يوسف المحسن

Last Updated: 2024/06/22By

حوار مع الدكتور علي المؤمن

حول منهجية الاجتماع الديني الشيعي وتطبيقاته المعاصرة

حاوره: يوسف المحسن

(إعلامي عراقي)

قناة الفرات الفضائية العراقية، 29/ 1/ 2022

 

یوسف المحسن: حوار خاص مع الباحث في الفكر السياسي الاسلامي الدكتور علي المؤمن حول كتابه «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع». لماذا هذا العنوان؟ ولماذا في هذا التوقيت؟

علي المؤمن: بسم الله الرحمن الرحيم. اختيار العنوان واختيار الموضوع لا علاقة له بالوقت، وليس له توقيت معين، لكن اختيار العنوان من الناحية الموضوعية يرتبط بالضبابية التي تكتنف النظام الاجتماع الديني الشيعي العالمي، واللغط الكثير، حتى في الأوساط الأكاديمية، حول فهم الاجتماع الديني الشيعي، وفهم مجتمع المذهب؛ فكثير من المراقبين والأكاديميين والإعلاميين والسياسيين، لا يفرّقون بين المذهب وبين مجتمع المذهب، أي بين المذهب الشيعي، الذي هو التشيع. الذي يمثّل العقيدة والفقه، وبين الشيعة الذين هم مجتمع المذهب، أي الطائفة. هناك خلط بين المذهب ومجتمع المذهب، وعدم معرفة بمكوّنات وعناصر وتفاصيل الاجتماع الديني الشيعي.

هذا الخلط هو الذي يؤدي إلى كثير من المعلومات الخاطئة، إلى الإسقاطات الخاطئة، وصولاً إلى التعاطي الخاطئ مع الإجتماع الديني الشيعي ومع مكوّنات النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهذا ينسحب أيضاً على فهم الآخرين لمنظومة المرجعية الدينية التي تقف على رأس هذا النظام، وفهم عناصرها، مثل الحوزة العلمية والمؤسسات الرديفة وحركة المال الشرعي وشبكة الوكلاء المنتشرين في العالم، فضلاً عن الهوية الشيعية وعناصرها، وعلاقة الهوية الوطنية بالهوية العالمية الشيعية. عدم فهم هذه القضايا فهماً موضوعياً دقيقاً، يتسبب في تحويلها الى إشكاليات في الأوساط البحثية والأكاديمية والإعلامية. لذلك؛ وجدت من الضروري جداً أن نقارب هذه الموضوعات ونكشف عن حقائقها الخاصة وتفاصيلها، ونغوص في أعماق النظام الاجتماعي الديني الشيعي، لكي نقدّم صورة واضحة وتحليلاً دقيقة عن كل ذلك.

يوسف المحسن: هذا النظام موجود قبل كتابة كتابك الذي صدر في عام 2021؟ هل هو اكتشاف لهذا الاجتماع الديني الشيعي، أو هي ظاهرة موجودة وصّفتها في هذا الكتاب؟.

علي المؤمن: موضوع الاجتماع الديني الشيعي موضوع قديم، والنظام الاجتماع الديني الشيعي عمره أكثر من 1350 سنة، لكنه في عصر الغيبة تأسس على يد النائب الاول للإمام المهدي الشيع عثمان بن سعيد العمري، لكنه تبلور على يد الشيخ أبي جعفر الطوسي بعد انتقاله الى النجف. شيخ الطائفة الطوسي اهتم بمأسسة الاجتماع الشيعي، عبر مأسسة منظومة المرجعية والحوزة، ونشره الوكلاء في كل أنحاء العالم، تحديداً في مناطق التواجد الشيعي، وأسس الحوزات العلمية الفرعية، ونظّم بيت المال الشيعي، أي حركة الخمس والحقوق الشرعية الأخرى. ثم أخذ هذا النظام يتطور تدريجياً حتى وصلنا إلى العصر الحاضر.

في العصر الحاضر هناك نظام اجتماعي ديني شيعي قائم ومتبلور. أنا لم أخترع هذا النظام ولم أقدّم أعمل على مأسسة هذا النظام أو إعادة بناء هذا النظام، بل أنّ هذا النظام موجود وقديم، رغم أنه أخذ شكلاً متطوراً جداً بعد العام 1979، ينسجم مع القواعد الفكرية والعقدية للمذهب الشيعي ولمدرسة أهل البيت.

يوسف المحسن: في ماذا تصب محاولة الكتاب؛ كونك ابن المؤسسة الدينية الشيعية، وتكتب من داخل النظام؟

علي المؤمن: هي محاولة بحثية منهجية علمية لاكتشاف هذا النظام، أو بالأحرى إعادة اكتشافه، وتقديم صورة عن هذا النظام للشيعي نفسه، كونه ابن الطائفة، ولغير الشيعي أيضاً. وهناك فرق بين من يكتب من داخل هذا النظام وبين من يكتب من خارجه. هناك محاولات بحثية استكشافية كثيرة جرت، سواء من قبل مستشرقين وباحثين اوروبيين وأمريكان، أو من قبل أكاديميين وباحثين عرب ومسلمين غير شيعة، بل وحتى باحثين شيعة يكتبون وفق قواعد المناهج الغربية في علم الاجتماع والانثروبولوجيا، وقد ظهرت في كتاباتهم الكثير من الأخطاء المعلوماتية والاصطلاحية والتفسيرية، وكثير منها كان منحازاً وغير موضوعي، وتبيّن أن لديهم عدم فهم نسبي لطبيعة هذا النظام، ولذلك كان هناك تخبّط حتى في المصطلحات والمفاهيم والأدبيات، فضلاً عن الخلط بين المذهب من جهة ومجتمع المذهب من جهة أخرى.

ولعل ابن المؤسسى أو ابن الطائفة عندما يكتب عن طائفته بمنهجية أو يكتب عن الموضوع الطائفي بشكل عام؛ فإنه يتهم بالطائفية، وهي تهمة حساسية فائقة أحياناً، وقد شرحت في الكتاب بأنّ هذه الحساسية لا معنى لها؛ فأن تكون هناك طائفة شيعية وطائفة سنّية، هذا شيء طبيعي، لم نختلقه، بل هو واقع طبيعي ومقبول وقائم منذ القدم. والطائفة تعني مجتمع الدين أو مجتمع المذهب، وليس الدين والمذهب نفسيهما، وكل أديان ومذاهب العالم أفرزت مجتمعات.

ولكوني ابن النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وابن المركز التاريخي لهذا النظام، أي النجف، باعتبار النجف هي العاصمة العالمية للنظام الاجتماعي، ولكوني ابن البيوتات النجفية؛ فأنا أفهم بدقة طبيعة عمل هذا النظام وتفرعاتها وسياقات حركته، بما فيها منظومة المرجعية الدينية والحوزة العلمية، وعلاقة رأس النظام، أي المرجع الأعلى، بشبكة الوكلاء في العالم، وحركة بيت المال، والمؤسسات المرتبطة بالمرجعية أو التابعة لها من الناحية الشرعية، كالمؤسسات الثقافية والتبليغية، وكذا السياسية والجهادية، كالأحزاب ومنظمات المقاومة، والعناصر الأخرى المكوّنة لهذا النظام مثل المراقد والمزارات، والحوزات العلمية الفرعية. بإمكاني أن أعطي صورة دقيقة جداً شبيهة بتسجيل الكاميرة التي تصوّر المشهد بشكل دقيق، فضلاً عن التحليل والتفسير وربط العناصر وتقديم المقترحات الإصلاحية.

ولذلك؛ كل أكاديمي أجنبي أو مستشرق سنّي أو شيعي، إسلامي وغير إسلامي، وخاصة الباحث الشيعي من خارج النجف؛ عندما يقرأ هذا الكتاب سيكوّن صورة تفصيلية ودقيقة عن طبيعة الاجتماع الديني الشيعي.

يوسف المحسن: تتحدث دكتور حول معلومة مهمة؛ تقول: إن الموقع الذي حظي به المرجع الأعلى السيد السيستاني لم يحظ به الشيخ الطوسي ولا الشيخ المفيد والسيد المرتضى، الذين كان لهم سطوتهم العامة خلال الحكم البويهي في بغداد. كيف وصلت الى هذه القناعة؟ طبعاً أسألك بشكل مباشر عن هذه الفكرة التي  لم تشر إلى مصدر حولها.

علي المؤمن: ليس بالضرورة أن أستخدم مصدر في جانب تحليلي نعيش تفاصيله. هي ليس معلومة وإنما هو تصوير للواقع. العصور الذهبية لمراجع الدين وعلماء الدين الشيعة، كانت خلال العهدين البويهي الصفوي غالباً. طبعاً هذا الموضوع تتركز أهميته في العراق أكثر من ايران ودول الحضور الشيعي الأُخر، لأن إيران هي دولة شيعية بالأساس. وليس لعلماء الدين الشيعة او عموم الشيعة مشاكل فيها عادة، لكن الأمر مختلف في العراق؛ فعلماء الدين الشيعة في العراق، منذ تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، يعني منذ السفراء الأربعة، ثم بعد السفراء الأربعة الفقهاء الأربعة؛ عاشوا في ظلّ حكومات لا تعطيهم فرصة التعبير عن حقيقة قيادتهم للمجتمع، حقيقة امامتهم الزمنية للطائفة وللمذهب.

إضافة الى أنّ السلطة السياسية السنية، سواء كانت طائفية أو معتدلة؛ فإن همّها هو أن تستفرد بالأمة، تستفرد بالشعب، تستفرد بالمؤسسات الدولة، ولا تعطي الفرصة للمرجع الديني الشيعي لكي يمارس مهامّة الطبيعية، مهامّة كمرجع للأمة، كمرجع زمني ومرجع ديني، لأنها لاتريد منافس، وخاصة إذا كان زعيماً شيعياً. الوحيد الذي توافرت له هذه الفرصة في العراق هو السيد السيستاني بعد العام 2003 ولم تتوافر لغيره.

يوسف المحسن: هل لأنّ المكوّن الأكبر وصل إلى الحكم؟

علي المؤمن: نعم. لأنّ المكوّن الشيعي الأكبر بات جزءاً من قرار الدولة والحكم، لأنّ الأغلبية السكانية الشيعية بعد العام 2003 شاركت في الحكم وأصبحت الشريك الأكبر في الحكم، وأصبح الحاكم الأول شيعياً، أي رئيس الوزراء والقائد العام لقواة المسلحة. هذا الأمر فتح الأبواب  أمام النجف وفتح أبواب النجف، لتأخذ مجدها وتعبر عن نفسها لأول مرة في التاريخ. قبل العام 2003 كانت أبواب المراجع والعلماء مغلقة، كانوا محاصرين ومقيدين، وقد قتل النظام البعثي المئات منهم، وهجّر الآلاف، واعتقل الآلاف. كانت هناك هجمة شرسة شاملة على الحوزة العلمية وعلى علماء الدين وعلى الشيعة والمذهب الشيعي بشكل عام. ولكن بعد 2003، انقلبت الصورة تماماً. أصبح الشيعة مشاركون في الحكم مشاركة قيادية، وأصبح مرجع الطائفة، أي السيد السيستاني، مبسوط اليد نسبياً فيما يتعلّق بالواقع العراقي، وأصبحت له كلمة ودالّة على تشكيل الحكومة وإستقالتها، ودالة جوهرية على الأحزاب الشيعية الحاكمة.

يوسف المحسن: هل تتفق معي بأنّ سلطة السيد السيستاني هي سلطة إرشاد ونصح والتزام بالنسبة للمكوّن الشيعي، وبالنسبة للمكوّنات الكريمة الأخرى الكريم كالكرد والعرب السنّة هي سلطة احترام؟

علي المؤمن: إذا أردنا أن نكون دقيقين وواقعيين، لا الكردي السني ولا العربي السني يؤمنان بالمرجعية بالشكل الذي يؤمن به الشيعة. الشيعة يؤمنون بأن المرجع الديني هو نائب الإمام المهدي، وله سلطة تتعلّق بأنواع الولايات التي يمتلكها، أو ما يتعلق بموضوعة التقليد وإدارة الأمور الحسبية، وهذا يجعل السياسي الشيعي وصاحب السلطة الشيعي يلتزم بتوجيه المرجع، سواء كان مقتنعاً أو مضطراً، بينما السني والكردي لا يقلّدان المرجع الديني ولا يرجعان إليه في أمور الحسبة ولا في أي أمر آخر.

يوسف المحسن: أنت قلت هو مبسوط اليد؛ فأريد أن تفصّل هذه الفكرة

علي المؤمن: أنا أتحدث هنا عن مساحة الشيعة. أمّا الأخرىن فهم اساساً لا يؤمنون بقيادة المرجع الأعلى. ولكن باعتبار السيد السيستاني هو مرجع المكوّن الأكبر، أي مرجع الخمسة وستين بالمائة من الشعب، بمن فيهم الذين لا يقلّدون السيستاني. طبعا داخل المكوّن الشيعي، ومن خلال المجسّات واحصاءات التقريبية والحركة الميدانية؛ يظهر أن الأكثرية الساحقة من شيعة العراق يقلدون السيد السيستاني، وربما لايقل عن 70 بالمائة من الشيعة المقلدين. وهناك من لا يزال على تقليد السيد محمد باقر الصدر والسيد الخوئي والسيد محمد الصدر والسيد محمد سعيد الحكيم رحمة الله عليهم، وهناك من يلقد مراجع آخرين كالسيد كاظم الحائري والسيد على الخامنئي. لكن نسبة مقلّدي السيد السيستاني هي الأغلبية الساحقة في العراق

طبعا هناك قضية مهمة عند الشيعة وهي العلاقة الفطرية الروحية ‌بالمرجعية العليا، حتى عند لايقلد أو يقلد مرجعاً آخر. الذي يقلّد المرجع يعني أنه يقرأ رسالته العملية ويطبقها، يتّبع فتاواه، يستفتيه في الصغيرة والكبيرة، ثم يعطيه الحقوق الشرعية. هذا ربما غير متوافر عند أكثر من نصف المقلدين أو أكثر من نصف الشيعة، ولكن العلاقة بالمرجع الأعلى أوسع من ذلك؛ فهي علاقة وجدانية، علاقة روحية، علاقة فطرية، علاقة أبوية، علاقة بالقيادة الاجتماعية الدينية. حتى الذي لا يقلّد المرجع، أو الشيعي غير المتدين وغير ملتزم؛ فإنه يشعر بالانتماء إلى المرجع، لذلك؛ الاغلبية الساحقة من أبناء الطائفة الشيعية يحسّون بالانتماء للمرجع الديني، حتى وإن لم يكونوا ملتزمين دينياً، حتى وإن لا يؤدّوا الفرائض وغير ملتزمين عبادياً، أو غير ملتزمين في المعاملات، لكنهم يلتزمون قيادة المرجع وأبوة المرجع والإمامة الزمنية للمرجع.

يوسف المحسن: دكتور تريد أن تقول إن الموقع الذي حظي به السيد السيستاني هو بسبب التغيير الذي حصل بعد عام 2003، وكذلك بسبب وصول المكوّن الأكبر إلى السلطة، وثالث نظراً لحجم مقلديه الكبير؟

علي المؤمن: أقول أن السيد السيستاني حظي بموقع من مختلف عن الموقع الذي كان يحظى به الشيخ مرتضى الأنصاري أو السيد أبو الحسن الإصفهاني أو السيد محسن الحكيم وغيرهم ، رغم أن الموقع واحد من الناحية النظرية، والصلاحيات واحدة والولاية واحدة. أنا أتكلم عن الجانب العملي، أتكلم عن القدرة التي توافرت للسيد السيستاني لتطبيق صلاحيات الفقه وولايته، وذلك لأن الظرف السياسي صار ملائماً. ويمكن أن نشبّه هذا الظرف بظرف الكثير من مراجع الدين الشيعة الذين عاشوا مرحلة الإمتداد الصفوي لبغداد، فقد حصل فارق كبير للوضع الشيعي في العراق وللحوزة ولمراجع الديني بين الاحتلال العثماني وبين الاحتلال الصفوي، فأغلب علماء الدين الشيعة كانوا مضطهدين جداً في البلاد العثمانية، ومنها العراق، ولكن عندما جاء الصفويون إلى العراق، أصبحت أبواب الحوزة والمرجعية مفتوحة على مصراعيها.

يوسف المحسن: تقول ان التغيير المأمول بعد العام 2003 بقي مبتوراً وناقصاً، رغم أهمية هذا التغيير وأنّه شكّل صدمة تأريخية للدولة العراقية الحديثة، لماذا بقي هذا التغيير ناقصاً ومبتوراً؟

علي المؤمن: لايزال التغيير في العراق مبتوراً وناقصاً على مختلف المستوىات، كان من المفترض إنصاف الشيعة إنصافاً كاملاً في إطار الدولة التعددية وفي اطار حكم الديموقراطية. الديموقراطية تعني حكم الأغلبية السكانية. كان من المفترض أن يسير النظام السياسي بعد العام 2003 على أساس احترام وجود المكوّن الأكبر. هذا لم يحصل. بمعنى أن شيعة العراق هم 65 بالمائة، لا نتكلم هنا من ناحية قانونية ونظرية قبل أن ندخل الجانب العملي، من الناحية القانونية والنظري، فإن الـ 65 بالمائة من سكان العراق يفترض أن يكون لهم قرار الدولة والتشريع والحكم.

يوسف المحسن: من الناحية النظرية مقبول، لكن من الناحية العملية؛ هل توجد مجتمعات تعددية شبيهة بمجتمع العراق طبّقت هذه الأغلبية؟

علي المؤمن: نعم، في كل المجتمعات، في كل مجتمعات العالم المتحضرة، من الطبيعي أن تفرض الانتخابات الديموقراطية حكومة تمثل الأغلبية السكانية، بأي مسمى كان، أغلبية سياسية أغلبية وطنية أغلبية مكوناتية. من الطبيعي أن يكون رئيس الجمهورية، أي رئيس الدولة، وكذا الحاكم التنفيذي، وكذا رئيس مجلس النواب من الأكثرية، الى جانب حفظ حقوق الآخرين، لأن السلطات كلها منبثقة عن الأكثرية السكانية في الفلسفة الديمقراطية، لا أن تبقى الأكثرية أسيرة قرار الأقلية. الشيعة في العراق لم يحظوا بهذا الموضوع، وهو حقهم  الطبيعي.

على المستوى العملي أيضاً، حكومات الشراكة والحكومات التوافقية، لم تنجح عملياً، بسبب تشظي عقيدة الدولة أساساً، وتشطي قرار الدولة، ولاعلاقة لهذا الفشل بعدم كفاءة المسؤولين وبالفساد فقط، فالفساد الظاهر هو كون الحكومات توافقية، وأن الوزارات هي عبارة عن وزارات أحزاب، لكن الأسباب أعمق من ذلك. تلاحظ أن قرار الدولة منقسم على ثلاثة، فثلث القرار بيد 65 بالمائة من السكان، وهم الشيعة، وثلث بيد 16 بالمائة من السكان، وهم السنة العرب، وثلث بيد 15 من السكان، وهم السنة الكرد. فهل هذه القسمة صحيحة بكل المعايير؟ وهل هذه هي الديمقراطية؟. والنتيجة أن التغيير لم يحقّق للمواطن الشيعي وللمكوّن الشيعي ما كان يصبو اليه من إمساك بقرار الدولة، ومن خدمات وإعادة بناء ونماء مستدام ورفاهية  واستقرار أمني عميق. ولذلك؛ قلت أنّه مبتور، لأن المكوّن الغالب عددياً لم يحقق حتى الآن طموحه على المستويات النظرية والقانونية والعملية، بعد 1350 سنة من الانتظار. لكنه سيتحقق قطعاً، عاجلاً أم آجلاً. هذا التغيير سبق أن اسميته (صدمة التأريخ)، وهو عنوان أحد كتبي، لأنّ الواقع العراقي انقلب رأساً على عقب، إذ تحوّل الشيعة من كونهم معارضة تأريخية عمرها1350 سنة إلى شركاء في الحكم.

يوسف المحسن: هنا مختلفة دكتور.. هذا على أي أساس؟ إذا كان على المستوى السلطة التشريعية؛ فالمكوّن الأكبر يعدّ النصف زائد واحد، وإن كان لم يطبقها، وعلى مستوى مجلس الوزراء، على مستوى قرار الدولة، بمعنى أن لدى الشيعة أغلبية برلمانية وأغلبية في السلطة التنفيذية.

علي المؤمن: أنا قلت على المستوى العملي ليس هناك تطبيق، يعني كل القرارات لم تطبّق. قلت أنّ الكردي السني له صوت واحد، بغضّ النظر عن عدد مقاعده في البرلمان، وصوت للعرب السنة، أيا كان ثقله البرلماني، وللشيعة صوت واحد أيضاً. هذه هي الديمقراطية العراقية التوازنية.

يوسف المحسن: جيد، التوافق وليس الأغلبية. تقول في صفحه 220 من كتابك الاجتماع الديني الشيعي: إن الشيعة بعد العام 2003 احتفظوا بأهم مناصب الدولة، ثم في صفحه 260 تقول وأنت تتحدث عن الأغلبية، بأنّ النظام السياسي بعد العام 2003، سلب حق المكوّن الأكبر في أن تكون المناصب الشيعية في الدولة منسجمة مع حقوقه؛ فكيف تقول أخذوا أهم المناصب، ثم تقول لم يحصلوا على أهمّ المناصب. هل تقصد على مستوى الرئاسات الثلاثة مثلاً أو على مستوى القرار؟

علي المؤمن: أشير إلى ملاحظة مهمة تتعلق بالمناصب. في كل دول العالم لا يحدّد القانون ــ عادة ــ دين أو مذهب أو قومية من يستلم المنصب أو المذهب أو دين أو قومية؛ فكل مواطن من حقّه في الظاهر أن يكون في أي منصب من مناصب الدولة، ولكن الأعراف السياسية شيء مختلف، وفي أغلب الدول توجد أعراف تشير الى الانتماء الديني أو المذهبي أو القومي، وأحياناً القبلي لأصحاب المناصب. وفي العراق صار العرف السياسي أن يكون رئيس الجمهورية كردياً سنياً، ويكون رئيس البرلمان عربياً سنياً، ورئيس الوزراء شيعياً، دون أن ينص الدستور أو القانون على ذلك. ولكن؛ ينبغي أن يكون من حق الشيعي أن يكون وجوده في مناصب الدولة منسجماً مع نسبته العددية التي هي 65 بالمائة من نفوس العراق، أي أن من الطبيعي أن تكون مآلات الديموقراطية والانتخابات تؤدي الى حكومة الأغلبية، وأقصد بها حكومة الأغلبية الحقيقية بمعناها السياسي الموجود في مناهج العلوم السياسية.

حكومة الأغلبية تعني أن يكون رئيس الدولة أي رئيس الجمهورية، وكذلك رئيس الحكومة ورئيس البرلمان من الأغلبية. هذا شيء طبيعي، وهو لا يعني احتكار المناصب، بل يعني أن نتعامل مع المناصب وفق ماتفرزه الانتخابات، وليس وفق التوافق المحاصصاتي المكوناتي، الذي يظلم الشيعة.

يوسف المحسن: وإذا كانت هذه الأغلبية ليست أغلبية مكوّن أكبر، المكوّن هو جزء، مثل ما يحصل اليوم. هل تقصد الأغلبية المكوناتية أو الأغلبية الوطنية؟

علي المؤمن: هناك تشكيل اسمه الأغلبية التوافقية وهناك تشكيل الأغلبية المكوّناتية. أنا أتحدّث عن الأغلبية المكوّناتية. بالبداية دعنا نفصّل وضع الدولة، ثم نأتي إلى الحكومة، الحكومة هي السلطة التنفيذية في الدولة وليست الدولة. أتحدث عن سلطات الدولة، قلت أنّ من الطبيعي إذا كانت دولتتنا تسمح لكل مواطن، يعني الشيعي والايزدي والصابئي والكردي، من حقّه أن يكون رئيساً للجمهورية أو رئيساً للحكومة او رئيساً للبرلمان؛ فهذا طبيعي ضمن الأغلبية السياسية، وهو ماندعو أليه، ولكن عندما يشترط العرف السياسي في إطار المحاصصة المكوناتية، أن يكون رئيس الجمهورية كردياً؛ حينها سيقول الشيعة هذا خطأ، وينبغي ان تعطى المناصب السيادية الى المكون الأكبر؛ فيكون من حق المكوّن الأكبر أن تكون رئاس الجمهورية ورئاسة مجلس النوّاب وكذلك رئاسة الوزراء من حصته. هذا شيء طبيعي، أما الأخرون فيأخذون المناصب التي تنسجم مع  واقعهم العددي.

يوسف المحسن: يعني خمسة وستين بالمائة يستحوذ على مناصب المهمة هل هذا الحديث النظري إلى واقع عملي في مجتمعات تعددية التي ذكرتها …مثلاً ليبرهارت في الديموقراطية التوافقية مثل سويسرا و غيرها

علي المؤمن: ليس استحواذاً، هذا شيء طبيعي، هذا موجود في كل دول العام، سواء كان تشكيلة الدولة محاصصاتية مكوناتية أو وفق الاغلبية السياسية التي تفرزها الانتخابات. أضرب لك مثالاً بسيطاً، لو كان النظام السياسي في العراق نظاماً رئاسياً، أو نظاماً مختلطاً يعني رئاسي بارلماني، يعني يكون عدنا رئيس جمهورية ويكون عدنا رئيس وزراء؛ فهل تتوقع أن ينتخب رئيس الجمهورية من خارج الطائفة الشيعية؟ وهل سيكون رئيس الوزراء من خارج الكتلة البرلمانية الأكبر التي يشكلها الشيعة، ويكون شيعياً؟ وكذا بالنسبة لرئيس البرلمان؟

سيكون رئيس الجمهورية شيعياً بشكل تلقائي وطبيعي، ثم ستكون الكتلة الأكبر هي الكتلة الشيعية،  وسينتخب البرلمان المرشح الشيعي لرئاسة الوزراء، وتلقائياً أيضاً سيكون رئيس البرلمان شيعياً. هذه هي الديموقراطية. أنا لا أقول يكتب هذا الدستور أو قانون الدولة العراقية، ولكنه سيكون هكذا في كلا الحالتين، أي في حالة المحاصصة المكوناتية أو الأغلبية السياسية. والحال إن ما يحدث الآن وفق التشكيلة التوافقية العجيبة؛ فيه غبن كبير للشيعة، لأن السياسيين الشيعة يتبرعون بمنصب رئاسة الدولة ومنصب رئاسة البرلمان للسنة الكرد والعرب، وهو تبرع غير مشروع، ولم يخولهم جمهور الشيعة بذلك.

يوسف المحسن: ليس كلبنان، نحن نستخدمها كعرف. أنت تقول لنتخلص من هذا العرف، ولكن كيف بالنسبة للأخرىن إشلون؟ ألا يشعرون بأنهم باتوا دون مناصب سيادية؟

علي المؤمن: نعم إذا أردنا أن ننهي العرف و ندع الأمور تمشي بشكل طبيعي؛ فسيأخذ الشيعة وضعهم المتناسب مع نسبتهم العددية، وسيأتي ذلك وفق نتائج الانتخابات والقواعد الديمقراطية. ولكن من الطبيعي أيضاً أن يتم إشراك جميع المكوّنات الطائفية والقومية العراقية في مناصب الدولة والسلطة، هي هذه الديموقراطية. خذ الولايات المتحدة الأمريكية مثالاً، صحيح هناك حزبان يتنافسان، ولكن من الطبيعي أن تفرض الأكثرية المذهبية، رئيساً للجمهورية من مذهب الأكثرية السكانية؛ فيكون بروتستانتياً. وفي بريطانيا لايأتي رئيس الدولة من خارج الكنيسة الانجليكانية، مستحيل. رئيس وزراء بريطانيا كذلك هو عادة انجليكانيّاً. وحتى الخلاف داخل الشعب الايرلندي أو مع بريطانيا هو خلاف طائفي حول التبعية المذهبية، هو خلاف طائفي. انقسام ايرلندا الى شمالية وجنوبية هو انقسام طائفي، فالتي استقلت هي كاثوليكية والتي احتفظت بالوحدة مع انجلترة هي انجليكاني بروتستانتية. في الهند؛ هل جاء رئيس وزراء أو حاكم مسلم بعد تأسيس الهند الحديثة؟ لا، كلهم هندوس، وهذا طبيعي أيضاً، طبيعي أن يكون الحاكم في كل بلدان العالم من الاغلبية السكانية.

يوسف المحسن: إذا كان شيعة العراق أغلبية عددية؛ فكيف يكونون أقلية سياسية؟ أنت تدعو إلى أن يشكل المكوّن الأكبر الحكومة لوحدهم أو يأخذوا المناصب المهمة بما ينسجم مع ثقلهم؟

علي المؤمن: نعم يكون الشيعة أقلية سياسية عندما يحتكمون إلى هذا النظام التوافقي المحاصصاتي البغيض وهذه الدولة التوافقية البائسة، ويتسلمون ثلث مناصب الدولة، ويتبرعون بالثلثين للسنة، كرداً وعرباً؛ فيكون الشيعة بذلك أقلية سياسية. هذا البؤس الذي تعيشه الدولة العراقية من ناحية الأعراف السياسية ومن ناحية النظام السياسي. نحن ليس لدينا نظام سياسياً توافقياً توازنياً مكوناتياً وفق الدستور، بل نظام ديموقراطي. ولكن الأعراف سياسية تطعن في هذه الديمقراطية بالصميم. وهناك من يخلط ويتصور أن النظام السياسي العراقي هو نظام محاصصاتي توافيقي، وهو تصور غير صحيح، بل الأعراف السياسية هي توافقية توازنية محاصصاتية.

في إطار العملية الديموقراطية؛ قد يتصور بعضهم أنّ هذه دعوة لاقصاء الآخر. لا أبداً، بل دعوة لتسير الأمور بشكل ديمقراطي طبيعي، بشكل انتخابات ديموقراطية، الانتخابات هي التي ستفرض الانتماء القومي والمذهبي للأكثرية النيابية، وهي التي ستحدد من يتسلم الرئاسات الثلاث. والشيعة الآن كما قلت يتبرعون بمنصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان، بدعوى أنهم الأخ الأكبر الذي يجب أن يتنازل، وهي دعوى عجيبة.

يوسف المحسن: تقول أنّ النخب السياسية الشيعية تقدّم تنازلات، تارة من أجل مصالحها الفئوية وتارة أخرى من أجل بقاء عجلة الدولة تدور، ويبقى العراق موحداً؛ لماذا؟ لماذا الشيعة يقدمون التنازلات؟

علي المؤمن: أولاً أنا ضد فكرة أن يكون الشيعة في العراق هم (أُمّ الولد) أو (الأخ الأكبر). منذ العام 2003 وأنا أُناقش هذا الموضوع مع النخب السياسية الشيعية؛ فأقول لهم إن دعوى أن الشيعة هم أم الولد غير ثابتة ولا شرعية، ومن قال أن المكون الاكبر يجب ان يكون ام الولد ويتنازل عن الاستحقاقات ويتبرع بالاستحقاقات، ثم من خوّلكم أن تدّعوا أنكم أم الولد؟ ومن خولكم بالتنازل والتبرع باستحقاقات الشيعة؟ أنت تتصور أنك أم الولد؛ تبرع من جيبك، تنازل عن حصتك الشخصية. شيعة العراق انتظروا هذه الفرصة منذ 1350؛ فلماذا تقتلوا احلامهم؟ هذا المكوّن المظلوم له حقوق وله استحقاقات، سياسية وثقافية واجتماعية وإنمائية واقتصادية؛ فليس من حقّك  أن توزع نفط البصرة ــ مثلاً ــ بطريقه تهضم بها حق ابن الجنوب، ابن البصرة، ابن الفرات الأوسط، لكي ترضي المكوّن السياسي الآخر، أو الحزب السياسي الآخر، أو المكوّن القومي والطائفي الآخر. هذا غير صحيح.

يوسف المحسن: هذه الهواجس موجودة، لماذا لم نذهب منذ البداية الى تشكيل الأقاليم؟ لماذا لا يطرح المكوّن الأكبر نظاماً إداريا بديلاً عن النظام الحالي، يحفظ به حقوق أبناء مكوّنة؟

علي المؤمن: تأسيس إقليم الجنوب وإقليم الفرات الأوسط وإقليم الشرق، الى جانب باقي الأقاليم مطلب مشروع، لكن اعتقد أن مشروع إقليم الجنوب سيخنق الأقاليم الأخرى، فيما لو تعامل مع باقي الأقليم كما يتعامل اليوم إقليم كردستان، سيكون هناك ظلم لباقي المكونات، من حيث الموارد بالذات. كل الثروات الزراعية والأراضي الخصبة والنفط هي في الفرات الأوسط والجنوب. إذا كانت الثروات توزّع على طريقة إقليم كردستان، الذي يحتفظ لنفسه بالموارد الطبيعية والمالية والمسؤوليات والقرارات، بما يشبه الدولة المستقلة، وكذلك يشارك الدولة في المناصب والقرارات والثروات والميزانية. هذا اللون من أقلمة الجنوب، سيؤذي الإقليم السنّي في الغربية، وسيتعرض للانهيار. لذلك؛ الأفضل هو ثلاثة أقاليم للوسط والجنوب والشرق، وإقليم بغداد، وإقليم كركوك، وإقليم الغربية، شرط أن لاتتعامل الأقاليم فيما بينها أو مع الدولة المركزية على طريقة إقليم كردستان.

يوسف المحسن: أنا أسأل عن موقف المرجعية الشيعية بصفتها محور الاجتماع الديني الشيعي، هل المرجعية الشيعية في قراءتك أو استنتاجك أو سماعك، هي مع قضية الأغلبية بالطريقة التي تطرحها؟

علي المؤمن: حسب تصوري المرجية الدينية تريد أن تحفظ حقوق الأقليات المكوّناتية الأخرى بالشكل الذي ينسجم مع طبيعة الشراكة الوطنية والتعايش الوطني، والوحدة الوطنية، ولكن لا أعتقد أنّ المرجعية الدينية توافق على هذا الأسلوب في توزيع الثروة وتوزيع السلطة، لأنّ فيه ظلم لابن الوسط وابن الجنوب. هذا استنتاج وليست معلومة، وهو استنتاج معقول، لأن هذا الموضوع عقلائي ولا علاقة له حتى بالفتوي وبالحكم الشرعي، بمعنى حين  يُظلم ابن الوسط والجنوب من أجل إرضاء الأخرين، سياسيين وحزبيين، ومن أجل تشكيل الحكومة والسيطرة على الحكومة أو من أجل أن ترضي أحزاب المكوّنات الأخرى؛ فهذا أكبر ظلم لأبناء الوسط والجنوب. والمفارقة أن من يتم إرضائهم هم سياسيي المكونات الأخرى وشخصياتهم، وليس مجتمعات المكونات الأخرى، ولو كان التنازل يتم لمصلحة الشعب ومجتمعاته؛ لكان الأمر مقبولاً. لو تتنازل إلى شعب كردستان، أو شعب الغربية، فلابأس بذلك، لكن مشكلة أنّ التنازل هو للأحزاب وللشخصيات السياسية في المكوّنات الأخرى.

يوسف المحسن: أنت تدعو إلى تقنين حكومة الأغلبية وفق القانون، لكن أحد مشاكلنا هو القانون الانتخابي الحالي، لأنه قانون ينصّ على الترشيح الفردي ونظام الصوت غير المتحوّل، وهذا يخالف فلسفة النظام الديموقراطي القائم على الأحزاب. بالتالي؛ الأغلبية من الممكن بعد أربع سنوات أو أكثر تكون متشظّية، بسبب الدخول الفردي في الانتخابات. هناك نقطة مهمة تطرحها في كتابك، وهي موضوع الأسئلة في إطار الهوية الشيعية، وتسأل أكبر عدد من الشخصيات. أسالك سؤال وسأرجع إلى مقابلة أجراها الحاج حامد الخفاف ممثل سماحة السيد السيستاني في لبنان، في العام 2017، هل الشيعية هي مدخل إلى الوطنية أو الوطنية مدخل إلى الشيعية؟ تتحدث أنت عن انتماء المذهبي والقومي والوطني، هل هنالك تعارض وتشير إلى ثلاثة أنواع من هذه الأفكار؟ السيد السيستاني وممثّله يطرح فكرة الاندماج الشيعة في مجتمعاتهم.

علي المؤمن: نعم هذا موضوع مهم جداً، ولعلّه من أسباب تأليفي كتاب الاجتماع الديني الشيعي، بمعنى أن موضوع الهوية الشيعية وإشكاليات الهوية العالمية والهويات الوطنية هو من اسباب تأليفي الكتاب. الكثيرون يعتقدون أن هناك تضارب بين انتماءات الإنسان والمجتمع. أنظر؛ لا يوجد انسان في العالم له انتماء واحد. كل إنسان في العالم عنده عدة انتماءات: انتماء للغة، للقومية، للدين، للمذهب، للعشيرة، للحزب، للمدينة، وغيرها. في كل دول العالم هناك انتماء للدين ثم انتماء للوطن أو للوطن ثم للدين، ثم للمذهب. مثلاً؛ ألماني، مسيحي، كاثولي، يميني، برليني. لايوجد تضارب، والشخص نفسه هو الذي يحدد أولوية هذا الانتماءات المتعددة، وفق عقيدته وايديولوجيته.

على المستوى الشيعي؛ لايوجد تضارب بين الانتماءات والهويات التركيبية؛ فالشيعي العراقي مثلاً، هو مسلم شيعي عراقي بغدادي، ثم الهوية السياسية والحزبية إن وجدت. ومن ناحية ايديولوجيتي الإسلامية؛ فإن الانتماء الإسلامي هو الأول، ونحن نعتقد أنّ قراءة أهل البيت للدين هو الإسلام الحقيقي، ولا يوجد فرق بين أن أكون شيعياً وأن أكون مسلماً، وبالتالي؛ فأنا مسلم شيعي عراقي عربي من العشيرة الفلانية والمدينة الفلانية والحزب الفلاني، وكيفما أخّرت وقدّمت بين هذه الانتماءات؛ فلايوجد فرق كبير، لأن المعيار هو شعور الإنسان تجاه هذه العناصر وقوة انتمائه لكل عنصر.

يوسف المحسن: فأنت الآن شيعيتك المدخل لوطنيتك؟ أنت تقول لايوجد تعارض

علي المؤمن: لا يوجد تسلسل بهذه الطريقة، بل التسلسل نسبي، وله علاقة بالمقام والمكان والزمان؛ فإذا سألوك على المستوى القانوني؛ فستقول أنا عراقي، وهنا تقدّمت وطنيتك على دينك ومذهبك. وفي المقام الديني ستقدِّم الإسلام والتشيع، هنا تقول أنا مسلم شيعي. بالتالي؛ فإن غالباً الأسئلة في مجال الهوية تكون موجهة ومغرضة، وهي تطرح السؤال بأسلوب يستبطن إشكالية وتهمة وشبهة وموقفاً مسبقاً، بمعنى أن الفرضية تكون خاطئة ويكون السؤال افتراضياً وليس له نصيب من الواقع.

أقول؛ لايوجد تعارض بين عناصر تكوين الهوية الشيعية، لا يوجد تعارض بين أن اكون شيعياً عالمياً أُؤمن بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي، العالمي، وأكون عراقياً وطنياً، لا يوجد أي تعارض، أو أكون عربياً وفي نفس الوقت منتمياً إلى الاجتماع الديني الشيعي العالمي. وينبغي ان يكون السؤال دقيقاً. لا تقل لي من أي عنصر تبدأ، بل إسألني وفق المقام، من أنت من الناحية القانونية؟ أقول لك أنا عراقي. من الناحية الدينية؟ أنا سأقول لك أنا مسلم شيعي، كوني أُقدم الإسلام على كل شيء، وأعتقد أن التشيع هو الإسلام أو هو القراءة الصحيحة للإسلام.

يوسف المحسن: دكتور تشير في الكتاب إلى قضية مهمة أيضاً، هي قضية تقليد المرجع. لا تدعو إلى قومنة المرجعية أو عرقنة المرجعية. تقول: إنّ هذا لا يتعارض إذا  كنت أنا عراقياً مثلاً أو كنت في بلد آخر غير عراقي، وكانت مرجعيتي في دولة أخرى، ليس بالضرورة تتوافق مع منهج البلد الذي أنا به. كيف يمكن التوفيق هنا؟

علي المؤمن: المرجع الأعلى هو مرجع لكل الطائفة الشيعية في كل العالم. وان يكون هذا المرجع هو الأعلي؛ فذلك يرتبط بالنفوذ الديني على مستوى الشيعة في كل العالم، وليس في بلد واحد، أي المعيار هي عالمية المرجع وتحقيقه أغلبية المقلدين الشيعة عالمياً، فضلاً أهمية مكان إقامته، وخاصة النجف. أما أذا كان مقلدي المرجع محدودين ببلد معين أو قومية معينة؛ فهذا يبقى مرجعاً محلياً.

والمرجع الأعلى مصطلح حديث، وكان يوصف بأوصاف أخرى، مثلاً الطوسي كان يسمّي (شيخ الطائفة)، ماذا يعني شيخ الطائفة؟ يعني قائد الشيعة وأكبر فقيه شيعي وزعيم الطائفة الشيعية وزعيم الحوزة العلمية. والشيخ الانصاري كان له لقب (الشيخ الأعظم) بمعنى لايوجد أعظم منه بين الفقهاء، ويعني المرجع الأعلى؛ فبصرف النظر عن المصطلح؛ فقد كان هناك مرجع أعلى للشيعة في كل زمان، أي المرجع الأول وزعيم كل الشيعة ومرجع كل الطائفة الشيعية، فإذا كان هناك مرجع في داخل العراق خاص بشيعة العراق ومقلّدوه في حدود العراقيين فقط، حتى لو قلّده كل شيعة العراق، أو كان في باكستان وقلّده كل شيعة الهند وباكستان؛ فهذا لا نسمّيه مرجع أعلى ولا زعيم الشيعة ولا ولي أمر الشيعة، لأن المرجع الأعلى أو الولي أو الزعيم هو الذي يقلّده الباكستاني والهندي والإيراني واللبناني والشامي والمصري والاذربايجاني، هذا اسمه المرجع الأعلى.

تصوّر ــ مثلاً ــ بعض المراجع في العراق أو إيران، يطرح نفسه كمرجع أعلى أو ولي أمر المسلمين، لكن لايقلّده شيعي هندي وأفغانستاني ولبناني وبحريني واحد. بينما الكتلة الشيعية في شبه القارة الهندية هي أكبر كتلة شيعية في العالم، مائة مليون شيعي في الحدّ الأدني، يتجاوز عددهم شيعة ايران وأفغانستان والقفقاز؛ فكيف يكون مرجعاً أعلى ولايعرفه شيعة شبه القارة الهندية وليس لديه مكاتب ووكلاء فيها ولامدارس دينية، وماذا يعني أن يكون مرجعاً أعلى ويقلده  ــ مثلاً ــ مليون شيعي من مجموع 350 مليون شيعي في العالم؟! فإذا تريد أن تعرف من هو المرجع الأعلى فعليك أن تجد نسبة مقلدية في كل العالم، وشبكة وكلائه ومكاتبه وطبيعة امتداده ونفوذه الاجتماعي الديني ودالته على الشيعة في كل مكان، وليس حجم وسائل إعلامه وانتشار صوره، وارتفاع صوت أتباعه.

هذا هو المعيار الأول، أي حجم النفوذ الاجتماعي الديني في كل بلدان الحضور الشيعي. أما المعيار الثاني؛ فهو أصل عالمية المرجعية؛ إذ لا يوجد في النظام الاجتماعي الديني الشيعي منذ عهد الغيبة الصغرى وحتى الآن، لا يوجد شيء اسمه مرجع محلي أو مرجع وطني أو مرجع قومي أو مرجع عشائري، أو مرجع له علاقة بالبلد أو المدينة. كل المراجع عالميين ولا يُسأل يوماً عن قومية هذا المرجع أو قبيلته أو جنسيته.

في عهد السفراء الأربعة؛ كان هناك ثلاث سفراء عرب وسفير إيراني فارسي، ولم يسأل أحد يوماً عن قوميتهم ووطنهم، ثم جاء المشايخ الأربعة أو الركائز الأربعة: الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي، إثنان فرس وإثنان عرب، وما التفت أحد إلى جنسيتهم وأصولهم القومية والوطنية. لايوجد هذا الشيء. ثم تعال الى التاريخ المعاصر، كان السيد أبو الحسن الإصفهاني إيرانياً من أصل عربي، يسكن النجف، ويقلده كل شيعة العالم، وكان السيد البروجردي وهو إيراني من أصل عربي يسكن قم، ويقلده كل شيعة العالم، وكان السيد الحكيم وهو عراقي عربي يسكن في النجف، ويقلده أيضاً كل شيعة العالم. هذه هي المرجعية الشيعية العليا، مرجعية عالمية، ولايمكن أن تتغير هذه المعادلة إطلاقاً، مهما حاول نظام حزب البعث وامتداداه الحالية، ومهما حاولت السعودية وغيرها من الدول الطائفية.

ولكن متى ومن طرح هذا الموضوع؟ موضوع المرجعية المحلية أو الوطنية أو العربية؟، طرح هذا الموضوع حزب البعث بعد وفاة السيد أبي القاسم الخوئي، أراد حزب البعث أن يوطّن المرجعية الشيعية لكي يستطيع التحكم بها وتوجيهها والضغط عليها، ولكي لاتكون لها حماية شيعية من مقلديها في خارج العراق. وهكذا ترى أن حزب البعث الذي هو حزب علماني عنصري غير عراقي معادي للشيعة، يتدخّل في الشأن المرجعي الشيعي، ويعمل على لوي عنق النظام الاجتماعي الديني الشيعي والمعايير الشيعية في انتخاب المرجعية الشيعية، ويخلق مرجعية قومية ومرجعية وطنية، ورغم أن المؤامرة لم تنجح، إلّا أنها تحولت الى ثقافة لدى بعض شيعة العراق المتأثرين بثقافة البعث، وتوسع اللغط فيها بعد سقوط النظام في 2003 وظهور الحرية المنفلتة والإعلام الطائفي المعادي.

يوسف المحسن: أنا عندي انتماء إلى المرجع، سواء انتماء وجداني مثل ما أسميته، أو كان دينياً. إذا تعارضت مصالحه مع المصالح الوطنية للبلد الذي أنا انتمي إليه كمقلد؛ فمن أُرجِّح؟

علي المؤمن: أنا أريد أن أعكس السؤال، أنت هندي أو باكستاني، أو أنت بحراني، وتقلّد السيد السيستاني العراقي أو المقيم في العراق، في النجف، وأنت تستمع إلى توجيهاته الدينية والاجتماعية وتاخذه بفتاواه، وتعطيه حقوقك الشرعية وانت في البحرين، هل هذا يتعارض مع مصالح البحرين؟، ولنفترض أن توجيهات السيد السيستاني تتعارض مع سياسات نظام البحرين، لكن هل أنها متعارضة مع مصالح المواطن الشيعي في البحرين؟. ثم أن هذه الفرضية غير موجودة أساساً، لا كانت موجودة ولا حالياً موجودة ولن تكون. المرجع الأعلى متحققة فيه الفقاهة والعدالة والتقوى والنزاهة؛ فمن المستحيل يصدر منه حكم شرعي أو فتوى أو توجيه يتعارض مع مصالح الفرد الشيعي أو المجتمع الشيعي، بالتالي؛ هذه الإشكالية متهافتة بالأساس.

يوسف المحسن: تطرح في كتابك دكتور ثلاثة مستويات من الاندماج الشيعي، ياريت لو تفصّل الموضوع.

علي المؤمن: إذا أردت أن تندمج بأي مجتمع؛ فيفترض أن تحقق بديهية، وهي أن يكون هذا المجتمع يتقبّلك أساساً، فأنت لا تأتي الى بيت تفرض نفسك ضيفاً عليه بالإكراه، أو تقول لجارك أريد أن أندمج وإياكم. غالباً سيقولون لك لا نريدك، أو تندمج معنا بشروطنا. موضوع الاندماج الذي طرحه الشيخ محمد مهدي شمس الدين، في ذاك الوقت كتبت دراسة تفصيلية، وهي موجودة ضمن كتابي الاجتماع الديني الشيعي. كان الشيخ شمس الدين يرى اندماج المجتمعات الشيعية بمجتمعات الدول. على أساس هذا الرأي؛ عاد كثير من المعارضين الشيعة إلى البحرين وإلى المملكة السعودية. إين الإشكالية هنا؟ الإشكالية ليست في الاندماج بالمجتمع السني وانّما الاندماج في مجتمع السلطة. في المملكة السعودية هناك الاجتماع السني العادي وهناك اجتماع السلطة؛ فإذا كان المطلوب الاندماج بالمجتمع السني العادي؛ فأساساً لاتوجد مشاكل مهمة مع هذا المجتمع، لأن المشكلة أساساً هي مع مجتمع السلطة. السلطة هي ترفضك أساساً، وتريدك أن تستسلم وتتنازل وتتحول الى فرد بدون هوية خاصة، أي أن مجتمع السلطة يرفض الشيعي صاحي الهوية أساساً؛ فكيف ستندمج به غصباً عنه؟هو لا يعترف بالشيعي كصاحي هوية أساساً، هو يهمش الشيعي ويعزله ويقصيه ولايتعامل معه مواطناً عادياً كالسني؛ فكيف ستندمج به؟

يوسف المحسن: فأنت تعارض طرح فكرة الاندماج الاجتماعي، كونها متحققة؟

علي المؤمن: نعم؛ لأن الاندماج الاجتماعي متحقق غالباً متحققة. فأنت كشيعي سعودي أو بحريني، إذا تريد أن تندمج بمجتمع السلطة؛ فلابد بمجتمع السلطة أن يوفّر لك المقدمات، أن يوفّر لك حريتك العقدية، أن يوفّر لك حريتك السياسية، أن يعطيك حقوقك، بعدها تندمج على أساس التكافوء في المواطنة. أما أن تندمج دون تحقيق مقدمات الاندماج العادل؛ فستكون مجرد وجود هامشي، ستبقى مهمّشاً، تبقى معزولاً. أنت تريد تندمج، نعم جيد؛ فليكن من حقك أن تكون رئيساً للوزراء أو تكون لك حصتك من الوزارت ومناصب الدولة بما يتناسب مع نسبتك العددية من حقك تصير وزير ومن حقك أن تكون في الموقع الذي تستحقه. ولكن لا يصح أن تندمج في اجتماع سياسي هو يرفضك بالأساس، لكن اندمج به بعد ان يعترف بهويتك المذهبية كما يعترف بالهوية المذهبية السنية، ثم يحقق لك المقدمات، وبعدها اندمج، وإلّا فإن موضوع الاندماج هذا هو وهم، وهم كبير.

يوسف المحسن: حسناً، كيف تقيّم الشراكة الحكومية للشيعة، وفق ما تتحدث عن وجود مجتمعات شيعية في ست دول تشترك في سلطات النظام في إطار التوافق؛ كيف تقيم تجاربهم؟

علي المؤمن: لاشك أن أنجح تجربة للحضور الشيعي في الدولة هي التجربة الإيرانية، باعتبار الأغلبية السكانية في البلد، وأسوء تجربة هي التجربة العراقية في عهد النظام البعثي والتجربة البحرينية الحالية، باعتبار الشيعة يشكلون الأغلبية السكانية أيضاً. وهناك التجربة الاذربايجانية السيئة أيضاً، والتي تشبه حكم شاه ايران العلماني المعادي للدين في بلد اغلبيته شيعية؛ ففي أذربايجان هناك شيعة بالاسم يحكمون، لكنهم معادون للدين وللتشيع وعلمانيون، ومن أصول شيوعية أساساً، هناك التجربة اللبنانية تجربة ناجحة، التجربة اليمنية حالياً ان شاء الله يتحقق لها النجاح. التجربة العراقية جيدة جداً على مستوى مشاركة الشيعة، قياساً بما كان عليه الشيعة قبل 2003، وليس قياساً بحجمهم السكاني أو بما ينبغي أن يكون، وأعتقد ستكون ناجحة بامتيار تدريجياً، بعد تراكم تجربة الشيعة في الحكم، وهي تمثل حتى الآن الطموح المبتور أو التغيير المبتور.

وبالتالي؛ أنا أعتقد، أنّنا نعيش عصر قوة الشيعة، هذا العصر هو أحد عصور الشيعة الذهبية، ولدي كتاب تحت الاعداد اسمه «قيامة الشيعة». لا أتحدث هنا عن خيالات أو تمنيات أو طموحات، بل أتحدث عن واقع قائم، وعن واقع سيتحقق تدريجياً.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment