ولاية الفقيه قيمومة على الناس أم رئاسة

Last Updated: 2024/06/11By

ولاية الفقيه:

قيمومة على الناس أم رئاسة للدولة الإسلامية؟

د. علي المؤمن

في إطار حرية الرأي والكلمة والفكر التي عاشتها الساحة الإيرانية منذ اليوم الأول لتأسيس الدولة الإسلامية الحديثة، شهدت الحركة الثقافية والفكرية في إيران ألواناً متميزة من الحوار والجدل والسجال بين المختصين والمهتمين، في شتى مجالات المعرفة، ولاسيما المعرفة الدينية والاجتماعية والسياسية. وهذا الواقع نادراً ما نجد له نظيراً في البلدان التي تعيش المستوى الاجتماعي والخلفيات التاريخية نفسها، وهو نتاج الأداء الراقي للحرية المتوازنة المرشدة التي كفلها دستور الجمهورية الإسلامية، الأمر الذي أثرى الساحة الفكرية والثقافية السياسية، وأوصلها إلى مستوى عال من العمق والنضوج.

بالطبع هذا الواقع الحر المنفتح له ضريبته وله وجهه الآخر الذي لا يخلو من اللبس والضبابية. ولهذا الوجه مظاهره التي ازدادت بروزاً خلال السنوات الأخيرة، وأهمها: استغلال بعض المثقفين والأكاديميين شمولية مواضيع الحوار وسعتها وانفتاح الساحة، فراحوا يزاولون اختصاصات بعيدة عن اختصاصاتهم، ومنهم من ينظر لقضايا فقهية وعقائدية دقيقة هي من اختصاص «أهل الذكر». بل تجد أن قسماً من هؤلاء لا يتردد في الاعتداء حتى على اليقينيات الدينية، بعد أن يتصور نفسه قادراً على الحديث والنقاش في أي مجال، فيكون كطبيب الأسنان الذي ينظر في عالم الذرة، أو كالمفتي بغير علم. في حين أن عصر التخصص والدعوة للتخصص الذي يعيشه العالم يقتضي أيضاً احترام تخصص الفقهاء وعلماء العقيدة، دون أن يستثنى الفقه والعقيدة من الدعوة لاحترام التخصص.

كما أدى هذا التداخل في الاختصاصات إلى زيادة سوء الفهم بين بعض المتحاورين؛ لأن أحدهم لا يفهم لغة الآخر! وعدم الفهم هذا يؤدي بدوره إلى إساءة لغة الحوار ـ أحياناً ـ فتتحول إلى نوع من الجدل الشخصي الذي يتجاوز الموضوع إلى استخدام آليات غير علمية خارجة عن حدود اللياقة، وحينها يصيب التراشق قضايا في غاية الحساسية لها علاقة باستقرار المجتمع وأمنه الثقافي والاجتماعي.

ومن المظاهر أيضاً، تضحية بعض أطراف الحوار بالحقيقة من أجل المصلحة الفئوية، وبما أن هذه المصلحة تضيق النظرة إلى موضوع الحوار، فإن الهدف من الحوار سيكون مجرد تحقيق مكسب فئوي، وليس الوصول إلى الحقيقة، وعندها تكون آلية الحوار سياسية محضة وبعيدة عن المنهج العلمي والواقعي. وفي هذا الإطار نجد أن الفئوي لا يمانع خلال الحوار من التنازل عن بعض مبادئه وأصوله الفكرية من أجل كسف فئات أخرى، وإن لم تكن تنتمي للساحة الإسلامية، أو الدفاع عن عناصر معينة وعن أفكارهم وممارساتهم، وإن لم يكن يعتقد بها، وذلك لضرب الفئات المنافسة. وهذه الحالة تؤدي إلى تعقيد الأوضاع وخلط الأوراق بصورة غير معقولة، وتفتح الأبواب أمام غير الإسلاميين وأعداء الثورة للمزيد من النفوذ في أوساط الأطراف الإسلامية.

أما المظهر الأكثر خطورة في هذا المجال فيتمثل في سهولة حركة المندسين والمتآمرين الذين يتلخص همهم في إثارة الشغب الفكري والثقافي في الساحة، وإشعالها بأنواع من الجدل العقيم والإثارات الفكرية التآمرية، وحرف مسار الحوار الهادف، بهدف إشغال جميع الأطراف وضرب بعضهم بالآخر وإضعافهم. والواقع أن هؤلاء المندسين لا يؤمنون بأي طرف سياسي وفكري من أطراف الساحة الإسلامية، بل ولا يؤمنون بأصل الجمهورية الإسلامية ونظامها ودستورها، إلا أنهم تمكنوا من حشر أنفسهم بين المتحاورين؛ ليمارسوا لعبتهم التآمرية ويحققوا أهداف غزوهم الفكري ومرامهم السياسية الخاصة.

ولكيلا يبقى حديثنا عن الوجه الآخر للانفتاح وحرية الرأي محصوراً في إطار النقد النظري، نشير إلى مفردة واحدة من مفردات الحوار الدائر في الساحة، وهي «ولاية الفقيه». والحقيقة أن موضوع سلطة الفقيه الحاكم وطبيعة ولايته ونوعية قيمومته ليس خطاً أحمر أو موضوعاً حساساً بذاته لأن الفقهاء ظلوا يدرسونه ويناقشونه منذ مئات السنين إلا أن النظرة غير الموضوعية لبعض أطراف الحوار إلى هذه القضية جعل البحث يخرج عن إطاره العلمي ويدخل في إطار المزايدات أو المناقصات السياسية والفئوية فمن جهة نشاهد بعض الصحفيين والكتاب والمثقفين يناقشون مبدأ «ولاية الفقيه» وصلاحياته ومساحة ولايته مناقشة سياسية سطحية خالية من أية مقومات علمية وكأنه واحد من أبسط الموضوعات الثقافية أو الأحداث السياسية اليومية ورغم أن هذا البعض يصعب عليه حتى فهم رسالة عملية إلا أنه لا يمانع من البحث ببساطة متناهية في موضوع فقهي وعقائدي عميق يحتاج الإلمام به إلى استيعاب العديد من العلوم والمعارف التخصصية كعلوم القرآن والحديث والرجال والعربية والفقه والأصول والكلام وغيرها.

ومن جهة أخرى عمدت بعض الاتجاهات إلى محاولة التعرض للعمود الفقري للفقيه السياسي لمدرسة الإمامة بهدف ضرب المدرسة الإسلامية ونظامها القائم من الجذور فراحت تطرح فهمها الخاص لمعنى الولاية ولخصته بمعاني «التفويض الإلهي» و«الأبوة» و«القيمومة» و«الوصاية» على المجتمع وهي مصطلحات منفرة ترادف الاستبداد والدكتاتورية، ومستقاة من المناهج الغربية لعلوم السياسة والقانون في دراستها للنظريات والنظم الثيوقراطية التاريخية ونظريات نشوء الدولة وغيرها. وهي عموماً مناهج ونظريات لا تقرها النظرية السياسية في الإسلام. ويخلص دعاة هذه الاتجاهات إلى نفي حاجة المجتمع إلى الولاية، لأن نظرية التفويض الإلهي ماتت وانقرضت وإن المجتمع ليس يتيماً ولم يعد قاصراً لكي يحتاج إلى أب وقيَم بل إن البشرية وصلت إلى مرحلة البلوغ والرشد العقلي والفكري. وهذه النتيجة الساذجة التي تستهدف وعي الأمة وتعمل على تسطيحه والسخرية منه فهذا الرشد المطلق ليس له إلا ثلاث تفسيرات: الأول المجتمع الراشد بالمطلق قد بلغ مرحلة العصمة وإفراده أدركوا مرتبة اليقين بأجمعهم وباتوا بمستوى لا يحتاجون معه إلى ولي وقائد ومرشد أو مرجعية فكرية واجتماعية أو ـ كما قال الخوارج الأوائل ـ لا حكم ولا ولاية فرد ولا أمير غير القرآن وكل مسلم يحكم نفسه بنفسه.

والثاني هو التفسير الماركسي الذي يعني بلوغ المجتمع مرحلة الشيوعية الكاملة (اليوتوبيا) التي تنفي الحاجة للسلطة والحكومة. والثالث ما تقول به الديمقراطية البدائية أو المباشرة. والتي اعترف كل دعاة الديمقراطية ماضياً وحاضراً باستحالة تطبيقها لأنها تتيح لكل فرد أن يمارس الحكم ممارسة مباشرة وهي قريبة ـ من حيث النتيجة ـ من رأي الخوارج مع الاختلاف في المبنى النظري.

وربما عاد دعاة الرشد الاجتماعي المطلق وقالوا: صحيح أن الناس لا يحتاجون إلى ولي ووصي وإمام إلاّ أنهم يحتاجون إلى الحكم يمثلهم أو الذي ينبثق عن إرادتهم أي الحكومة الوكيلة عنهم..

وعند هذه النقطة يعود أيضاً السجال عن الوكالة والأصالة.. من هو الأصيل: الأمة أم الإمام؟ ومن يمثل من: الأمة تمثل الإمام أم الإمام يمثل الأمة؟ وهو سجال عقائدي وفقهي وفلسفي عميق، لا يمكن البت فيه بالسهولة التي يتحدثون بها في صحفهم وعلى منابرهم السياسية والثقافية، بل ولا يمكن دراستها بمناهج دخيلة.

ومشكلة هؤلاء الحقيقية هي أنهم صنميون في مناهجم ومعاييرهم وفهمهم فيعتبرونها مناهج ومعايير مطلقة يمكن تعميمها على أية قضية أو موضع فالمناهج الغربية المتبعة في دراسة الظواهر السياسية والقانونية والاجتماعية هي صنمهم الذي يزنون فيه أية قضية أو موضوع كما أن المذاهب السياسية والاجتماعية الغربية هي معاييرهم الثابتة، فالديمقراطية الغربية هي معيارهم في قياس أداء أي نظام سياسي، والليبرالية الغربية هي معيارهم في قياس أداء أي مجتمع سياسي. والحال أن أي منهج معرفي أو مذهب اجتماعي وسياسي يبقى اكتشاف إنساني وتجربة بشرية قابلة للصواب والخطأ، ولا يمكن أن تكون معياراً مطلقاً أو ثابتاً، ولاسيما إذا كان موضوع القياس يختلف عن جنس الميزان، فيكونون كمن يزن كثافة الغاز بالمتر. أما دراسة الإسلام ونظمه فله مناهج ومعايير خاصة مستنبطة من حقائق الإسلام نفسها. وعند اتباع هذه المناهج أو المعايير السليمة فسوف تكون النتائج لصيقة بالحقيقة ـ عادة ـ ولن تكون نوعية العلاقة بين هذه النتائج والنتائج التي تفرزها النظريات الاجتماعية والمذاهب السياسية الوضعية ذات أهمية، سواء كانت علاقة تلاقي أم تجاذب أم تنافر! فلا يهم على الإطلاق أن تكون الديمقراطية أو المجتمع المدني على خلاف مع الولاية، وماذا يضر الإسلام إن خالفته الديمقراطية؟ هل يكرّس الإسلاميون جهودهم لجر نظامهم نجو الديمقراطية؛ ليتوافق معها ولكي ترضى عنه وتربت على كتفيه.

وفي كل الأحوال، فإن الإسلام كان ولا يزال خيار الناس الحر، فهم الذين انتخبوا الإسلام ونظامه السياسي انتخاباً حراً، كما انتخبوا ولاية الفقيه نظرياً وعملياً بإرادة حرة أيضاً.. مرة عندما صوتوا على الدستور الذي أقر الولاية، وأخرى عندما أجمعوا على قيادة الإمام الخميني، وثالثة عندما قام نواب الأمة (الخبراء) بانتخاب الإمام الخامنئي رئيساً للدولة. وبالتالي؛ فهي إرادة الأمة التي قررت أن يكون لها ولي أمر ورئيس؛ فما لهؤلاء وإرادة الأمة؟ هل أن أفكارهم الغريبة المنكفئة تمثل إرادة الأمة، أم إن الواقع الذي خلقته الأمة هو الذي يمثل إرادتها؟

أما الولاية فإن مضمونها لا يعني القيمومة على الناس وعلى تفكيرهم وعلى حركاتهم، كما لم يطرح الفقهاء هذا اللون من القيمومة، بل إن ولاية الفقيه ـ كما تدل الروايات والأحاديث ـ تعني الولاية الفتوى وعلى القضاء وعلى الحقوق الشرعية، أي المسؤولية والمرجعية السياسية والدينية والقضائية. وهي في النتيجة رئاسة الدولة ورئاسة الحكم. فالولي الفقيه هو ولي الأمر. والأمر هنا يعني قيادة الأمة وحكم الأمة، وليست القيمومة والوصاية. وبكلمة أخرى مسؤولية عامة أمام الشريعة ومرجعية عامة للأمة.

من هنا فالقيمومة الحقيقية في الدولة الإسلامية هي للشريعة «أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم». (يوسف/40). أما رئيس الدولة الإسلامية وإمام الأمة أو الولي الفقيه، فهو الأمين على الشريعة، وهذه الأمانة التي تعني المرجعية في الشريعة والمسؤولية تجاهها هي قيمومة من نوع آخر، ومن باب «العلماء حكام على الناس»، «فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» و«فإني جعلته عليكم حما». بل هناك تعبير صريح عن الولاية بمعنى القيمومة على حكم الناس ورئاسة المجتمع وورد في حديثين للإمام علي بن موسى الرضا (ع): «لو لم يجعل لهم إماماً قيماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملّة، وذهب الدين، وغيرت السنن والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقص منه الملحدون، وشبهوا ذلك على المسلمين» (علل الشرايع ج1 ص 251). فالمعصوم هنا يوضح عظمة مسؤولية ولي الأمر الشرعي، ويصفه بالإمام والقيم والأمين والحافظ والمستودع. وفي حديث آخر رواه الصدوق في المصدر نفسه، يجيب الإمام الرضا (ع) على تساؤل: «فلم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟» فيقول (ع): «فجعل عليهم قيماً يمنعهم الفساد، ويقيم فيهم الحدود والأحكام. ومنها أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل، بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس، لما لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا».

والمعنى الذي أشار إليه الإمام الرضا (ع) ينطبق تحديداً على ولي الأمر الشرعي الجامع لشروط الشرعية الدينية، وهو في إطار الدولة الإسلامية يتجسد في شخص واحد فقط، فالدولة فيها ولي واحد وقيم واحد هو الولي الفقيه، وولايته تمثل المسؤولية العليا في النظام الاجتماعي الإسلامي، وهي قبل كل شيء تكليف وأداء للوظيفة الشرعية. أما باقي المسؤوليات في الدولة الإسلامية فهي ولايات نسبية تستمد شرعيتها من الولاية المطلقة، أي إنها ـ في الأصل ـ معاونيات للولي الفقيه مثلاً: المعاون التنفيذي، المعاون العدلي، معاون شؤون القوات المسلحة، المعاونون الرأسيون إما تنتخبهم الأمة ويقر الولي هذا الانتخاب أو يعينهم الولي تعييناً مباشراً. وهذه الآليات تبقى تجارب يتوصل إليها العقل الإسلامي، أي إنها متغيرات خاضعة للتجربة، أما الولاية فهي أصل ثابت.

وقيمومة الشريعة وولاية الحاكم الشرعي لا تتعارضان مع حرية الأمة في اختيار حكامها، ومع الحقوق والحريات السياسية، بل إن الشريعة هي التي كفلت هذه الحقوق، وأعطت حرية الأمة وإرادتها مضمونها المتوازن المرشد، بالشكل الذي لا ترقى إليه أياً من الديمقراطيات المعاصرة. وهو نتاج الآلية الدقيقة التي ثبّتها دستور الجمهورية الإسلامية، والتي جمعت بين خلافة الأمة وشهادة الفقيه، أي بين الشورى والولاية، كما يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر.

ومن وجهة نظر مدرسة الإمامة، فإن الضرورات التي أدت إلى استمرار رسالة الأنبياء في الأئمة (ع) حتى قيام يوم الدين، هي ضروريات لا يحدها زمان أو مكان، وتظل قائمة، وهي تتجسد في الواقع إما بالأصالة، أي بشخص الإمام المعصوم (ع)، أو بالوكالة والنيابة، أي بشخص الولي الفقيه. وهذه الاستمرارية التي صرّحت بها الأصول المقدسة تدل بوضوح على حاجة البشرية المستمرة إلى المرشد والبشير والنذير والحاكم والولي.

ولا ندري ماذا سيكون رد فعل هؤلاء المحتجين على الولاية والقيمومة لو ظهر الإمام المهدي(ع) وهو القيَّم والولي الأصلي؟!

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment