نظرية «الدعوة» وجدلية التطبيق

Last Updated: 2024/06/11By

نظرية «الدعوة» وجدلية التطبيق

د. علي المؤمن

 

نظرية حزب الدعوة الإسلامية

تأسس حزب الدعوة الإسلامية على وفق نظرية فقهية، ولتحقيق غايات عقيدية، وهو حزب ايديولوجي؛ مهمته الدعوة للإسلام، وبناء الكتلة المؤمنة المغيرة للمجتمع، والتي تقوم بتعميق البعد الإيماني والعبادي والتربوي والثقافي والسياسي في الأمة والفرد؛ وصولاً إلى قدرته على استلام السلطة في بلد من البلدان وتأسيس الدولة الإسلامية. وقد جاء في نشرة مقدمة النظام الداخلي للحزب: ((إن اسم الدعوة الإسلامية هو الاسم الطبيعي لعملنا، والتعبير الشرعي عن واجبنا في دعوة الناس إلى الإسلام. ولا مانع أن نعبِّر عن أنفسنا بالحزب والحركة والتنظيم، ونحن دعاة إلى الإسلام، وأنصار الله، وأنصار الإسلام، ونحن حركة في المجتمع وتنظيم في العمل. وفي كل الحالات نحن دعاة إلى الإسلام، وعملنا دعوة إلى الإسلام. وسبب اختيارنا له يعود إلى مشروعيته أولاً، وفائدته ثانياً))(1).

وتدخل نظرية حزب الدعوة في إطار مدرسة إسلامية مذهبية؛ ولذا جاز أن نقول إنه حزب إسلامي متمذهب، أي أن نظريته العقدية والفقهية تدخل في إطار أحد المذاهب الإسلامية، وهو المذهب الشيعي الجعفري (نسبة إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق)؛ شأنه في ذلك شأن كل الأحزاب الايديولوجية، ولاسيما الإسلامية، كجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير، وهي أحزاب مذهبية تتبع المذاهب السنية، ولكن ليس بالضرورة أن تكون نظريتها طائفية؛ ولكنها قد تنتقل من المذهبية إلى الطائفية في ممارساتها وأدائها السياسي.

وصفة الطائفية تختلف عن صفة المذهبية؛ فالمذهبية هي انتماء الجماعة عقدياً وفقهياً إلى مذهب إسلامي معين، أما الطائفية – في الاصطلاح الرائج – فهي خطاب وممارسة اجتماعيان سياسيان غالباً، وتعني التعصب السياسي للجماعة الدينية، وتغليب مصالح الطائفة (الحاضنة الاجتماعية) التي ينتمي إليها الحزب اجتماعياً؛ على مصالح الطوائف الأخرى وعلى مصلحة الوطن والشركاء فيه، ومحاولة تهميش وإقصاء الطوائف الأخرى. ومن هنا؛ فإن صفة الطائفية يمكن أن تطلق أيضاً على غير الأحزاب والحكومات الدينية؛ كالحكومات والأحزاب السياسية الليبرالية والقومية. فمثلا حزب البعث العراقي هو حزب طائفي، ونظام حزب البعث العراقي كان نظاماً طائفياً؛ على الرغم من أنه حزب علماني معادٍ للدين(2).

ويطرح حزب الدعوة الإسلامية أهدافاً مرحلية له؛ تتمثل بما يلي:

1 – بعث الفكر الإسلامي الأصيل، ونشر الوعي في صفوف الأمة.

2 – تصحيح المفاهيم التنظيمية للحركات الإسلامية، وتجنب الاعتماد على تجارب الحركات اللا إسلامية، وبناء التنظيم على أساس القرآن والسنة الشريفة.

3 – نشر الثقافة السياسية وتعميق المنهج الإسلامي في التقييم والتحليل السياسي، وخلق الذهنية السياسية الإسلامية.

4 – تطهير المجتمع من التقاليد والأعراف الدخيلة، وبعث الروح الإسلامية شكلاً ومضموناً في حياة الناس.

5 – تربية الأمة التربية الإيمانية الصحيحة؛ التي لا ينفصل فيها المضمون عن الشكل في الممارسات العبادية.

وعلى صعيد الفرد؛ يهدف الحزب إلى تجديد بناء الشخصية الإسلامية والأسرة المسلمة، بكل مقوماتهما من تربية وثقافة وسلوك.

وتحقيق «الدعوة» لأهدافها العقدية المرحلية؛ لا يمكن أن يتم إلّا عبر النخبة الواعية من أبناء الأمة – كما تذكر أدبيات الحزب -. وهذا البناء يتأتى من خلال عملية التثقيف والتعبئة الفكرية كمبدأ تفرضه الضرورة الموضوعية. ولذا فقد أولى حزب الدعوة الإسلامية الجانب الثقافي اهتماماً بالغاً، ووضع لذلك برنامجاً دقيقاً لبناء أعضائه (الدعاة) ككتلة وطليعة واعية تقود المجتمع وتؤثر فيه.

وتنقسم الثقافة الحزبية لأعضاء حزب الدعوة (الدعاة) إلى ثلاثة مستويات:

1 – الحد الأدنى، وهو مفروض على جميع الدعاة، ويشمل:

أ – المداومة على قراءة القرآن بتدبر، وحفظ بعض آياته.

ب – اطلاع مجمل على العقيدة الإسلامية والعقائد الأخرى.

ت – اطلاع مجمل على سيرة الرسول (ص) والصحابة وأئمة المسلمين(ع) وتاريخ الإسلام.

ث – معرفة الأحكام الشرعية والفقهية مورد الابتلاء والحاجة.

ج – استيعاب مواد الحزب وأدبياته ونشراته في الفكر العام والفكر التنظيمي والسياسي والإيماني.

2 – المستويات العالية:

أ – المستوى الأول: التفهم والتلقي الحسن.

ب – المستوى الثاني: حسن الاختيار والعطاء، وتنسيق الأفكار وتقديمها.

ت – المستوى الثالث: الأصالة الفكرية والإبداع، واستنباط الأفكار ومحاكمتها بمقياس الإسلام.

3 – الاختصاصات:

وهي مرحلة الأصالة الفكرية المكتملة الناضجة في أحد المجالات الفكرية المتعددة.

كما تنقسم الثقافة الفكرية لحزب الدعوة إلى خمسة أقسام، هي:

1 – الفكر الإيماني، ويستوعب البعدين الروحي والسلوكي للفرد المسلم والمجتمع المسلم عموماً، والدعاة وجماعة «الدعوة» خصوصاً.

2 – الفكر العام، ويختص في مجال توضيح معالم الإسلام والمجتمع الإسلامي.

3 – الفكر التنظيمي والحركي، ويشتمل على الأبعاد الفنية والتقنية في العمل التنظيمي الحزبي، وأساليبه العامة والخاصة، وطبيعة علاقة الدعاة بـ«الدعوة» وتنظيماتها.

4 – الفكر السياسي العام، ويوضح جانب المذاهب والأفكار السياسية المختلفة، والأحداث الجارية في بلاد المسلمين والعالم. ويشتمل على التحليل السياسي العام؛ أي القواعد والأسس، والتحليل الخاص، وكذلك التثقيف السياسي.

5 – فكر الحكم. على الرغم من أن الحزب يدمج فكر الحكم في الفكر السياسي؛ ولكن لهذا الفكر خصوصية بالغة الأهمية، وينبغي فصله عن الفكر السياسي؛ لأنه يوضح رأي الحزب في القانون الدستوري الإسلامي والنظام السياسي الإسلامي والدولة الإسلامية؛ على اعتبار أن الدولة الإسلامية هي الهدف شبه النهائي لحزب الدعوة، ووسيلته لبلوغ هدف تطبيق الشريعة الإسلامية.

وتقول أدبيات الحزب بأن «الدعوة» من أجل أن تسير نحو تحقيق أهدافها سيراً تكاملياً دقيقاً؛ فإنها تبنت العمل المرحلي كسنة كونية وشرعة إسلامية مستمدة من سيرة الرسول الأعظم (ص) في دعوته الأولى، وكضرورة يفرضها واقع الأمة والظروف العامة الراهنة.

وبناءً على ذلك قسم حزب الدعوة الإسلامية مسيرته إلى أربع مراحل، هي:

المرحلة الأولى: التغييرية:

وتتسم بالسرية التامة وعدم إفشاء اسم الحزب وعناصره وخططه، وتعمل فيها «الدعوة» على نشر الوعي الثقافي والفكري والتغييري في الأمة، وإيجاد الكتلة المنظمة المغيرة، وبناء الحزب كماً وكيفاً.

المرحلة الثانية: السياسية:

وتتمظهر بالصراع مع السلطة السياسية الحاكمة بكل الوسائل والإمكانات المتاحة؛ السياسية، العسكرية، الفكرية والإعلامية؛ وصولاً إلى تقويضها.

المرحلة الثالثة: استلام السلطة:

ويتم فيها بناء الدولة والمجتمع عموماً، بعد استكمال عملية الصراع مع السلطة الحاكمة، وإقامة النظام الإسلامي في أحد البلدان (الأقاليم) التي أنهى فيها الحزب المرحلة السياسية.

المرحلة الرابعة: القيادية والتطبيقية:

وتتمثل في تطبيق الشريعة الإسلامية ومراقبة عملية التنفيذ، ومواصلة العمل لتحكيم الإسلام في جميع البلدان الإسلامية، ودعوة العالم إليه.

وتتلخص في منهجية المرحلية التي يتبناها حزب الدعوة؛ ولاسيما المرحلة الرابعة؛ عقائدية الحزب، وكونه حزباً دَعْوياً عقائدياً وعالمياً(3).

وفي المجال الاختصاصي؛ ينقسم فكر حزب الدعوة إلى قسمين:

1 – الفكر العام: وهو الفكر العلني الذي دوّنه مؤسسو الحزب ورواده وقادته وكوادره في كتبهم ومحاضراتهم العامة.

2 – الفكر الخاص: وهو الفكر الداخلي الخاص بالحزب. وغالباً ما كان ولا يزال يكتبه نخبة قليلة من مفكريه وينشر في نشرات الحزب الداخلية؛ ولاسيما «صوت الدعوة».

مثالية نظرية «الدعوة»

ظلت الأسئلة والإشكالات الفكرية تلاحق حزب الدعوة منذ تأسيسه؛ ولاسيما تلك التي تقارن بين نوعية النظرية وحجم التطبيق. ويبدو أن كثيراً من هذه الأسئلة والإشكالات مقبولة؛ بالقياس إلى طبيعة نظرية «الدعوة» وعقائديتها وغاياتها وأهدافها وأفقها العالمي؛ حسبما أثبته مؤسسو «الدعوة» ومنظروها في نهاية الخمسينات وعقد الستينات؛ وهي نظرية مثالية في كثير من ركائزها.

ولعل هذا الجنوح المثالي يعود إلى عاملين:

العامل الأول: طبيعة أعمار وحجم خبرات الشباب العشريني المؤسس والرائد والمنظر؛ على اعتبار أن 90 بالمائة من مؤسسي حزب الدعوة ورواده كانوا شباباً في العشرينات من عمرهم، وكانوا يعيشون اندفاعاً حركياً كبيراً، وحماساً دينياً بحجم التاريخ والجغرافيا.

العامل الثاني: تأثر هؤلاء الشباب الواعي المتحمس بضجيج الآفاق الايديولوجية للأحزاب التغييرية الانقلابية الشمولية العابرة للحدود؛ كالشيوعية والناصرية والبعثية والإخوانية والتحريرية؛ وهي عقائد تهدف إلى تغيير الأمة والعالم وإلى صياغتهما من جديد.

وحيال ذلك لم يكن شباب «الدعوة» الأوائل يستكثرون على أنفسهم التفكير بمنهجية تغيير الأمة والعالم؛ أسوة بما كان يصرخ به ماركس ولينين وتروتسكي وماوتسي تونغ وحسن البنا ومحمد تقي النبهاني وميشيل عفلق وجمال عبد الناصر وسيد قطب والمودودي وغيرهم. وكان الدعاة يعيشون دائماً وقع خطوات هذه النماذج الحسية الواقعية المعاصرة؛ عبر الكتب والنشرات، أو عبر التحسس المباشر. صحيح أن النظرية الإسلامية هي نظرية تغييرية شمولية عالمية؛ إلّا أن التأثيرات الشعورية واللاشعورية الحسية اليومية المباشرة على الدعاة؛ كانت الأقوى والأكبر. وأضيف على هذا التأثر بعد العام 1979 تأثرٌ فكري وسياسي ومنهجي وتغييري وانقلابي أكثر قرباً من ايديولوجيا «الدعوة»؛ ولكنه إسلامي شيعي هذه المرة؛ تمثل بثورة الإمام الخميني في إيران.

هكذا كانت مرامي التغيير في أدبيات «الدعوة»؛ فقد كان المؤسسون والرواد يقصدون بالدعوة الانقلابية – مثلاً – تغيير المجتمع وتغيير الأمة تغييراً جذرياً يستوعب كل مجالات الحياة؛ وصولاً إلى تغيير العالم وإخضاعه للشريعة الإسلامية. ولم تكن أدبيات «الدعوة» تقتنع بالعمل على تغيير شيعة العراق أو الوطن العراقي فقط؛ بل تغيير كل الأمة الإسلامية؛ بعد أن رفض الدعاة – ابتداءً – المذهبية؛ لأنها تحجِّم «الدعوة» في حدود الـ (200) مليون شيعي آنذاك؛ فلماذا تستغني عن الـ (800) مليون سني حينها؟! وبذلك رفض حزب الدعوة أن يكون جماعة في الأمة أو قيادة في الأمة على الأقل؛ بل ليكون قيادةً للأمة بشيعتها وسنتها؛ بعربها وعجمها؛ وهو ثوب لم تكن المرجعية الدينية العليا في النجف أو قم تحلم أن تلبسه يوماً.

وإذا تمت محاسبة «الدعوة» في مضمار التطبيق قياساً إلى نظريتها ورسالتها وأهدافها ورؤيتها لنفسها؛ لصدقت معظم المؤاخذات عليها والانتقادات، ولكانت كل الإشكالات واردة؛ لأن رواد حزب الدعوة حمِّلوا أنفسهم أعباء الأنبياء وهموم الأوصياء، ومسؤولية بناء الأمة من جديد؛ أي أنهم أسسوا لنظرية كبيرة واسعة الأفق كثيراً، ولا يستطيع هو ولا عشرات الأحزاب الإسلامية حملها؛ فضلاً عن الشيعية منها؛ لأن أزمات الأمة عميقة وكبيرة؛ تاريخية وجغرافية وبنيوية، ومن المستحيل تفكيكها وتصفيرها من أي حزب ودولة؛ مهما بلغا من القوة الفكرية والمادية والاتساع الجغرافي. أما إذا كان حجم مسؤولية حزب الدعوة تجاه أزمات الأمة ومشاكلها بالقياس إلى إمكانياته الواقعية؛ وليس بالقياس إلى تنظيراته وأهدافه؛ فإنه لا يتحمل مسؤولية معظم تلك الأوزار الموروثة والإخفاقات المتراكمة في الأمة، وكل أعباء تغيير المجتمع، وقلب أوضاع الأمة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وفي هذا المجال يعلم رواد «الدعوة» أن هوية حزب الدعوة تتعارض وجودياً مع أربع حقائق محلية إقليمية ودولية:

الأولى: إن حزب الدعوة جماعة تنتمي إلى الاجتماع الديني النجفي؛ بكل تعقيداته. ولكنها في السلوك الحركي والفكر السياسي غير منسجمة – غالباً – مع هذا الاجتماع؛ لأنه نظام اجتماعي ديني تقليدي لا يؤمن – عادة – بالعمل الحزبي ولا يمارس العمل السياسي اليومي؛ بما في ذلك الجزء الثوري المسيس من هذا النظام.

الثانية: إن حزب الدعوة هو جماعة تغييرية انقلابية عابرة للحدود؛ تعمل في دولٍ لها قوانينها الدستورية وتعريفاتها في القانون الدولي، وفي ظل أنظمة طائفية قمعية لا تسمح بأي تغيير فكري أو سياسي؛ فكيف إذا كان هذا التغيير صادراً من جماعة إسلامية شيعية عابرة للحدود؟!

الثالثة: إن حزب الدعوة هو جماعة دينية سياسية شيعية؛ تعمل في بيئة اجتماعية سياسية سنية، ونظام سياسي طائفي، ومحيط إقليمي جغرافي قومي سني؛ أي بحر من الأكثرية السنية العربية وغير العربية في العالم الإسلامي؛ والتي لا تتفاعل – غالباً – مع حركة عقائدية سياسية شيعية.

الرابعة: إن حزب الدعوة جماعة معادية للاستعمار، وتعمل على تأسيس منظومة سياسية وفكرية وحقوقية مستقلة؛ بينما تتحكم في الإقليم العربي والإسلامي منظومة استعمارية محلية وإقليمية ودولية؛ منحازة إلى إحدى الدول العظمى؛ بريطانيا أو الاتحاد السوفيتي أو الولايات المتحدة الامريكية.

وبالتالي؛ فإن مساحة عمل «الدعوة» الواقعية هم شيعة العراق غير المقتنعين بفاعلية المنظومة الشيعية التقليدية. أي أنها حركة محاصرة بجدران من (الكونكريت) التاريخي والديمغرافي. في حين كانت الكوادر القيادية الرائدة في حزب الدعوة مقتنعة بأن حضور «الدعوة» في الأمة لا يقل – نسبياً – عن حضور جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير. والحال أن حزب الدعوة يختلف عن الإخوان والتحرير اختلافاً اجتماعياً سياسياً جذرياً؛ إذ تنتمي جماعتا الإخوان والتحرير إلى الاجتماع الديني السني الذي تنتمي إليه جميع أنظمة البلدان الإسلامية – عدا إيران -. كما تنتميان إلى الأغلبية المذهبية السنية في العالم الإسلامي، ولا مشكلة طائفية لديهما مع أنظمة الحكم. وهو عنصر بنيوي يفتقد إليه حزب الدعوة، ويقف مانعاً مستحيلاً أمام قدرته على تحقيق غاياته وأهدافه النهائية. وكان الدعاة يختلفون عن الشيوعيين أيضاً؛ لأن الشيوعيين كانوا يهيمنون ديمغرافياً على ثلث سكان الكرة الأرضية وعلى أنظمة ربع دول العالم. بينما لم تكن هناك أية دولة في العالم ترضى بوجود جماعة على أراضيها تحمل أفكار حزب الدعوة وأهدافه؛ فضلاً عن تبنيه ودعمه. حتى إيران الشيعية؛ فقد كان نظامها السياسي – حتى العام 1979 علماني بامتياز ويحارب الجماعات الإسلامية السياسية. ولكن بالرغم من كل ذلك؛ فقد نظّر الدعاة العشرينيين لهذا الحجم المتضخم من رسالة حزبهم وغاياته وأهدافه ومهامه وهمومه.

ولعل المثالية في التنظير؛ تسببت خلال عقود من مسيرة حزب الدعوة؛ في تبلور ثنائيات جدلية في فكره، أو بين فكره وواقعه؛ لاتزال عالقة؛ وتبحث عن أجوبة نهائية؛ وإن كان الواقع قد حسم بعضها؛ ولاسيما الثنائية المذهبية والثنائية الجغرافية؛ فضلاً عن أن الظروف الزمانية والمكانية التي مر بها الحزب؛ كانت تؤدي أحياناً إلى التوازن بين طرفي بعض الثنائيات، أو غلبة إحداهما على الأخرى. ولكن بشكل عام تمثل هذه الثنائيات حالات من الفصام بين النظرية والتطبيق أو بين التصور الفكري الإيماني والفعل الميداني. وأهم هذه الثنائيات:

1 – العالمية – المحلية: فقد بنى حزب الدعوة الإسلامية نظريته على كونه تنظيماً عالمياً ويحمل فكراً إسلامياً عالمياً، وله قيادة عالمية (القيادة العامة) وقيادات إقليمية وتنظيمات محلية في كثير من البلدان. ولكنه – في الواقع التطبيقي – تحوّل منذ مطلع التسعينات إلى تنظيم عراقي وطني؛ بفعل الظروف الموضوعية الضاغطة؛ وإن ظل محتفظاً بعلاقات تنسيقية مع رجالاته وتنظيماته السابقة غير العراقية. وتكرست محليته بعد العام 2003. وهنا تبرز الإشكالية في هذه الثنائية؛ لأن الحزب لم يلغ ركيزة العالمية في نظريته وفكره؛ ولكنه طبّقها على أرض الواقع وفي نظامه الداخلي. أي أنه تأسس ونشأ وانتشر وتحرك على وفق ركيزة العالمية، ولا يزال يتبناها نظرياً؛ ولكنه استحال إلى شكل تنظيمي آخر في البعد السياسي الواقعي والثقافة السياسية العامة.

2 – الانفتاح المذهبي – المذهبية: سارت نظرية حزب الدعوة على كونها نظرية وحدوية عابرة للمذاهب، وطبقها بشكل محدود؛ حين استقطب عدداً من الشخصيات السنية العراقية وغير العراقية. وكان ذلك سبباً في انشقاق بعض الكوادر الشيعية عنه في الستينات؛ رفضاً لهذه النظرية. ولكن حزب الدعوة بمرور الزمن؛ وبفعل صدمات الواقع ورفض القيادات الفقهية بعد العام 1981؛ استحال حزباً شيعياً متمذهباً في جميع خصوصياته الدينية والسياسية والاجتماعية.

3 – ولاية الفقيه – الشورى: قام الفكر السياسي لحزب الدعوة على أساس الشورى في قيادة الحزب وفي قيادة الأمة؛ ولكن ظروف الزمان والمكان دفعته لتبني مبدأ ولاية الفقيه ومصاديقها؛ بدءاً بالإمام الخميني. وكانت نظريته الولائية مستقاة من منهجية السيد محمد باقر الصدر والسيد كاظم الحائري. ومكمن الإشكالية هو أن الحزب لم يلغ مبدأ ولاية الفقيه في فكره السياسي؛ ولكنه في الواقع تنقل بين مرجعيات أخرى؛ وصولاً إلى مرجعية النجف الأشرف التي عادت كيانيتها بعد العام 2003 إلى مستوى القدرة على توجيه الواقع العراقي.

4 – النخبوية – الجماهيرية: بالنظر لطبيعة أهداف حزب الدعوة المرحلية في بناء ما يسميه بـ«الكتلة المؤمنة الصالحة القوية» التي تعمل على تغيير الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ وبمعنى آخر «النخبة الدينية والعلمية والثقافية والسياسية»؛ فإنه ظل يقتصر على ضم الطبقات المتعلمة التي لا يقل مستواها عن التعليم الثانوي. ولكنه بعد العام 1979 خلال بدء المواجهة مع النظام؛ ثم بعد سقوط النظام في العام 2003؛ أحس بضرورة الانفتاح تنظيمياً على الجماهير بكل فئاتهم. ولكن هذا الإحساس المضغوط بالواقع ظلّ يصطدم بالنظرية.

5 – الانغلاق التنظيمي – الانفتاح التنظيمي: بدء حزب الدعوة تنظيماً سرياً محكم الإغلاق؛ نتيجة نظريته في المرحلية وفي بناء التنظيم وانتشاره قبل الإعلان عنه، وكذا ظروف القمع التي كانت تمارسها الأنظمة المتعاقبة؛ ولا سيما نظام البعث؛ والذي حوّله منذ أواخر الستينات وأوائل السبعينات إلى تنظيم حديدي شديد السرية والانغلاق التنظيمي. ولكن الإشكال يكمن في احتفاظ حزب الدعوة بمبدأ السرية التنظيمية بعد العام 2003؛ على الرغم من انفتاحه في البعد السياسي واستلامه السلطة؛ ولكن مفاصل التنظيم أصيبت بحالة من المرونة المبالغ بها، والانكشاف والتشتت في كثير من مفاصل العمل.

6 – الدعوة – السياسة: قام حزب الدعوة على ركيزة عقدية رصينة؛ حددت هويته كحزب ديني تبليغي دَعَوي؛ يتعاطى العمل السياسي باعتباره وسيلة فرعية تقود إلى وسيلة رئيسة؛ هي الدولة الإسلامية، ثم إلى الغاية النهائية المتمثلة بتطبيق الشريعة الإسلامية. وبرزت الإشكالية هنا بعد غلبة الممارسة السياسية المدنية على عمل الحزب في مرحلة الحكم بعد العام 2003. حتى أمكن القول إنه يتوجه للتحول من حزب ديني إلى حزب متدينين؛ أي أن مدلول الداعية و«الدعوة» في التصنيف العقدي؛ أصبح بحاجة إلى إعادة تنظير، وإيجاد مدلولات سياسية جديدة لهما؛ ليكون عضو حزب الدعوة عبارة عن سياسي متدين يعمل على استلام السلطة؛ بالطرق السياسية المدنية.

7 – العلماء – المثقفون: بالنظر لطبيعة الغايات والأهداف التي وضعها حزب الدعوة لنفسه؛ فقد كان من الطبيعي أن يؤسسه علماء الدين ويقوده علماء الدين. وحتى في مرحلة الثنائي المثقف عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي؛ فقد كان لعلماء الدين سطوتهم على توجهات الحزب. ولكن برزت هذه الجدلية بوضوح بعد تنحي السيد مرتضى العسكري عن القيادة في حدود العام 1963؛ فقد طالب أعضاء الحزب في لجنة النجف – وهم علماء دين غالباً – بأن يكون عدد علماء الدين في القيادة أكثر من غير المعممين؛ لأن عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي احتفظا بموقعيهما في القيادة، وأضافا إليها الشيخ عارف البصري وهو عالم دين؛ الذي التحق بالقيادة فوراً، كما استدعيا الشيخ عبد الهادي الفضلي لعضوية القيادة؛ ولكنه رفض أن تكون القيادة مناصفة بين علماء الدين والمثقفين؛ ليكون عدد علماء الدين ثلاثة وليس اثنين فقط. وهو ما قوبل برفض السبيتي ودخيل من جهة، واستقالة الشيخ عبد الهادي الفضلي والشيخ كاظم الحلفي وآخرين من علماء الدين من الحزب. ولكن تغير هذا المنحى بعد العام 1980، حين هيمن الفقهاء وعلماء الدين على الحزب وقيادته. ولم يكتف علماء الدين بالإمساك بالمجلس الفقهي؛ بل كان لهم حضورهم العددي والنوعي في جميع القيادات (العامة والتنفيذية والإقليمية). ولكن بعد الخروج التدريجي للفقهاء: السيد مرتضى العسكري، السيد محمد حسين فضل الله، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، السيد كاظم الحائري، الشيخ محمد علي التسخيري من القيادة في الثمانينات، ثم الشيخ محمد مهدي الآصفي في العام 1999، ثم اغتيال الشيخ مهدي العطار في العام 2004، ثم وفاة علماء دين آخرين أو ابتعادهم عن العمل السياسي والتنظيمي؛ فإن إشكالية ضعف وجود الفقهاء وعلماء الدين في القيادة وفي مفاصل الحزب باتت ملحوظة؛ ولاسيما بعد العام 2003؛ فضلاً عن عدم وجود مرجعية فقهية داخل الحزب تراقب عمله من الناحية الشرعية حتى أصبحت قيادة الحزب لا تضم غالباً أكثر من ثلاثة من علماء الدين من مجموع 11 إلى 15 قيادياً.

والحقيقة أن النظام الداخلي الذي أقره مؤتمر حزب الدعوة في بغداد في العام 2007؛ لم يحسم هذه الثنائيات السبع؛ بل كرّسها؛ الأمر الذي يقود المهتمين إلى القول بأن حل هذه الإشكاليات يكمن – ابتداء – في إعادة كتابة النظام الداخلي؛ بما ينسجم وثوابت نظرية «الدعوة».

الثابت والمتغير في نظرية «الدعوة»

مرّ حزب الدعوة الإسلامية بتحولات كثيرة ونوعية منذ تأسيسه؛ شأنه في ذلك شأن جميع الحركات التغييرية؛ السياسية الفكرية. وهو وإن عدّ من الجماعات الايديولوجية التي تعطي لثوابتها قدسية خاصة؛ إلا أنه لم يجمد على أدبياته التي طبعت مراحل التأسيس (1956 – 1959) والانطلاق (1960 – 1962) والتبلور الفكري (1963 – 1975)؛ باستثناء ثوابته التي بقيت كما هي نظرياً. أما التغيير والتجديد في الوسائل والأساليب والأدوات والميكانيزمات، بل وحتى المنهجيات؛ فهو سنة الله في خلقه، وهو ضرورة وحاجة دائمة، ونوع من الديالكتيك الذي تفرضه حتمية التطور بتأثير الزمان والمكان. فكانت أدوات الحزب ووسائله عرضة للتغيير المستمر تبعاً للظروف الزمانية والمكانية. وكان هذا التغيير والتبديل يتزايد كلما ازدادت حراجة هذه الظروف ودقتها وصعوبتها؛ ولاسيما مرحلة ما بعد العام 2003؛ حين دخل حزب الدعوة العملية السياسية وأصبح الحزب الأبرز فيها وفي الدولة العراقية الجديدة.

ومقاربة الثابت والمتغير في نظرية «الدعوة»؛ ربما هو الأسلوب البحثي الأهم والأدق في عملية تجديد نظرية «الدعوة»؛ فهو يستبطن حفراً معمقاً في نوع التحولات السياسية الكبرى التي أثّرت بقوة في حزب الدعوة، وجرّت منذ بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي وحتى الآن إلى تحولات فكرية مغايرة إلى حد ما لمسارات التأسيس وعقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ففي المرحلة الفكرية التغييرية السرية؛ وهي المرحلة الأولى من مراحل «الدعوة»؛ أنتج الحزب نظريته التي تمثل فلسفة وجوده، وتضمنت ثوابته الايديولوجية؛ كالتغييرية، والانقلابية، والعقدية، والعالمية، واللا مذهبية والمرحلية، وإيجاد الكتلة المؤمنة نواة مجتمع المتقين، وتأسيس الدولة الإسلامية الفكرية، وقيادة «الدعوة» للأمة ولعملية توسيع رقعة الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة. وهذه كلها لها علاقة بثوابت النظرية العامة للدعوة وايديولوجياها السياسية، والتي لا تزال محور التحولات في بنية حزب الدعوة الفكرية. ومن هنا فمقاربة الثابت والمتغير تعالج المحاور التالية:

1 – نظرية حزب الدعوة وماهيته الايديولوجية؛ ومبانيه الثابتة التي إذا انهارت وتغيرت تنهار نظرية «الدعوة» برمتها، وينتهي المسوغ الفكري لوجود حزب الدعوة وتتلاشى الغاية من استمراره. ولذلك تسعى «الدعوة» للمحافظة على هذه الثوابت وصونها وحمايتها؛ لأنها المرجعية الفكرية النهائية للدعوة؛ بصرف النظر عن الزمان والمكان. وفي مقدمة هذه الثوابت؛ رسالة حزب الدعوة وأهدافه وغاياته النهائية، المتمثلة في إعادة الإسلام إلى حياة المسلمين، وتغيير النظم الجاهلية المتحكمة في المجتمع الإسلامي في جميع مجالات الحياة، وإحلال النظم الإسلامية محلها؛ على وفق فهم حزب الدعوة للإسلام؛ باعتباره نظاماً شاملاً يستوعب كل مجالات الحياة المدنية والتشريعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكونه ديناً ودولة، وشريعة وشعائر وشعوراً، وكونه طريق الله إلى مرضاته، وسلوك الدنيا إلى الآخرة، وجهاد الحياة إلى الجنة. وهذا يوضح الماهية الدينية الدعوية للحزب، وكون الدعاة جماعة دعوية تمارس العمل السياسي باعتباره أحد وسائل الدعوة؛ وليس هدفاً بذاته. بل إن تأسيس الدولة الإسلامية هو أيضاً هدف مرحلي للدعوة (ميكانيزم) للوصول إلى الهدف النهائي المتمثل بتحكيم الشريعة الإسلامية في واقع المسلمين، ولا يعبر عن الفلسفة الوجودية لحزب الدعوة.

2 – ما يمكن تغييره وإلغاؤه وتجديده وتعديله وإعادة تأصيله وصياغته؛ من مباني وأفكار نظرية «الدعوة»، والبدائل الفكرية اللازمة. ولعل الفكر السياسي في نظرية «الدعوة» هو المحور الأكثر إشكالية؛ لأنه ينطوي على ثوابت ومتغيرات متشابكة؛ ولذلك يحتاج جهداً فكرياً كبيراً لتجديده. أما الفكر التربوي والفكر التنظيمي والفكر الإيماني وغيرها فهي – بالأساس – متغيرات وتقنيات وأدوات غالباً؛ يمكن تغييرها وفقاً لطبيعة النظرية السياسية ولطبيعة المرحلة. وهي لا تمثل إشكالية فكرية؛ على العكس من النظرية السياسية التي تمثل العمود الفقري لنظرية حزب الدعوة، وصلب عملية التجديد.

3 – آليات العمل وأدوات التحرك ووسائل الدعوة. وهي مساحة متغيرات يستطيع الحزب تطويعها وفقاً لتحولات الزمان والمكان. أي أنها أدوات محكومة برضا الشريعة الإسلامية وخاضعة لموازينها، سواء انتمت هذه الأدوات إلى السياسة أو إلى الإعلام أو العمل العسكري أو الاقتصاد؛ على اعتبار أن الوسيلة والأداة في العمل الإسلامي يجب أن تكون من جنس الغاية والهدف، ولا يمكن أن يكون الهدف – مهما بلغت نسبة سموّه – مسوغاً لاستخدام أداة غير شرعية لا تخضع لموازين الشريعة الإسلامية. وبالتالي؛ فإن الوسائل السياسية والتنظيمية والإعلامية والعسكرية وغيرها، هي أدوات متغيرة ومتنوعة ومتعددة، وليس لها شكل ثابت، ويمكن لحزب الدعوة تغييرها من زمن لآخر.

4 – المصادر والأسس والأدوات المنهجية المستخدمة في عملية تثبيت المبادئ والأفكار والتغيير والنسخ والتفسير. ويقصد بها مناهج ونتاجات العلوم الإسلامية والاجتماعية والسياسية والقانونية.

وهنا لابد أن نفرق في مجال الثوابت؛ بين الأحزاب الايديولوجية بمفهومها الفكري والعقدي، والأحزاب السياسية بمفهومها الليبرالي الغربي الحديث، فلا يجوز إخضاع الأحزاب الايديولوجية لمعادلات التطور والتحول والعصرنة والمرونة ذاتها التي تخضع لها الأحزاب السياسية؛ لوجود تعارض أساس في فلسفة وجود كلا النوعين من الأحزاب. فمثلاً: الحزب السياسي هدفه الوصول إلى السلطة كغاية نهائية. بينما الحزب الإسلامي باعتباره حزباً ايديولوجياً دينياً دعوياَ؛ ليس حزب سلطة أو حكم؛ بل إنه يريد الوصول إلى الحكم لتحقيق غاياته الدعوية. أي أن الحزب الإسلامي يخوض العمل السياسي والميداني كأداة للوصول إلى الحكم؛ ثم يستخدم الحكم كأداة ووسيلة لتحكيم الشريعة الإسلامية. وبالتالي؛ تكون السلطة أداة الحزب الإسلامي في تطبيق الشريعة في إطار غايات أخروية. بينما تعدّ السلطة هدفاً وغاية للحزب السياسي في إطار عملية صراع دنيوي صرف.

صحيح أن الهدف النهائي لتأسيس حزب الدعوة الإسلامية هو تحكيم الشريعة الإسلامية عبر تأسيس الدولة الإسلامية، وبسقوط هذا الثابت تتلاشى فلسفة وجوده؛ ولكن؛ وجود هذا الثابت؛ لا يعني الدوغمائية في عملية تطبيق الشريعة؛ بل إن من الضروري خضوع عملية التطبيق للمرونة التي تفرضها الظروف الموضوعية، والتدرج الذي يستطيع الواقع من خلاله استيعاب عملية التطبيق؛ لاسيما إذا كانت تجربة السلطة والحكم مستحدثة ومستجدة، وبحاجة إلى استحكام أكبر وتجذير أعمق؛ وإلّا فسيكون الفشل هو النتيجة الحتمية للتجربة؛ وهي في بدايتها؛ بعد قرون من التغييب القسري عن ممارسة عملية السلطة. أي أن أصل التزاحم (كأصل شرعي) بين سقوط التجربة برمتها – قبل استحكامها وثباتها – وبين ضغط تحقيق الأهداف؛ هو الذي يحدد خيارات العمل وأولويات التحرك؛ وهو ما يدخل في إطار «فقه الأولويات» و«فقه المصلحة». هذا فيما لو كان حزب الدعوة مبسوط اليد ويتفرد في الحكم. أما إذا كان فكر الحزب يمثل جزءاً من عقيدة الدولة، وكان حضوره في النظام السياسي يمثل جزءاً من السلطة والحكم، وقد أمسك بهذا الجزء في إطار عملية سياسية معقدة نتج عنها شراكة مع جماعات علمانية واتجاهات سياسية متنوعة ترفض أي حضور للشريعة الإسلامية في الحياة؛ كما هو الحال مع تجربة حزب الدعوة في العراق بعد العام 2003؛ فإن الحديث عن تطبيق الأهداف والتمسك بالثوابت سيكون بحاجة إلى عمق كبير بعيداً عن التدافع الإعلامي والمزايدات السياسية والتسطيح الفكري. وبالتالي فحزب الدعوة ليس هو الحزب الحاكم في النظام السياسي العراقي، ولا هو الحزب الذي تتبنى الدولة عقيدته. ولكن هذا لا يعني أن الحزب يتنازل عن المساحات التي يمكنه التحرك فيها لتحقيق أهدافه أو مقدمات أهدافه الإسلامية.

ولم تكن معظم التحولات داخل حزب الدعوة منذ العام 1971 فعلاً دعوتياً بقرار حزبي؛ بل هي انفعالات وانجرارات قسرية ضاغطة؛ أي أن الظروف المحيطة بـ«الدعوة» ظلت باستمرار هي المؤثر الأكبر في مسارات الحزب، وليس العكس. وظلت التحولات في نظرية «الدعوة» وأفكارها تطرأ على الحزب بطرق غير مسبوقة؛ ربما في أي حزب ايديولوجي كبير في العالم. كما ظلت بنية حزب الدعوة الفكرية والسياسية الداخلية ومخرجات خطابه؛ تتبع – غالباً – التغيير الخارجي الضاغط. فقد بدأت «الدعوة» حزباً قائداً للأمة، تغييرياً، انقلابياً، عقدياً، لا مذهبياً، عالمياً. وانتهت إلى تنظيم شيعي المذهب، عراقي الاهتمام والموطن، سياسي السلوك والنزعة، يتنافس على الحكم مع عشرات الجماعات السياسية في دولة هجينة فكرياً ولاهوية لها. ولفهم هذه التحولات بشكل دقيق؛ يمكن المقارنة بين أربعة شواهد نظرية: أسس حزب الدعوة للعام 1961، نظامه الداخلي للعام 1975، نظامه الداخلي للعام 1983، نظامه الداخلي للعام 2008.

ومن مخرجات هذه التحولات مثالاً:

1 – نظّر حزب الدعوة لفكره السياسي على أساس مبدأ الشورى. وكان هذا مخرجه النظري الوحيد لتأسيس الحزب على قاعدة فقهية. وكان انسجامه في هذا المجال مع الأجواء الحركية الإسلامية السائدة في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي لا يتجاوز التأثر إلى التطابق في التأصيل الفكري والفقهي.

2 – نظّر حزب الدعوة لفكرة التغيير الانقلابي؛ تأثراً بالأجواء الحركية الإسلامية السائدة في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. وكان هذا مخرجه الثوري النظري للتغلب على النزعة المحافظة أو الإصلاحية المقيدة السائدة في الاجتماع الديني النجفي.

3 – نظّر حزب الدعوة لفكرة العالمية، وأصبحت له قيادة عامة وقيادات إقليمية؛ تأثراً بالأجواء الحركية الإسلامية والقومية السائدة في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي.

4 – أعلن حزب الدعوة إيمانه بمبدأ ولاية الفقيه؛ تأثراً بثورة الإمام الخميني. وقام بمبايعته قائداً للأمة. وبذلك ألغى نظرياً وعملياً مبدأ الشورى.

5 – انتقل إلى مرحلة الصراع السياسي والعسكري؛ انجراراً؛ بفعل تحرك السيد محمد باقر الصدر المتأثر بثورة الإمام الخميني.

6 – تم حل أقاليم حزب الدعوة في لبنان والكويت والبحرين وإيران وباكستان وأفغانستان، ومناطق الإمارات والشرقية بالسعودية وعمان وغيرها؛ بقرارات خارجية جبرية، وتحديداً من حكومات هذه البلدان.

7 – أعاد حزب الدعوة بناء هيكله عراقياً، وألغى القيادة العامة والمؤتمر العام والقيادات الإقليمية؛ بعد أن انهارت أقاليمه غير العراقية.

8 – بايع الإمام الخامنئي؛ مصداقاً لولاية الفقيه بعد وفاة الإمام الخميني؛ انسجاماً مع موجات البيعة العامة.

9 – تحول إلى حزب سياسي شيعي عراقي وطني، انسجاماً مع التغيير في خارطة المعارضة العراقية ثم سقوط النظام.

10 – أعلن التزامه بمرجعية النجف العليا؛ انسجاماً مع تحولات الاجتماع السياسي العراقي.

11 – وضع بعض أجنحته لنفسه رسمياً أسماء محلية؛ تمييزاً (تنظيم العراق وتنظيم الداخل).

وتظهر مجمل هذه التحولات أن الواقع أكبر كثيراً من تنظيرات حزب الدعوة لرسالته وغايته؛ إلى المستوى الذي أضعف هذا الواقع الموجع روح المبادرة في «الدعوة»، كما أضعف عقله المركزي فيها بعد العام 1979. وغالباً ما كان حزب الدعوة يقوم بعملية تنظيرٍ جزئية بعد حصول التغيير في الواقع المحيط به والمؤثر فيه، والذي يضطر إلى مسايرته وتكييف نفسه معه. وغالباً ما يكون هذا التكييف واقعياً وليس فكرياً وفقهياً؛ أي أنه لا يشبه انطلاق الفقيه من الواقع لتشخيص موضوع الحكم الشرعي، أو مدخلية الزمان والمكان في تغيير موضوع الحكم الشرعي، فيتبعه حكم شرعي جديد؛ بل هو مصداق لهجوم اللوابس على من لا يستشرفها.

تحولات الفكر السياسي لحزب الدعوة الإسلامية

استند حزب الدعوة في نظريته السياسية على الأسس التي كتبها السيد محمد باقر الصدر خلال مرحلة التأسيس. وكرس فيها السيد الصدر مبدأ «الشورى» في عمل قيادة الحزب وفي قيادة العمل الإسلامي الموصل إلى تأسيس الدولة الإسلامية، بعد أن أجاز إقامتها في عصر غيبة الإمام المهدي؛ وكل ما يترتب على هذا الجواز من جهاد دفاعي ودماء وأموال. ويقول السيد محمد مهدي الحكيم بأن دراسة السيد الصدر حول هذا الموضوع هي التي سمحت لحزب الدعوة بالانبثاق؛ لأنها أول دراسة فقهية تشرع لتأسيس دولة إسلامية في عصر الغيبة. ونظّر السيد محمد باقر الصدر للفكر السياسي لحزب الدعوة في نشرة الأسس الإسلامية الداخلية. وظلت الدراسة ونشرة الأسس المذكورتين سريتين؛ لأنهما من الفكر الخاص للحزب. وتجمع نشرة أسس حزب الدعوة التي نشر منها تسعة أسس في أدبياته المطبوعة؛ بين التأصيل للدولة الإسلامية بمعناها الفقهي وبعناصرها القانونية، وبين مفهوم الدولة بمعناها القانوني المعاصر. وبذلك يضع السيد محمد باقر الصدر أولى المبادئ الدستورية الإسلامية المؤصلة فكرياً وفقهياً. وهي تختلف اختلافاً كبيراً عن نظرية الشيخ الميرزا النائيني في دراسته «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»؛ لأن النائيني أراد تصحيح واقع قائم وليس التأسيس لواقع جديد. ولذلك قال النائيني بالملكية الدستورية وغيرها من مفردات الدولة المفصلة على مقاس إيران الشاهنشاهية(3). أما أسس حزب الدعوة التي كتبها السيد محمد باقر الصدر فهي تأسيس لنظرية حكم إسلامي ودولة إسلامية في عصر الغيبة، وهو تأصيل فقهي جديد لم تألفه حوزتا النجف وقم. وبذلك تعدُّ هذه النظرية تجديداً في الفقه السياسي الإسلامي الشيعي وفي موروث الاجتماع الديني الشيعي.

ومن المهم التأكيد على أن ترجيح حزب الدعوة – في مراحله الأولىـ لمبدأ الشورى في الحكم الإسلامي وشرعيته واختيار الحاكم وإدارة الحكومة؛ هو ترجيح خاص بعصر غيبة الإمام المهدي، وليس في عصر حضور المعصوم؛ وإلا فإن حزب الدعوة يؤمن بمبدأ النص الذي هو الأساس في مدرسة الإمامة. أما مبدأ الشورى فكان يعده استثناء خاصاً بعصر غيبة الإمام. وهذه هي نقطة الافتراق الأساسية لحزب الدعوة عن الجماعات السنية التي تؤمن بالشورى؛ كجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير، وهو معيار انتماء حزب الدعوة إلى مدرسة الإمامة، وانتماء الإخوان والتحرير إلى مدرسة الخلافة(4).

والراجح أن السيد محمد باقر الصدر لم يناقش رأيه في دلالة آية الشورى على شرعية الحكم الإسلامي في عصر الغيبة مع الفقهاء الآخرين حين كتب النشرات ذات العلاقة بالموضوع خلال الأعوام من 1957 وحتى 1960؛ بل عرض الموضوع على أستاذه الإمام الخوئي والفقيه الشيخ حسين الحلي بعد أن أصبحت هذه النشرات جزءاً من ثقافة «الدعوة»، وتدرس في حلقاتها. ولم يقتنع السيد الصدر حينها برأي الفقيهين الخوئي والحلي بعدم دلالة آية الشورى على الحكم؛ بل أصر على رأيه الفقهي؛ رغم تسرب الشك إلى عقله العلمي بهذا الخصوص. وظل يبحث في الموضوع حتى استقر رأيه بعد حوالي العام على عدم الدلالة. بينما ظلت رؤية حزب الدعوة للدولة متمسكة بالأسس المذكورة وبرأي السيد الصدر القديم في دلالة الشورى على الحكم الإسلامي وقيادته واختيار الحاكم. وحتى حين توصل السيد محمد باقر الصدر في بحوثه الفقهية نهاية الستينات إلى مبدأ ولاية الفقيه؛ كما صاغه الإمام الخميني في دروسه الفقهية في النجف، وأثبته في كتاب «البيع» و«الحكومة الإسلامية»؛ فإن حزب الدعوة لم يتحول من إيمانه بالشورى إلى ولاية الفقيه. وكان الثنائي القيادي عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي أكثر المتمسكين بعدم التحول(4).

ويقول الشيخ عبد الهادي الفضلي (القيادي في تنظيم «الدعوة» في النجف) إنه التقى بالإمام الخميني في النجف في أواسط الستينات، وتباحث معه حول مبدإ «ولاية الفقيه»، واقتنع بصوابية المبدأ، ثم تداول الموضوع مع علماء الدين الدعاة، وأعلن تبني حزب الدعوة لمبدأ ولاية الفقيه(5). والحقيقة أن هذا القول يتفرد به الشيخ الفضلي ولم أسمعه من أي من المؤسسين والرعيل الأول. وربما حدث هذا في فترة انشقاق تنظيم الحوزة في النجف وما تلاها؛ أي بعد العام 1964، وهو الانشقاق الذي برز فيه الشيخ عبد الهادي الفضلي، وكان يدعو خلاله لتغليب الطابع الفقهي في الحزب، وتغليب عدد علماء الدين في القيادة. وكانت لي مراسلات مع الشيخ الفضلي خلال العامين 1998 و1999؛ فكان يؤمن صراحة بمبدأ ولاية الفقيه ومصداقها القائم، ويعده إيماناً قديماً منذ كان في النجف الأشرف(6).

ثم دوّن السيد الصدر نظريته في الدولة الإسلامية ونظامها السياسي ودستورها في دراساته التأسيسية المهمة التي قدمها خصيصاً إلى الإمام الخميني في العام 1979؛ عشية التصويت الشعبي على نظام الحكم الجديد في إيران وبدء مناقشات دستوره الإسلامي. وقد طبعت هذه الدراسات فيما بعد في كتاب «الإسلام يقود الحياة»(7). وقد استند دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية ونظامها السياسي في كثير من أسسه على هذه الدراسات(8). وحينها نشأ حراك مهم داخل حزب الدعوة؛ منسجم مع الواقع الفقهي والفكري والسياسي الجديد الذي خلقه الإمام الخميني بعد العام 1979، ومع التأسيس الفكري الجديد للسيد محمد باقر الصدر في الوقت نفسه، ومع بدء مرحلة المواجهة السياسية والجهادية مع نظام صدام حسين. وانتهى هذا الحراك مطلع العام 1981؛ إلى تبني حزب الدعوة لمبدأ ولاية الفقيه رسمياً؛ على وفق ما كتبه السيد الصدر والسيد كاظم الحائري(9).

ولم يلغ حزب الدعوة مبدأ ولاية الفقيه من نظريته؛ على الرغم من توجهاته الواقعية في أواسط التسعينات؛ التي اتجه فيها نحو مشروع السيد محمد حسين فضل الله في المرجعية وفي رؤيته الفقهية السياسية(10). إضافة إلى تبنيه الممارسة المدنية الديمقراطية عملياً في العراق بعد العام 2003.

وبذلك؛ فإن التحولات في الفكر السياسي لحزب الدعوة الإسلامية ظلت مطبوعة بطابع إقليم العراق، ومنسجمة مع الواقع الموضوعي الذي تصنعه الأحداث المفصلية الكبرى؛ وهي ثلاثة مفاصل:

1 – مفصل تأسيس حزب الدعوة الإسلامية في العام 1957: في هذا المفصل استند حزب الدعوة إلى دراسة السيد محمد باقر الصدر الفقهية حول جواز قيام الحكم الإسلامي في عصر الغيبة(11)؛ من خلال الأدوات الحزبية؛ التي توفر وسائل كثيرة للوصول إلى الحكم الإسلامي. ثم استند إلى نظرية الحكم التي كتبها السيد محمد باقر الصدر لاحقاً؛ التي تعتمد مبدأ الشورى في قيادة الحزب لنفسه وللدولة ولمشروع تطبيق الشريعة ولمشروع الدعوة العالمية(12)، وما يتخلل ذلك من ممارسة الجهاد الدفاعي وبذل الدماء والتصرف بالأموال وتحديد مصالح الأمة ومفاسدها(13).

2 – مفصل تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية والاصطدام بسلطة البعث العراقي في العام 1979: في هذا المفصل تراجع حزب الدعوة عن مبدأ قيادة الحزب للدولة ولتطبيق الشريعة ولمشروع الدعوة العالمية؛ لأنها على وفق مبدأ ولاية الفقيه مناطة حصراً بالولي الفقيه المبسوط اليد؛ ولا سيما أن الحزب تبنى مبدأ ولاية الفقيه في البعد النظري، وبايع مصداقها الإمام الخميني قائداً(14). ولم يكن سبب هذا التراجع مقتصراً على تبني الحزب مبدأ الولاية؛ بل لأن الواقع الشيعي المتدين (المساحة التي يتحرك فيها الحزب) لم يعد يسمح لأي مؤسسة شيعية أخرى بالتحرك سياسياً – دينياً على المستوى العالمي؛ في ظل وجود مؤسسة ولاية الفقيه؛ التي اكتسحت الساحة الشيعية في كل العالم خلال أشهر معدودات.

وشهد هذا المفصل حراكاً تمهيدياً مهماً بدأ في العام 1975؛ لأسباب فكرية وتنظيمية؛ انتهى إلى تشكيل لجنة إشراف عليا على الحزب؛ لأول مرة في تاريخيه؛ سميت بـ ((القيادة العامة))؛ تتألف من شخصيات من المؤسسين ومن الرعيل الأول؛ جميعهم يقيمون في خارج العراق، وهم: محمد هادي السبيتي (لبنان)، السيد مرتضى العسكري (إيران)، السيد محمد حسين فضل الله (لبنان)، الشيخ محمد مهدي شمس الدين (لبنان)، الشيخ محمد مهدي الآصفي (الكويت)، السيد كاظم الحائري (إيران)، الشيخ علي الكوراني (الكويت)، الشيخ عيسى قاسم (البحرين)، الشيخ صبحي الطفيلي (لبنان)، عبود الراضي (الإمارات العربية). وهي أول قيادة في حزب الدعوة تضم خمسة مجتهدين من مجموع ثمانية علماء دين. وبها بدأت مرحلة عودة علماء الدين للنهوض المباشر بقيادة حزب الدعوة.

وانتهى هذا الحراك التمهيدي في العام 1980 بسيطرة كاملة للفقهاء على حزب الدعوة؛ فكرياً وسياسياً وتنظيمياً؛ وهو ما اعتبره محمد هادي السبيتي والشيخ علي الكوراني وعز الدين سليم انقلاباً على الحزب وفكره. ولذلك ظل محمد هادي السبيتي بعد زيارته إيران في العام 1980 ولقائه الدعاة المهاجرين ودراسته وضع «الدعوة» الجديد؛ يردد: ((إن هذه ليست «الدعوة» التي كنا نعمل فيها)). وكان يستند في قراءته هذه إلى ثلاثة تحولات يشهدها الحزب:

1 – التحول التنظيمي: وتمثل في مظهرين:

أ – مناداة معظم الدعاة بانتخاب قيادة الحزب؛ أي بأن تكون القيادة منتخبة من بين الدعاة انتخاباً سرياً، وتمثل خيارهم. بينما ظلت قيادة الحزب منذ التأسيس يفرزها الواقع التنظيمي بشكل تلقائي، وهو ماكان ينادي به السبيتي؛ إذ يعتقد بأن ((القائد لا ينتخب، القائد يفرزه الواقع))؛ أي أنه كان يرفض الانتخابات فكراً وفعلاً.

ب – الانكشاف التنظيمي للدعوة، والتكثير غير النوعي للدعاة. بينما كان التنظيم الذي بناه عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي تنظيم حديدي وفي غاية السرية.

2 – التحول الفكري؛ إذ كسرت القيادة الجديدة ثلاثة من الأعمدة التي وقف عليها كيان الحزب:

أ – استبدلت مبدأ الشورى في تأسيس الحكم الإسلامي وإدارته واختيار الحاكم وفق مبدأ ولاية الفقيه على الحكم.

ب – جهرت بانتماء الحزب المذهبي الشيعي بكل التفاصيل العقدية والفقهية والسلوكية.

3 – التحول السياسي والميداني: وكان يتمظهر بدخول «الدعوة» دخولاً شاملاً وسريعاً في صراع سياسي وعسكري مع نظام البعث. وكان محمد هادي السبيتي يرى أن «الدعوة» تقوم بمجازفة كبيرة؛ لأنها لم تستكمل بعد أدوات الصراع ومستلزماته.

وبناءً على هذه التحولات التي أفضت إلى انعقاد مؤتمر الشهيد الصدر في العام 1981 وانتخاب قيادة جديدة ليس فيها محمد هادي السبيتي والشيخ علي الكوراني؛ فإن خط السبيتي الذي تمخض عن تأسيس «حركة الدعوة الإسلامية» في الأعوام اللاحقة؛ ظل يؤكد أن ماحدث في العامين 1980 و1981 هو انقلاب على فكر «الدعوة» وتقاليدها التنظيمية. ويقصد به انقلاب على فكر السبيتي وهيمنته ومن يمثله على الحزب (جماعة الكوراني تحديداً).

بينما يرى خط الفقهاء الذي سيطر على الحزب بعد العام1980 أن ما حدث هو حراك تصحيحي طبيعي؛ للعودة إلى الغايات التي تأسس من أجلها حزب الدعوة وإلى منهجية المؤسس الحقيقي للحزب السيد محمد باقر الصدر؛ على اعتبار أن من استلم زمام الحزب بعد العام 1980 كان معظمهم من زملاء السيد محمد باقر الصدر وتلاميذه، الذين ظلوا متماهين مع منهجه الفكري الذي أخذ بالتبلور بعد العام 1970؛ ولاسيما في جانب الفقه السياسي؛ المتمثل بتبني ولاية الفقيه وتوجيه علماء الدين المباشر للحزب، وفي الجانب المذهبي؛ المتمثل بتبلور حالة الانتماء العقدي الفقهي للتشيع؛ وفي الجانب السياسي المتمظهر بالمعركة الشاملة مع نظام صدام ومبايعة الإمام الخميني، وفي الجانب التنظيمي المتمثل بالانفتاح على الأمة.

وبناء على هذه التحولات العميقة اللصيقة بالعودة لنهج السيد محمد باقر الصدر؛ فقد قام المتصدون الجدد للمشهد الدعوي بعد العام 1979؛ سواء في داخل العراق وخارجه؛ بحملات تثقيف مركزة للدعاة على قيادة السيد محمد باقر الصدر وكونه مؤسس الحزب، وعلى فكره؛ سيما الدراسات الست التي كتبها في العام 1979 وتم جمعها في كتاب «الإسلام يقود الحياة»، التي يؤكد فيها الصدر تبني حكومة الفقيه وقيادة المرجع الأعلى.

وفي المقابل ظلت جماعة الكوراني – خط البصرة (حركة الدعوة الإسلامية فيما بعد) – تصر في أدبياتها على أن قائد الحزب ومؤسسه الأبرز هو محمد هادي السبيتي، وترفض أي منظومة فكرية جديدة للحزب؛ بل أي تغيير في فكر الحزب أو تعديل عليه. والمقصود به بعض الأفكار التي قرر الحزب تغييرها وتعديلها؛ انسجاماً مع تحولاته الفكرية والتنظيمية والسياسية؛ وهي أفكار كتب معظمها عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي والشيخ علي الكوراني. فضلاً عن تغيير أساس الشورى كأحد أسس الحزب التي كتبها السيد محمد باقر الصدر؛ ثم غيّر قناعته الفقهية فيه لمصلحة أساس جديد يتمثل بالجمع بين الشورى وولاية الفقيه. وهو ما دوّنه الحزب في أدبياته الرسمية خلال العام 1981.

ولكن اللافت هو التحول الفكري – السياسي الجذري المفاجئ الذي طرأ على الشيخ علي الكوراني؛ بل على قناعاته التاريخية؛ بعد خروجه من الحزب في العام 1981؛ حتى أنه كتب خلال تسعينات القرن الماضي بأن المؤسس الحقيقي لحزب الدعوة وقائده المتفرد هو عبد الصاحب دخيل، وأن الأخير كان يهيمن بفكره وشخصيته على السيد محمد باقر الصدر، ولذلك جاء الفكر العقدي للسيد محمد باقر الصدر فكراً التقاطياً ملوثاً بالمعتقدات السنية، وأن حزب الدعوة نسخة شيعية من جماعة الإخوان المسلمين، وأن الحزب لا يؤمن بقيادة الفقهاء(15). بيد أن قناعات الشيخ علي الكوراني الجديدة تختلف مع قناعاته قبل العام 1981؛ حين كان يمثل خط محمد هادي السبيتي وفكره الشورائي الرافض لولاية الفقيه، واللا مذهبي الرافض للإعلان عن شيعية الحزب، والتنظيمي لتغليب حضور علماء الدين في توجيه الحزب والرافض لانتخاب القيادة. وتزامن تحول الشيخ الكوراني الفكري – السياسي المفاجئ هذا مع انخراطه في الفريق السياسي المرجعي للشيخ حسين علي منتظري؛ وهو فريق شديد العداء لحزب الدعوة وخط السيد محمد باقر الصدر؛ بل كان أبرز رموزه مهدي هاشمي (شقيق صهر الشيخ منتظري ومسؤول قسم حركات التحرر في حرس الثورة الإسلامية قبل إعدامه في العام 1983 بتهم القتل والتآمر على الثورة الإسلامية) يجاهر باتهام السيد محمد باقر الصدر والسيد موسى الصدر وحزب الدعوة وحركة أمل بالعمالة لأمريكا وبريطانيا.

وفي داخل أروقة حزب الدعوة؛ ثبت نظامه الداخلي الجديد للعام 1982 مبدأ وجود فقيه للحزب يمارس الرقابة على الحزب وتوجيهه على وفق المحددات الشرعية، والفتيا في قضايا الأموال والدماء. ثم استبدلت صيغة «فقيه الدعوة» بـ صيغة «المجلس الفقهي»؛ بمسوغ التعارض مع وجود الولي الفقيه العام (الإمام الخميني)، وبسبب رؤية بعض فقهاء الحزب؛ سيما السيد الحائري؛ بأن تكون رقابة الفقيه ابتداءً، وعلى كل مفاصل الحزب، وليس بصورة عودة الحزب أو لجانه إلى الفقيه عند الحاجة.

ولم تكن الإشكالية ذات أهمية في ظل وجود الإمام الخميني؛ ولكن أهميتها ازدادت بعد وفاة الإمام الخميني وصعود فقيه جديد لسدة الولاية (آية الله الخامنئي). وحيال ذلك بدأ بعض أوساط «الدعوة» يتصدرهم الشيخ محمد مهدي الآصفي (الناطق باسم الحزب) يقاتل فكرياً وتنظيمياً لتحويل علاقة الحزب بولاية الأمر (وهي نظرية الآصفي المتماهية مع مبدأ ولاية الفقيه)(15) وقيادة السيد الخامنئي إلى علاقة ولاء وانقياد، وليست علاقة إرشاد وتوجيه. بينما بدأت رموز أخرى في القيادة تتجه تدريجياً نحو بلورة مشروع مرجعي آخر خارج إيران والنجف؛ هو مرجعية آية الله السيد محمد حسين فضل الله في لبنان؛ الذي ظل الأقرب إلى نظرية حزب الدعوة الأولى وفكره وقيادته؛ لأنه كان من أعضائه الأوائل ومن قياداته الفكرية والسياسية عقود طويلة. وأصبح رأي قيادة الحزب في موضوعة الدولة والحكومة والفقه السياسي يتبنى عملياً ما يذهب إليه السيد فضل الله. وفضلاً عن القرابة النفسية والفكرية والسياسية والتاريخية بين فضل الله وحزب الدعوة؛ فقد كانت هناك حاجة واقعية للطرفين للسير بمشروع موحد. وكان أركان مشروع مرجعية فضل الله في مساحاته العراقية والسورية والخليجية والإيرانية والأوربية هم الرموز الرسمية وغير الرسمية الأبرز لمدرسة «الدعوة»؛ أمثال: نوري المالكي والشيخ عبد الحليم الزهيري في سوريا، والدكتور إبراهيم الجعفري والسيد حسين الشامي في بريطانيا، والشيخ مهدي العطار في إيران، والسيد عبد الله الغريفي في البحرين والخليج، وكاظم عبد الحسين في الكويت وغيرهم(16).

وظل المفصل الثاني هو الأكثر إثارة للجدل الفكري في أوساط مدرسة «الدعوة» ولايزال. وقد ترشح عن هذا الجدل مجموعة من التيارات الفكرية داخل الحزب في ثمانينات القرن الماضي؛ أهمها:

أ – التيار الذي يدعو إلى تحويل حزب الدعوة إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة الإسلامية الإيرانية؛ كأداة تنفيذية؛ من خلال الاندماج بالمؤسسات الثورية الإيرانية، مثل جهاد البناء أو الحرس الثوري وغيرهما. ولم ينجح هذا التيار في تحقيق مسعاه؛ فانشق رموزه عن الحزب، واندمجوا بالفعل في المؤسسات الثورية الإيرانية؛ ولاسيما قوات الحرس الثوري، وقام قسم منهم بتأسيس قوات بدر بإشراف مباشر من الحرس الثوري الإيراني، وأصبحوا قادة وآمرين لها. وهي القوات التي تأسست ابتداءً باسم فوج الشهيد الصدر في بدايات العام 1983، ثم تحولت إلى لواء أطلق عليه اسم لواء 9 بدر، ثم فرقة بدر، ثم فيلق بدر، ومنظمة بدر حالياً.

ب – تيار يدعو إلى بقاء حزب الدعوة مستقلاً كلياً في نظريته وقيادته ومؤسساته عن قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومؤسساتها، وتكون بينهما علاقة تعاون وهموم مشتركة. واصطدم هذا التيار بالواقع الفكري والسياسي الشيعي الذي تتصدره إيران، وانشق أصحابه عن الحزب أيضاً، وأسسوا مجموعة إسلامية مدنية تدعو إلى الوطنية العراقية والحكم الديمقراطي.

ت – تيار يتبنى مبدأ ولاية الفقيه ويبايع مصداقه الإمام الخميني؛ مع الاحتفاظ بخصوصية حزب الدعوة المنفصلة عن إيران الدولة والحكومة تنظيمياً وسياسياً. وكان هذا التوجه يفرق بين الدولة الإيرانية ككيان جيوسياسي له خصوصياته، والحكومة الإيرانية كمؤسسة محلية تدير الدولة الإيرانية، وقيادة الإمام الخميني كقيادة عامة لكل الأمة الإسلامية. وظل هذا التيار هو الأكبر عدداً والأهم نوعاً في حزب الدعوة، وظل مسيطراً على قيادته ولجانه ومفاصله منذ العام 1981. وينقسم هذا التيار العام إلى عدة نزعات تفصيلية؛ لا يزال بعضها موجوداً داخل «الدعوة» أو في إطار مدرستها العامة.

وتطرح هنا تساؤلات في إطار إشكالية لها علاقة بموضوعة الشورى وولاية الفقيه وشكل الحكم الذي يدعو له حزب الدعوة وغيره من الحركات الإسلامية التي تدار قيادتها بالشورى أو أدوات الديمقراطية؛ دون وجود فقيه حاكم على قراراتها. وتدور هذه التساؤلات حول طبيعة القرارات السياسية في الحزب، باعتبار أن كثيراً منها ليست قرارات سياسية محضة أو إدارية أو تقنية؛ بل هي قرارات دينية شرعية (أحكام شرعية)، أو أنها قرارات سياسية مقبولة شرعاً، وترتبط بملء منطقة الفراغ (على وفق توصيف السيد محمد باقر الصدر)، أو منطقة التفويض التشريعي (كما قاربتها في أطروحتي الدكتوراه)(17)؛ ولاسيما القرارات ذات الصلة بالأعمال الجهادية والعسكرية والأمنية، وما يترتب عليها من تصرف بالدماء والأموال والأراضي. وإذا كان بعض القرارات السياسية؛ ذا بعد ديني شرعي؛ فهل تقتضي الشورى أن يكون هناك اجتهاد جماعي تقوم به القيادة بأجمعها كون رأي الأكثرية هو النافد بمقتضى سيرة العقلاء؟ وهذا اللون من الاجتهاد يعد بادرة فريدة في تاريخ الفقه الشيعي. أما إذا لم تكن هذه القرارات أحكاماً اجتهادية؛ بل يفترض أن تستند إلى حكم شرعي أو غطاء شرعي أو إمضاء فقيه؛ فمن الذي يقوم بذلك؟ هل هو أي فقيه يمكن أن يرجع إليه الحزب، أو فقيه واحد ثابت هو فقيه الحزب، أم جماعة من الفقهاء المتحركين أو الثابتين؟

وسبق لحزب الدعوة أن أجاب عن هذه التساؤلات في عقد الثمانينات من القرن الحالي؛ بعد أن ظهرت بقوة في أوساطه خلال الأعوام 1979 – 1981(18)؛ ولكن التطورات الواقعية والانتقالات المرحلية والنظام الداخلي الجديد للعام 2008 أعادت هذه التساؤلات مرة أخرى. وكما ذكرنا؛ فإن حزب الدعوة لم يحسم بعد العام 2003 موقفه الفكري والفقهي حيال الدولة الديمقراطية والدولة الإسلامية، والعلاقة الفكرية والمنهجية بمبدأ ولاية الفقيه والمرجعية الدينية مبسوطة اليد ومصاديقها. ويرى بعض قياديي حزب الدعوة أن هذه الإشكاليات هي جدليات نظرية صرفة، وربما لا تحتاج إلى تأصيلات فقهية وفكرية عاجلة؛ لأن الحزب لم يبتل بها عملياً، أو بالتعبير الشرعي «لأنها ليست محل ابتلاء»(19). وفي حين حلت مجموعة من الحركات الإسلامية؛ كحزب الله في لبنان من خلال الهيئة الشرعية المرتبطة بالولي الفقيه، ومنظمة بدر في العراق عبر الارتباط المباشر بممثل الولي الفقيه، وحركة الوفاق في البحرين، من خلال إشراف المجلس العلمائي الذي يضم وكلاء المرجعيات الدينية؛ فإن حركات أخرى؛ كحزب الدعوة؛ لا تزال تكتفي بقرارات قياداتها السياسية؛ مع الرجوع إلى أحد الفقهاء في الموارد التي تحتاجها أو تعترضها.

2 – مفصل تأسيس العراق الجديد والمشاركة في الحكم في العام 2003: في هذا المفصل تبنى حزب الدعوة الإسلامية سلوكاً عملياً يستند إلى تبني آليات الديمقراطية في العمل السياسي والوصول إلى الحكم؛ بعد أن ظل يرفض نظريتها منذ تأسيسه، ويعدّها مبدأً علمانياً يتعارض مع النظرية السياسية في الإسلام. ولكن إزاء هذه الإشكالية طرح حزب الدعوة عدداً من القواعد الشرعية التي تسوغ له الدخول في نظام حكم يستند إلى النظرية الديمقراطية؛ كقاعدة التزاحم، وقاعدة دفع الضرر والمفسدة وجلب المصلحة، وقاعدة الضرورة وغيرها. كما أكّد بأن الدخول في عملية سياسية قائمة على الديمقراطية لا يعني قبول حزب الدعوة بفلسفة الدولة الديمقراطية المدنية وأسسها النظرية العلمانية الوضعية. بل إنه يقبل بآليات عمل الديمقراطية دون فلسفتها(20). وخلال ذلك حصل الحزب؛ كغيره من الجماعات الإسلامية الشيعية العراقية؛ على عدة أذونات شرعية من المرجعيات الدينية لدخول العملية السياسية؛ ولا سيما من السيد علي السيستاني والسيد علي الخامنئي والسيد محمد حسين فضل الله.

وتوثقت علاقة حزب الدعوة كثيراً في هذه المرحلة بمرجعيتي السيد السيستاني والسيد الخامنئي. وبذلك ظل يوازن بين مثلث فقهي ميداني: الخامنئي وفضل الله والسيستاني. ولكن على المستوى الفكري؛ ظل حزب الدعوة متوقفاً عند حسم رأيه في موضوع المبدأ الفقهي السياسي الذي يتبناه في موضوع الحكم؛ وإن كان تبنيه لولاية الفقيه في العام 1981 لا يزال قائماً نظرياً في فكره الفقهي السياسي، ولم يتم إلغاؤها رسمياً.

وشهد هذا المفصل تجاذباً وتشتتاً فكرياً وسياسياً أكبر من المفصل السابق؛ ولاسيما على المستويات التالية:

1 – الموقف النظري والواقعي من المرجعية الدينية؛ والذي يتوزع على ثلاثة محاور: مبدأ ولاية الفقيه، ومصداقه السيد علي الخامنئي؛ وما أطلقوا عليه المرجعية المؤسسة، ومصداقها السيد محمد حسين فضل الله؛ والمرجعية العليا النجفية، ومصداقها السيد علي السيستاني.

2 – الدخول في مشروع المعارضة العراقية ذي الصلة بالولايات المتحدة الأمريكية، وما يتضمنه من إشكاليات فقهية وفكرية وسياسية.

3 – المشاركة في حكم دولة غير إسلامية، والقبول بمبدأ الديمقراطية في ممارسة السلطة.

4 – الخبرة في إدارة الدولة وشبهات الفساد الإداري والمالي.

وبما أن الحزب لم يجب على هذه الإشكاليات إجابات رسمية مؤصلة فقهياً وفكرياً؛ فقد أدى ذلك إلى تشتت فكري دون شك. وهذا لا يعني عدم وجود محاولات تأصيلية نشرها بعض قادة «الدعوة»؛ كالدكتور إبراهيم الجعفري ونوري المالكي والسيد هاشم الموسوي والسيد حسين الشامي(21) وآخرين؛ ولكنها ليست مواقف فكرية رسمية مثبتة في ثقافة «الدعوة». وربما يعود هذا الخلل إلى عدم وجود مراكز دراسات تأصيلية معمقة في حزب الدعوة؛ تأخذ على عاتقها الخوض في هذه المهمة، فضلاً عن انقطاع صدور نشرة «صوت الدعوة» الداخلية في هذه المرحلة؛ التي من شأنها حل هذه الاشتباكات الفكرية وتثبيت الكلمة الفصل حيالها. ولعل الدراسة الفكرية الأهم حول هذا الموضوع هي دراسة الأمين العام لحزب الدعوة نوري المالكي التي نشرها في مطلع العام 2015 بعنوان: «الحركات الإسلامية وتجربة المشاركة في الحكم»، والتي قارب فيها مجمل الإشكاليات والجدليات التي اعترضت الحزب خلال المفصل الثالث؛ إذ قارب موضوع مشاركة الإسلاميين في دولة غير إسلامية، وفي ظل ظروف استثنائية؛ بالطريقة المنهجية نفسها التي استخدمها المفكرون الإسلاميون المصريون واللبنانيون والإيرانيون. وجزأ المالكي الديمقراطية إلى فلسفة وإلى أدوات، ورفض فلسفة الديمقراطية لتعارضها مع فلسفة الإسلام ونظرية «الدعوة»، واستنادها إلى فكر علماني ومناخات اجتماعٍ سياسي وثقافي وديني لا علاقة لها بمناخات المسلمين وخصوصياتهم، ولكنه دافع عن الأدوات الديمقراطية؛ باعتبارها أدوات فنية تتناسب والخيارات العقلانية، ويمضيها الإسلام. كما فكك إشكالية مشاركة حزب الدعوة في حكم العراق بعد العام 2003؛ أي في حكم دولة غير إسلامية وفي ظل ظروف الاحتلال، وقّدم لذلك مسوغات فكرية وواقعية(22).

ولكن تبقى هكذا إشكاليات أساسية بحاجة إلى دراسات موسعة وجهد فكري جماعي ينتج عنه نظرية كاملة تحسم الجدل الدائر بين الدعاة أنفسهم، أو بين الدعاة وخصومهم النوعيين. ولا يختلف الدعاة حول أهمية حسم هذه الإشكاليات في إطار عملية تجديد نظرية «الدعوة» وفكرها وإعادة بناها ونظمها؛ ولكنهم يختلفون في منهجية التجديد؛ فمنهم من يعتقد بالتجديد الانقلابي الشامل؛ وصولاً إلى صيغة سياسية وطنية عصرية، ومنهم من يدعو إلى تجديد إصلاحي تدريجي؛ وصولاً إلى صيغة إسلامية وطنية؛ تحتفظ بأصالة نظرية الدعوة وتعتمد أدوات عصرية. ويعتقد دعاة التجديد الانقلابي بأن التجديد الإصلاحي التدريجي هو إصلاح ترقيعي وغير مجدٍ؛ بينما يرى دعاة التجديد الإصلاحي تجربة التجديد الانقلابي خطيرة وذات نتائج تدميرية، وستأتي بغورباتشوف إسلامي ينفذ منهجيتي البريسترويكا (إعادة البناء) والغلاسنوست (الشفافية)(23)؛ ليكون فيه حزب الدعوة من الماضي. ومقتضى هاتين المنهجيتين إنهاء وجود الموروثات الفكرية التقليدية في «الدعوة»، وعزل الحرس القديم التقليدي، أو تحويلهم إلى مستشارين في أحسن الأحوال، وتطبيق سياقات وأنساق تنظيمية جديدة لم يألفها الدعاة. والحقيقة أن في مثل هذه الحالات تبرز الحاجة إلى تكامل بين العقل التقليدي والنظرية التقليدية والموروثات الفكرية والتنظيمية والحرس القديم من جهة، والعقل التجديدي المؤسسي والأدوات التجديدية من جهة أخرى؛ ليكون التجديد منهجياً علمياً؛ لضمان أصالة «الدعوة» وعصريتها وقوتها واستمرار تأثيرها الاجتماعي والثقافي والسياسي.

وفي إطار التوازن بين التمسك بنظرية «الدعوة» وثوابتها الأصلية، وضغوطات الواقع العراقي؛ يمكن البحث عن ثوابت جديدة منسجمة مع الواقع ومقبولة من النظرية؛ لتكون البدائل الفكرية لأسس النظرية السياسية للدعوة؛ ليتحقق مفهوم توطين نظرية «الدعوة»، ومنها مثالاً:

1 – الإسلامية الحضارية بجرعاتها المقبولة شرعاً وعرفاً، وكما يفرضها الواقع العراقي؛ بديلاً عن النظرية المتخمة بالايديولوجيا.

2 – المذهبية المعتدلة العقدية الفقهية؛ بديلاً عن اللا مذهبية أو المذهبية الطقسية.

3 – التغييرية الاجتماعية؛ بالمفهوم القرآني؛ بديلاً عن التغيير بمفهومه الحركي.

4 – الإصلاحية؛ بديلاً عن الانقلابية؛ في الحكم وشكله وبنيته، والدولة ومؤسساتها.

5 – العصرية؛ بمعنى عصرنة الخطاب الإسلامي وانفتاحه، وتحديث الوسائل والأساليب الحزبية والشكل التنظيمي.

6 – الوطنية؛ بمفهومها المقبول شرعاً؛ بديلاً عن العالمية وعن تصدير الشريعة إلى العالم.

نظام الحكم في نظرية «الدعوة»

لم يفرق تراث الحركات الإسلامية؛ ومنها حزب الدعوة – ككل التراث السياسي الإسلامي – بين مصطلحات الدولة والحكومة والنظام السياسي. وهو الأمر ذاته بالنسبة لمفاهيم الحاكمية والسيادة والشرعية والمشروعية؛ كما درجت عليه الدراسات الحديثة في فروع الفقه السياسي الإسلامي والقانون الدستوري الإسلامي؛ التي افترضت أن الشرعية والحاكمية تعالجان البعد الايديولوجي الفكري الفقهي للدولة الإسلامية؛ بينما تعالج المشروعية والسيادة البعد القانوني الحديث للدولة الإسلامية.

وكان الفقهاء الإيرانيون المعاصرون أول من استخدم هذه المصطلحات – ذات الجذور العربية – باللغة الفارسية في بحوثهم وكتاباتهم خلال ثورة المشروطة في إيران في العام 1906؛ كالشيخ الميرزا النائيني والشيخ عبد الله النوري، وكذلك مراسلات الشيخ الآخوند الخراساني والسيد عبد الله البهبهاني والسيد كاظم اليزدي والسيد محمد الطباطبائي (فقهاء المشروطة والمشروعة)(24)، واختلطت بالمصطلحات القانونية والسياسية الغربية الحديثة التي كان يطرحها المثقفون العلمانيون في ثورة المشروطة. وكان اختلاط المصطلحات والمفاهيم أحد أسباب ملابسات فكرية وسياسية وأعمال عنف شديدة بين دعاة التغريب ودعاة التأصيل من جهة، وبين دعاة المشروطة ودعاة المستبدة (وكلاهما ينتمي إلى جبهة التأصيل) من جهة أخرى. وعند ترجمة هذه الكتابات إلى العربية وقع المترجمون أيضاً في إشكاليات فكرية وقانونية أساسية؛ ولاسيما ما يتعلق بمصطلحات مشروعة ومشروعية وشرعية وحاكمية وحكومة ودولة وغيرها؛ على اعتبار أن استخداماتها العربية ومداليلها القانونية تختلف عنها بالفارسية؛ بالرغم من أن جميع جذور هذه المصطلحات عربية. ثم تعمقت إشكالية المصطلحات بعد دخول ترجمات كتب الشيخ أبو الأعلى المودودي من اللغة الأوردية إلى العربية، وتبنتها الحركات الإسلامية المصرية، ونقلها عنهم الإسلاميون الشيعة. ولذلك حديث تخصصي طويل طرحناه في مطلع تسعينات القرن الماضي خلال ترجمة رسالة الشيخ الميرزا النائيني وبحوث الشيخ عميد زنجاني وغيرهما.

وبالانتقال إلى الجانب المنهجي؛ كمدخل لبحث موقف حزب الدعوة من الديمقراطية؛ فإن بحث النظام السياسي في فكر «الدعوة» يعتمد على ثلاثة أنواع من المصادر:

1 – مصادر فكر حزب الدعوة في موضوع الحكم؛ ومنها نشرة «الأسس» التي كتبها السيد محمد باقر الصدر، وبحوثه التالية المجموعة في كتاب الإسلام يقود الحياة، ولاسيما «لمحة فقهية» و«الدولة الإسلامية»، وبحث «شكل الحكم» المنشور في العدد 32 من نشرة «صوت الدعوة» الداخلية، وكراس «شكل الحكم» المعدل في العام 1981، والنظام الداخلي للعام 1982، ومقالات متفرقة موجودة في ثقافة «الدعوة» (قسم الفكر السياسي). ومن هذه المصادر يتم استخراج البعد الفكري للدولة في فكر «الدعوة».

2 – الكتب المنهجية القانونية في مواد النظم السياسية والقانون الدستوري والقانون الدولي؛ لاستخراج التعريفات العلمية لمصطلحات الدولة القانونية وأركانها والسيادة والحكومة الشرعية والحكم والنظام السياسي؛ لتكييف الدولة الفكرية التي يتبناها حزب الدعوة مع الدولة القانونية التي يعترف بها القانون الدولي.

3 – مصادر الفقه السياسي الإسلامي والقانون الدستوري الإسلامي كما كتبها الفقهاء القانونيون الإسلاميون؛ أمثال الشيخ عباس علي عميد زنجاني والدكتور محمد هاشمي والدكتور مصطفى محقق داماد؛ بهدف الاستفادة من التكييفات الفقهية والفكرية الإسلامية المعاصرة لموضوع الدولة المقبولة إسلامياً (فقهياً) والمشروعة قانونياً(25).

ومن خلال المواءمة الفكرية الفقهية القانونية؛ يتم تقديم رؤية «الدعوة» في نظام الحكم والدولة، والقواعد الشرعية التي تسمح للدعوة بالمشاركة العلنية الرسمية في نظام غير إسلامي؛ مع الأخذ بالاعتبار حجم ونوع ومجال المشاركة. أي أنها رؤية تعبر عن موقف حزب الدعوة النظري والعملي؛ على وفق ما يتطلبه واقع الدولة العراقية في مرحلة ما بعد العام 2003. ليكون التكييف الفكري مرتكزاً إلى دولة قائمة؛ بكل ملابساتها الفكرية والشرعية؛ وهو تكييف يوفق ويوائم بين الدولة الفكرية التي يؤمن بها حزب الدعوة وتأسس بهدف إقامتها، والدولة العراقية التشاركية القائمة من جهة أخرى، والدولة القانونية كما يعترف بها القانون الدولي والقانون الدستوري من جهة ثالثة.

والدراسات الناجحة التي يعول عليها علمياً في موضوع مشروعية الدولة القانونية وشرعيتها الإسلامية هي التي تستخرج مصدر الشرعية الأرضية للدولة ومصدر شرعية الحكومة؛ سواء كان إذن الفقيه أو العقد الاجتماعي أو رأي أغلبية الأمة، أو الثلاثة معاً. أما البحوث الفقهية المحضة أو التنظيرات العامة (اللا زمكانية) في مجال النظرية السياسية الإسلامية والنظام السياسي الإسلامي والدولة الإسلامية ونظام الحكم؛ والتي يفيض بها التراث الفقهي والفكري والفلسفي الإسلامي فلم تعد هناك حاجة إليها؛ لأنها تتحدث عن الدولة كمفهوم ذهني مجرد؛ لا زمان لها ولا مكان؛ خارج الواقع الجغرافي والتاريخي، وغير محكومة بقواعد القانون الدولي والقانون الدستوري وحقائق الجغرافيا.

وعلى صعيد بنية الدولة؛ فإن رؤية حزب الدعوة الأصلية إليها هي رؤية ايديولوجية؛ فهو يدعو إلى الدولة الفكرية؛ أي الدولة المتشكلة على أساس عقدي فكري، وليس على أساس قانوني وضعي. ويقصد بها الدولة الإسلامية التي تعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بكل تفاصيلها وفي كل مجالات الحياة. وكذلك الأمر بالنسبة للأمة؛ فهو يؤمن بالأمة المتشكلة فكرياً وعقدياً، وليس الأمة المتشكلة قومياً أو سياسياً(25).

وتفرض هذه الحقائق على حزب الدعوة نوعين من التأصيل للدولة أو النظام السياسي الذي يتبناه:

النوع الأول: التأصيل الأساس؛ الذي يتطابق مع نظرية «الدعوة» وفلسفة وجودها. بمعنى أن يكون هذا النظام إسلامياً خالصاً؛ بكل أبعاده العقيدية والفقهية التي حددتها أسس حزب الدعوة وأدبياته في مجال الفقه السياسي، وليس نظاماً توليفياً. ويكون هذا التأصيل خاصاً بالدولة التي يهدف حزب الدعوة إلى تأسيسها في زمان ما ومكان ما. ورغم مثالية هذا الهدف؛ لكنه يرمز إلى التصاق حزب الدعوة بركائزه الدعوية السياسية الأصلية. وهذا اللون من التأصيل أنتجه الإمام الخميني؛ إذ عمل في نظريته «الحكومة الإسلامية» على نسف كل أنواع الأنظمة الوضعية؛ واستبدلها بدولة الولي الفقيه، وهي صيغة مختلفة من الناحية الدستورية عن كل النظم السياسية المعروفة(26).

النوع الثاني: التأصيل المرحلي؛ الذي يراعي حقائق الزمان والمكان ومتطلباتهما. وفيه يتنزل حزب الدعوة إلى القبول بأنساق وضعية وآليات أرضية من نتاجات مشاريع حضارية أخرى؛ كالديمقراطية والليبرالية والمدنية مثلاً. مع الأخذ بالاعتبار ألّا يمثل هذا القبول قراراً سياسياً تتخذه القيادة؛ بل خياراً فكرياً قائماً على دراسات وبحوث منهجية. وهذا اللون أنتجه الشيخ الميرزا النائيني خلال ثورة «المشروطة» في إيران؛ إذ عمل في رسالته «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» على التوليف بين ثلاثة ركائز:

1 – الدولة الإيرانية الوطنية الملكية (موروث الأمة الإيرانية)

2 – النظام التعددي الانتخابي على وفق القانون العصري (آليات الديمقراطية)

3 – سياقات التشريع المقبولة فقهياً (إشراف الفقهاء الدينيين على تشريعات مجلس النواب)

ومن خلال هذا المثلث حقق الشيخ النائيني هدفي المشروطة والمشروعة في آن واحد(27). وهو ما يحتاجه حزب الدعوة تحديداً في عراق ما بعد العام 2003.

ويقود هذا الحديث لتشريح الفهم المتجدد لحزب الدعوة الإسلامية للمذهب السياسي الديمقراطي في مرحلة ما بعد العام 2003 العراقية، وهو موقف لا ينطلق من قبول الديمقراطية أو رفضها؛ بل من الفهم المعرفي للمصادر التالية:

1 – المذهب السياسي الديمقراطي من مصادره الأصلية.

2 – المنظومة الفكرية الإسلامية القيمية.

3 – نظرية حزب الدعوة الإسلامية وفكره السياسي.

4 – حاجة الواقع العراقي ومتطلباته.

ومن هنا؛ فالفهم الجديد لا يهدف إلى التنظير لمذهب جديد خارج الزمان والجغرافيا، أو تفصيل الديمقراطية على مقاسات «الدعوة» أو تفصيل فكر «الدعوة» على مقاسات المذهب الديمقراطي؛ بل الهدف هو التأصيل لنظام سياسي مفصل على مقاسات العراق الجديد وحقائقه، ويحظى بإمضاء الشريعة ونظرية «الدعوة». ولكي يكون النظام السياسي الذي يعبِّر عن فكر حزب الدعوة لصيقاً بالزمان والمكان؛ فإن صياغته تتطلب توليفة دقيقة ترتكز إلى أربع حقائق:

1 – جغرافيا العراق السياسية؛ أي ما تفرضه متطلبات العراق كبلد له حدوده الجغرافية الإدارية، والخاضع لأحكام القانون الدولي وشرعة التنظيم الدولي الذي ينتمي إليه.

2 – جغرافيا العراق السكانية، وتنوعه الديمغرافي القومي والديني والمذهبي والثقافي والاجتماعي.

3 – الزمن؛ وهو واقع ما بعد العام 2003.

4 – المنظومة الفكرية الدعوية السياسية التي تمثل نظرية حزب الدعوة الأصلية.

وهذا يعني أن قراءة الديمقراطية وما يصلح منها للعراق؛ لا تكون بناءً على الاجتهاد والميول الفكرية والسياسية، أو سَوق قسري لمفهوم الديمقراطية باتجاه التوافق مع نظرية «الدعوة» وفكرها السياسي. فهذا المنهج ليس علمياً ولا واقعياً؛ لأن المعيار في مقاربة مفهوم الديمقراطية لا يستند إلى آراء الدعاة أو اجتهادات «الدعوة»؛ بل هو رأي المناخات الأصلية المنتجة للديمقراطية، وظروفها الموضوعية وصانعيها ومفكريها ومنظريها السلف والخلف. ولا أحد من هؤلاء ينفي متلازماتها الايديولوجية وكونها مذهباً سياسياً، وركناً من مخمّس العلمانية والليبرالية والديمقراطية والمدنية والعقلانية بمفاهيمها الفلسفية الغربية. ولم يقل أحد من منظري الديمقراطية بأنها استحالت مجرد أدوات وآليات وأنساق وإجراءات عامة مشتركة؛ خالية من منظومة القيم؛ حتى في تفسيراتهم الايديولوجية. بل إن أكثر المفكرين الإسلاميين؛ دفاعاً عن الديمقراطية؛ لم يعبروا على الجانب القيمي الفلسفي في المذهب الديمقراطي، ولطالما اعتبروه الجانب الأهم في المذهب الديمقراطي والمتقدم على ترشحاته النسقية الإجرائية(28).

ولذلك فإن الديمقراطية هو مذهب سياسي ونظام قيمي؛ بصرف النظر عن تعريفاتها الفضفاضة وعمومياتها، وتشتمل على:

1 – الإطار الفلسفي الذي ترشح عن مخاضات عصر النهضة الأوربية وما بعدها، وهو التأسيس الحقيقي للمذهب السياسي الديمقراطي الماثل.

2 – إفراز الإطار الفلسفي لموضوع التشريع، وهو إفراز جبري، وما يترشح عنه من أنساق إجرائية في البعد التشريعي. والمقصود به إفراز هذه الأنساق لممثلي الشعب ومساحة الحرية الممنوحة لهم في تشريع القوانين.

3 – الأنساق الإجرائية في البعد التطبيقي؛ أي فرز السلطات وأنواعها وممارستها وتداولها وعلاقتها ببعضها، وتمثيلها للشعب، وأنواع الحقوق والحريات التي يتمتع بها الشعب في إطارها. وهذه الأنساق الإجرائية بمجملها تعبر عن البعد الآلي في الديمقراطية(29).

ولذلك؛ فإن استعارة فكرة أو نسق أو آلية من مذهب سياسي، لا يعني تبني المذهب برمته والتسمي باسمه؛ فقبول الشريعة الإسلامية ونظرية «الدعوة» لآليات الديمقراطية – مثلاً – وبعض أنساقها الفكرية؛ لا يعني أن النظرية السياسية الإسلامية هي نظرية ديمقراطية أو أن المذهب السياسي الذي يتبناه حزب الدعوة الإسلامية فكرياً هو المذهب الديمقراطي. فوجود مشتركات لا يعني التطابق؛ لأن هناك افتراقات فكرية وإجرائية كثيرة أيضاً. وبالتالي؛ فالمذهب السياسي الديمقراطي ينتمي إلى مشروع حضاري له خصوصياته وحقائقه. بينما ينتمي المذهب السياسي الإسلامي إلى مشروع حضاري آخر؛ قد يشترك في بعض قواعده وأسسه مع المشاريع الحضارية الأخرى(30).

قد تقول بعض الاتجاهات العلمانية أو المتأثرة بها بأن الإسلام لا يتضمن نظرية سياسية أو مذهباً سياسياً أو نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وعليه تستطيع الجماعة المؤمنة المتشرعة استعارة أي نظرية أو نظام سياسي واقتصادي، باعتبارهما مجرد تقنيات عامة. ولكن القدر المتيقن أن حزب الدعوة الإسلامية – وهو ما يعنينا هنا – يؤمن بوجود مذهب سياسي ونظام سياسي في الإسلام. وعليه؛ ينبغي أن تكون المقاربة لصيقة بنظرية «الدعوة» وفكرها السياسي، ولا تتكئ على القراءات الخاصة.

ولعل فهم حزب الدعوة الرافض للمذهب الديمقراطي ظل حتى العام 1979 متسقاً مع فهم الحركات الإسلامية الأخرى والجو السائد في الوسط الإسلامي العام، والوسط الشيعي الخاص. ولاسيما موجة الكتابات الإسلامية التي تكثفت خلال عقود الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي، ضد الديمقراطية ومن يقول بها في الوسط العربي والإسلامي(31). وترسخ رفض حزب الدعوة للمذهب الديمقراطي بعد العام 1979؛ بفعل انتقال قيادة «الدعوة» إلى إيران وهيمنة الفقهاء الولائيين على مسار الحزب السياسي والفكري؛ يتقدمهم السيد كاظم الحائري والشيخ محمد مهدي الآصفي؛ اللذين كان رفضهما للنظام الديمقراطي رفضاً قاطعاً مبنياً على رؤى عقدية وفكرية وفقهية؛ دون استبعاد التأثر القوي بالجو السائد في جمهورية الفقيه في إيران(32). بل حتى حين كان المرجل الفكري الإيراني يعمل بأقصى طاقاته في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ويضخ آلاف البحوث والكتب العلمية العميقة، والمؤتمرات وورش العمل الفكري، والتي فتحت أبواب الفكر الإسلامي الإيراني على مصاريعها أمام التجديد والمواءمة مع الفكر الإنساني عموماً والفكر الغربي خصوصاً؛ فإن فكر «الدعوة» لم يتأثر بهذا الحراك النوعي، وبقي محتفظاً برؤيته السلبية تجاه المذهب الديمقراطي. وحتى الكتابات المحدودة التي أصدرها بعض الدعاة منذ مطلع التسعينات، وفيها دعوات للقبول بآليات المذهب الديمقراطي؛ فإنها كانت تواجه بالرفض من «الدعوة» وعموم الدعاة. ولم يكن هذا الرفض مبنياً على قراءات بحثية علمية للموضوع؛ بل يستصحب الرأي التقليدي في الدعوة؛ الذي نظّر له السيد كاظم الحائري غالباً. والأكثر لفتاً للنظر، أن حزب الدعوة ظل متأثراً بالتيار الفكري الأصولي المحافظ في إيران، ولم يتأثر بالتيار الفكري التجديدي الذي تصاعد بقوة بعد تسلم السيد علي الخامنئي منصب القيادة، وتسلم الشيخ هاشمي رفسنجاني ثم السيد محمد خاتمي رئاسة الجمهورية؛ والثلاثة ينتمون إلى التيار الفكري التجديدي، أو ما يعرف بتيار المثقفين.

وظل الفكر السياسي لحزب الدعوة حتى قبل العام 1991 يتجاوز الزمان والمكان. وهو ما عليه فكر الجماعات الايديولوجية العابرة للحدود والأزمان. ولذلك تنبّه ستالين وماو وغارودي – على عكس تروتسكي – وأسسوا للمذاهب الماركسية السوفيتية والصينية والأوربية. وهو الحال نفسه مع التيار الفكري التجديدي في إيران الذي طرح توليفة فكرية إبداعية؛ عنوانها «الفكر الإسلامي الديمقراطي الوطني» أو «حكم الشعب الديني» أو «الديمقراطية الدينية الوطنية»(33)، وبها اكتسح الانتخابات البرلمانية والرئاسية في عقد التسعينات من القرن الماضي، واستقطب الإسلاميين والقوميين والعلمانيين والسنة والأكراد والبلوش. ولم تأت هذه التوليفة بقرار سياسي ارتجالي؛ بل عبر دراسات ومؤلفات وأطاريح فكرية عميقة. أما ما طرحه حزب الدعوة من برامج ورؤى ومقولات تجديدية بعد العام 1991؛ تأثراً بمستجدات الساحة العراقية في الداخل، وحراك المعارضة العلمانية في الخارج؛ فكانت رؤى سياسية ومواقف سياسية؛ وليست رؤى فكرية كنتاج لبحوث منهجية وورش فكرية. وهو ما جعل حزب الدعوة يعيش إرباكاً في فكره السياسي. واستمر هذا الوضع حتى العام 2003؛ حين برزت لأول مرة مظاهر القبول بالعملية السياسية العراقية بأنساقها الديمقراطية.

وقد ظهرت منذ أوائل تسعينات القرن الماضي توجهات وأفكار لدى بعض الدعاة؛ ممن كان لا يزال مرتبطاً بالحزب أو قد تركه؛ فيها دعوات للقبول بالديمقراطية ونظمها(34). وقد كانت هذه الأفكار غير متبلورة منهجياً من جهة، وسابقة لأوانها من جهة أخرى؛ في ظل كثافة عددية ونوعية للدعاة وقياداتهم في إيران التي تعمل بآليات الديمقراطية ولكنها ترفض فلسفتها، ووجود مفكرين وفقهاء تاريخيين في حزب الدعوة لا يقبلون بنظرية الديمقراطية، ووجود موقف رسمي فكري للحزب يتعارض مع الديمقراطية. وكان معظم قادة الدعوة وكوادرها يرون في تلك الأفكار ترفاً فكرياً واختلاقاً لإشكاليات لم تبتل بها «الدعوة». فضلاً عن أن حزب الدعوة كانت له تكييفات فكرية سابقة سمحت لبعض أعضائه في الوصول إلى البرلمان أو الوزارة في لبنان والبحرين والكويت في إطار آليات ديمقراطية؛ دون الحاجة إلى الإعلان عن موقف فكري غير ضروري. وقد لخّص تكييفاته هذه في نشرة داخلية أصدرها في العام 1960 وذكر فيها العوامل التي تفضي إلى اتخاذ حزب الدعوة مواقف سياسية واجتماعية استثنائية؛ في مقدمها المشاركة في الانتخابات في ظل أنظمة غير إسلامية(35).

وخلال العامين 2003 و2004 بدا حزب الدعوة بحاجة إلى تكييفات فكرية بخصوص القبول بالنظام الديمقراطي والعمل في إطار آلياته. واستند الحزب في هذا المجال على الأذونات الشرعية التي حصل عليها الحزب من الفقهاء؛ ولا سيما السيد كاظم الحائري والسيد محمد حسين فضل الله والسيد علي الخامنئي والسيد علي السيستاني؛ أكثر من استناده إلى التكييفات الفكرية.

وإذا كان رفض حزب الدعوة للديمقراطية بناء على الفهم الإسلامي الحركي السائد في القرن الماضي ينطوي على تأصيل فكري، فإن قراره السياسي بقبول العملية الديمقراطية لم يكن مبنياً على تكييف فكري؛ بل بناءً على ضغط الواقع وحقائقه، أو بكلمة أدق قبول «براغماتي» يحاكي الواقع العراقي محاكاة مباشرة. ولذلك كان إعلان حزب الدعوة قراره السياسي بقبول العملية الديمقراطية في العراق سيفاً ذا حدين؛ فقد أعطي للدعوة وجهاً عصرياً انفتاحياً على وفق رؤية العقل الجمعي العراقي السائد؛ إلا أنه ألزم «الدعوة» في الوقت نفسه بتبعات فكرية وسلوكية خطيرة؛ تتعلق بموضوعات التشريع ومرجعية الشريعة والحقوق والحريات العامة والخاصة؛ وصولاً إلى القبول بكل شرعات حقوق الإنسان الدولية الوضعية على مستوى الدولة والحكومة والمجتمع العراقي؛ بما في ذلك حرية الارتداد، والترويج للإلحاد ولما يتعارض مع أساسيات الإسلام، وتقنين بيع الكحول، وعمل الملاهي الليلية، وعرض ما يخالف الشريعة في الإعلام الرسمي. وبالرغم من أن حزب الدعوة ظل مشاركاً في السلطة وأحد أقطابها الأساسيين؛ إلى جانب علمانيين وملحدين، ولم يكن ينفرد بالسلطة وقرارها؛ إلا أن تلك التبعات تسببت في إحراجات كبيرة للدعوة والدعاة؛ بكل ما يحمله مصطلحي الدعوة والدعاة من أعباء عقدية وفكرية وسلوكية ثقيلة. والأخطر أن شركاء «الدعوة» من غير الإسلاميين وعموم المراقبين ظلوا يلزمون حزب الدعوة بما ألزم به نفسه، ويطالبونه بكل مستلزمات البناء الديمقراطي والحقوق والحريات، ويحاسبونه وينتقدونه بناء على متبناه المذهبي الديمقراطي بكل تفاصيله النظرية والفلسفية والتشريعية والسلوكية.

وقد حاول النظام الداخلي لحزب الدعوة الإسلامية الصادر في العام 2008؛ التكيف في شكله ومضامينه مع مرحلة ما بعد تأسيس العراق الجديد في العام 2003، ولاسيما مع ما يرتبط بملابسات مشاركة الحزب في حكم دولة غير إسلامية، وبواسطة آليات ديمقراطية. ولكن كانت هناك تمظهرات لخلل فكري وقانوني؛ بسبب عدم انسجام جزء من التكييفات مع نظرية «الدعوة». وبالتالي كان نجاحه نسبياً في محاولته صياغة توليفة بين نظرية «الدعوة» والواقع العراقي الجديد الضاغط. وقد طرح بعض الدعاة من أصحاب الاختصاص تصويبات مهمة في هذا المجال؛ لعلها تأخذ طريقها للتعديل في مؤتمرات الحزب.

ويبقى حزب الدعوة بحاجة إلى إعادة تأصيل نظريته السياسية الدعوية الإسلامية الايديولوجية؛ لتنسجم مع حقائق العراق الجديد؛ قبل أن يفصِّلها على مقاس المذهب الديمقراطي. حينها سيكون القبول أو القبول المقيد والمشروط بالمذهب الديمقراطي مترشحاً عن تأصيل فكري معمق؛ للتثبت من مساحات القبول والرفض. ويمكن هنا طرح مفهوم بديل عنوانه العام «الخصوصية»؛ أي «خصوصية الأمة العراقية» و«خصوصية النظام السياسي الوطني العراقي»؛ تكون أهم مخرجاته التأسيس لـ «فكر إسلامي دعوتي وطني عراقي»؛ أي فكر لصيق بنظرية حزب الدعوة من جهة، والواقع العراقي المحلي من جهة أخرى.

إعادة بناء هيكل «الدعوة»

تطرح بعض أوساط حزب الدعوة مشروع مأسسة الحزب؛ في إطار عملية إعادة بناء شاملة؛ تنسجم مع التحول السياسي الجذري الذي شهده العراق بعد العام 2003؛ ليوائم الحزب نفسه مع هذا التحول الذي لم يحصل بقراره وتخطيطه وتنفيذه. وتكون عملية المأسسة لاحقة لعملية تحديد هوية حزب الدعوة الفكرية ونظريته وغاياته وأهدافه الدعوية ومشروعه السياسي. ويرتبط جزء مهم من إعادة البناء بهيكلية حزب الدعوة، وهي مهمة تقترن بوجود مثلث أضلاعه: العقل المؤسَسي، والثقافة المؤسَسية، والمواصفات القياسية. وبدون حضور هذا المثلث في كيان الحزب، لن تنفع المأسسة وضوابطها وكل أشكال العمل المؤسَسي، وستكون عملية إعادة البناء الفكري والتنظيمي مشوهة وعشوائية.

وسبب تأكيد أهمية العقل المؤسَسي والثقافة المؤسَسية يعود إلى جملة عوامل تمثل بيئة طاردة للعمل المؤسسي في «الدعوة»، أهمها:

1 – موروث «الدعوة»؛ الذي يكشف نمط العلاقات داخل الحزب، ولاسيما ما يرتبط بتعامل القادة والكوادر المؤثرين داخل منظومة الحزب.

2 – موروث الاجتماع الثقافي العراقي، ولاسيما الريفي الذي يهيمن على مساحة مهمة من الثقافة السلوكية، وحضور القوالب الاجتماعية التقليدية قبل المؤسسة.

3 – موروث الاجتماع الديني الشيعي، ولاسيما ازدواجية حضور عالم الدين الداعية بين موقعه الديني وموقعه الحزبي؛ ما يتعارض مع تطبيق صحيح للعمل المؤسسي.

هذه الموروثات الثلاثة تؤكد أهمية إيجاد ثقافة العمل المؤسَسي ونشرها وترسيخها أكثر من إيجاد المؤسسة الحزبية نفسها. وبعد نجاح الخطوة الأساس هذه؛ يمكن الانطلاق في رحاب إعادة بناء المؤسسة الحزبية وهيكلتها وتجديد فكرها النظمي والتنظيمي. ويمكن في هذا المجال اعتماد أربعة مصادر:

1 – نظرية حزب الدعوة وفكره الموروث.

2 – النظام الاجتماعي الديني الشيعي وخصوصياته.

3 – الخصوصية العراقية في مجالات الاجتماع والسياسة والعقل المنتج والمستهلك.

4 – النظريات الحزبية الغربية الليبرالية، والتجارب الحزبية الشيوعية الايديولوجية؛ في البناء المؤسساتي التنظيمي.

وسينتج عن عملية إعادة البناء والمأسسة المعتمدة على المصادر أعلاه:

1 – حزب عراقي، إسلامي، شيعي، حضاري في الجانب الفكري والنظري، يستند إلى نظرية «الدعوة» الأصلية، وإلى الواقع العراقي الجديد وخصوصياته.

2 – تنظيم مؤسَسي قوي رصين فاعل سياسياً ودعوياً.

3 – معايير ضاغطة تحول دون حصول تصدعات وانشقاقات وتمرد وخروج.

ويمكن تصور هيكلية جديدة لحزب الدعوة الإسلامية تنسجم مع الخصائص الأربع السابقة؛ تتألف من:

1 – قمة هرم الحزب؛ تتكون هيكليته من خمسة أركان متكاملة:

أ – مؤتمر الحزب: تحضر له وتديره لجنة مستقلة؛ يشترط في أعضائها ألّا يكونوا أعضاء في هيئة الإشراف والقيادة التنفيذية، وعدم الترشح لعضويتهما. ويتم في المؤتمر انتخاب هيئة الإشراف والقيادة ومجلس الشورى.

ب – هيئة الإرشاد(36): وهي لجنة إشراف ورعاية وتحكيم عليا؛ تكون داخل الجسد الحزبي، ولكنها منفصلة في هيكلها وأعضائها عن القيادة ومجلس الشورى وباقي مؤسسات الحزب. عدد أعضائها ثلاثة إلى خمسة من الدعاة الرواد (فقهاء ومثقفين)؛ أحدهم الأمين العام، ويسميها مؤتمر الحزب. وهي بمثابة العقل المركزي للحزب، والضابط لفكره وحركته وعمل قيادته ومؤسساته. ويكون تنظيم العلاقة بالمرجعية الدينية العليا وتحديد مصاديقها من اختصاص الهيئة. ولا يمارس أعضاؤها أي عمل حكومي، أو عمل تنفيذي داخل الحزب؛ باستثناء ما يرتبط بالمؤسسة الدعوية للحزب؛ التي سيأتي الحديث عنها. وينبثق عن الهيئة ثلاث لجان عليا:

أولاً: لجنة القضاء والتحكيم.

ثانياً: اللجنة الفكرية.

ثالثا: لجنة التنسيق الخارجي (خاصة بالدعاة السابقين وأنصار الدعوة من غير العراقيين).

ت – الأمين العام(37)؛ ويمثل رمزية الحزب؛ ويمتلك صلاحيات متابعة أعمال القيادة التنفيذية والتنسيق بين المكاتب واللجان ومؤسسات الحزب؛ عدا هيئة الإرشاد. ويتم انتخاب الأمين العام من مؤتمر الحزب. وهو عضو في هيئة الإرشاد، ويترأس اجتماعات القيادة التنفيذية. وينبثق عن الأمانة العامة تسعة مكاتب ومؤسسات:

أولا: نائب الأمين العام.

ثانيا: مكتب المعلومات.

ثالثا: مركز الدراسات.

رابعا: أكاديمية «الدعوة».

خامسا: هيئة دعم الحشد الشعبي.

سادسا: مكتب العلاقات العامة.

سابعا: مكتب التخطيط والميزانية.

ثامنا: المكتب الاقتصادي.

تاسعاً: مكتب الأمين العام.

ث – القيادة التنفيذية(38): وهي بمثابة السلطة التنفيذية، وينبغي أن تكون متفرغة للحزب، ويكون اشتراك بعض أعضائها في العمل الحكومي استثنائياً، وبقرار من هيئة الإرشاد. كما تتمتع قراراتها الأساسية بالشرعية بعد مصادقة هيئة الإرشاد؛ حسبما يحدده النظام الداخلي. وتمسك القيادة التنفيذية بجسد الحزب وأجنحته الثلاثة كما سيأتي.

ج – مجلس الشورى؛ وهو بمثابة السلطة التشريعية للحزب. ولكن لا تتمتع أي من قراراته الأساسية بشرعية التنفيذ قبل إقرارها في هيئة الإرشاد؛ حسبما يحدده النظام الداخلي. ولا يمكن الجمع بين عضوية هيئة الإرشاد والقيادة ومجلس الشورى. وتنبثق عن مجلس الشورى هيئتان:

أولا: هيئة الرقابة والتقييم الحزبي والسياسي والمالي والحكومي، الخاصة بتقييم أداء الدعاة في الحزب والدولة؛ إدارياً وسياسياً ومالياً، وتقييم أداء حلفاء «الدعوة»، واقتراح الدعاة وأنصارهم للمناصب في الدولة.

ثانياً: هيئة التخطيط الاستراتيجي.

وتقوم هاتان الهيئتان ولجان المجلس الأخرى برفع قراراتها وتقاريرها إلى هيئة الإرشاد مباشرة؛ للمصادقة أو الدراسة أو الاطلاع. كما يتوزع أعضاء المجلس على لجان ثابتة؛ تستوعب كل مجالات عمل الحزب.

هذه الأركان المتكاملة الخمسة تحافظ على روح «الدعوة» وانسيابية تحولاتها وتنفيذ قراراتها وسلامة فكرها ومسارها السياسي، وتعمل على تجديدهما تلقائياً. وفي الوقت نفسه تجدد التنظيم والفكر، وتحاصر الانشقاقات والخروج من التنظيم.

ويوضح النظام الداخلي المقترح أسلوب تنظيم علاقة الحزب بالمرجعية الدينية عبر هيئة الإرشاد، ويبين مواصفاتها العامة وتسميتها.

2 – جسد الحزب:

يتألف جسد الحزب من ثلاثة أجنحة رئيسة تكمل بعضها؛ ينسق بينها الأمين العام، ويمكن إطلاق تسمية مكتب أو مؤسسة أو هيئة أو جناح عليها، ويتوزع أعضاء القيادة التنفيذية على رئاسة الأجنحة وعضويتها:

أ – الجناح الدعوي: ويختص بشؤون المشروع الدعوي للحزب؛ بما في ذلك الإنتاج الفكري الإسلامي، وشؤون الحوزات وعلماء الدين والوكلاء والمساجد والحسينيات والخطباء والشعائر، والتبليغ والتثقيف والإرشاد والإعلام الديني.

ب – الجناح السياسي: ويختص بشؤون المشروع السياسي للحزب؛ بما في ذلك الدولة والحكم والعمل السياسي والإعلام والعلاقات.

ت – الجناح التنظيمي: ويختص بشؤون المشروع التنظيمي للحزب؛ بما في ذلك تنظيمات «الدعوة» ومكاتبها في العراق والعالم، وشؤون الطلبة والشباب والعمال والعشائر والنقابات والاتحادات المهنية ومنظمات المجتمع المدني.

تجديد تعريف الداعية

لا شك أن إعادة بناء نظرية «الدعوة» سيلقي بظلاله أيضاً على مفهوم المنتمين إليها وتعريفهم، والمقصود بهم «الدعاة» أو أعضاء حزب الدعوة الإسلامية. والداعية بالمعنى الاصطلاحي الإسلامي المعاصر العام هو من يدعو إلى الإسلام وتطبيق أحكامه وشريعته في المجتمع أو الدولة. أما «الداعية» بالمعنى الخاص بحزب الدعوة الإسلامية؛ فهو المنتمي إلى «الدعوة» تنظيماً وفكراً ومنهجاً وسلوكاً، أو الذي خرج من التنظيم وظل مؤمناً بفكره ومنهجه وسلوكه. وهذا الإيمان الفكري والسلوكي يستدعي أن يكون عضو حزب الدعوة داعيةً إسلامياً أيضاً؛ ليس على مستوى تدينه الفردي وسلوكه الشخصي وحسب؛ بل على مستوى أداء واجباته الدعَوية؛ كالتبليغ الديني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناس لتطبيق أحكام الإسلام ومكارم الأخلاق وغيرها. وبذلك ينطبق عليه مفهوم الداعية بالمعنى الإسلامي العام أيضاً.

ومصطلح «الداعية» منتزع من «الدعوة» وليس من الحزب. أي أنه يشير إلى الانتماء للدعوة بمفهومها العقائدي، وليس إلى الحزب بمفهومه السياسي، أو – بكلمة أخرى – التوصيف العقائدي للمنتم وليس التنظيمي. وبالتالي فإن مصطلح «الداعية» ينطوي على أعباء عقائدية ثقيلة وتبعات سلوكية شاملة. وهو ما كان حزب الدعوة يشدد عليه قبل العام 2003؛ أي قبل حدوث التحولات الفكرية والسياسية في الحزب. أما صفات «الداعية» أو عضو حزب الدعوة على وفق واقع العراق بعد العام 2003 والنظام الداخلي لحزب الدعوة للعام 2008؛ فلعلها دخلت في دائرة إعادة النظر والتجديد أيضاً. وسيترشح ذلك تلقائياً في إطار عملية إعادة بناء نظرية حزب الدعوة ومشروعه الدعوي والسياسي الجديد، وسيتبين التوصيف الجديد لأعضائه وشروطهم ومواصفاتهم وواجباتهم؛ فيما لو كانوا هم دعاة للإسلام؛ بكل ما يعنيه هذا المصطلح، أو أنهم أعضاء في حزب سياسي، أو يجمعان التوصيفين معاً.

ويعود الخلاف حول هذه التوصيفات إلى الفروق الجوهرية والشكلية بين أربعة مستويات من الدعاة والعاملين للإسلام:

الأول: الداعية بالمعنى الاصطلاحي الإسلامي العام. وهو الإنسان المؤمن الملتزم بالمعتقدات والأحكام الشرعية في فكره وسلوكه، المعبأ بالثقافة الإسلامية التراثية والعصرية، المتعلم، المنتج للأفكار، الناقد للواقع؛ لأن مهمته تتلخص في الدعوة إلى الإسلام وشريعته، وتغيير الواقع، والتأثير في المجتمع، والتبليغ بالثقافة الإسلامية، ونشر الوعي الديني، والتبشير بالمشروع الإسلامي في أبعاده المختلفة الفكرية والسياسية. أي أنه نموذج النخبوي الإسلامي. ولا يمكن أن يكون الداعية سياسياً أو عسكرياً محترفاً؛ بل إنه يمارس السياسة والعمل العسكري لأهداف دينية دعوية. أي أنه داعية ومبلغاً ومبشراً قبل أن يكون سياسياً. وإذا لم يكن الداعية بهذه المواصفات سقطت عنه صفة الداعية بمعناها الاصطلاحي. فقد تكون مهنته الفلاحة أو البناء أو الطب أو التعليم، ولكنه ينبغي أن يكون مثقفاً ومتفقهاً ومنتجاً؛ ليكون بمستوى أهداف الدعوة وأعبائها.

الثاني: «الداعية» بالمعنى الإسلامي الحزبي الخاص؛ أي «الداعية» العضو في حزب الدعوة الإسلامية؛ الذي تنطبق عليه جميع مواصفات وشروط وإلزامات الداعية بالمعنى الإسلامي العام. وتضاف عليها أعباء دعوية جديدة خاصة؛ لا تقل ثقلاً نوعياً وكمياً عن المواصفات العامة، وترتبط بمشروع حزب الدعوة الخاص؛ بعقائديته والتزاماته التنظيمية والسلوكية والسياسية والاجتماعية.

الثالث: «الداعية» بالمعنى السياسي الحزبي الخاص؛ أي العضو في حزب الدعوة. وهو الذي يمارس عملاً حزبياً وسياسياً في إطار المشروع التنظيمي والسياسي لحزب الدعوة الإسلامية؛ في حال استحال حزب الدعوة حزباً سياسياً لا علاقة له بالمشروع الدعوي. وهذا التعريف للداعية، أو عضو حزب الدعوة بتعبير أدق؛ لا يشترط فيه أن يكون هذا العضو مثقفاً متفقهاً منتجاً ناقداً مغيراً.

الرابع: العامل للإسلام بالصيغ الشعائرية الطقسية، وهو مستهلك للأفكار والثقافة، وينشط في محور إسلامي؛ مسجدٍ أو حسينية أو جبهة عسكرية أو جمعية دينية. ولا يشترط في هذا الشخص أي من مواصفات الداعية وواجباته الثقافية والتبليغية والتغييرية.

ولذلك لا يمكن اعتماد توصيفات أدبيات حزب الدعوة في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي لأعضائه على واقع ما بعد العام 2003؛ كما يعتقد معظم الرواد منهم.

قد تكون هذه التوصيفات مجدية فيما لو أبقى حزب الدعوة الإسلامية على تعريفه لنفسه كما كان في تلك العقود؛ بغاياته وأهدافه التغييرية الانقلابية الكبرى، وعقائديته وعالميته، ومشروعه في إقامة الدولة الإسلامية الفكرية، وتطبيق أحكام الشريعة في المجتمع. هذه هي ماهية «الدعوة» أصلاً؛ فلو بقي الحزب متمسكاً بها؛ سيكون المنتمي إليه داعية إسلامياً وليس عضواً في حزب سياسي. أما إذا قبل حزب الدعوة بالاستحالة والتغيير الماهوي؛ حتى الجزئي منه؛ فإن ذلك يستتبع تغييراً حتمياً في تعريف الداعية، ووضع قواعد ومعايير جديدة لوصف عضو حزب الدعوة. وعلى أساس ذلك سيتم تقرير نوعية ثقافته وميزانها وحجمها، ومناهج تثقيفه وتدريبه، وطبيعة سلوكياته الخاصة والعامة. كي يكون التقرير هنا لكائن واقعي قائم وليس مفهوم ذهني مجرد.

مفكرو «الدعوة» ومجددوها

إن إعادة بناء نظرية حزب الدعوة الإسلامية وفكره وهيكله التنظيمي؛ ليست عملية ارتجالية، أو إجرائية مرهونة بالانفعالات السياسية اليومية؛ بل هي عمليات معقدة بحاجة إلى دراسات معمقة وحوارات موضوعية هادئة؛ يقوم بها أصحاب الاختصاصات؛ المنظرون والمفكرون والباحثون؛ وبينهم فقهاء وسياسيون؛ بعيداً عن التجاذبات السياسية والمصالح الشخصية والمزايدات والجدل والتصريحات الإعلامية.

وهذا الموضوع يقود إلى استفهام مهم حول الفئة التي تناط بها هذه العملية المعقدة، التي تكمن صعوبتها في أن إعادة البناء النظري والتطبيقي لا تبدأ من الصفر، ولا تقوم على أرض منبسطة؛ بل على بناء قائم عميق وقوي ومتجذر في العقول الظاهرة والباطنة للدعاة. ولذلك تكون مواصفات هذه الفئة خاصة وصعبة أيضاً. ولعلها لا تكون من فئة المنظرين والمفكرين التقليديين في «الدعوة»؛ الذين اعتاد الدعاة على قراءة كتبهم ودراسة أفكارهم والاستماع إلى محاضراتهم. في حين أن توصيف المفكر الحزبي والمنظر الدعوي في مرحلة السلطة والتطبيق السياسي وميدان العمل تختلف عن توصيفه في مرحلتي البناء والمعارضة. ولذلك ليس هناك تعريف متجدد وعصري محدد للمفكر أو المنظر الحزبي الإسلامي؛ لكي يكون معياراً دقيقاً يمكن تطبيقه؛ بل هناك معايير نسبية، وتطبيقها نسبي أيضاً، وتخضع لزاوية نظر كل باحث أو مؤسسة بحثية.

وربما ينطبق على المفكر والمنظر الذي يحتاجه حزب الدعوة؛ معيار من يمتلك نظرية إبداعية في مجال معين. ولكن لا يشترط به أن يدون نظريته أو إبداعه الفكري في كتاب أو دراسة، بل هناك من المنظرين والمفكرين الشفاهيين الذي يعتمدون الكلمة والمشافهة والتدريس والميدان في التعبير عن نظرياتهم. وهؤلاء كانوا ولايزالون موجودين في حزب الدعوة. ولكن على مستوى المفكرين المدونين؛ فأعتقد أن مرحلة أجيال الرواد من مفكري «الدعوة» ومنظريها البارزين محلياً وإقليمياً ودولياً؛ لم يعد لها وجود غالباً؛ ولاسيما أن مرحلة العمل السري (مرحلة البناء التي استمرت من العام 1957 وحتى 1980) والسنوات العشر التي أعقبتها؛ أفرزت الكثير من المفكرين والمنظرين الذين يندر مثيلهم الآن، ويندر وجودهم في أي حزب إسلامي في العالم، إذا ما استثنينا جماعة الإخوان المسلمين في مصر. وأبرز هؤلاء: السيد الشهيد محمد باقر الصدر والسيد مرتضى العسكري والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين ومحمد هادي السبيتي وعبد الصاحب دخيل والشيخ محمد علي التسخيري والشيخ محمد مهدي الآصفي والسيد كاظم الحائري والشيخ عبد الهادي الفضلي والشيخ أحمد الوائلي والشيخ عارف البصري وعبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي والدكتور داود العطار والسيد هاشم الموسوي وغيرهم. ويمكن القول إن السيد هاشم الموسوي هو الآن آخر الأحياء ممن لا يزال في حزب الدعوة من ذلك الجيل. أما الأحياء الآخرون؛ كالحائري والتسخيري؛ فلم يعودوا في تنظيمات «الدعوة»؛ بل تغيرت اتجاهاتهم العملية غالباً.

ومن أبرز الفقهاء والمفكرين الذين يستند أعضاء حزب الدعوة إلى أفكارهم وكتاباتهم في موضوعات الفكر العام، ويدرسونها ويشرحونها في حلقاتهم: السيد محمد باقر الصدر، السيد محمد حسين فضل اللَه، السيد مرتضى العسكري، الشيخ عبد الهادي الفضلي، الشيخ محمد مهدي الآصفي، السيد كاظم الحائري، الشيخ محمد علي التسخيري وآخرين. كما ظل الدعاة منفتحين على الفكر السياسي والحركي للمفكرين الإسلاميين السنة؛ سواء المستقلين أو المنتظمين في الجماعات الإسلامية، ولاسيما جماعة الإخوان المسلمين. ثم انفتحوا على النتاج الفكري الإسلامي الإيراني بعد العام 1979؛ ولاسيما فكر الإمام الخميني والشيخ مرتضى المطهري.

أما في الفكر الداخلي الخاص بالدعاة؛ فإن أهم من كتب فيه السيد محمد باقر الصدر ومحمد هادي السبيتي وعبد الصاحب دخيل والشيخ محمد مهدي الآصفي والسيد هاشم الموسوي وآخرين.

وحزب الدعوة؛ كغيره من الأحزاب الفكرية التأسيسية هو حزب نخبوي في فكره وأعضائه، وجماهيري في تأثيراته وامتداداته الثقافية والسياسية. ومن الطبيعي أن يكون في صفوفه عدد كبير من المنظرين والمفكرين والكتّاب. إلّا أن أربعة عوامل أساسية ساهمت في ضمور هذا النوع المتعارف من المفكرين والمنظرين في صفوفه بعد العام 1972، وهي:

1 – مرحلة الانكشاف النسبي للسلطة منذ العام 1971 وما بعده، أكلت نخبة مهمة من مفكري حزب الدعوة وشخصياته التنظيرية؛ ممن أعدمهم نظام البعث أو طمرهم في السجون. وأبرزهم: عبد الصاحب دخيل والشيخ عارف البصري وعدنان سلمان والشيخ حسين معن ومحمد بداي السالم وهادي شحتور وعبد الأمير المنصوري ومحمد هادي السبيتي وغيرهم.

2 – خروج نخبة مهمة من المفكرين والشخصيات التنظيرية من الحزب في مرحلة المهجر؛ وخاصة في العام 1981 وما بعده؛ لأسباب متعددة. وأبرزهم: السيد مرتضى العسكري والشيخ علي الكوراني والشيخ محمد علي التسخيري والسيد كاظم الحائري ومهدي عبد مهدي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ صبحي الطفيلي والشيخ حسين الكوراني والسيد موسى الخوئي وآخرين.

3 – وفاة كثير من الشخصيات في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي؛ كالدكتور داود العطار والسيد عبد الأمير علي خان وغيرهما.

4 – وفاة آخرين من شخصيات الدعوة أو خروجهم من الحزب بعد سقوط نظام صدام في العام 2003. وأهمهم: عز الدين سليم والشيخ مهدي العطار والدكتور إبراهيم الجعفري وغيرهم.

ويمكن القول؛ إن مرحلة أفول المفكرين والمنظرين التقليديين في حزب الدعوة الإسلامية التي بدأت بعد منتصف ثمانينات القرن الماضي؛ أعقبها بروز ظاهرة جديدة أو مرحلة جديدة تنسجم وطبيعة الظرف التاريخي الموضوعي والتجاذبات الذاتية التي عاشتها «الدعوة»، وهي مرحلة الباحثين والكتّاب؛ والتي لم يعرفها حزب الدعوة من قبل بالكم والنوع الذي أصبحت عليه في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. ومن أبرز هؤلاء الباحثين والكتّاب «الدعاة»: السيد هاشم الموسوي، عز الدين سليم، الشيخ عبد الزهرة البندر، السيد عبد الأمير علي خان، السيد حسين الشامي، غالب الشابندر، محمد الشبوط، فخري مشكور، السيد عبد السلام زين العابدين، حسن السعيد، ياسين مجيد، السيد محمد الحسيني، عبد الجبار الرفاعي، السيد علي المؤمن، عادل رؤوف، جواد كسار، علي التميمي، صلاح عبد الرزاق، الشيخ فؤاد المقدادي، السيد سليم الحسني، إبراهيم العبادي، شلتاغ عبود، إحسان الأمين، عادل القاضي، خضير الخزاعي، طالب الحسن وغيرهم. وإذا ما استثنينا السيد هاشم الموسوي وعز الدين سليم والدكتور عبد الزهرة البندر والسيد عبد الأمير علي خان؛ الذين ساهموا في كتابة الفكر الداخلي لحزب الدعوة وفكره الحركي؛ فإن من تبقى من هذه الأسماء عملت في حقول فكرية أخرى لا تدخل في صلب فكر «الدعوة» ونظرياته الخاصة؛ بل عملوا – غالباً – في إطار الفكر الإسلامي أو الفكر السياسي العام، وكانت لهم نتاجاتهم الكمية والنوعية الملحوظة. وبالتدريج؛ لم يبق من هؤلاء الباحثين أيضاً منتظماً في حزب الدعوة إلّا القليل.

وإذا طبقنا معيار الإبداع التنظيري والفكري والتخطيطي والميداني؛ بصرف النظر عن التدوين؛ فلا يمكن استبعاد أسماء كثيرة؛ كان لها حضورها أيضا؛ أمثال مهدي عبد مهدي والشيخ مهدي العطار ونوري المالكي والدكتور إبراهيم الجعفري وعلي الأديب والدكتور فخري مشكور والسيد حسن النوري والشيخ عبد الحليم الزهيري والدكتور خضير الخزاعي والدكتور طارق نجم وغيرهم.

ولعل الإشارة إلى هذه الأسماء ستثير كثيراً من الاعتراضات وعلامات الاستفهام؛ بدافع القرب والبعد النفسي والسياسي للمعترضين؛ ولكنني لم أذكرها إلّا استناداً إلى معايير علمية معتمدة في كثير من مراكز الأبحاث والدوريات العالمية. ولعل من الدوريات المهمة التي تعتمد مثل هذه المعايير: مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية العلمية المحكمة؛ التي تنشر سنوياً قائمة بأهم مائة مفكر على مستوى العالم، وتذكر أسباب اختيارهم. وهي معايير مقبولة ومعقولة، وأنا أعتقد بصحتها؛ رغم عدم إيماني بخلفيات اختيار كثير من مصاديقها. هذه المعايير على نحوين:

1 – الإنتاج الفكري الإبداعي؛ سواء كان مكتوباً أو شفاهياً.

2 – التنظير والتخطيط والفعل الفكري والميداني الإبداعي؛ سواء كان فنياً (الإخراج السينمائي مثلاً) أو سياسياً أو عسكرياً أو إعلامياً أو صناعياً.

فمثلاً في قائمتها للعام 2012؛ وضعت مجلة «فورين بوليسي»(38) شخصية مثل قائد المعارضة الميانمارية «آنغ سان سوشي» في المرتبة الأولى، كأهم مفكر في العالم لذلك العام. ووضعت مدير الموساد السابق «مائير داغان» في المرتبة الرابعة عشرة، و«رجب طيب أردوغان» في المرتبة 28، وصاحب شركة مايكروسوفت «بيل غيتس» في المرتبة 32. ولكن المفاجاة تأتي عندما نرى أنها وضعت الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني الشهير «يورغن هابرماس» في المرتبة 88. وهابرماس (مواليد 1929) هو أهم مفكر ألماني حي على الإطلاق، بل أحد أهم فلاسفة الاجتماع السياسي على مستوى العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة، ويعتبر بمصاف «كارل ماركس» و«مارتن هيدغر». أما الفيلسوف السياسي السلوفيني العملاق «سلوفاي جيجيك» فقد جاء في المرتبة 92. ولو كانت مجلة «فورين بوليسي» قد اعتمدت المعايير التقليدية المتعارفة في ساحتنا لوضعت «هابرماس» و«جيجيك» في أحد المراتب العشر الأولى قطعاً.

ومن هنا؛ فإن مدرسة «الدعوة» تضم اليوم عدداً غير قليل من النخب دون شك. ولكن؛ في الوقت نفسه؛ يجب الإذعان بأن مرحلة المفكرين والمنظرين التقليديين الرواد قد انتهت، وأن مرحلة الباحثين الذين برزوا في عقدي الثمانينات والتسعينات آخذة بالأفول أيضاً؛ بسبب خروج معظمهم من التنظيم. وفي المقابل يعيش حزب الدعوة اليوم مرحلة مفكري الفعل السياسي والميداني، وهي مرحلة مصيرية جديدة بدأت بالتبلور بعد دخول الحزب معترك الدولة والحكم في العام 2003، ولا تزال تفرز شخصيات مهمة، وهي في الواقع مرحلة إثبات الذات والحرص على استمرار التجربة أكثر من أي مرحلة أخرى. ويمكن أن نسميها بـ «مرحلة الحصاد» التاريخي، رغم كل ما يكتنفها من ملابسات وإشكاليات وأخطاء. وهي المرحلة الأهم في تاريخ حزب الدعوة؛ بل وفي تاريخ مدرسة أهل البيت في العراق.

الخلاصة

يمكن تلخيص نظرية حزب الدعوة الإسلامية وفكره وعقائديته وعالميته وتحولاته الفكرية والواقعية في النقاط التالية:

1 – إن حزب الدعوة ليس حزباً سياسياً، بل هو حزب عقائدي أيديولوجي؛ وإن كان يمارس العمل السياسي؛ إذ إن العمل السياسي ليست وسيلته الوحيدة؛ بل إحدى وسائله، وإن الوصول إلى السلطة ليس هدفه النهائي؛ بل أداته لتحقيق أهدافه وغاياته النهائية؛ والمتمثلة بتأسيس الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية؛ وصولاً إلى غاية تعبيد طريق دنيا المسلمين باتجاه الآخرة.

2 – إن المرحلة الفكرية التغييرية السرية لحزب الدعوة استغرقت في إقليم العراق ما يقرب من 22 عاماً، وهو وضع لم تألفه التجارب الحزبية. وكانت هذه المرحلة تنطوي على متغيرات وأفكار تأسيسية وتحركات ووقائع نوعية.

3 – إن التضحيات البشرية التي قدمها الحزب في العراق، وقوانين وأساليب تصفيته؛ لا نظير لها في التجارب الحزبية المحلية والعالمية.

4 – إن حزب الدعوة هو أول حزب إسلامي شيعي عربي يصل إلى السلطة في بلد عربي، ويستحوذ على رئاسة الحكومة فيه سنوات طويلة؛ إذ لم يسبق لأية جماعة شيعية في البلدان العربية أن ترأست الحكومة في أي بلد عربي.

5 – إن التحولات الفكرية وبروز جدلية العلاقة بين النظرية والتطبيق التي رافقت مسيرة حزب الدعوة ظلت تحصل بفعل ضغوطات الواقع الخارجي المحيط بالدعوة، وهي ضغوطات عميقة ونوعية تفوق قدرة الدعوة على الصمود والاحتفاظ بنظريتها كما هي في مرحلة التأسيس.

6 – إن إعادة بناء حزب الدعوة الإسلامية نظرياً وفكرياً وهيكلياً؛ باتت مطلباً ملحاً ومصيرياً لا يختلف عليه الدعاة المنتظمين وغير المنتظمين؛ بهدف الخروج بصيغة تأصيلية متجددة تحافظ على أهم ثوابت «الدعوة»، وتوائم الواقع العراقي بكل تعقيداته.

 

 

إحالات الفصل الثاني

(1) ثقافة الدعوة الإسلامية، ج 1. انظر أيضاً: ملحق هذا الكتاب الوثيقة (3).

(2) انظر: علي المؤمن، «من المذهبية إلى الطائفية: المسألة الطائفية في الواقع الإسلامي»، ص 16 وص 137

(3) انظر: ثقافة الدعوة الإسلامية، ج 1.

(4) انظر: الشيخ الميرزا محمد حسن النائيني، «تنبيه الملة وتنزيه الأمة».

(5) انظر: رأي حزب الدعوة بشأن شرعية الحكم في عصر المعصوم؛ ذكره في أكثر من نشرة حزبية؛ منها نشرة الأسس، الأساس الثالث والرابع، ونشرة صوت الدعوة، العدد 29 العام 1980، وكلاهما في الملحق، وثيقة رقم (2) ووثيقة رقم (3)، وكذلك في نشرة «الحكم في الإسلام» الصادر في العام 1981، وثيقة رقم (5).

(6) ذكر أحد الباحثين بأن السيد الصدر طلب من قيادة حزب الدعوة في العام 1970 سحب عدد من هذه الأسس من ثقافة الدعوة؛ ولاسيما ما يرتبط بمبدإ الشورى في الحكم الإسلامي؛ ولكن القيادي المتنفذ في «الدعوة» محمد هادي السبيتي لم يقتنع بهذا التوجه الفكري الجديد، وأبقى الأسس كما هي في أدبيات الدعوة. وهذه القول لم نتثبت منه رغم محاولاتنا الكبيرة. وأجابني السيد حسن شبر بهذا الخصوص بأن هذا الكلام لاصحة له؛ ولو كان صحيحاً، لكنت أول من يخبره السيد الصدر بذلك؛ لأني كنت الرابط معه آنذاك. (إجابة مخطوطة مدونة على مسودة كتاب «جدليات الدعوة»).

(7) انظر: منصور حسين الشيخ، «الدكتور عبد الهادي الفضلي: تاريخ ووثائق»، ص 128.

(8) المراسلات محفوظة في ارشيفي. وقد أرسل لي خلالها الشيخ عبد الهادي الفضلي مجموعة دراسات حول مفهوم الدولة الإسلامية ومساحة ولايتها في موضوع الحقوق الشرعية. وهو رأي فقهي يصرح بولاية الفقيه.

(9) انظر: السيد محمد باقر الصدر، «الإسلام يقود الحياة». ويتألف من ست دراسات في مجال الفقه السياسي والاجتماع السياسي والاقتصاد السياسي.

(10) انظر: علي المؤمن، «النظام السياسي الإسلامي الحديث وخيارات الثيوقراطية والديمقراطية والشورى»، ص 168

(11) السيد محمد باقر الصدر، «لمحة فقهية عن دستور الجمهورية الإسلامية»، ضمن كتاب «الإسلام يقود الحياة»، والسيد كاظم الحائري، «أساس الحكومة الإسلامية».

(12) من تلك التطورات الفكرية السياسية ماجاء في نشرة «برنامجنا» التي أصدرها حزب الدعوة الإسلامية في العام 1991.

(13) وهو مضمون دراسة السيد محمد باقر الصدر الفقهية التي تأسس حزب الدعوة الإسلامية استناداً إليها.

(14) دراسة «الأسس الإسلامية» التي نظّر فيها السيد محمد باقر الصدر للأسس العقيدية والفكرية والفقهية لحزب الدعوة الإسلامية.

(15) ثقافة الدعوة الإسلامية، ج 2.

(16) نشرة «صوت الدعوة الداخلية»، العدد 29 للعام 1980، ونشرة «نظام الحكم في الإسلام»، وبيانات حزب الدعوة الإسلامية في الفترة من العام 1979 وما بعده.

(17) راجع الإحالة (1).

(18) انظر: الشيخ محمد مهدي الآصفي، «ولاية الأمر في الإسلام».

(19) كانت قواعد حزب الدعوة في الدول العربية والأوربية تمثل – غالباً – جسد مرجعية السيد محمد حسين فضل الله. أما رموز هذه المرجعية خارج لبنان فكانوا قيادات وكوادر حزب الدعوة. وهذا الأمر غير مسبوق في «الدعوة» إلّا في إطار مرجعية الإمام السيد محسن الحكيم.

(20) علي المؤمن، «التقنين الدستوري للفقه السياسي الإسلامي» (أطروحة دكتوراه مخطوطة)، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، لندن.

(21) ولاسيما بعد دخول حزب الدعوة المرحلة السياسية وممارسة العمل المسلح في ايلول/ سبتمبر من العام 1979، ثم إعدام السيد محمد باقر الصدر في نيسان/ ابريل من العام 1980، وظهور إشكالية علاقة حزب الدعوة بمجلس فقهاء الدعوة من جهة وولاية الفقيه من جهة أخرى.

(22) أي أن حزب الدعوة غير معني بها بصورة مباشرة؛ لأنها قضايا فقهية من اختصاص الفقهاء، وأن حزب الدعوة يستند في هذا المجال إلى النظريات الفقهية الجاهزة التي ينتجها الفقهاء في الحوزات العلمية. وربما يكون هذا الرأي صائباً في حدود عملية الإنتاج العلمي الفقهي، ولكن بما أن حزب الدعوة هو حزب إسلامي عقائدي؛ فينبغي أن يكون له قاعدة فقهية ثابتة يتكئ عليها في مجال الفقه السياسي والقيادة الشرعية.

(23) لعل أهم دراسة تأصيلية صدرت في هذا المجال؛ دراسة امين عام حزب الدعوة نوري المالكي، «الحركات الإسلامية وتجارب المشاركة في الحكم»، ص 27. انظر أيضا: علي المؤمن، «النظام السياسي الإسلامي وخيارات الثيوقراطية والديمقراطية والشورى»، ص 137 – 142، وصلاح عبد الرزاق، «الإسلاميون العراقيون والديمقراطية».

(24) مثال ذلك: ابراهيم الجعفري، «تجربة حكم»، وهاشم الموسوي، «منهج حزب الدعوة الإسلامية»، ونوري المالكي، «العودة إلى الدعوة» و«حزب الدعوة والقدرة المستمرة على المراجعة» و«الحركات الإسلامية وتجارب المشاركة في الحكم»، والسيد حسين الشامي، «حزب الدعوة الإسلامية: دراسة في الفكر والتجربة».

(25) نوري المالكي، «الحركات الإسلامية وتجارب المشاركة في الحكم» (مصدر سابق)

(26) وهما منهجيتان فكريتان سياسيتان بشأن إصلاح الدولة السوفيتية وإعادة بنائها، ولكنهما كانتا المطرقة التي هشمت رأس الاتحاد السوفيتي وأسقطته نهائياَ في العام 1994. وقد صدرت المنهجيتان في كتابين حملا العنوانين أنفسها، وترجما إلى اللغة العربية في عام صدورهما نفسه. انظر: ميخائيل غورباتشوف، «البريسترويكا: فكر جديد لبلادنا والعالم».

(27) انظر: «رسائل مشروطيت»، إعداد: الدكتور غلام حسين زركري نجاد.

(28) انظر: الشيخ عباس علي عميد زنجاني، «الفقه السياسي والقانون الدستوري» الجزء 1 و2، الدكتور محمد هاشمي، «القانون الدستوري للجمهورية الإسلامية»، الدكتور مصطفى محقق داماد، «القانون الدستوري وبنية الحكومة الإسلامية».

(29) انظر: ثقافة الدعوة الإسلامية، نشرة الأسس بقلم السيد محمد باقر الصدر، وكذلك «الإسلام يقود الحياة» للسيد الصدر نفسه، وأساس الحكومة الإسلامية، ونشرة نظام الحكم الإسلامي (المعدلة) التي أصدرها الحزب في العام 1981.

(30) انظر: الإمام الخميني، «كتاب البيع» في شرح الإمام الخميني على كتاب المكاسب للشيخ الانصاري، و«الحكومة الإسلامية» أو «محاضرات في ولاية الفقيه»، وكذلك ماصدر عن الإمام الخميني بعد العام 1979 من بيانات وكلمات.

(31) انظر: النائيني (مصدر سابق).

(32) تم جمع مجمل هذه الآراء وتحليلها وتقويمها في كتاب النظام السياسي الإسلامي الحديث لكاتب هذه السطور (مصدر سابق).

(33) المصدر السابق، ص 154.

(34) المصدر السابق، ص 156.

(35) أهمها الدراسات والكتب التي صدرت في مصر رداً على خالد محمد خالد في كتابه «الديمقراطية.. إلى الأبد».

(36) النموذج الابرز في هذا المجال كتاب «أساس الحكومة الإسلامية» الذي كتبه فقيه حزب الدعوة – حينها – السيد كاظم الحائري في العام 1979.

(37) ولاسيما ما أصدره الشيخ محسن كديور والرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي والدكتور مصطفى ملكيان والشيخ مجتهد شبستري.

(38) ومنها مانشرته مجموعة «الدعاة» التي كان محورها محمد عبد الجبار الشبوط والشيخ خير الله البصري، والتي عرفت بـ «كوادر حزب الدعوة»، وكذلك مانشره الداعية السابق (الملحد لاحقاً) ضياء الشكرجي، ومنها كتابه «مثلث الإسلام والديمقراطية والعلمانية». وللتعرف على الرأي التقليدي للدعوة بشأن الديمقراطية؛ انظر: الدكتور صلاح عبد الرزاق، «الإسلاميون العراقيون والديمقراطية»، ص 35 فما بعد.

(39) نشرة «العوامل التي تحدد موقف «الدعوة» من المشاركة في الحكم»، الصادرة في العام 1960، الملحق رقم (5) في هذا الكتاب.

(40) وهي هيئة مستحدثة مقترحة.

(41) تم استحداث هذا الموقع في العام 2007 خلال مؤتمر الحزب العام في بغداد. ولم يكن للدعوة رئيساً أو قائداً أو أميناً عاماً منذ تأسيسه وحتى العام 2007؛ بل كان يعتمد منذ العام 1980 صيغة الناطق الرسمي؛ التي تسنمها للمرة الأولى الشيخ محمد مهدي الآصفي، ثم توزعت على ابراهيم الجعفري ونوري المالكي وعلي الأديب بعد العام 1997، ثم انحصرت بالدكتور ابراهيم الجعفري بعد العام 2003.

(42) وهي تسمية مستحدثة مقترحة بدلاً عن تسمية «القيادة». ولكن لهذه التسمية حضور سابق في الهيكل التنظيمي لحزب الدعوة خلال العامين 1979 و1980؛ حين تم استحداث القيادة التنفيذية التي تعمل تحت إشراف القيادة العامة للحزب. ثم ألغيت بعد مؤتمر العام 1981.

(43) تسمى مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية مجلة صنّاع القرار. أسسها المفكر الأمريكي الشهير صامويل هانتنغتون. انظر عدد كانون الأول/ ديسمبر للعام 2012.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment