديد، وليس العمليات العلمية المختبرية الاستدلالية التي يقوم بها أصحاب الاختصاص العلمي في الدراية والرجال والكلام والتفسير ودلالات الألفاظ والأمارات والأصول، والخلافات العلمية الدقيقة بشأنها، بل إن من لوازم التوعية الجماهيرية بشوائب الموروث الديني ومشاكله، هي أن تكون جرعاته ومستوياته متناسبة مع الفهم العام وليس مع الفهم التخصصي، حاله حال التوعية العامة الصحية أو التوعية البيئية أو الاقتصادية؛ فالجمهور لايعنيه معرفة التفاصيل التقنية للعمليات الجراحية والشروحات الفنية للأزمات الاقتصادية؛ بل يعنيه مخرجات ذلك وحلوله، بالشكل الذي ينفعه في حياته العملية.

وبالتالي؛ فإن ما يسمونه أسلوب (الصدمة العامة) في طرح شوائب الموروث الديني عبر الاستعراضات الإعلامية؛ لها نتائج سلبية عكسية خطيرة؛ فكما أن هذه الشوائب تقف وراءها النخبة العلمية الدينية، التي عاشت في فترات سابقة، وقد ولدت داخل المؤسسات الدينية العلمية، وتداولها أهل الاختصاص العلمي، ولم يكن يعني الجمهور المتدين منها سوى مخرجاتها العامة المتعلقة بإيمانه العقدي النظري وتكليفه الشرعي العملي؛ فإن التنقية والتصحيح كذلك؛ ينبغي أن يكونا بحوزة أهل الاختصاص، ثم تخرج نتائجهما للجمهور، بما ينفعهم في عقيدتهم وتكاليفهم، دون ضجيج.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إحالات الفصل الأول

(1) رواه محمد بن يعقوب الكليني الرازي في الأصول من الكافي، ج 1 ص 24، عن الإمام جعفر الصادق(ع).

(2) المصدر السابق، ص 25.

(3) الحديث منقول بطرق مختلفة، ومنه ما رواه أبو داود السجستاني في سنته، ج 4 ص 109، الحديث 4291، كما رواه السيوطي في الجامع الصغير، ج 1 ص 282، الحديث 1845.

(4) سورة النحل، الآية 79.

(5) سورة يونس، الآية 101.

(6) سورة البقرة، الآية 242.

(7) سورة الأنعام، الآية 153.

(8) سورة ……

(9) رواه الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في وسائل الشيعة، ج 18 ص 40، الحديث 51. والحديث مروي أيضاً بالمضمون نفسه عن الإمام علي الرضا(ع)، المصدر السابق ص 41، الحديث 50.

(10) الكاتب المصري أنور عبد الملك، في دراسته التي وضعها باللغة الانجليزية تحت عنوان «الفكر العربي في معركة النهضة»، وقد ترجمه إلى العربية: بدر الدين عرودكي.

(11) سورة

(12)

(13)

(14) سورة آل عمران، الآية 69.

(15) سورة البقرة، الآية 120.

(16) السيد محمد حسين فضل الله، تأملات في الفكر السياسي الإسلامي، ص 139.

(17) سورة الأنبياء، الآية 7.

(18) سورة النساء، الآية 59.

(19) سورة النساء، الآية 83.

(20) من رسالة الإمام الخميني إلى العلماء والحوزات العلمية، في العام 1988.

(21) رواه ابن شعبة الحراني في تحف العقول، ص 172، عن الإمام جعفر الصادق(ع).

(22) من رسالة الإمام الخميني إلى العلماء والحوزات العلمية (المصدر السابق).

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment