نظرية الفقه الإسلامي

Last Updated: 2024/06/11By

نظرية الفقه الإسلامي

د. علي المؤمن

 

الفقه في دلالاته الاصطلاحية الإسلامية هو القانون الإسلامي، مع الأخذ بنظر الاعتبار اشتمال القانون الإسلامي على موضوعات لا يتضمنها القانون الوضعي (الأرضي). وقد تغيرت دلالة مصطلح الفقه بمرور الزمن؛ ففي عصر صدر الإسلام كان الفقه يطلق على ((العلم بالقواعد الشرعية بجميع أنواعها، اعتقادية كانت أم أخلاقية أم عملية))([1])، وهو بذلك يعبِّر عن منظومة المعارف الدينية بكل أبعادها الموضوعية والمنهجية، أو (الشرع الإسلامي) بمفهومه الواسع. وهو ما يشير إليه القرآن الكريم: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين}([2])، فالتفقه هنا هو العلم بالدين وأحكامه. ويؤكد الإمام علي(ع) هذا المعنى بقوله: «تفقه في الدين فإنّ الفقهاء ورثة الأنبياء»([3]).

وبابتعاد المسلمين زمنياً عن عصر صدر الإسلام، وتضخم موضوعات الفقه، وتراكم الحاجة إلى الاجتهاد، وظهور علوم ومعارف وأدوات جديدة تساعد على فهم الحكم الشرعي (عقيدياً وعملياً) أو تعمل على استنباط أحكام جديدة، خضعت دلالات الفقه لضرورات التخصص والتمايز على أساس الفصل بين أُصول الدين وفروع الدين؛ بهدف تفكيك موضوعات الفقه ومناهجه وتسهيل دراسته، وصولاً إلى إعادة تبويب الأحكام والعلوم والمعارف الإسلامية.

ومن هنا فقد انحسرت دلالات الفقه في موضوعين:

الأول: العلم بالقواعد الشرعية العملية دون غيرها من القواعد، وهو علم الفقه أو العلم بالقواعد الفقهية.

والثاني: القواعد الشرعية العملية ذاتها أو مجموعة الأحكام الشرعية العملية، وهو الفقه اصطلاحاً.

وبذلك يعرّف الفقه ـ مرة ـ بأنّه ((العلم بالأحكام ـ القواعد ـ الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية))([4])، وأُخرى بأنّه ((مجموعة الأحكام المشروعة في الإسلام، سواء أكانت شرعيتها بنص صريح من القرآن والسنة أم بالإجماع أو باستنباط المجتهدين من النصوص والقواعد العامة))([5]). وعلى أساس هذا التمايز بين الفقه وغيره من علوم الدين كالتفسير والحديث والكلام، فقد أُطلق على المتخصصين بهذا العلم اصطلاح (الفقهاء)، تمييزاً لهم عن المفسرين والمحدّثين والمتكلمين وغيرهم.

وقد اهتم الفقهاء وعلماء الشريعة بوضع تعريفات دقيقة للفقه؛ بهدف تحديد موضوعاته والاستدلال على معناه العلمي الذي يناسب طبيعة متطلبات العصر. فعرّفه الفقيه الشيخ محمد بن مكي العاملي (734 ـ 786 ه) بأنّه ((العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية))([6])، وهو ذات التعريف([7]) الذي يتبناه الفقيه الشيخ زين الدين العاملي (911 ـ 965 ه)، وكذلك الفقيه المقداد السيوري (826 ه) بقوله: ((الفقه: لغة الفهم، واصطلاحاً هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية))([8]).

أمّا الفقهاء وأصحاب الاختصاص المعاصرون، فإنّهم ساروا على خطى فقهاء السلف في تحديد جوهر الفقه، ولكن بصياغات جديدة، إذ يعرِّفه الفقيه السيِّد محمد باقر الصدر (1935 ـ 1980) بأنّه ((علم استنباط الأحكام الشرعية أو علم عملية الاستنباط بتعبير آخر))([9]). وبذلك تكون مهمة علم الفقه ((تحديد الموقف العملي في كل حدث من أحداث الحياة، وهذا ما نطلق عليه اسم عملية استنباط الحكم الشرعي))([10]).

ويقول الدكتور عبد الكريم زيدان: إنّ الفقه هو ((مجموعة القواعد الشرعية المستفادة من القرآن والسنة النبوية والمصادر الأُخر المعتبرة شرعاً، والتي تنظم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع بتبيان ما لهم من حقوق وما عليهم من التزامات وحدود يجب عدم تجاوزها وإلّا تعرضوا للجزاء الشرعي الذي يستحقونه))([11]). وذكرت موسوعة الفقه الإسلامي([12])بأنّ الفقه يطلق على مجموعة المسائل الشرعية العملية المستنبطة، والآراء الاستدلالية للفقهاء([13]).

ونخلص إلى أنّ مدلول الفقه ـ اصطلاحاً ـ هو مجموع أحكام الدين العملية، أو القوانين المختصة بعلاقة الإنسان بربه وبنفسه وبالإنسان الآخر (فرداً أو جماعة) وبباقي المخلوقات، وموضوعه فروع الدين. ويتم استخراج هذه الأحكام، ولا سيّما الظنية منها، وفقاً لقواعد عملية الاجتهاد([14]). وتتمثل مهمة علم الفقه في عملية تشريع الأحكام العملية في حدود الأدلة الشرعية([15]).

وبالنظر للمفهوم الواسع الذي كان يحمله الفقه، واستيعابه لمداليل العقيدة والشريعة لأكثر من قرنين من الزمن([16])؛ فلا بدّ من التوقف عند الفروقات والمشتركات الموضوعية والمنهجية بين كل منها، بهدف فهم طبيعة التمايز الذي أخذ بالتبلور بمرور الزمن، وصولاً إلى الفصل النسبي بين موضوعات الشريعة والعقيدة والفقه. ووجود مساحات مشتركة بينها يجعلها ـ أحياناً ـ تحمل (مداليل) مشتركة أيضاً. فالشريعة الإسلامية هي مجموعة الأوامر والنواهي والإرشادات التي أوحى الله (تعالى) بها إلى رسوله الكريم(ص)، بغية تنظيم حياة المسلمين، وتمثل جميع تعاليم الدين الثابتة وفقاً لما نص عليه القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة. أي أنّها القانون الإلهي للبشرية في كل مجالات العقيدة والسلوك([17]). ويمكن القول إنّها الدين نفسه أو ((الكتاب والسنة)) كما يذهب بعض المتخصصين([18]).

وتشتمل الشريعة الإسلامية على ثلاثة أنواع من الأحكام أو التعاليم:

الأول: الأحكام الثابتة للعقيدة، أو ما يسمى ((أحكام السلوك النظري))([19])، ويدرسها علم الكلام أو الإلهيات أو علم العقيدة، وتختص بموضوعات المعرفة الدينية النظرية، كحقيقة الخلق ووجود الخالق وتوحيده وصفاته، وعلاقة ذلك بالإنسان ووظيفته، وهي موضوعات أُصول الدين نفسها. ويعرّف السيد محمد باقر الصدر العقيدة بأنّها: ((مجموعة المفاهيم التي جاء بها الرسول(ص) التي تعرِّفنا بخالق العالم وخلقه، وماضي الحياة ومستقبلها ودور الإنسان فيها ومسؤوليته أمام الله، وقد سميت هذه المفاهيم عقيدة لأنّها معلومات جازمة يعقد عليها القلب))([20]). وبالرغم من أنّ العقيدة هي جزء من الشريعة، إلّا أنّ العقيدة حاكمة على أجزاء الشريعة الأُخر في مبادئها وقواعدها، وموجهة لها في مقاصدها وغاياتها، باعتبار العقيدة الدستور العام للشريعة.

الثاني: الأحكام الأخلاقية التي تبين الخصال والمواصفات الأخلاقية التي يجب أن يكون عليها الإنسان المسلم([21]). هذه القيم الأخلاقية التي عدّها بعض الفقهاء والمتخصصين جزءاً من الشريعة، أهملها آخرون في تقسيمهم للشريعة، على اعتبار أنّها لا تدخل في إطار الثوابت، ولكن إذا حددنا هذه الأحكام في القيم العليا الثابتة التي أقرها القرآن الكريم والسنة الشريفة، صحّ حينئذٍ عدّها جزءاً من الشريعة.

الثالث: أحكام الفقه الثابتة، أو ((أحكام السلوك العملي)) أو ((أحكام النظام))([22])، وهي الجزء الثابت من مجموعة قواعد الفقه وأحكامه. فالفقه بدوره ينقسم إلى أحكام ثابتة قطعية، وأحكام متغيرة ظنية، وتحظى الأُولى بنصوص واضحة الدلالة في القرآن الكريم أو الصحيح من السنة الشريفة، وهي المقدس التوقيفي في الفقه، بينما تفتقر الثانية لمثل هذا الوضوح في النصوص الدالة عليها، وهي أحكام يتم استنباطها في إطار العملية الاجتهادية؛ استجابة لموضوعات مستجدة. ومن هنا فالقسم الثابت من أحكام الفقه هو الذي يعدُّ جزءاً من الشريعة، أمّا القسم الآخر فلا يعدُّ جزءاً منها بالمطلق، بل إنّ انتماءه للشريعة نسبي.

وقد جاء هذا التقسيم في أحكام الفقه بعد أن استقر الفكر الأُصولي على أنّ مؤديات الاجتهاد ـ باعتباره وسيلة استنباط الحكم الشرعي من الدليل ـ هي مؤديات ظنية؛ فتمّ وضع الأحكام الفقهية القطعية ضمن أحكام الشريعة، وتركت الأحكام غير القطعية ضمن دائرة الفقه الكبرى([23]).

ولا شك أنّ هذا التمايز بين الشريعة والعقيدة والفقه من جانب، وثوابت الفقه ومتغيراته من جانب آخر، له علاقة بجانب القداسة والإلزام والتكليف؛ إذ إنّ أحكام الشريعة (العقيدية والفقهية على حدٍّ سواء) ملزِمة للمسلمين كافة؛ لأنّها قطعية في مصادرها ودلالاتها، وهي بالتالي الدين نفسه، في حين تمثل أحكام الفقه غير القطعية اجتهادات الفقهاء ـ غالباً ـ ولها علاقة بفهم الفقيه للنص أو لطبيعة الموضوع والمصداق([24]) أو لانتساب الموضوع إلى النص وفقاً للقاعدة الفقهية أو الأُصولية التي يستخدمها الفقيه. وبذلك نخلص إلى القول بأنّ كلّاً من الفقه والعقيدة أخص من الشريعة؛ لاختصاص الفقه والعقيدة بأحكام وقواعد معينة واشتمال الشريعة على جميع الأحكام والقواعد، وأنّ العقيدة هي أساس بناء الفقه، ومنها يتمّ استنباط النظرية العامة للشريعة، وأنّ الفقه أضعف من الشريعة في جانب الإلزام([25]). ويمكن تطبيق هذا التمايز على ثوابت الدين من جهة ومتغيرات تشريعات الدولة من جهة أُخرى([26])؛ فثوابت الدين هي الشريعة المقدسة الملزِمة، في حين لا تحظى معظم تشريعات الدولة الإسلامية بهذه القداسة؛ لأنّها أحكام اجتهادية، ولكنها تبقى ملزِمة من حيث وظيفتها في تنظيم شؤون الدولة ومجتمعها([27]).

ويقود هذا التمايز بين الشريعة والفقه؛ إلى تمايز آخر؛ ينظوي على دقة شرعية بالغة، وحساسية في التناول، وهو التمايز بين مفهوم التشريع ومفهوم التقنين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، ومن خلال إسقاط المفهوم الحديث للتقنين على عملية تقنين الشريعة الإسلامية. فالتشريع الإسلامي هو حكم الشارع؛ أي حكم الله (تعالى) الثابت؛ القطعي الصدور والدلالة؛ أي أنّ الشارع والمشرِّع هو الله (تعالى) حصراً، وتشريعه ما جاء في القرآن الكريم والصحيح من الحديث القدسي.

أمّا رسول الله(ص) فهو مقنن لحكم الشارع؛ أي أنّه يمارس تقنين أحكام الله (تعالى)؛ فيفرّعها ويفصّلها ويستخرج السياقات الإجرائية لتطبيقها؛ وبالتالي فهو يحوّل القاعدة الإلهية الثابتة (كما بيّنها القرآن الكريم) إلى قاعدة قانونية نُظمية؛ تنظم بالتفصيل علاقة الفرد بربه وعلاقة المجتمع بربه، وعلاقة الأفراد ببعضهم، وعلاقة الفرد أو الأفراد والمجتمع بالناظم العام (الدولة) وبسلطات الناظم العام (مؤسسات الدولة التنفيذية والقضائية والتقنينية والشوروية). فمثلاً: على مستوى علاقة الفرد بربه (العبادات الشخصية)؛ كالصلاة؛ أنزل الله (تعالى) تشريع الصلاة بصيغته العامة؛ فحوّله الرسول(ص) إلى منظومة قانونية تشمل شكل الصلاة وتوقيتاتها وعددها ومحتوياتها. وكل هذه العملية تدخل في إطار ما ثبتته السنّة الشريفة (قول الرسول وفعله وتقريره)؛ فالسنّة ـ إذاً ـ هي تقنين وليست تشريع. وهو ما يسري أيضاً على سنّة أئمة آل البيت؛ باعتبارها امتداد لسنّة رسول الله، على وفق مبنى مدرسة الإمامية. حتى يصل الأمر إلى الفقهاء (المختصون في الشريعة والامتداد النوعي لحالة التقنين النبوية والإمامية). إذ إنّ عمل الفقهاء هو عمل تقنيني صرف؛ كما في جهودهم الكبيرة في قوننة النظام الديني الاجتماعي للشيعة في عصر الغيبة، وما تخلله من ظهور منظومة المرجعية الدينية ومبدأ ولاية الفقيه وحاكميته، وتعميم تشريع الخمس، وقوانين الحِسبة وحفظ النظام وغيرها.

أمّا الاستخدام الشائع لاصطلاح (التشريع) بالنسبة للسنّة الشريفة والمنظومات الفقهية؛ فهو استخدام مجازي، ويدخل من باب التسامح والتماهي مع تطورات المصطلح بمرور الزمان.

وقد ظهرت طلائع الفقهاء في القرن الهجري الثاني انسجاماً مع سياقات التمايز والتخصص في علوم الدين كما مرّ، وتأسست بالتدريج المدارس الفقهية، التي اعتمد كل منها قواعد وأُصولاً فقهية نظّمها أربابها أو استنبطها أو أعاد اكتشافها أو اقتبسها([28])؛ سعياً منهم إلى تحديد موقف المسلمين العملي تجاه الشريعة، وإقامة الدليل على هذا التحديد([29]). بينما يتمثل الإطار الخارجي لهذا التحديد في استجابة الفقهاء للحاجات التي تستجد باستمرار في حياة الإنسان والمجتمع المسلم؛ بهدف تعزيز ارتباط هذه الحياة بالشريعة وأحكامها.

وترافق تزايد موضوعات الفقه بتراكم الوقائع المستجدة مع توسع حركة الاجتهاد؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور تقسيمات جديدة للأحكام الشرعية؛ ففضلاً عن تقسيم الأحكام إلى إلهية (قطعية)، واجتهادية (ظنّية) ؛ أي أحكام ثابتة فيها نص ومتفق عليها بين الفقهاء في كل زمان ومكان وهي ملزمة ويتمّ تطبيقها دون أي تصرف، وأحكام ظنّية متغيرة لا نص فيها وهي نتاج تعامل الفقهاء مع الأدلة الشرعية؛ فإنّ الأحكام الاجتهادية نفسها خضعت لتقسيمات فرعية تنسجم مع تطور علم الفقه وقواعده ومصطلحاته وأُصوله، وظهور الحاجة إلى الاستعانة بمبادئ القانون الوضعي ومصطلحاته في تنظيم شؤون الدولة الإسلامية ومجتمعها، وعلى النحو التالي:

1 ـ الأحكام الاجتهادية العامة التي يستنبطها الفقهاء من أدلة التشريع، كلّ حسب مذهبه الفقهي، ولها علاقة بحاجات الفرد ـ غالباً ـ والمجتمع ـ أحياناً.

2 ـ الأحكام الاجتهادية الخاصة (الولائية) التي يقررها الحاكم الشرعي (ولي الأمر الفقيه)، في حدود مساحات (التفويض التشريعي) التي منحها الشارع لولي الأمر، والتي أسماها السيد محمد باقر الصدر بمنطقة الفراغ؛ وهي مساحة واسعة من الموضوعات التي يملؤها ولي الأمر بالأحكام التي تنسجم مع حاجات الدولة ومجتمعها، بهدف تنظيم أوضاع الدولة والمجتمع ودفع المفاسد عنهما وجلب المصالح لهما. وهذه الأحكام بدورها تنقسم إلى:

ألف ـ الأحكام التي يقررها الحاكم الشرعي بنفسه.

ب ـ الأحكام التي يفوض الحاكم الشرعي أمر إنشائها وإقرارها إلى الجهات المختصة، كالحكومة أو السلطة التشريعية (وكلاء الأُمّة)([30]). ويسمى هذا النوع من الأحكام الشرعية بالأحكام الحكومية، أو التعاليم أو القوانين أو التشريعات أو القرارات (بالمعنى القانوني الوضعي)، وهي لصيقة بأنظمة الدولة على أنواعها، أي بالجانب التنظيمي والتنفيذي والتقني ـ عادة.

ومنشأ التغيّر أو التطور فيها ((أنّها لم ترد في الشريعة مباشرة وبنصوص محدودة وإنّما تستنبط من أحكام الشريعة على ضوء الظروف والأحوال التي هي عرضة للتغيير والتبدل))([31]). وتعود إلى وعي الحاكم الشرعي وأجهزة الدولة بالظروف والوقائع العامة التي يتمّ على أساسها تحديد مصالح الحكومة والمجتمع. وعلى هذا الأساس فإنّ أجهزة الدولة تقوم في هذا المجال بوضع القوانين أو (التقنين)؛ أي تحويل الأحكام الفقهية (القطعية والظنية) إلى قوانين، والتي هي ـ في الحقيقة ـ قوانين الشريعة؛ بمعنى أنّها القوانين التي تستند في أدلتها وقواعدها وروحها إلى الشريعة الإسلامية ومقاصدها. وفي هذه الدائرة تترادف مداليل الشريعة والفقه والقانون. وهذا النوع من القانون الذي يعتمد المصادر الدينية أو المصادر المقبولة دينياً؛ هو القانون الإسلامي، مقابل القانون الوضعي الذي يعتمد مطلق العقل والعرف([32]).

ويعبِّر الشيخ أبو الأعلى المودودي (ت 1979م) عن القانون الإسلامي هنا بأنّه جزء الشريعة القانوني؛ على وفق ما تعارف عليه الناس في العصر الحاضر، وهو ((جزء مهم يقتضي لنفاذه أن تكون في المجتمع الإسلامي سلطة سياسية يقصد من ورائها المحافظة على ما قررته الشريعة من النظام أو المنهاج للحياة))([33]).

ولا شك أنّ هذا الجزء من الشريعة لا يُستنبط ولا يُوضع ولا يُنفذ بمعزل عن النظرية العامة للشريعة ومقاصدها وأجزائها الأُخر؛ لأنّ الشريعة تعبر عن ((خطة متكاملة متشابكة للحياة… ومقصود الشارع الحقيقي هو أن تنفذ خطته كاملة في حياة الإنسان الاجتماعية))([34]). وأجزاء الشريعة وأبوابها وأحكامها تكمل بعضها وتفسِّر بعضها، والعقيدة هي إطار هذه الأحكام، والفقه هو الوجه العملي للعقيدة. ومن هنا لا يمكن أن نطلق على تشريعات الدولة الإسلامية بأنّها قوانين وضعية؛ وإن كان وضعها وصياغاتها تخضع للضوابط الفنية للقانون الوضعي؛ لأنّها قوانين تستند إلى مصادر إلهية وأدلة مستقاة من الشريعة الإسلامية وتعتمدها روحاً وجوهراً. ولا يمكن أيضاً تسميتها بالقوانين الإلهية أو الشرعية بالمطلق أو المقدسة، وإن كانت ملزِمة دينياً أيضاً لمن يعدّ الدولة الإسلامية امتداداً عمودياً لدولة رسول الله(ص).

والحكم الشرعي في الفقه يقابل المادة القانونية أو التشريع أو القانون في القانون الوضعي. وبذلك يكون التشريع (القانون) في الدولة الإسلامية كاشفاً عن الحكم الشرعي؛ كما أنّ الخطاب الشرعي في الكتاب والسنة يعدّ كاشفاً عن الحكم الشرعي. ويذهب السيد محمد باقر الصدر إلى أنّ الخطاب الشرعي ليس الحكم الشرعي نفسه، فمن ((الخطأ تعريف الحكم الشرعي بالصيغة المشهورة بين قدماء الأُصوليين، إذ يعرفونه بأنّه الخطاب الشرعي المتعلق بأفعال المكلفين، فإنّ الخطاب كاشف عن الحكم والحكم هو مدلول الخطاب))([35]). أي أنّ السيد الصدر هنا يعدّ الحكم الشرعي المظهر الخارجي للخطاب الشرعي، وليس الخطاب نفسه.

ومصادر التشريع الإسلامي([36])، أو (أدلة الفقه) وفق التعبير الفقهي والأُصولي؛ تحصرها المدارس الإسلامية في أربعة مصادر ـ عادة ـ وهي: القرآن الكريم (آيات الأحكام) والسنة الشريفة (أحاديث الأحكام) وهما المصدران الرئيسان، إضافة إلى الإجماع (اتفاق الفقهاء الكاشف عن رأي المعصوم) والعقل (الإدراك العقلي الكاشف عن حكم الشرع)([37]) ، وهو ما تذهب إليه مدرسة أهل البيت (المذهب الشيعي)، التي تضيف سنّة الأئمة الاثني عشر إلى السنة الشريفة؛ باعتبارها كاشفة عنها ومفسرة لها. أمّا المذاهب السنية ـ غالباً ـ فتستبدل العقل بالقياس. ويضيف معظم فقهاء المذاهب السنية وأُصولييها مصادر مكملة أُخر؛ كالاستحسان والمصالح المرسلة والذرائع والعرف وقول الصحابي وغيرها([38]).

ويذهب فقهاء مدرسة أهل البيت إلى أنّ معظم المصادر المكملة الأخيرة ترجع إلى واحد من الأدلة الأربعة، فيما تعدّ حجية الأُخر ضعيفة، بل إنّ ((حجية الكتاب والسنة والإجماع والعقل ناشئة عن كونها كاشفة عن الإرادة الإلهية، ولا تعدّ أبداً مصادر مستقلة في عرض الإرادة الإلهية))([39])؛ إذ إنّ الإرادة التشريعية الإلهية هي المصدر الحقيقي الوحيد للتشريع في الإسلام، وتكون القاعدة والحكم الشرعيين معتبرين فيما لو استندا إلى الإرادة التشريعية الإلهية، أمّا الاستناد إلى أي مصدر آخر فلا يمنح القاعدة والحكم صفة التشريع الإسلامي([40]).

 

([1]) عاليه، د. سمير، «علم القانون والفقه الإسلامي»، ص66. وانظر أيضاً: مدكور، د. محمد عبد السلام، «مناهج الاجتهاد في الإسلام»، جامعة الكويت، الكويت، 1973، ص23.

([2]) سورة التوبة، الآية 122.

([3]) رواه المجلسي، الشيخ محمد باقر، «بحار الأنوار»، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1982، ج1، ص216.

([4]) اُنظر: عاليه، د. سمير، (مصدر سابق)، ص 68. ومدكور، د. محمد عبد السلام (مصدر سابق)، ص25. وشلبي، د. محمد مصطفى، «أُصول الفقه الإسلامي»، الدار الجامعية، بيروت، 1985، ص17؛ و«المدخل في الفقه الإسلامي»، الدار الجامعية، بيروت، 1985، ص32.

([5]) المصادر السابقة.

([6]) العاملي، الشيخ محمد بن مكي، «القواعد والفوائد»، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1416ه، ص30.

([7]) العاملي، الشيخ زين الدين، «معالم الدين وملاذ المجتهدين»، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، 1413ه، ص22.

([8]) السيوري، الشيخ المقداد، «نضد القواعد الفقهية»، مكتبة المرعشي النجفي، قم، ص5.

([9]) الصدر، السيد محمد باقر، « دروس في علم الأُصول»، دار التعارف، بيروت، ط4، 1984، ج1، ص240.

([10]) المصدر السابق.

([11]) زيدان، د.عبد الكريم، «نظام القضاء في الشريعة الإسلامية»، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1982، ص6 ـ 7.

([12]) المعروفة بـ «موسوعة جمال عبد الناصر»، القاهرة، 1966، ج10، ص12.

([13]) تجدر الإشارة إلى أنّ استعراض هذه التعريفات لا يهدف إلى حصر آراء الفقهاء وعلماء الشريعة في مجال تحديد مدلول مصطلح الفقه؛ فذلك ليس من اختصاص الأُطروحة، بل الهدف هو ذكر عينات من هذه التعريفات وصولاً إلى فهم عام لهذا المصطلح.

([14]) اُنظر: المؤمن، علي، «الفقه والسياسة» (مصدر سابق)، ص14.

([15]) اُنظر: المصدر السابق، ص16.

([16]) مثال ذلك: كتاب «الفقه الأكبر» للإمام أبي حنيفة النعمان، وهو كتاب في أُصول العقيدة، إذ عدّ أبو حنيفة العقيدة بمثابة الفقه الأكبر، فيما كان يطلق على الأحكام العملية «الفقه الأصغر»، والتي كانت تعرف أيضاً بـ «أحكام النظام»، دار إحياء التراث، بيروت، (د.ت).

([17]) المؤمن، علي، «الفقه والسياسة» (مصدر سابق)، ص11.

([18]) الترابي، د. حسن، «المصطلحات»، دار الساقي، بيروت، 1998، ص51.

([19]) اُنظر: الفضلي، الشيخ عبد الهادي، «تاريخ التشريع الإسلامي»، مؤسسة أُم القرى، قم، 1418، ص8.

([20]) الصدر، السيد محمد باقر، «الأُسس الإسلامية»، الأساس الأول، نقلاً عن ثقافة حزب الدعوة الإسلامية (مصدر سابق)، ج1، ص70.

([21]) عميد زنجاني، الشيخ عباس علي، «فقه سياسى» (الفقه السياسي)، مؤسسة أمير كبير، طهران، ط3، 1994، ج2، ص21.

([22]) الفضلي، الشيخ عبد الهادي، «تاريخ التشريع الإسلامي» (مصدر سابق)، ص8.

([23]) المصدر السابق، ص8 ـ 9.

([24]) اُنظر: المؤمن، علي، «الفقه والسياسة» (مصدر سابق)، ص13.

([25]) للمزيد اُنظر: عاليه، د. سمير، (مصدر سابق)، ص69.

([26]) وهو ما سندرسه بمزيد من التفصيل في الفصل الثالث.

([27]) تطرق عالم القانون المصري الدكتور عبد الرزاق السنهوري إلى هذا التمايز في كتابه «الخلافة» بمزيد من الدقة.

([28]) اُنظر: المؤمن، علي، «الفقه والسياسة» (مصدر سابق)، ص15.

([29]) اُنظر: الصدر، السيد محمد باقر، «المعالم الجديدة للأُصول»، دار التعارف، بيروت، 1989، ص12.

([30]) سنأتي على هذا الموضوع بمزيد من التفصيل في الفصل الثالث.

([31]) الصدر، السيد محمد باقر، «الأُسس الإسلامية»، الأساس الثامن، ثقافة حزب الدعوة الإسلامية (مصدر سابق)، ج1، ص73.

([32]) اُنظر: المؤمن، علي، «الفقه والسياسة» (مصدر سابق)، ص17.

([33]) المودودي، الشيخ أبو الأعلى، «القانون الإسلامي»، ترجمة: عاصم الحداد، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران، 1985، ص33. اُنظر أيضاً: عاليه، د. سمير (مصدر سابق)، ص50.

([34]) اُنظر: المصدران السابقان.

([35]) الصدر، السيد محمد باقر، «دروس في علم الأُصول» (مصدر سابق)، ج1، ص256.

([36]) سنبحث موضوع مصادر التشريع بمزيد من التفصيل في الفصل السادس.

([37]) الفضلي، الشيخ عبد الهادي، «دروس في أُصول فقه الإمامية»، مركز الغدير، بيروت، 2006، ج1، ص111.

([38]) ابن الخوجه، الشيخ محمد الحبيب، «الفقه الإسلامي» من كتاب «الاجتهاد والتجديد»، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، طهران، 2003، ص46.

([39]) مصباح اليزدي، الشيخ محمد تقي، «الحقوق والسياسة في القرآن»، دار التعارف، بيروت، 2001، ص53.

([40]) المصدر السابق، ص54.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment